رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
سُلطَانة فَلسْطين ومَزارُها في دير رافات (لوقا 1: 40-50) النَّص الإنجيلي (لوقا 1: 41-50) 40 ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات. 41 فلَمَّا سَمِعَت أَليصابات سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس، 42 فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: ((مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ! 43 مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ 44 فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني 45 فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ)).46 فقالَت مَريَم: ((تُعَظِّمُ الرَّبّ نَفْسي 47 وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي 48 لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال 49 لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه 50 ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه. مقدمة يصف لوقا الإنجيلي زيارة مَريَم العذراء لخالتها أَليصابات المُسنَّة، شقيقة أمِّها حنّة كامتدادٍ لبشارة المَلاك جِبرائيل لمَريَم العذراء، وكتمهيدٍ لأحداث ميلاد الرَّبّ. وأصبحت أَليصابات بعد مَريَم العذراء ثاني شخص يعترف بتجسد يسوع، كلمة الله، في أحشاء مَريَم البتول، إذ قالت " مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ " معلنةً بذلك أيضا أمومة مَريَم. وهكذا تؤكّد زيارة مَريَم العذراء حقيقة التَّجسُّد من خلال تحية السَّلام المتبادلة بين مَريَم وأَليصابات؛ أنها صور تمهيديّة تكشف عن شخص السَّيِّد المسيح نفسه، وعمله في حياتنا كما تكشف صورة مريم العذراء الذي اختارها الله منذ الأزل لتكون والدة ابنه المتجسِّد. فما أحرانا نحن أبناء الأرض المقدس أن نكون في طليعة المسيحييِّن المُفتخرين بمريم العذراء سيدة لهم. ففي هذه الأرض وُلدت مريم، وعاشت وأصبحت أمًّا للمسيح، ورفيقة في حياته وموته وقيامته، وفيها أصبحت أمَّا لنا وللكنيسة بأسرها. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 1: 39-45) 40 ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات تشير عبارة "دَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا" إلى دخول مَريَم إلى بيت زَكَرِيَّا بعد اجتيازها المناطق الجبلية، مثلما أُدخل بيت عُوْبِيد أدُوم تابوت العهد بعد اجتيازه المناطق الجبلية (2 صموئيل 6: 10). إن رسالة يسوع، الكلمة المُتَجسِّد في مَريَم قد انطلقت منها إلى العَالَم. وهكذا أصبحت مَريَم هي أوَّل المُبشّرين بالمسيح، إنها الحاملة الأولى للبُشرى السَّعيدة "ما أَجمَلَ على الجِبالِ قَدَمَيِ المُبَشِّر المُخبِرِ بِالسَّلامِ المُبَشِّرِ بِالخَير المُخبِرِ بِالخَلاص "(أشعيا 52: 7). تحمل مَريَم إلى اليهودية السَّلام والسَّعادة والخلاص. ويُعلق القديس أمبروسيوس قائلاً: "من كان أرفع منزِلة يزور الأقل؛ مَريَم ذهبت إلى أَليصابات وذلك بحسب المنطق الإلهي الكبير الذي يطلب الصَّغير ويبحث عنه، كما