رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
من يَخلُص وكيفَ؟
الأحد الواحد والعشرون: من يَخلُص وكيفَ؟ (لوقا 13: 22-30) النص الإنجيلي (لوقا 13: 22-30) 22 وكانَ يَمُرُّ بِالمُدُنِ والقُرى، فيُعَلِّمُ فيها، وهوَ سائِرٌ إلى أُورَشَليم. 23 فقالَ لَه رَجُل: ((يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟)) 24 فقالَ لهم: اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. أَقولُ لَكم إِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ سَيُحاوِلونَ الدُّخولَ فلا يَستَطيعون. 25 ((وإِذا قامَ رَبُّ البَيتِ وأَقَفَلَ الباب، فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون: يا ربُّ افتَحْ لَنا، فيُجيبُكُم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم، 26 حينَئِذٍ تَقولونَ: لَقَد أَكَلْنا وِشَرِبنْا أَمامَكَ، ولقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا. 27 فيَقولُ لَكم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم. إِلَيكُم عَنَّي يا فاعِلي السُّوءِ جَميعاً! 28 فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان، إِذ تَرَونَ إِبراهيمَ وإِسحقَ ويعقوبَ وجميعَ الأَنبِياءِ في مَلَكوتِ الله، وتَرَونَ أَنفُسَكُم في خارِجِه مَطرودين. 29 وسَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب، فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله. 30 فهُناكَ آخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين وأَوَّلونَ يَصيرونَ آخِرين)). مقدمة يتناول إنجيل يوم الأحد (لوقا 13: 22-30) موضوع الخلاص: "هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟" من يخلص؟ لكن يسوع لفت انتباه سامعيه من خلال سؤالهم إذا كان عدد الذين يخلصون قليل -الذي كان شائع في العقلية الربَّانية -إلى سؤال ماذا نعمل كي نخلص، فوجّههم إلى الاجتهاد من أجل الدخول في الملكوت بنعمته من الباب الضيق. ولذلك علينا أن نتخذ القرار المصيري في البحث عن الخلاص، قبل أن يُغلق الباب. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 13: 22-30) 22 وكانَ يَمُرُّ بِالمُدُنِ والقُرى، فيُعَلِّمُ فيها، وهوَ سائِرٌ إلى أُورَشَليم. تشير عبارة "المُدُنِ والقُرى" إلى مدن بيريه وقراها حيث بشَّر التلاميذ السبعون (لوقا 10: 1). أمَّا عبارة "سائِرٌ" فتشير إلى مسيرة يسوع المسافر وملؤه النشاط الرسولي، حيث يزور البيوت وينتقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى أخرى؛ وقد تكررت هذه اللفظة "سائِرٌ باليونانية πορείαν ποιούμενος (88) مرة في إنجيل لوقا دلالة على أهمية مسيرة يسوع نحو اورشليم؛ وهنا جزء من السفر ذُكرت بداءته (لوقا 9: 51). ونستنتج من إنجيل لوقا انه يسوع لم يسافر مباشرة إلى اورشليم بل مرَّ في السامرة ثم عاد إلى بيريه (لوقا 9: 15-52). أمَّا عبارة "سائِرٌ إلى أُورَشَليم" فتشير إلى مسيرة يسوع إلى أورشليم، وهو إتمام المخطط الخلاصي الّذي سوف يُحققه يسوع في المدينة المقدسة، بالموت على الصليب من أجل الجميع. انه السفر إلى اورشليم حيث سيصلب هناك؛ ونفهمُ من خلال ذلك أنه اختار الطريق الضيق، طريق الصليب. أمَّا عبارة "أُورَشَليم" فتشير إلى المدينة الموصوفة «بقاتلة الأنبياء». ولوقا الإنجيلي يذكرنا مرارا بهذه الوجهة، وبهذا المصير، مما يعطي لإنجيله الطابع الفصحى. والفصح سيتمُّ في اورشليم، إذ تفرض الشريعة ثلاث زيارات للهيكل في السنة (عيد الفطير، عيد الحصاد (عيد الأسابيع) وعيد الأكواخ (خروج 23: 14-17؛ و34: 22-23 وتثنية الاشتراع 16: 16). وبالتالي يصعد فيها يسوع إلى اورشليم ثلاث مرات، وهنا يذكر لوقا الصعود إلى اورشليم في السنة الثانية (لوقا 13: 22) في حين ورد ذكر صعود يسوع إلى اورشليم في السنة الأولى سابقا (لوقا 9: 51)، لكن يقين الموت المتوقع في صعوده إلى اورشليم لم يمنع يسوع من الاستمرار في رسالته في الوعظ وإجراء الشفاء والمعجزات. 23 فقالَ لَه رَجُل: ((يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟)) تشير عبارة "رَجُل" باليونانية τις (معناها واحد)إلى واحد من جملة المجتمعين غير التلاميذ لكنه كان نائبا عن الجمع، وبالتالي كان جواب المسيح للجميع؛ أمَّا عبارة "يَخلُصونَ" فتشير إلى النجاة من العقاب الأبدي والفوز بالسعادة الأبدية. أمَّا عبارة "يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟" فتشير إلى سؤال أحد اليهود الذي يعكس الاعتقاد السائد عند لربَّانيين أن الخلاص كان خاصّاً بالشعب المختار فقط؛ ومحتكراً على الذين كانوا أمناء للتوراة وأنَّ القليلين فقط هم الذين يخلصون، وهم أبناء إبراهيم، الذي لديهم الناموس، ولهم المواعيد. وقال آخرون أنَّ المخلصين هم قليلون من أولاد إبراهيم لأنه لم يخلص من كل شعب العهد القديم الذين خرجوا من مصر سوى أثنين. وقد يسال المسيحيون اليوم الذي بلغ عدد المسيحيين يبلغ اليوم 1.7 مليار من سكان الأرض. فهل الّذين يُخلّصون هم فقط المسيحيون؟ إذ إنَّهم يتحدثون عن نتائج الدينونة كأنها عملية حسابية، لكن يسوع يُجيب مباشرة على السؤال، لان هذا السؤال قد يحمل رغبة مزيفة: لماذا نجتهد ونتعب ما دام عدد المُخلصين قليل؟ 24 فقالَ لهم: اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. أَقولُ لَكم إِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ سَيُحاوِلونَ الدُّخولَ فلا يَستَطيعون. تشير عبارة "قالَ لهم" إلى رد يسوع إلى الرجل الذي ينوب عن الجمع، فكان جواب المسيح للجميع، لأنه يهمهم كلهم. أمَّا عبارة "اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق" فتشير إلى جواب غير مباشر على السؤال المذكور "قلة هم الّذين يخلصون؟ وجواب مباشر على السؤال " ماذا اعمل لكي أخلص؟ فكأنَّ المسيح قال له "لا يعينك أمر غيرك فاطلب خلاص نفسك". وعلى هذا الأسلوب كان جواب المسيح لعالم الشريعة (لوقا 10: 29)، وجوابه لبطرس (لوقا 12: 41) وليهوذا غير الإسخريوطي (لوقا 14: 22). "ويعلق البابا فرنسيس "أن الأمر ليس مسألة عدد، إذ ليس من المهم أن نعرف عدد الذين سيخلصون، بل الأمر الهام أن يعرف الجميع الطريق الذي يقود إلى الخلاص". أذ يصرح بولس الرسول " فإِنَّه تعالى يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4). أمَّا عبارة "اِجتَهِدوا" فتشير إلى صيغة الجمع وتعني بذل الإنسان نشاطه جسْميًّا أَو عقليًّا بهدف وصول خلاصه. فالموضوع إذن لا يخصُّ التصرفات الفردية الأخلاقية، بل هو مشكلة جماعية تتعلق بكل الناس حيث حثَّ يسوع الناس أن يلتفتوا إلى موضوع خلاصهم عن طريق الجهاد والكفاح والعمل وهي متطلبات الحياة المسيحية "دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا، ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله " (لوقا 16: 16)؛ ويعلق البابا غريغوريوس الكبير "اجتهدوا، لأنه ما لم يجاهد الذهن برجولة لا تنهزم أمواج العالم، هذه التي تسحب النفس إلى الأعماق". أمَّا عبارة "البابِ الضَّيِّق" فتشير إلى إجابة تتعلق بالباب. والباب قول مستعار من العُرف الذي كان متبعًا في الأعراس في ذلك الوقت، فقد كانت الأعراس تقام ليلًا، وكانت البيوت تُزَّين بالمصابيح، ويدخلها المدعوون من باب صغير يُغلق عقب دخولهم جميعًا. ثم يتمتعون بالأفراح والأنوار، أما الذين يتأخرون فكان لا يفتح لهم الباب مهما قرعوا وكان يبقون في الظلمة الخارجية. وتذكرنا صورة الباب أيضا بالبيت حيث نجد الأمان والمحبة والدفء. يقول لنا يسوع بأنه يوجد باب يُدخلنا إلى عائلة الله، إلى دفء بيت الله وإلى الشراكة معه (متى 7: 13-14). هذا الباب هو يسوع نفسه كما صرّح "أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلُص" (يوحنا 10، 9)، وهو السبيل الوحيد إلى الخلاص الذي يقودنا إلى الآب. فالمسيح هو الباب، من يدخل منه ينال الخلاص. ومن خلاله يدخل الإنسان إلى الحياة. هو باب السماء النازل على الأرض "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَرونَ السَّماءَ مُنفَتِحَة، وملائِكَةَ اللهِ صاعِدينَ نازِلينَ فَوقَ ابنِ الإِنْسان" (يوحنا 1: 51)، الباب الذي يقود إلى المراعي التي فيها تُقدم الخيرات الإلهية " أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلُص يَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرْعًى "(يوحنا 10: 9). فالمسيح هو الوسيط الوحيد الذي عن طريقه يقدِّم الله ذاته للناس، وبه يجد الناس سبيلهم إلى الآب" لأَنَّ لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إلى الآبِ في رُوحٍ واحِد" (أفسس 2: 18)، فهو باب الحياة والخلاص. ويتكلم الرب في إنجيل متى عن ضرورة الدخول من الباب الضيق في العظة على الجبل (متى 7: 13)، وذلك من خلال الابتعاد عن شهوات العالم وملذاته والأنانية واللامبالاة من ناحية، وقبول الاضطهاد لأجل اسم المسيح من ناحية أخرى. ويُعلق البابا فرنسيس "أنه من خلال دخول باب يسوع، باب الإيمان والإنجيل، نستطيع الخروج من الأنانية والانغلاق". أمَّا عبارة "الضَّيِّق" فتشير إلى الباب الذي هو الشيء الوحيد الضَّيِّق الموجود في الإنجيل. وهذه الصفة تستعمل "هنا" لمرة واحدة في إنجيل لوقا. وفي إنجيل هناك "الطريقان": الطريق الضَّيِّق والطريق الرحب، ويتوجب على الإنسان أن يختار أحدهما كما ورد مخططات قمران. فالطريق الضَّيِّق يلمّح إلى المتطلبات الجذرية الواردة في عظة التطويبات على الجبل (متى 6: 1-11)، ومن هذا المنطلق، الباب الضَّيِّق هو طريق الصليب. لقد طبّق الربّ يسوع قوله واجتازه بسفره نحو أورشليم، فالباب الضَّيِّق لنا هو السير في خطاه بما في ذلك من مخاطر وعذابات وعلى ما يقدِّمه من تعليم جذري على مستوى الوصايا (متى 5: 21)، وما يطلبه من حمل الصليب والسير وراءه. وهذا الباب الضّيق يُذكرنا بالباب الذي يقود إلى كنيسة الميلاد في بيت لحم، كيف يجب على الإنسان أن يحني قامته حتى يقدر أن يدخل إليها. فملكوت الله يتطلب التواضع ويكلِّف جهداً وجهاداً لدخوله. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن طريق الخلاص ضيق في مدخله، ولكن إذ تدخله تجد مكانًا متسعًا (راحة)، على عكس الطريق المؤدى للهلاك". وبعبارة أخرى، يسوع هو البابِ الضَّيِّق، وهو الطريق الوحيد للخلاص، وهو الطريق الذي يجب أن يسلكه الجميع لدخول ملكوت الله الآب كما صرَّح يسوع " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي " (يوحنا 14: 6)؛ أمَّا عبارة "لا يَستَطيعون" فتشير إلى هؤلاء الذين لا يقدرون أن الدخول من الباب الضَّيِّق، لأنهم فاترون واتكاليون ومتأخرون. ليس لهم عمق ولا جهد ولا قوة ولا ثبات، إنما يطلبون بابًا واسعًا يشبع شهوات قلوبهم، ويمتِّع أجسادهم بخيرات زمنية. فهم يريدون بابا يحفظ لهم المظهر المتدين، والشكل الصالح أمام الناس، وهم في قلوبهم يرعون أنفسهم وأطماعهم. انهم يطلبون البِرَّ بِبرِّ أنفسهم لا ببرِّ المسيح ويأبون أن يدخلوا من باب التوبة والإيمان وإنكار الذات أو تأخروا عن الموعد وما دخلوا الباب قبل أن يُغلق. فليس كافيا أن نصغي لكلمات يسوع أو نُعجب بمعجزاته، بل من الضروري أن نتحوَّل عن الخطيئة وان نثق في الله ليُخلصنا؛ ومن هذا المنطلق، فإنه لا يجب أن نكتفي بالكلام، بل لا بدَّ من العمل: نأخذ الخيار اللازم بين طريق وطريق، بين تلميذ يكتفي بان يُعلن مشيئة لله وآخر يعملها. 