تابع أولاً مُسميات هذا اليوم العظيم
(شرح وتفسير: شكر = افخارستيا)
(يوم الشكر الدائم، الإفخارستيا الخبز الحي طعام الحياة
الجديد دوماً، يوم التذكار الأبدي)
وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك (εύλογία) وكسر وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً اشربوا منها كلكم. لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا. (متى 26: 26 – 28)
وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزاً وخمراً وكان كاهناً لله العلي (تكوين 14: 18)
فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ، الْحَقَّ، أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ قَالَ: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ»؛ هَذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ؛ أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ؛ هَذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يوحنا 6: 32؛ 41؛ 50؛ 51؛ 58)
(أ) كلمة إفخارستيا تعني باليونانية بشكل عام تعني "الشكر" والمسرة: ورمم مذبح الرب وذبح عليه ذبائح سلامة وشكر (תּוֹדָה) وأمر يهوذا أن يعبدوا الرب إله إسرائيل (2اخبار 33: 16)
+ "ولكن لأجل شكر (εύχαριστίαν) (مسرة) الكثيرين، نتحمل بسرور هذا العناء الكبير" (2مكابيين 2: 27) "لا تتشاور مع إنسان حاقد في كيفية الشكر (εύχαριστίας)" (ابن سيراخ 37: 11)
عموماً الكلمة تعني الشكر الذي يُلازمه المسرة، والفعل الأساسي الذي قدمه المسيح للآب في يوم تأسيسه لهذا السرّ ليلة خميس العهد هو الشكر: "وشكر فكسر، وقال: ((خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. أصنعوا هذا لذكري))" (1كورنثوس 11: 24)
"وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز، وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: ((خذوا كلوا، هذا هو جسدي))، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: ((أشربوا منها كلكم. لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا))" (مت 26: 26 – 28)، وأيضاً لأن هذا السرّ المقدس هو أعظم تعبير عن الشكر تقدمه الكنيسة للمسيح الرب
(ب) تعود الأصول الأولى لفعل الشكر في الكنيسة إلى التقليد اليهودي في طقس (بركة المائدة – Beraka Hamazon) وهي صلاة شكر لله من أجل هبة الخلق، والأرض وثمارها،
حيث ينتقل رب العائلة إلى ذكر تاريخ الخلاص، فيذكر العهد مع الآباء، والخروج من مصر أرض العبودية والعبور لأرض الحرية عن طريق السير في البرية في معية الله وحضوره معهم وسيره أمامهم.
أما الحدث الرئيسي الذي من أجله يُقدم الكاهن في العهد الجديد الشكر لله فهو (بحسب التدبير) تجسد الابن الوحيد وموته وقيامته وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب لتكميل خلاصنا: وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً (عبرانيين 9: 12)
عموماً، استخدمت الكلمة بنوع خاص في حالة شكر الله على خلقه العالم، أي شكر الله بلسان الخليقة من أجل خلقه العالم وبركاته ومواهبه وعطاياه للإنسان بشكل عام كمحبة منه، لأن بسبب المحبة خلق كل شيء، فكل صلاة تقدم لله فيها شكر من أجل خلقه العالم تُسمى إفخارستيا
(جـ) وأول ذكر لهذا الاسم ((إفخارستيا)) جاء في الديداخي (تعاليم الرسل):
[فيما يختص بالإفخارستيا، اشكروا هكذا.. لا يأكل أحد أو يشرب من إفخارستيتكم غير المعتمدين باسم الرب] وورد الاسم كذلك في رسائل القديس أغناطيوس الشهيد، وعند القديس يوستينوس الشهيد. (أنظر معجم المصطلحات الكنسية لراهب من الكنيسة القبطية صفحة 109)
(د) كلمة إفخارستيا تتعلّق بعمل الليتورجيا ومنها الفعل (إفخارستين εύχαρίστειν) ومشتقاته:
فالفعل (إفخارستين εύχαρίστειν) استخدمه المسيح عندما أمسك بيده الكأس المملوء خمراً ممزوجاً بماء (وهي إشارة بليغة لجنبه المطعون بالحربة الذي خرج منه دمٍ وماء) ثم تناول كأساً وشكر εύχαριστήσας (لوقا 22: 17؛ 19)
وكلمة شكر هنا لا تُفيد مجرد شكرّ عادي، بل أنه فعل الشكر الطقسي، أي أدى وقدم الشكر من أجل الخليقة وبركة الله لها أي للخليقة، والبركة الخاصة بهذا الموقف.