جاء في تشيد زَكَرِيَّا، أبو يوحَنَّا "تَبارَكَ الرَّبّ إِلهُ إِسرائيل لأَنَّهُ افتَقَدَ شَعبَه وَافتَداه إلهُ إسرائيل" (لوقا 68:1). وأصبحت زيارة مَريَم لاليصابات نموذجًا لما يجب أن تكون عليه زياراتنا. أمَّا اسم "زَكَرِيَّا" في الأصل اليوناني Ζαχαρίας المُشتق من العبريَّة: זכריה (معناه "ذكره الله" أو "مذكور الله") فيشير إلى زوج أَليصابات. وهو كاهن من فرقة أبيا (لوقا 1: 5)، أبو يوحَنَّا المَعْمَدان. وقد ذُكرت صفاته وصفات امرأته بأبسط العبارات وأكثرها وضوحًا " كانَ كِلاهما بارّاً عِندَ الله، تابعاً جميعَ وَصايا الرَّبّ وأَحكامِه، ولا لَومَ علَيه" (لوقا 1: 6). أمَّا مولد يوحَنَّا فأعلن بطريقة عجيبة خارقة للعادة. إذ لم يُصدِّق زَكَرِيَّا وطلبَ علامة ًغير اعتيادية لِما في نفسه من الرَّيبة، فكانت آيتُه أن فَقَدَ قوة النَّطق وبقي صامتًا إلى اليوم الثّامن بعد ميلاد الصَّبي. ولمَّا دعا ابنه "يوحَنَّا" حسب قول الملاك له، وفي الحال انطلق لسانه وعاودته قوة النَّطق. فأخذ يشكر الله ويحمده مملوء ًمن الرُّوحِ القُدُس ومسبحًا الرَّبّ بنشيد أشبه بالتَّسابيح العبرانية القديمة (لوقا 1: 57-80). ورد اسم زكريا أيضا في القرآن " يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (سورة مَريَم7). أما عبارة " فَسَلَّمَت " في الأصل اليوناني ἠσπάσατο (معناها حيّت) فتشير إلى تحيَّة سلام وتُترجم بمعنى الفرح. وتذكرنا هذه العِبارة بقول الرَّبّ يسوع لتلاميذه "وإِذا دَخَلتُمُ البَيتَ فَسَلِّموا علَيه" (متى12:10). إن كتاب العهد الجديد هو كتاب السَّلام حيث تكرَّرت كلمة سلام 88 مرّة فيه. فإذا ما كنَّا في نعمةٍ، فلا نتعالَ، ولا ننظر إلى الآخرين من علُ. وبهذا السَّلام هنأت مَريَم أَليصابات بما يُرفع العَار عنها، لأنَّها كانت عاقرًا، وكان المجتمع اليهودي في ذلك الوقت يقيس قيمة المرأة بمقدار قدرتها على إنجاب الأطفال. التَّقدم في السَّنِّ دون إنجاب غالباً ما يؤدي إلى مُشْكلات شخصية ويعتبر عارًا اجتماعيًا. أمَّا عبارة "أَليصابات" (صيغة يونانية Ἐλισάβετ مشتقَّة من لفظة عبرية אֱלִישֶׁבַע " اليشبع" أي "الله يُقْسِم" أو "يمين الله) فتشير إلى اسم امرأة تقيَّة بارة من سبط لاوي ومن بيت هارون، مِمَّا يلمّح أنها جاءت من عائلة كهنوتية مُقدَّسة (خروج 6: 23)، وهي زوجة زَكَرِيَّا وأمُّ يوحَنَّا المَعْمَدان الذي ولدته وهي مُتقدِّمة في السَّن، وأشار زَكَرِيَّا لمعنى اسم زوجته عندما قال:" القَسَمَ الَّذي أَقسَمَه لأَبينا إِبراهيم " (لوقا 1: 73). وكانت أَليصابات من أقرباء مَريَم العذراء، وقد أوحى إليها الرُّوحِ القُدُس بأمومة العذراء بالمسيح المُنتظر، فدعت مَريَم "أُمُّ رَبِّي" (لوقا 1: 43)، وهي لم تُبْدِ شَكًا في قدرة الله على إتمام وعده. فكانت أوَّل امرأة بعد مَريَم العذراء تعترف بمجيء المُخلص من مَريَم العذراء. وهكذا كانت أَليصابات تُمثّل العهد القديم، ومَريَم تمثل العهد الجديد التي سمعت كلمة الله وأمنت بها، وقبلتها في قلبها وحملتها إلى الآخرين. 