قداسة البابا شودة الثالث
الجسد والروح
تذكرت مرة أننا مخلوقون من تراب الأرض، وأننا سنعود مرة أخرى إلى التراب بعد الموت فقلت في أبيات من الشعر:
يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طُرّا
أنت أصلي, أنت يا أقدم من آدم عمرًا
ومصيري أنت في القبر إذا وُسَدتُ قبرًا
على أنني راجعت نفسي، وتذكرت أن التراب هو أصل الجسد فقط، الذي خُلق من تراب أو من طين، قبل أنا ينفخ الله فيه نسمة حياة هي الروح. فعدت أصحِّح فكري, وأقول في أبيات أُخرى:
ما أنا طينٌ ولكن أنا في الطين سَكْنتُ
لست طينًا, أنا روح من فم الله خرجتُ
سأمضي راجعًا لله أحيا حيث كنت
وفي الحقيقة ما أنا مجرد جسد, ولا مجرد روح, بل أنا كلاهما معًا, جسد وروح وهكذا كل إنسان أيضًا.
الجسد والروح متحِدانِ معًا, يكونان إنسانًا واحدًا, غير أن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر. ولذلك كثيرًا ما نرى أن الجسد يشتهي ضد الروح, والروح تشتهي ضد الجسد, حتى أن كلا منهما يقاوم الآخر.
مشكلة الجسد أنه مادي, لذلك فشهواته تتركز في المادة وفي كل ما هو مادي, أما الروح فاتجاهاتها سامية, فوق مستوى المادة.
الجسد ينشغل بالمرئيات والمحسوسات. أما الروح فيمكنها أن تنشغل بالأمور غير المرئية, بل وبالإلهيات أيضًا.
الجسد يدركه الموت, حينما تنفصل الروح عنه ويموت الجسد تخل عناصره, ويفقد الشعور والحيوية, أما الروح فلا تموت.
وما أكثر الحديث عن شهوات الجسد الخاطئة, وعن سقطاته.
الجسد يقع في شهوة الطعام, وفي المُسكِرات والمخدرات والإدمان، كما يقع أيضًا في شهوة الزنا وسائر سقطات الجنس, كما يقع في كثير من خطايا اللسان, والاعتداء على الآخرين بأنواع وطرق شتى.. وقد تمتد يده إلى السرقة وإلى الرشوة.. وما إلى ذلك.
من أجل هذا, كان كثير من الأبرار ومن النُسَّاك, ينظرون إلى الجسد كمصدر للخطيئة, ويبذلون كل الجهد للانتصار على شهوات الجسد, ويصبح قمع الجسد من الفضائل الأساسية. ولا ننسى أن الصلاة فضيلة في جميع الأديان, وهو فترة لانضباط الجسد ليعطي فرصة الروح...
فهل معنى كل ذلك أن الجسد شرٌ في ذاته كما يتخيله البعض؟!
كلا, بلا شك، فلو كان الجسد شرًا, ما كان الله يخلق الجسد, بل الجسد خير إذا لم ينحرف، وإذا لم يقاوم الروح. وإذا لم يخضع لعوامل نفسية خاطئة.
أيضًا لو كان الجسد شرًا, ما كنا نُكرمْ رفات الأبرار والشهداء.. ولو كان الجسد شرًا ما كان الله ينعم عليه بالقيامة والحياة الأخرى بل كان يكفيه ما عاشه على الأرض, دون امتداد لحياته.
ولو كان الجسد شرًا, ما كان الأنبياء والرُسلْ يعيشون حياة بارة على الأرض, ولهم أجساد..! وكانت أجسادهم طاهرة ومقدسة.. الجسد إذن ليس شرًا في ذاته, ولكنه قد ينحرف فيخطئ. الروح أيضًا يمكن أن تخطيء سواء كانت وحدها, أو متحدة بالجسد.
وأول خطايا عرفها العالم كانت خطايا "أرواح"!
وأقصد بذلك خطايا الشياطين, وهم أرواح ليس لهم أجساد. وقد وصِفوا بأنهم أرواح شريرة أو أرواح نجسة.
الشياطين –وهو روح- وقع في خطية الكبرياء، وما زال في كبريائه يتحدى ملكوت الله على الأرض, وفي كبريائه يعصى الله ويكسر وصاياه. كذلك -وهو روح- وقع في خطيئة الحسد, فحسد الإنسان على ما وهبه الله من نعمة. ولا يزال يحسد القديسين والأبرار (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات) ويحاول إسقاطهم. وفي إغرائه للبشر يقع في خطايا الخداع والكذب بتصوير الشر أنه خيرًا! والشيطان -وهو روح- يقع في التجديف على الله تبارك اسمه, وينشر الإلحاد والبدع والأفكار المنحرفة.