25 وإِذا قامَ رَبُّ البَيتِ وأَقَفَلَ الباب، فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون: يا ربُّ افتَحْ لَنا، فيُجيبُكُم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم، تشير عبارة "وإِذا قامَ رَبُّ البَيتِ" إلى بعد ما يكون رب البيت قد قام واقفل الباب. والمعنى انهم أخَّروا الطلب إلى أن فات الوقت فكان طلبهم الدخول حينئذٍ عبثًا. فيجب الاجتهاد في الحال قبل إغلاق الباب لئلاَّ تمر الفرصة بسبب التأخر والتباطؤ. أمَّا عبارة "رَبُّ البَيتِ" فتشير إلى المسيح كأنه صاحب بيت الذي أَولم لعائلتيه وأصدقائه الذين يأتون في الوقت المُعين. وبعد ما مضى ذلك الوقت أغلق الباب ولم يفتحه بعد لأحد. أمَّا عبارة " أَقَفَلَ الباب" فتشير إلى الرفض (متى 25: 10) كما توحي أيضا بفكرة الفرز بين الداخلين وغير الداخلين، حيث أن الباب لن يظل مفتوحا إلى ما لا نهاية. هناك نهاية للحياة الأرضية، وهناك وقت مقبول للخلاص، وهناك وقت للدينونة. لقد فتح يسوع باب الخلاص، ولكن المهلة المتاحة لنا كي نجتهد في الدخول ستنتهي يوماً حيث يُقفل باب التوبة، ويبدأ باب الدينونة. لذلك علينا أن نعيش شعار شارل دي فوكو "يجب أن نعيش كل يوم وكأنه يوم الدين. علينا أن نعيشه كأنه اليوم الأخير"؛ ويُعلق البابا فرنسيس "هذا الباب هو الفرصة التي لا ينبغي إضاعتها. لأنه في لحظة ما يقوم رب البيت ويَقفِل الباب". أما عبارة " فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون " فتشير إلى انفعالات المرفوضين وأقوالهم وأعمالهم عندما يقفون أمام الله للدينونة الأخيرة. أمَّا عبارة " فوَقَفتُم في خارِجِه " فتشير إلى الذين لم ينجحوا في الدخول من الباب الضَّيِّق مثل العذارى الجاهلات اللواتي لم يحتطْن للزيت الإضافي (متى 25: 1-12). أمَّا عبارة " لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم "فتشير إلى رد رب البيت. ورب البيت هو رمز الرب الذي لا يعرف هؤلاء الناس الذين يعتقدون انهم عملوا كل ما بوسعهم لدخول الملكوت وانهم يستحقون، وذلك على خطى الفرّيسي، كما ورد في مثل الفريسي والعشار (لوقا 18: 9-13)، فالخلاص مجاني عبر نعمة صليب المسيح. ويأتي فقط من تواضع الإنسان أمام الله، وخير مثال على ذلك مريم التي تقرأ حياتها على ضوء عمل الله فيها قائلة: "َإنَّه [القدوس] نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة" (لوقا 1: 48). وهي بذلك تُنسب كل خير وصلاح تمَّ في حياتها إلى الله ورحمته: "لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة" (لوقا 1: 49). فالذين "وَقَفوا في خارِجِ الباب "هم في الواقع خطأة لم يحبوه، بل أحبوا أنفسهم واحبوا العالم. هؤلاء لم يعرفوا طريق الرب في حياتهم، لذلك لم يعرفهم الرب في مجيئه الأخير، بمعنى أنه يُحسبهم كمن هم غير مستحقِّين أن يكونوا في معرفته، هم خارج نور بهائه ومجده؛ وقد علَّق القديس ايرونيموس "عند الدينونة لا يعرف الرب الخاطئ بل البار". "يعرف الرب من له، بمعنى أنه يتقبلهم في شركة قويَّة بسبب أعمالهم الصالحة" كما يقول القديس باسيليوس الكبير. 26حينَئِذٍ تَقولونَ: لَقَد أَكَلْنا وِشَرِبنْا أَمامَكَ، ولقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا. تشير عبارة "أَكَلْنا وِشَرِبنْا أَمامَكَ، ولقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا" إلى الّذين يعتقدون أنهم يحظون ببعض الامتيازات على الآخرين وهم متأكِّدون من الدخول إلى الملكوت نظرا لأعمالهم الخاصة، أو يشير أيضا إلى هؤلاء اليهود الذين شاهدوا رسالة يسوع (متى 7: 22-23). لكن قُربهم من يسوع لم ينفعهم، فكانوا مثل الذين زحموا يسوع فلم يستفيدوا شيئاً، بينما لمست المرأة المنزوفة طرف ثوبه فشُفيت بسبب إيمانها (لوقا 8: 43-48). لا يكفي أن نعرف الله ونكون قريبين منه، بل حاجتنا إلى الإيمان به والعمل بمشيئته تعالى والابتعاد عن الأعمال الشريرة (متى 25: 41)؛ وقد تشير العبارة أخيراً إلى من يظن أن يخلص مجرد التناول من الجسد والدم. أمَّا عبارة "لقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا" فتشير من ناحية إلى وجود الآباء والأنبياء في الملكوت الذين أرسلهم الله للشعب العهد القديم لكن كبرياء هذا الشعب كان السبب في إغلاق الباب أمامه، ومن ناحية أخرى تشير إلى تعاليم المسيح التي ذهبت صرخة في وادٍ، إذ رفض اليهود قبول الإيمان ولم يتبعوا الوصايا الإنجيلية التي تؤدي إلى الخلاص. 27 فيَقولُ لَكم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم. إِلَيكُم عَنَّي يا فاعِلي السُّوءِ جَميعاً! تشير عبارة "فيَقولُ لَكم" إلى بعض الذين تتظاهروا على الأرض أنهم من تلاميذ المسيح وحصلوا على أعظم وسائط النعمة وأعظم اعتبار الناس، لكنهم لم يكونوا تلاميذ المسيح بالحق ولم يعرفهم المسيح من خاصته. أمَّا عبارة "لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم" فتشير إلى يسوع الديّان في نهاية الأزمنة الذي لا يعترف بالذين يصنعون الشر وفعلة الآثم سواء كانوا من اليهود أو من نسل إبراهيم. هؤلاء ليسوا من الله، لأنهم لم يحبوا الله، بل أحبوا العالم. فالانتماء إلى ذرية إبراهيم لا يُعد كافيا للانتماء إلى شعب الله كما اكّد يسوع في تعليمه "لا تُعَلِّلوا النَّفْسَ قاِئلين: ((إِنَّ أَبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنِّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارَةِ أَبناءً لإِبراهيم" (لوقا 3: 8)، بل يجب على الإنسان أن يقبل يسوع ويؤمن به ويشهد له ويثمر ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِه (لوقا 13: 25-27). أمَّا عبارة "إِلَيكُم عَنَّي يا فاعِلي السُّوءِ جَميعاً" فتشير إلى هؤلاء المتأخرين عن التوبة، فدينونتهم باقية عليهم لبقائهم في خطاياهم. إن يسوع الديّان يعاقب فَعلة الإثم في يوم الدينونة حيث يظهر مجد الله (أشعيا 2: 11) وعقاب الإنسان (أشعيا 10: 3)؛ فمن لا يدخل في منطق الإنجيل الجديد، يصبح غير أمين للشريعة الحقيقية والوحيدة التي وهبها الله، شريعة المحبة. وبالتالي يصبح أسيراً لشريعة ظالمة وغير عادلة وشريرة، لشريعة تحسب الحسابات وتقيس، وتعيش الخلاص وكأنه حق مكتسب، فلذلك لا يعترف الديَّان بهؤلاء. فالانتماء إلى ذرية إبراهيم لا يكفي للانتماء إلى شعب الله (لوقا 3: 8)، بل يجب على الإنسان أن يقبل يسوع ويؤمن به وأن يكون معروفا من الديان. وهنا يكشف يسوع أيضا الناس الذين يُظهرون أنهم معه، ولكن ليس لهم علاقة شخصية به. لكن الأمر الهام هو الدينونة، والدينونة ترتبط في علاقتنا بالمسيح، وقبولنا له مخلصاً وطاعتنا لإرادته. ويظن كثيرون من الناس أنَّهم متى كانوا صالحين في نظر الناس، ويظهرون متدينين، فإنهم سيكافئون بحياة ابديه، بينما في الواقع، لن يجدي عند الدينونة شيء سوى الإيمان بالمسيح، نور العالم، والعمل مشيئته تعالى، إذ لا شركة بين النور والظلمة. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " لأَنَّ أُجرَةَ الخَطيئَةِ هي المَوت، وأَمَّا هِبَةُ اللهِ فهي الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ في يسوعَ المَسيحِ ربِّنا"(روما 23:6). ويُعلق القديس كيرلس الكبير "كثيرون آمنوا بالمسيح، وكرَّموا الأعياد المقدَّسة لمجده، ويتردَّدون كثيرًا على الكنائس لسماع تعاليم الإنجيل، لكنهم لا يمارسون ممارسة الفضيلة وقلوبهم خالية من الثمر الروحي. هؤلاء أيضًا سيبكون بمرارة ويكون لهم صريف الأسنان، لأن الرب يرفضهم". أمَّا عبارة "فاعِلي السُّوءِ جَميعاً" فتشير إلى هؤلاء الذين لم يصنعوا الشر لكنهم أغلقوا عينوهم وقلوبهم عن إخوتهم خاصة الفقراء والجياع والعطاش والمرضى والأسرى والمنبوذين المستضعفين والمهمّشين والغرباء واللاجئين وثقيلي الأحمال كما حدث مع عزر والغني ( لوقا 16: 11-26)، وقد اكّد يسوع كلامه هذا بكلامه عن الدينونة الأخيرة "إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إِلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه: لأِنِّي جُعتُ فَما أَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فما آوَيتُموني، وعُرياناً فما كَسوتُموني، ومَريضاً وسَجيناً فما زُرتُموني. الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه)). فيَذهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إِلى الحَياةِ الأَبدِيَّة "(متى 25: 41-46). ويعلق القدّيس يوحنّا" في آخر الأزمنة، حين يقول هؤلاء: "يا ربّ، يا ربّ، أَما بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ أثبت الرّب يسوع بأنّه سوف يجيبهم: "ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!"(متى 7: 22-23)" (محاضرات، رقم 15: 6-7). 28 فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان، إِذ تَرَونَ إبراهيم وإِسحقَ ويعقوبَ وجميعَ الأَنبِياءِ في مَلَكوتِ الله، وتَرَونَ أَنفُسَكُم في خارِجِه مَطرودين. تشير عبارة "هُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" إلى قيامة الجسد، للمشاركة مع النفس في الجزاء، لأنه إن كان يوجد بكاء للعيون وصريف للأسنان أي للعظام، فبالحق ستكون قيامة للأجساد. أمَّا عبارة "تَرَونَ أَنفُسَكُم في خارِجِه مَطرودين" إلى انفتاح حضن آبائنا إبراهيم واسحق ويعقوب ليستقبلوا المؤمنين من الأمم، بينما يُحرم منه أولادهم حسب الجسد وهم اليهود الذين رفضوا هذا الإيمان، ولم ينعموا بالنور الإلهي معهم. إنهم يُطرحون خارجًا في الظلمة؛ فمن ينسحب من عند الرب يكون في الظلمة الخارجيّة، لأن النور يصير خلفه. أمَّا عبارة "مَلَكوتِ الله " فتشير إلى وليمة مسيحانية (أشعيا 25: 6) حيث يجتمع المختارون حول الآباء والأنبياء كما نستنتج من كلمات يسوع لتلاميذه " اشتَهَيتُ شَهْوَةً شديدةً أَن آكُلَ هذا الفِصْحَ مَعَكم قَبلَ أَن أَتأَلَّم. فإِنِّي أَقولُ لَكم: لا آكُلُه بعدَ اليَومِ حتَّى يَتِمَّ في مَلَكوتِ الله "(لوقا 22: 16). والذين لا يلبّون دعوة يسوع يُبعدون عن هذه الوليمة. يوجّه متى الإنجيلي هذا الإنذار إلى الشعب اليهودي " وأمَّا بَنو المَلَكوت فَيُلقَوْنَ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة، وهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنان"(متى 8: 12)، في حين أنّ لوقا الإنجيلي لا يقصد إلاّ الذين لم يؤمنوا من سامعي يسوع الذين رفضوا أن يؤمنوا. فالدينونة تحكم على أعمالنا وأقوالنا وحياتنا منذ الآن. 29 وسَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب، فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله. تشير عبارة "وسَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب،" إلى نبوءة عن دعوة الأمم الوثنية الذين سيُقبلون من كل أركان العالم إلى مائدة الملكوت (أشعيا 2: 2-5) لكي يتمتعوا ببركة الملكوت؛ فالله يقبل في الملكوت حتى الوثنيين الذين يجمعهم من الأرياح الأربع أي أقطار الكون الأربعة كما جاء في نبوءة أشعيا "لا تَخَفْ فإِنِّي مَعَكَ وسآتي بِنَسلِكَ مِنَ المَشرِق وأَجمَعُكَ مِنَ المَغرِب. أَقولُ لِلشَّمالِ: هاتِ وللجَنوبِ: لا تَمنعَ. هَلُمَّ بِبَنِيَّ مِن بَعيد وبِبَناتي مِن أَقاصي الأَرض" (أشعيا 43: 5). إن السّماء ليست فقط لأبناء إبراهيم من حيث الجسد، بل لكل البشر من الشرق والغرب والشّمال والجنوب، إذ ملكوت الله هو عالَمي وللجميع. لذلك لا يتوقف الانتماء إلى أمَّة معينة دخول الإنسان إلى الملكوت، فالشرط الوحيد لدخول الملكوت هو الاعتراف بيسوع واتخاذ القرار باتباعه عن طريق الإيمان. ويجب اتّخاذ القرار، قبل أن يُغلق الباب أي قبل أن يكون الوقت متأخّرٌ كثيراً. أمَّا عبارة " مِنَ المَشرِقِ والمغرِب " فتشير إلى كل ممالك الأرض. دعا يسوع الأمم إلى الكنيسة وأشركهم مع الآباء والأنبياء في ملكوت الله. وفحوى ذلك أن عدد الذين يخلصون كثيرون لا من اليهود فقط بل من الأمم أيضا. لان الرّبّ هو رّبّ كل البشر بدون استثناء كما تنبأ أشعيا النبي "أَمَّا أَنا فنَظراً إِلى أَعْمالِهم وأَفْكارِهم، قد حانَ أَن أَجمع جَميعَ الأُمَمِ والأَلسِنَة، فتأتي وتَرى مَجْدي" (أشعيا 66: 18). أمَّا عبارة "فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله" فتشير لجمع أمم من كل لغة لكشف مجده كما جاء في نبوءة أشعيا " ويَأتونَ بِجَميعِ إِخوَتكمَ مِن جَميعِ الأُمَمِ تَقدِمَةً لِلرَّبّ " (أشعيا 66: 20). في خطة الله، أعلن ملكوت الله أولاً لليهود والأخير للأمم (رومة 1: 16)، الذين أتوا إلى الكنيسة من زوايا الأرض الأربعة لتشكيل شعب الله الجديد (أشعيا 43: 5–6). 