41 فلَمَّا سَمِعَت أَليصابات سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس تشير "سَمِعَت" إلى سِماع أَليصابات الصَّوت بالأذن، وأمَّا الذي قَبِلَ النِّعمة أولاً فهو يوحَنَّا جنينها، إذ تهلَّل بقوة الرُّوحِ القُدُس. كانت أَليصابات أول من سمع صوت مَريَم، لكن يوحَنَّا كان أوَّل من تأثر بنعمة الرُّوحِ القُدُس. وبمجرد إصغاء أَليصابات لسلام مَريَم، تمَّت أحداث عجيبة: من ارتكاض الجَنين مبتهجًا وامتلاء أَليصابات بالرُّوحِ القُدُس وشهادتها لأمومتها لربِّها. كيف يُمكن للرب يسوع أن يذهب إلى بيت زَكَرِيَّا في عين كارم إذا لم تجلبه أمُّه إلى هناك؟ ويُعلق القديس أمبروسيوس قائلاً: " أحسَّتْ أَليصاباتُ بمجيءِ مَريَم، وأحسَّ يوحَنَّا بِمجيءِ الرَّبّ. تحدَّثَتِ المرأتان بنِعَمِ الله. والوَلَدان زيَّنَا الأحشاءَ الوالديَّةَ بِسِرِّ التَّقوى وبنِعَمِهِ " (في إنجيل القديس لوقا 2، 19 و22-23 و26-27: CCL 14، 39-42). أمّا عبارة "الجَنينُ" فتشير إلى يوحَنَّا المَعْمَدان في بطن أمِّه أَليصابات والجَنين هو ثمرة الحمل في الرَّحم حتَّى نهاية الأسبوع الثَّامن. ويُعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ الأسقف قائلاً: "كان لا يزال يوحَنَّا في رحم أمِّه عندما احتفل بقدوم الرَّبّ من خلال حركاته الفَرحة، إذ لم يكن بإمكانه القيام بذلك من خلال صوته. فَرِحَ يوحَنَّا، لأنّ عقله أدرك من هو سَيِّدُ هذا العَالَم" (العظة 36). أمَّا عبارة "ارتَكَضَ" في الأصل اليوناني σκιρτάω " (معناها تحرّك) تقابلها باللغة العبرية יִּרְקַד أي "رقص" فتشير إلى ارتكاض خاص بحركة الجَنين غير عادية حتى نسبتها أَليصابات إليها بسبب مجيء مَريَم. وهي ذات الكلمة التي استخدُمت حين رقص داود النَّبي فَرِحًا أمام تابوت العهد المقدس (2 صموئيل 6:16). ارتكض يوحَنَّا المَعْمَدان فرحًا في بطن أمّه أَليصابات بسبب حضور يسوع في بطن أُمِّه مَريَم، ويُعلق القديس يوحَنَّا الذهبي الفم قائلاً: "لم يكن يستطيع الطفل بعد أن يصرخ، لكنَّه كان يُسمع بأعماله". وتلمح هذه اللفظة "ارتَكَضَ" إلى مَريَم العذراء التي هي تابوت العهد الجديد الذي يحتوي على حضور كلمة الله المُتجسِّد. مَريَم هي "تابوت العهد الجديد" حيث يسكن الله (2 صموئيل 6: 2-11) وحيث أن الله يريد أن يسكن من الآن وصاعدًا في قلوب حيّة وعامرة بالإيمان والفرح. وتدل هذه العبارة أيضًا أن المسيح هو أسمى من يوحَنَّا منذ كان جَنينًا في بطن أمّه. ويُعلق العلاَّمة أوريجانس "غمرَتْ السَّعادة يوحَنَّا وهو ما زال في بطن أمِّه. ولم يكن بالإمكان إيقافه، إذ عند قدوم أمّ ربنّا أراد "الخروج" من بطن أَليصابات". أمَّا عبارة "امتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس" فتشير إلى حلول روح نبوءة العهد القديم على أَليصابات واعترافها بمَريَم العذراء أمًا للمسيح. وحلول الرُّوحِ القُدُس جعلها تفهم، وتؤمن، وتختبر شخصيًّا عمل الرَّبّ في حياتها. حلّ الرُّوحِ القُدُس على أَليصابات روح النَّبوءة، كما حلّ على الأنبياء القدماء وعلى مَريَم أخت موسى (خروج 