لأن كلمة إفخارستيا استُخدمت بمعنى: "تقدمة شكر"، أي شكر معبر عنه بتقدمة سواء كان بالتسبيح أو الصلوات أو الذبائح، ولذلك نجد أن كلمة إفخارستيا استُخدمت كصلاة بشكل خاص [لشكر الله على خلقة العالم]، فكل صلاة يُقدم فيها الشكر لله على الخليقة تُسمى إفخارستيا، ولذلك نجد عند القديس إيرينيئوس أنه يعتبر أن الأهداف الأساسية لسرّ الإفخارستيا هو شكر الله بلسان الخليقة من أجل خلقة العالم وبركاته للإنسان.
(هـ) الإفخارستيا بالمعيار اللاهوتي هي محور حركة الحياة في الكنيسة
وهي النبع الدائم التي تنسكب منه هذه الحياة على كل عضو حي في الكنيسة بالتوبة والإيمان العامل بالمحبة، فالإفخارستيا ليست سراً مهماً فقط أو أهم الأسرار في الكنيسة، بل هو السرّ الذي ينبع منه كل ما هو مهم في الكنيسة، أي أنه هو المركز وأساس حياة المسيحي الذي تنطلق منه كل الصلوات وتترابط مع بعضها البعض، حتى على مستوى الفرح والمخدع الخاص، لأن العبادة ليست جزئية، ولا حتى جزء من كل، وبالتالي ليست منقسمة إلى ما هو مهم فأهم أو الأهم، أو ما هو فردي وما هو جماعي أو جمهوري، لأن في واقعية الكنيسة هي كل لا يتجزأ، فرأسها المسيح وهي جسده، ولا يُمكن أن يجتمع جُزئياً، فحينما يجتمع اثنين أو ثلاثة أو واحد في مخدعه، أو وسط جمهور الكنيسة، فهو سراً يجتمع بأعضاء الجسد الواحد.
يا إخوتي أن كل واحد فينا عضو في جسد، أي جسم الكنيسة، أي غصن في كرمة متصلة مع بعضها البعض، وأي أدنى انفصال يعرض الغصن للخطر، لأنه سينعزل عن الكرمة الحقيقية ويبقى وحدهُ ومصيره للجفاف والموت.
فكل من يولد من الماء والروح، لا يولد لنفسه، بل لأنه يولد في الكنيسة فأنه يُضم إلى الجسد الواحد عينه، كما أن كل من يموت بالجسد لا يموت لنفسه طالما هو عضو حي في الكنيسة جسد المسيح الرب، بل ينتقل إلى السماء على رجاء مجيء الرب الذي سيُغير شكل جسد تواضعنا على صورة مجده، لأننا نقتات على خبز الحياة في الكنيسة وبه سيُقيمنا في اليوم الأخير.
انتبهوا يا إخوتي الأحباء، واعرفوا موضوعكم الجديد في كنيسة الله الحي، فكل من يتوب ويعود إلى الكنيسة ينعش الجسد كله ويقويه، وكل من يسهر على حياته الشخصية، ويُصلي في مخدعه، فهو يكمل عمل الجماعة في الكنيسة ويكون لها بمثابة الجمرة المشتعلة التي تزيدها نور وقوة، لأن كل جمرة تجتمع مع الأُخرى تُزيد النور توهج وإشراق.