30 فهُناكَ آخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين وأَوَّلونَ يَصيرونَ آخِرين. تشير عبارة "فهُناكَ آخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين" إلى الوثنيين الذين تمّت دعوتهم في وقت متأخر لكنهم لبّوا الدعوة قبل اليهود الذين كانوا أوَّل المدعوّين في ملكوت الله كما أكَّد ذلك بولس الرسول "فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ" (رومة 1: 16). وفي الواقع، كثيرون يعرفون الربّ وشاركوا في احتفالات باسمه ولكنّهم لم يدخلوا في فرحه الحقيقيّ. وبالمقابل، هناك من لا يعرفون الربّ، لكنّهم عرفوا كيف يحيون حياتهم بملئها. أمَّا عبارة "أَوَّلونَ يَصيرونَ آخِرين" فتشير إلى اليهود، شعب الله، الذين وُجهت كلمة الله لهم أولاً (أعمال 13: 26)، لكنهم صاروا مرفوضين لرفضهم المسيح واعتمادهم على برِّ أنفسهم. ويحذِّر يسوع من أن الكثيرين سيفقدون مكانهم على المائدة السماوية. (أشعيا 63: 15-16). وهكذا يصير الآخرون من الأمَّة الوثنية أولين، والأوَّلون من الأمَّة اليهودية آخرين. الأوَّلون هم الداخلون من الباب الضَّيِّق. وباختصار تشدِّد الآية على ترتيب دخول ملكوت السماوات وحرية المخطط الإلهي. يكشف لنا المسيح مدى حب الله الشمولي في منحه الخلاص حتى للوثنين. ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 13: 22-30) انطلاقا من تحليل وقائع النص الإنجيلي (لوقا 13: 22-30)، نستنتج انه يتمحور حول موضوع الخلاص وسبله. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم الخلاص في المسيح؟ وما هي طرق الخلاص؟ 1) ما هو مفهوم الخلاص في المسيح يسوع؟ الخلاص هي كلمة رئيسية من مصلحات الكتاب المقدس، ويُعبّر عنها باليونانية بلفظة σῴζω: ومعناها أن يخلص المرء، أي أن يُنشل من خطر كاد يهلك فيه للحصول على النصر، أو الحياة، أو السلام. والخلاص بمعناه اللاهوتي هبة من الله المُخلص (مزمور 44: 4)، الذي يخلّص البشر، إذ يأتي خلاص الصديقين من الرب (مزمور 37 39-40)، إنه هو نفسه الخلاص (مزمور 27: 1). لأنه سوف يخلص البائسين المساكين كما يترنم صاحب المزمور "وُضعاءُ الشَّعبِ يُنصِفُهم وبَنو المَساكينِ يُخَلِّصُهم. (مزمور 72: 4). الخلاص في الكتاب المقدس هو أيضا مرادف للسلام وللسعادة (أشعيا 52: 7) وللتطهير (حزقيال 36: 29) وللتحرير (إرميا 31: 7). هذه العناصر من التنبؤات تعتبر تمهيداً مباشرا للعهد الجديد. الواقع، إنَّ المسيح هو مخلصنا "وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ" (لوقا 2: 11)؛ ويُظهر متى الإنجيلي علاقة هذا الدور باسمه، الذي معناه "الرب يخلص " "ستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع יֵשׁוּעַ، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1: 21). وإن سمعان الشيخ يحّيي ظهور ذلك الخلاص على الأرض في تطلع عالمي يشمل الكون كله فأنشد " فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها" (لوقا 2: 30). وأخيراً تُمهِّد كرازة يوحنا المعمدان لسبل الربّ، بحيث إن " كُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله" (لوقا 3: 6). والإنجيل يقدّم الخلاص لكل مؤمنٍ كما يصرّح بولس الرسول "إِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ" (رومه 1: 16). فان الله " يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4)، لذلك أرسل ابنه كمُخلص للعالم كما يُعلن يوحنا الرسول "نَحنُ عايَنَّا ونَشهَد أَنَّ الآبَ أَرسلَ ابنَه مُخَلِّصًا لِلعالَم" (1 يوحنا 4: 14). ولم يأتِ يسوع لخلاص الجسد فحسب، إنما لخلاص الروح أيضا. أنه يُخلّص المرضى، إذ يشفيهم كشفاء المنزوفة (متى 9: 21) وشفاء الرجل ذي اليد الشلاء (مرقس3: 4) والرجل الممسوس (متى 5: 23) وشفاء مرضى كثيرين (متى 6: 56). ويخلِّص يسوع أيضا بطرس والتلاميذ وقد هبَّت عليهم العاصفة (متى 25:8). والشرط الوحيد الذي كان يطلبه يسوع من الناس لشفائهم هو الإيمان به رباً ومخلصا: فإيمانهم " هو الذي يُبرئ المرضى، فقالَ للمرأة المنزوفة على سبيل المثل "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خلَّصَكِ" (لوقا 8: 48)، في حين وبّخ تلاميذه على شَكِّهم عند تسكين العاصفة " فقالَ لَهم: مالَكم خائفين، يا قَليلي الإيمان؟" (متى 8: 26). قدّم يسوع للبشر خلاص الروح الذي هو أهم من خلاص الجسد. فكان هدف حياته على الأرض هو خلاص النفوس حيث صرّح " لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه " (لوقا 19: 10)، "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم "(يوحنا 3: 17). ولما ظهر على الأرض إلهنا ومخلّصنا (طيطس 2: 131)، هو الذي جاء ليخلص الخطأة (1 طيموتاوس 1: 15)، فان نعمة مخّلّصنا ومحبته ظهرتا (طيطس 2: 11)، وإذا ما تكلّم فليخلَص البشر كما صرّح يسوع "أَقولُ هذا لِتَنالوا أَنتُمُ الخَلاص" (يوحنا 5: 34). فالمرأة الخاطئة تخلَص، لأنه غفر لها خطاياها (لوقا 7: 48-50)، والخلاص يدخل بيت زكا المعترف والتائب (لوقا 19: 9). ولكي ينال المرء الخلاص ينبغي أن يقبل بالإيمان إنجيل الملكوت كما جاء في مثل الزارع "وأمَّا الَّذي في الأَرضِ الطَّيِّبة فَيُمَثِّلُ الَّذينَ يَسمَعونَ الكَلِمَةَ بِقلبٍ طَيِّبٍ كَريم ويَحفَظونَها، فَيُثمِرونَ بِثَباتِهم" (لوقا 8: 15). وصار المسيح بموته وقيامته" لِجَميعِ الَّذينَ يُطيعوَنه سَبَبَ خَلاصٍ أَبَدِيّ " (عبرانيين 5: 9). وبعد القيامة وحلول الروح القدس، فإن الله أقامه "قائداً ومخلصاً!" (أعمال 5: 31)، لأنه "ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمال 4: 12). يصف سفر أعمال الرسل يسوع بأنه " كَلِمَةُ الخَلاص" (أعمال 13: 26)، وقد وجّه الرب أولاً إلى اليهود (أعمال 13: 26)، ومن ثم إلى الأمم الأخرى كما جاء في أعمال الرسل "جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم لِتَحمِلَ الخَلاصَ إلى أَقْصى الأَرض" (أعمال 13: 47). ويطلب الرب من الناس، مقابل هذا، أن يؤمنوا لكي ينالوا الخلاص " تَخَلَّصوا مِن هذا الجيلِ الفاسِد" (أعمال 2: 40). فالخلاص حاضر في كل لحظة من الحياة (عبرانيين 2: 3). " وها هُوَذا الآنَ يَومُ الخَلاص" (2 قورنتس 6: 2). 