وكما يخطئ الشيطان وهو روح. كذلك يمكن أن تخطئ أرواح البشر.
روح الإنسان قد تخطئ، وتجد الجسد معها في الخطأ.
* الروح مثلًا قد تسقط في الكبرياء, ثُم تجر الجسد معها في كبريائها، فيجلس في كبرياء، ويمشي في خيلاء, ويتكلم في عظمة, وينظر في غطرسة.. وتكون الكبرياء قد بدأت في الروح أولًا ثُم تحولت إلى الجسد.
* الروح قد تَفْتُر في محبتها لله, ثُم يقود الجسد معه في الفتور, فيكسل في صلواته, ويُهمِل واجبات العبادة.
* إن ضعفت الروح, يخور الجسد وان بعدت الروح عن الله, ينهمك الجسد في ملاذ الحياة والدنيا.
* إن تشبعت روح الإنسان بالكراهية, يمارس الجسد هذه الكراهية, فقد يعتدي على غيره, بيده أو بلسانه أو بقلمه. وهنا نسأل: هل حوادث القتل ترجع إلى الجسد مع الروح؟ وتكون الروح هي البادئة والمشجعة والمخططة!!
*ومن الناحية الأخرى: إذا قويت الروح, فأنها ترفع الجسد إلى فوق, فالروح المعنوية عند المريض إذا قويت تجعله يحتمل المرض ويجتاز مراحله الصعبة. وإن ضعفت روحه المعنوية, فإنه يستسلم للمرض وينهار..
*كذلك في الصوم: إذا نفذت الروح بالصلوات والتأملات والتسابيح والقراءات المقدسة, فإن الجسد يستطيع أن يحتمل الصوم بدون تعب...
* وأيضًا الجندي في ساحة القتال إذا كانت روحه قوية لا تعرف للخوف معنى, بل تحفزها محبة الوطن, فأنها تدفع الجسد إلى الاستبسال والشهامة.
وعمومًا فإننا تجاوبًا وتضامنًا ما بين الروح والجسد..
* ففي الصلاة مثلًا, أن كانت الروح خاشعة, فإن الجسد يخشع بالتالي، تنحني ركبتاه بالركوع أو السجود, وترتفع عيناه في الصلاة, وترتفع يداه. وإذا لم تكن الروح خاشعة, يكسل الجسد أيضًا.
* الروح إذا حزنت, ممكن أن ملامح الوجه تعيب, ودموع العين تتساقط. وإذا فرحت الروح، تظهر البشاشة على الوجه, وتلمع العينان في فرح...
* إذا سلم إنسان على رئيس له, أو على شخص كبير السن أو عالي المقام, فإن الاحترام الذي يكنه في روحه, يظهر في أنحاء جسده.
* وتقريبًا كل المشاعر التي للروح, تظهر في حركات الجسد, أو في نظرات العينين, أو في لهجة الصوت, أي يكشفها الجسد...
لذلك لا نستطيع كثيرًا, أن نمنع هذه الصلة بين الروح والجسد، ولهذا فإن محاسبة الإنسان في القيامة, تكون للروح والجسد معًا...
لا يُدان الجسد بدون الروح, ولا تدان الروح بدون الجسد.
لقد اشترك الاثنان معًا في عمل الخير أو الشر، إما أن الروح خضعت للجسد في شهواته, أو أن الجسد أسلم قيادته إلى الروح, وارتفع معها, وعَبَّر عن سموّها بأفعاله.
ونصيحتنا لكل إنسان أن يقوي روحياته, ويسلك في السلوك الروحي, وحينئذ سيجد أن جسده يتجاوب مع الروح في عمل البر.
فالجسد يمكنه أن يتعب في خدمة الآخرين بفرح, وان يبذل ذاته ليسعد غيره, كما يمكنه أن يتبرع بدمه, إذا كان احد المرضى في حاجة إليه, بل أن يضحي بعضو من أعضاء الجسد لأجل حياة إنسان آخر...
وكل الخدمات الاجتماعية التي تراها في العالم، وكذلك كل أعمال الإنقاذ التي يقوم بها رجال الإسعاف, ويقوم بها من يعملون في إطفاء الحرائق, وإنقاذ المشرفين على الغرق... كلها أعمال يشترك فيها الجسد مع الروح. الروح تدفع والجسد ينفذ.
إن الله وهبنا الجسد، كما وهبنا الروح, هو قادر أن يعمل فيها لمجد اسمه, ولنشر الخير على الأرض, في غير تناقض, بل في تعاون تام بين الروح والجسد.