القديس بولس
رسائل الشهيد بولس الرسول
مقدمة:
+ إن الدارس لحياة القديس بولس الرسول ليزداد إعجابًا به كلما امتدت به الدراسة. فهو رجل هزيل الجسم، يشكو من شوكة في الجسد لا نعرف متى أصيب بها وإنما نعرف أنها لازمته إلى آخر حياته إذ لقد أجاب الرب على ضراعته في رفعها عنه بقوله: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ" (2 كورنثوس 12: 9). فتقبّل هذا الرد الإلهي بشكر.
+ والأعجب من ذلك أنه حين أراد أن يثبت حقه في الرسولية قدّم كشفًا رهيبًا بما قاسى من الضيقات والآلام! ومن البنيان لنفوسنا أن نتبصّر هذا الكشف: "... أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ، فَأَنَا أَفْضَلُ: فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ، فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ، فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ، فِي الْمِيتَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً. مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلًا وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ..." (2كورنثوس 11: 22-33). هذه هي شهاداته العليا التي نالها من جامعة الرب المسيح. وقد تلقّاها الكورنثيون بخشوع لأنهم شهدوا بعيونهم بسالة الرجل الذي يقدمها لهم.
+ ثم أنه طورِ
د حتى من عائلتهّ! صحيح أننا لا نسمع شيئًا عن أمه فلا ندري إن كانت قد انتقلت من هذا العالم وهو طفل بعد. ولكن أباه غضب غضبة جامحة حين رآه قد سار وراء السيد المسيح - غضب إلى درجة حرمه من الميراث. ونحن نعرف أنه كانت له أخت تعيش في أورشليم، ولكننا لا نسمع عنها إلا حين ذهب ابنها إلى المعسكر الذي احتجزه فيه كلوديوس ليسياس لينذره بالمؤامرة التي تآمر بها اليهود لقتله.
+ وليس ذلك فحسب: فغالبية الرسل تباعدت عنه. تباعدوا أولًا لتشككهم في صدق مسيحيّته. وتباعدوا ثانيًا لإصراره على حرية الأمم وحقهم المتساوي مع اليهود في السيد المسيح!
+ وإلى جانب هذا كله فقد كان مضطرًا إلى العمل لكسب قوته، فهو قد أعلن: "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ" (أعمال 20: 34). فكان لذلك مضطرًا إلى السهر ليلًا للاشتغال بعمل الخيام.
+ ومع هذا كله، وعلى الرغم من هذا كله، فقد كرز في مدن هذا عددها وأسس بها كنائس مازالت باقية إلى الآن وكتب أربعة عشر رسالة هي: رومية، رسالتين إلى كورنثوس، غلاطية، أفسس، كولوسي، رسالتين إلى تسالونيكي، رسالتين إلى تيموثيئوس، رسالتين إلى تيطس، فليمون، العبرانيين.
+ ويظن بعض العصريين أن الرسالة إلى العبرانيين ليست له لأنه لا يبدأها بقوله: "بولس عبد يسوع المسيح" ولكن آباءنا وجميع الكنائس الشرقية التي نشأت منذ فجر المسيحية علمونا أنها ضمن ما كتب، ويفسِّر ذهبي الفم بدايتها المختلفة بعنف مقاومة اليهود له في كل مكان. فلو أنه استهلها بإعلانه شخصيته على الفور لرفضوها وقاطعوها قبل أن يقرأوها لذلك يبدأ بتذكيرهم بما يعتزّون هم به اعتزازًا فيقول: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ،..". فهو بهذه البداية غير المعتادة يستثير رغبتهم في التقرب إلى السيد المسيح. ثم يُقدم لهم كشفًا جذّابًا بالعدد الوفير من الرجال المحببّين إليهم مبتدئًا من هابيل وممتدًا على مدى عصورهم المضيئة. وفي ختامه يقول: "وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ..." نرى إلى أي حد كان بولس بنَاءً حكيمًا، فهو، بعد تقديمه هذا الكشف، يهيب بهم: " لِذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا... وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ..) " (عبرانيين 12: 1-2) فهو يسير من إيمان آبائهم إلى الإيمان بالسيد المسيح.
+ ومع ذلك فهو يخوض المعركة عينها: معركة حق الأمم ولكن من وجهة نظر اليهود. إنه يخوضها خلال المقارنة بين الكهنوت اللاوي والكهنوت الجديد، معلنًا أنه لو كانت هناك كفاية في الكهنوت اليهودي لما قامت الحاجة إلى كهنوت "على طقس ملكيصادق" الذي قدّم له إبراهيم العشور علامةً على أن ملكي صادق أعلى مكانة من إبراهيم (عبرانيين 4: 14؛ 5؛ 7-10) فالمقارنة التفصيلية بين العهدين القديم والجديد، وأفضلية الجديد الذي حررنا من الحاجة إلى الناموس - هذا كله دليل على أن الرسالة للعبرانيين قد كتبها بولس إليهم، وعلى الأخص لأنه كان متلهّفًا إلى دخولهم الإيمان بالسيد المسيح بوصفه المسيا الذي نادى به الأنبياء. إنه منذ أن لاقاه السيد المسيح على الأرض في دمشق لم يهدأ ولم يسترح، بل إنه رُجم في لسترة ولم يتركه راجموه إلا حين زعموا بأنه مات، قام وباشر نشاطه الكرازي لفوره! وهو حين تفاخر بضيقاته انتهى إلى القول: "... الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ. مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟" فقد أشعلته محبة السيد المسيح اشتعالًا فأشعل كل من استطاع أن يلهب قلبه. حتى السجن والسلاسل لم تمنعه من الكرازة. فعاش فاديه بحق. وبحق عاش في كرازته المبدأ المثالي الذي أصرّ عليه، وهو أنه في المسيح يسوع "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غلاطية 3: 28).