2) ما هي طرق الخلاص التي يُقدّمها لنا يسوع المسيح في إنجيل اليوم؟ لم يكتفِ الإنجيل أن يُعلن بان يسوع هو المخلص بل كشف طرق الخلاص. وخلال صعوده من الجليل إلى مدينة أورشليم سأله رجل على الطريق: " يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟" (لوقا 13: 23). فلم يُجبْ على سؤاله، إذ لم يهتم بعدد الذين يخلصون بل اهتم بسبل الخلاص وكيفية خلاص الناس، حيث أوصى سامعيه أن يطلبوا الخلاص من خلال دخولهم من الباب الضَّيِّق محدداً ثلاثة سبل للخلاص، وهي الاهتداء والإيمان والاحتياط. السبيل الأول: الاهتداء: يُعلن إنجيل لوقا السبيل الأول "اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق" (لوقا 13: 24)، والفعل في اللغة اليونانية ἀγωνίζομαι ، يمكن لهذا الفعل أن يجعلنا نفكر في جهد الإرادة، بمعنى أنه لا يدخل إلى الملكوت سوى أولئك الذين يبذلون أقصى جهد. وهو نفس المصطلح ἀγωνίᾳ " أَخذَه الجَهْدُ" (لوقا 22: 44) الذي يستخدمه لوقا الإنجيلي في مشهد بستان الزيتون (الجسمانية)، حين عاش يسوع صراعه للمضي قدمًا في طاعة أبيه، وفي صراعه إلى أقصى حدٍ كي لا يستسلم لتجربة الم والموت، بل كي يبذل حياته من أجل خلاص الجميع أيضا. ويوضِّح متى الإنجيلي بان المطلب الأول لدخول الباب الضَّيِّق هو الاهتداء " أُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. فإِنَّ البابَ رَحْبٌ والطَّريقَ المُؤَدِّيَ إلى الهَلاكِ واسِع، والَّذينَ يَسلُكونَه كَثيرون. ما أَضْيَقَ البابَ وأَحرَجَ الطَّريقَ المُؤَدِّيَ إلى الحَياة، والَّذينَ يَهتَدونَ إِليهِ قَليلون " (متى 7: 13-14). فالاجتهاد بداية الاهتداء. أنّ الخلاص ليس مسألة انتماء إلى شعب ما، أو شيء يمكن امتلاكه أو حقٌ للشخص، وراثيّاً إلى حدّ كبير، بل هو، في المقام الأوّل، فعل "قرار" شخصيّ يقوم على الاهتداء وإتباع يسوع القائل " مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني" (لوقا 9: 23). الاهتداء هو السَّيْرُ إلى طَرِيقِ الخَيْرِ والحق بِتَبَصُّرٍ وَمَعْرِفَةٍ. وما الاهتداء في الكتاب المقدس إلاَّ البحت عن الرب (عاموس 5: 4) والبحث عن وجهه (هوشع 5: 15) والاتضاع أمامه تعالى (1 ملوك 21: 29) وتوطيد القلب فيه (1 صموئيل 7: 3). وينجم عن البحث عن الله تغيير في السلوك والرجوع الذاتي بندامة وتوبة. وبكلمة أخرى، الاهتداء يعني أن يحيد المرء عمَّا هو شرير ويتَّجه نحو الله، لان الخطيئة تسكن في الإنسان داخل عمق الأعماق "أنا" كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِذا كُنتُ أَفعَلُ ما لا أُريد، فلَستُ أَنا أَفعَلُ ذلِك، بلِ الخَطيئَةُ السَّاكِنةُ فِيَّ" (رومة 7: 20). من يرغب في دخول الباب الضَّيِّق لا يستطيع ذلك بدون جهاد، كما صرّح يسوع المسيح " مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه " (متى 11: 12). والجهاد يتطلب تحمل الشِّدة والآلام كما يصرّح بطرس الرسول "افرَحوا بِقَدْرِ مما تُشارِكونَ المسيحِ في آلامِه، حتَّى إِذا تَجَلَّى مَجْدُه كُنتُم في فَرَحٍ وابتِهاج" (1 بطرس 4: 13). ويعلق القدّيس مُبارك " إذا تبيّن لك أنّ هناك شيء فيه نوع من القسوة وأن هذا الشّيء مطلوبٌ لسبب ما (كإحقاق العدالة والتعويض عن الشّرور والمحافظة على المحبّة) فلا تهرب هكذا باكراً، خائفاً تاركاً طريق الخلاص حيث الدّخول إليه يكون فقط من الباب الضَّيِّق" (القاعدة). لذا ينبغي أن يجاهد الإنسان " بِخَوفٍ ورِعدَة " ليثمر خلاصه" (فيلبي 2: 12). وهذا الأمر يفترض تدريباً مستمراً على الفضائل كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَمَّا نَحنُ أَبناءَ النَّهار فلْنَكُنْ صاحين، لابِسينَ دِرْعَ الإِيمانِ والمَحبَّة وخُوذةَ رَجاءِ الخَلاص" (1 تسالونيقي 5: 8)، "لِننمو بِها مِن أَجْلِ الخَلاص"(1 بطرس 2: 2). والاجتهاد لدخول الباب الضَّيِّق يتطلب عيش التطويبات: الفقر الروحي، والوداعة، والرحمة والطهارة والسعي إلى السلام والسير على خطى يسوع المسيح بما في ذلك من مخاطر وعذابات واضطهادات لأجل اسمه القدوس (متى 6: 1-11). ويعلق القدّيس مقاريوس " مَن يريد أن يتقرّب من الربّ، وأن يكون جديرًا بالحياة الأبديّة، وأن يصبح مسكنًا للرّب يسوع المسيح، وأن يمتلئ من الرُّوح القدس، يجب أن يلجأ إلى الجهاد كما قال الرب "مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه." (متى 11: 11) " "ِفاجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق" (لوقا 13: 24) (عظات روحيّة، العظة رقم 19). ونستنتج مما سبق أنّ حياة الإنسان يجب أن تكون جهدا متواصلا من أجل إبقاء نار الإيمان مشتعلة، هذا الإيمان الّذي يتعرّض كلّ يوم إلى أشكال متعدّدة من الأجواء السيّئة ويُحاط بمخاطر متعدّدة. وهكذا نُدرك من فعل "اجتهدوا" بأنّ الصراع يتمّ خوضه داخل قلوبنا، وهو معركة صارمة ضد الخطايا، وضد الشهوات، وضد مختلف أشكال العنف، وأيضاً ضد المغريات الّتي تأتي من الخارج. فيتم الحصول عل الخلاص في اللحظة الّتي نطلب فيها نقاوة القلب "قلباً نقيّاً أخلق فيّ يا ربّ" (مزمور 50: 12). السبيل الثاني: الإيمان السبيل الثاني للخلاص هو الإيمان. وكان اليهود يظنُّون -وهم القليلون بالنسبة إلى الأمم الوثنية – أنهم مُخلصون، كونهم أبناء إبراهيم، وعندهم شريعة موسى، ولهم المواعيد. لذا فإنهم يعتقدون أنَّ الانتماء إلى إبراهيم يكفي للخلاص. فسأله أحدهم ليتأكد من هذا الأمر "يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟". لكن يوحنا المعمدان وبّخهم قائلا: " ولا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ (אבנין) أَبناءً (בנין) لإِبراهيم" (متى 3: 9). لكن يسوع المسيح أوضح لهم ليس الانتماء إلى إبراهيم وسيلة للخلاص، بل الاجتهاد بالدخول من البابِ الضَّيِّق (لوقا 13: 24) أي دخول باب الإيمان به كما يؤكِّد