أرجوكم افهموا ما أقول:
(1) حينما تُمارس العبادة عن جهالة وعدم فهم واضح تتحول لعبادة مُستهترة، وبالطبع – على هذا المستوى – تُصبح العبادة بكل أنواعها ميتة، وتُظهر الكنيسة أمام الناس والعالم بمستوى ضعيف وباهت للغاية، لأنها لن تزيد على أنها تظهر وتتصور في الأذهان أنها لا تزيد عن حجم هذه الطقوس الشكلية التي تُمارس باستهتار وتململ أحياناً بكونها غير مفهومه لا عند قائلها ولا سامعها من ناحية الإدراك وبالتالي انعدام الخبرة الروحية، لأن كل مظهرية شكلية تطعن صاحبها بأوجاع كثيرة ولا تقربه من الله على وجه الإطلاق، بل سيظل يُضارب الهواء: الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله (مزمور 14: 2) – صلوا بفهم
(2) أي إنسان في الكنيسة حينما يكتفي بتأدية العبادة وممارسة الأسرار مهما ما كان عن حب ونشاط وبذل وتلذذ دون ان يحاول أن يفهم ما يقوله ويُقال لهُ وما يُمارسه وما يُمارسونه أمامه من طقوس، فسيبقى أداة ركود وتحجر في الكنيسة، لأن كل فرد في الكنيسة المفروض يكون صورة لحياة الكنيسة بكونه واسطة من وسائط بشارتها الحية، لأن كل واحد فينا ينبغي أن يكون إنجيل مقروء من جميع الناس، فكل واحد فينا يتشكل على صورة المسيح من خلال الكنيسة، لأنه يأخذ القوة من السر العظيم المُسلَّم لها عبر الأجيال وهو جسد الرب ودمه، المركز الذي نلتف جميعنا حوله، لذلك ينبغي أن نعبد الله ونُصلي بفهم: إنسان في كرامة ولا يفهم يُشبه البهائم التي تُباد (مزمور 49: 20)؛ آباؤنا في مصر لم يفهموا عجائبك، لم يذكروا كثرة مراحمك، فتمردوا عند البحر، عند بحر سوف (مزمور 106: 7) فالعقل يحفظك والفهم ينصرك (أمثال 2: 11)؛ طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم (أمثال 3: 13)
(و) الإفخارستيا التعبير السري عن الفداء،
فالخليقة كلها تتبارك في ذبيحة الإفخارستيا والعالم كله يتقدس والإنسان يتذوق عمق قوة الخلاص المتسع، لذلك تتحتم أن تضم الإفخارستيا في صلواتها (الأواشي) كل الأقطار وكل أجناس الخليقة من كل ما ينبت على الأرض من نبات وكل ما يطير في الهواء ويدب على الأرض وأيضاً كل فئات الناس حتى الولاة والحكام والملوك ورؤساء العالم، فالخليقة كلها والعالم كله مرفوع بالصلوات والبخور في الحضرة الإلهية أمام المذبح والذبيح القائم من الأموات الجالس عن يمين الآب: وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً (1يوحنا 2: 2)
وبهذا المستوى الفائق نُدرك الآن شركتنا الحقيقية المتسعة، إذ أن كافة أرواح القديسين والملائكة تشترك في الصلاة في هذا السر قائلين باحتفال مهيب ((قدوس، قدوس، قدوس..)) لأن الجميع داخل في صميم أبعاد الإفخارستيا
+ إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ. الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ (أفسس 1: 9 – 11)
(ز) الإفخارستيا ليست نوعاً من ((ذبح ثانٍ)) لأن ذبيحة الصليب ذبيحة واحده كاملة غير متعددة أو متكررة،
ولا تُستحضر ولا تُصنع بيد بشر ولا تتم بحسب مشيئة إنسان، لأنه ليس من حق أحد أن يمنحها أو يمنعها، فالإفخارستيا هي اشتراك في ذبيحة الصليب الواحدة الوحيدة (أي في ذبيحة المصلوب القائم من بين الأموات والجالس عن يمين الآب) في مكان ما وزمان ما كلما أقمنا قداساً في أي تاريخ أو عصر أو وقت، فهو السرّ الذي يفوق الزمان إذ هو سرّ المسيح الذي أعطاه لنا عطاء يفوق كل منطق، وهو مستمر في الزمان وجميع الأجيال (بلا استثناء) لأنه مُعطى بالبركة بنطق فمه الخاص [خذوا كلوا هذا هو جسدي] (مرقس 14: 22)، ولذلك فأن الإفخارستيا ستظل سرّ غير قابل للفحص ويفوق كل الزمان ولكنه معلن في القلب بالإيمان بالروح القدس، ويُمارس في سر الشركة مع الكنيسة، منظورة وغير منظورة.
______ يتبـــــــــــع ______