ذلك بولس الرسول " بِه نَجرُؤُ، إِذا آمنَّا به، على التَّقرُّبِ إلى اللهِ مُطمَئِنِّين"(أفسس 3: 12). ويعلق القديس كيرلس الكبير "من يريد أن يدخل الباب الضَّيِّق يلزمه بالضرورة أن يكون له أولًا الإيمان المستقيم غير الفاسد". ويعلِّم يسوع أن سبيل الخلاص هو الإيمان به " فمَن آمَنَ واعتَمَدَ يَخلُص، ومَن لَم يُؤمِنْ يُحكَمْ عَليه" (مرقس 16: 16)، وهو أيضا الدعاء باسمه (أعمال 2: 21). وعلى هذا الأساس يكون اليهود والأمم في وضع واحد. وهم لا يُخلّصون أنفسهم، لكن نعمة الرب يسوع هي التي تُخلصهم كما يؤكِّد ذلك بطرس الرسول إلى الرسل والشيوخ بقوله "نَحنُ نُؤمِنُ أَنَّنا بِنعمةِ الرَّبِّ يسوعَ نَنالُ الخَلاصَ كما يَنالُ الخَلاصَ هؤُلاءِ الوثنيون أَيضًا" (أعمال 15: 11). ويُخضع إيمانهم علاوة على هذا بالمعمودية، التي هي اختبار حق للخلاص كما يصرِّح بطرس الرسول "سفينة نوح هي رَمزٌ لِلمَعْمودِيَّةِ الَّتي تُنَجِّيكُم ُالآنَ أَنتم أَيضًا، إِذ لَيسَ المُرادُ بِها إِزالَةَ أَقْذارِ الجَسَد، بل مُعاهَدةُ اللهِ بضميرٍ صالِح، بِفَضْلِ قِيَامَةِ يسوعَ المسيح" (1 بطرس 3: 21). والله يخلّصهم بالرحمة فقط، دون أي اعتبار لأعمالهم (2 طيموتاوس 1: 9)، وبالنعمة (أفسس 2: 5 و8)، بمنحهم الروح القدس (2 تسالونيقي 2: 13). إن كل شخص مدعو إلى عبور باب الإيمان ولدخول في حياة يسوع وجعله يدخل في حياتنا، لكي يحوِّلها ويجدِّدها ويُعطيها الفرح الكامل والدائم. ولكن دخول باب الإيمان يتطلب الاختيار. فيتوجب على الناس أن يختاروا الإيمان بيسوع أو رفضهم له، وبهذا الأمر فهم يُحدِّدون مصيرهم: الخلاص أو الهلاك كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِنَّنا عِندَ اللهِ رائِحةُ المسيحِ الطَّيِّبةُ بَينَ الَّذينَ يَسلُكونَ طَريقَ الخَلاصِ وطَريقَ الهَلاك، الحياة أو الموت"(2 قورنتس 2: 15). أمَّا الذين يؤمنون ويعترفون بإيمانهم فيخلصون كما صرّح بولس الرسول "فإذا شَهِدتَ بِفَمِكَ أَنَّ يسوعَ رَبّ، وآمَنتَ بِقَلبِكَ أَنَّ اللّهَ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات، نِلتَ الخَلاص" (رومة 10: 9). يجب ألا نخاف من عبور باب الإيمان بيسوع، وألا َّ نخاف من الخروج من الأنانية، ومن انغلاقنا، ومن لامبالاتنا تجاه الآخرين. والإيمان لا يقوم على الكلام فحسب بل على الأعمال أيضا. فقد اكّد يسوع "لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ)) يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21). لا يكفي أننا ولدنا مسيحيين لكي نخلص، بل علينا أن نعيش مسيحيتنا بعمقها، ونجاهد الجهاد الروحي لنتمكن من الحصول على ملكوت الله. ويُعلق البابا فرنسيس "أننا ولدنا في بيئة مسيحية لا يعني أننا حصلنا على كرت العبور إلى ملكوت الله، لا بل علينا العمل بجدٍ لنحصل على هذه النعمة. لسنا أبدًا مسيحيين بالعلامة! بل مسيحيون حقيقيون، في القلب. أن نكون مسيحيين هو أن نعيش الإيمان ونشهد له في أعمال المحبَّة ونعزِّز العدالة ونقوم بأعمال خيّرة". الخلاص لا يُقدَّم لنا بشكل آلي وتلقائي كوننا مسيحيين، بمعنى أنّ الانتماء إلى الكنيسة ليس كفالة وضمانة لدخول الملكوت، إنما المطلوب العمل بمشيئة الله (متى 7: 21)؛ كذلك قبول المعمودية لا يكفل الخلاص ولا يكفي أيضاً أن نكون أكلنا وشربنا مع يسوع في سرّ القربان المقدس إذا لم نترك لهذه الأسرار أن تغيّر من قلوبنا ومن أفكارنا ومن سلوكنا في عائلاتنا ومع الآخرين. ونتيجة لذلك فقد أصبح كثيرون يطلبون الدخول من باب الإيمان، الباب الضَّيِّق، ولا يقدرون، لأنهم يطلبون بابًا واسعًا يُشبع شهوات قلوبهم، ويُمتع أجسادهم بخيرات زمنية، ويريدون بابا يحفظ لهم المظهر المُتدين، والشكل الصالح أمام الناس، وهم في قلوبهم يرعون أنفسهم وأطماعهم. من يريد أخيرا أن يدخل باب الإيمان، عليه المثابرة على السير في هذا الطريق حتىِ النهاية كما صرّح يسوع "الَّذي يَثبُتُ إلى النِّهايَةِ فذاكَ الَّذي يَخلُص" (متى 24: 13) لذلك يتطلب دخول الباب الثبات على الإيمان مهما كانت الشدائد. ونستنتج مما سبق أنَّ الإيمان بيسوع هو الطريق الوحيد إلى الخلاص، " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي" (يوحنا 14: 6)، هو وحده الذي مات لأجل خطايانا، وجعلنا مقبولين أمام الله. وأمَّا الباب الضَّيِّق فهو طريق الصليب، واختيار الباب الضَّيِّق هو اختيار طريق الصليب. "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني. ِأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حياتَه يَفقِدُها. وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَه في سَبيلي فإِنَّه يُخَلِّصُها " (لوقا 9: 23-24). ويريد يسوع أن يحمل الجميع فيه ومعه صليبه لينعموا بملكوته خلال الدخول من الباب الضَّيِّق، منطلقًا بهم من أورشليم الأرضية إلى اورشليم السماويَّة ليعاينوا سلامه الحقيقي. السبيل الثالث: الاحتياط يُحدِّد يسوع سبيلا ثالثا لكي ندخل الباب الضَّيِّق، وهو الاحتياط "إِذا قامَ رَبُّ البَيتِ وأَقَفَلَ الباب، فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون: يا ربُّ افتَحْ لَنا: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم" (لوقا 13: 25). وفي هذا الصدد يقول أوغست كونت، مؤسس علم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي "اعرفْ كي تحتاط، واحتاط ْ كي تصل الهدف". من لا يعرف لا يستطيع أن يحتاط، ومن لا يحتاط لنفسه يجد الباب مًغلقا كما حدت مع العذارى الجاهلات الخمسة "بينَما هُنَّ ذاهِبات لِيَشتَرينَ، وَصَلَ العَريس، فدخَلَت مَعَه المُستَعِدَّاتُ إلى رَدهَةِ العُرْس وأُغلِقَ الباب"(متى 25: 10). لذلك أوصى يسوع الجميع " اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. أَقولُ لَكم إِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ سَيُحاوِلونَ الدُّخولَ فلا يَستَطيعون. ويأتي صوت يسوع هنا مُحذراً مَن يسلك طرقًا أو أبوابًا أخرى لخدمة الله برياءٍ ونِفاقٍ. لأن الآب يدرك ملامح وجه الابن الحبيب في أولئك الذين تبعوه وساروا في طريق العطاء الذاتي والحب مما يُمكنهم من الاحتفاظ بهذه السمات في داخلهم وبشكل حقيقي. لم يذكر المسيح إذا كان عدد المُخلصين كبيرا أو صغيراً بل ذكر أنَّ الكثيرين يكونون خارج الباب وبذلك يخسرون الحياة الأبدية. الأشخاص الذين يتنظرون لنهاية حياتهم لإتباع المسيح ويؤجِّلون كل شيء إلى اللحظة الأخيرة هم أمام خطر حقيقي، ألا وهو قدوم الميعاد قبل الانتهاء من تحقيق أهدافهم ووجباتهم. فالاحتياط من شأنه أن يساعدنا لتخطي مشكلة العمل في أخر لحظة. فالسيد المسيح يدعونا اليوم إلى المحاولة وعدم اليأس، إلى التخطيط وعدم العيش بعشوائية، وأخيرا أن نحتاط ولا نترك توبتنا للحظة الأخيرة. فما دمنا أحياء وقديرين أن نقرِّر المصير لذاتنا، فلا تزال دخول ملكوت السماوات ممكنة لكل إنسان وبوسع كلِّ إنسان أن يحصل على مكانه فيه. يتطلب الاحتياط التوبة. إذ ينبغي على المرء أن يتوب ما دام هنالك وقت، كما جاء في تعليم يسوع المسيح" إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم" (لوقا 13: 3). ويُعلق البابا فرنسيس " إن باب يسوع ضيق، ليس لأنه غرفة للتعذيب، كلا، بل لأنه يطلب منا أن نفتح له قلبنا، وأن نعترف بخطايانا التي تحتاج إلى خلاصه ومغفرته ومحبته رحمته ". وقام الله بكل شيء من أجل خلاصنا، وعقيدة النعمة تعلمنا بان الخلاص هبة مجَّانية من الله. لكن يسوع يضع شرطا للخلاص، وهو أن يتوب الناس عن طرقهم المعوجّة وان يرجعوا إلى الله معترفين بخطاياهم لكن هذه الأمر ليست سهلة. لأنها تخالف ميل طبيعتنا البشرية الساقطة. فمن جهة يرغب كل إنسان بان يدخل ملكوت الله، ولكنه لا يرغب بان يقبل شروط الله لدخوله هذا الملكوت. والاحتياط في الحياة المسيحية واجب مفروض، لأن كل يوم يمرُّ بنا يقرِّب الخلاص إلينا هذا كما يصرح بولس الرسول "وإِنَّكُم لَعالِمونَ بِأَيِّ وَقْتٍ نَحنُ: قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم، فإِنَّ الخَلاصَ أَقرَبُ إِلَينا الآنَ مِنه يَومَ آمَنَّا" (رومة 13: 11). والباب ضيق في بدايته على الأرض، حتى إن التلاميذ يتساءلون قائلين: " مَن تُراهُ يَقدِرُ أَن يَخلُص؟" (متى 19: 25). لكن كلمة أشعيا تحثُنا "قَوُّوا الأَيدِيَ المُستَرخِيَة وشَدِّدوا الرُّكَبَ الواهِنَة" (أشعيا 35: 3). من يدخل الباب الضَّيِّق يجد ما صرّح به يسوع المسيح " نِيري لَطيفٌ وحِملي خَفيف " (متى 11: 30). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن طريق الخلاص ضيق بسبب التجارب في مدخله، ولكن إذ تدخله تجد مكانًا متسعًا (راحة)، على عكس الطريق المؤدى للهلاك". والواقع في داخل الباب مليء بالتعازي، وفي نهايته مجدٌ أبديٌ. والاحتياط مطلوب أخيراً، لان الباب لن يظل مفتوحا إلى ما نهاية لكنه سيغلق، " وإِذا قامَ رَبُّ البَيتِ وأَقَفَلَ الباب، فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون: يا ربُّ افتَحْ لَنا، فيُجيبُكُم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم" (لوقا 13: 25). ومعنى ذلك أنَّ الله قد عيّن وقتً لطلب الخلاص والرحمة وهو الزمن الحاضر، وبالتحديد مدة حياة الإنسان على الأرض، فباب التوبة يُغلق عند موت الإنسان حيث ينتهي زمن النعمة والرحمة ويبدأ زمن العدل والدينونة (متى 25: 10-11). نستنتج مما سبق أنَّ وقت الخلاص ينتهي بالدينونة. وفي الدينونة لم يذكر المسيح إذا كان عدد المُخلصين كبيرا أو صغيراً بل يذكر بان الكثيرين سيتواجدون خارج الملكوت السماوي، وبذلك يخسرون الحياة الأبدية. لنبدأ الآن تغيير طريقنا نحو الله الذي ينتظرنا قائلاً: " تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم"(متى 25: 34). ولم يتردَّد القديس أوغسطينوس أن يترك لنا هذه الوصية " لا نقلّد الأكثرية المستهينة بدخول الباب الضَّيِّق كي لا نخسر دفء بيت الله". الخلاصة يُعلمنا يسوع من خلال الإنجيل أن ملكوت الله مفتوح للجميع "وسَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب، فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله". ولكن من جهة أخرى المعرفة وحدها لا تكفي لدخول ملكوت الله كأولئك الذين يصرخون " لَقَد أَكَلْنا وِشَرِبنْا أَمامَكَ، ولقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا" فيسوع قال لنا مرارًا "ليسَ من يقولُ لي "يا ربّ، يا ربّ يدخلُ ملكوتَ السَّموات، بل من يعملُ بمشيئةِ أبي الذي في السَّموات...". يجب أن يقترن القول بالعمل، وعلى الإيمان أن يحرّكَ الكيان، وعلى الصلاة أن ترافق أعمال المحبة والرحمة. جاء يسوع إلى العالم مخلصًا لجميع البشر على حد سواء. وبدأ بشارة الخلاص مع اليهود ثم انتقل إلى الوثنيين. ثم وجّه لنا يسوع دعوة ملحة حتى يتمكن الجميع، دون استثناء، من تقبّل الخلاص، والدخول إلى الملكوت. وحدَّد ثلاثة سبل لدخول الإنسان الباب الضَّيِّق المؤدي إلى الخلاص، وهي: الاهتداء والإيمان والاحتياط. ومن هذا المنطلق، يجب علينا ألاَّ نريد أن نكون من مصاف "الأيدي المُستَرخِيَةَ والرُكَبِ المُلتَوِيَة" (العبرانيين 12: 12، أشعيا 35: 3) بل أن نسعى جاهدين من أجل الدخول من الباب الضَّيِّق. فمن سلك فيه ينال الخلاص فيسمع صوت سيده يقول له "أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" (متى 25: 21). دعاء أيها الآب السماوي، نطلب إليك باسم يسوع ابنك أن تساعدنا لندخل من الباب الضَّيِّق، باب الاجتهاد والإيمان، والالتزام الشخصيّ مع الربّ، وهكذا نصل إلى طريق الخلاص لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن"(يوحنا 3: 15). أعطنا يا رب أن نجتهد ليلاً نهاراً لندخل من "الباب الضَّيِّق". الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
وعلى الأملْ..يبقى السؤالْ: متى .و أينَ. وكيفَ الوصالْ |
ليس بمقدرة الإنسان أن يُخلَص نفسه من الموت |
ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يَخلُص. متى 24: 13 |