15: 20)، وعلى شيوخ إسرائيل (عدد 11: 27) وعلى شاوُل المَلك (1 صموئيل 10: 6). ويُعلق العلامة أوريجانوس " امتلأت أَليصابات من الرُّوحِ القُدُس، وذلك لأجل ابنها يوحَنَّا، الذي كان لا يزال في بطن أمِّه وامتلأ من الرُّوحِ القُدُس. وإذا تقدَّس الابن، بعد ذلك امتلأت أَليصابات أيضًا من الرُّوحِ القُدُس". امتلأت أَليصابات بالرُّوح بعد أن حَمَلت، ومَريَم قبل الحَمل كانت ممتلئة بالرُّوح. إذ أن أَليصابات المُسنَّة العاقر آمنت وفرحت، لانَّ أمّ ربِّها أتت إليها وزارتها. فبعث اللقاء على الفرح، وفرحة اللقاء هي عيد الرَّبّ. علمت أَليصابات أنَّ ابن مَريَم العذراء سيكون أعظم من ابنها، لأنه هذا سيصبح مُرسلا أمام ابن مَريَم. ليتنا في زياراتنا ولقاءاتنا مع الآخرين نحمل إليهم مسيحنا القدِّوس الذي يُبهج أحشاءهم الداخليّة، ويُلهب روحه القدِّوس في قلوبهم. 42 فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ" تشير عبارة "هَتَفَت " في الأصل اليوناني ἀναφωνέω (معناها هتفت ويُستعمل في التَّوراة بارتباطه دائمًا برُتب دينيَّة مِحورها تابوت العهد) إلى صرخة أَليصابات أو بالأحرى إلى أنشودتها التي تُلمِّح مرة أخرى أنَّ مَريَم العذراء كانت بمثابة تابوت العهد الجديد لحضور كلمة الله (1 أخبار 15: 28). ولأنَّ أَليصابات امتلأت بالرَّوحِ القُدُس فإن كلماتها هي كلمات نبويَّة قادرة على تفسير علامات وجود الله في مَريَم. أمَّا عبارة " مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ" فتُشكّل مع تحيَّة الملاك جِبرائيل لدى البشارة جزءًا من الصَّلاة المشهورة للعذراء " السَّلام الملائكي". وهي تُذكِّرنا بالأيَّام التي سبقت الميلاد عندما كان يسوع في أحشاء مَريَم. وها هو قلب ألأُم يخفق قرب قلبه، ويخفق بدم بشري واحد. والمُبارَكة هو فعل شكر عميق إلى مَريَم ويسوع ابنها. الأُم مُبارَكة وابنها مُبارك. ويُعلق الأب رينيه لورانتان الخبير بمؤلَّفاته عن سيدتنا مَريَم العذراء: "كان بإمكان أَليصابات أن تهتف: مبارك ثمرة بطنك" ولكنّها – بوحي من روح القدس-أسبقت التَّبريك ليسوع بالتَّبريك لأمّه العذراء، وذلك لإكرام الأمّ التي تسبق دوماً أبناءها في النِّظام الطبيعيّ. أمَّا عبارة "مُبارَكة أَنتِ في النِّساء!" فتشير إلى احدى صفات مَريَم أنها مُبارَكة لإنعام الله عليها بالبركة التي لم يَهبْها لغيرها من النِّساء، وذلك بسبب نعمة أمومتها الحقّة، حيث أصبحت حوّاء الجديدة التي نالت البركة والحياة بدل حوّاء الأولى التي استحقت اللّعنة والشّقاء، كما ورد في سفر التَّكوين (3: 16). حوّاء ماتت بسبب رغبتها المُتكبّرة في أكل ثمرة الحياة، ومَريَم العذراء أطاعت الرَّبَّ فحلّت ثمرة الحياة في أحشائها، ثمرة دعتها أَليصابات "مُبارَكة". وفى سفر يهوديت نجد نفس الـمُبارَكة "باركَكِ، يا بُنَيَّة، الإِلهُ العَلِيّ فَوقَ جَميع النِّساءِ اللَّواتي على الأَرض" (يهوديت18:13)، وهذه البركة تذكِّرنا أيضا في نشيد دبورة النَّبية "لْتُبارَكْ بَينَ النِّساءِ ياعيل، اِمرَأَةُ حابَرَ القَينِيّ" لِتُبارَكْ بَينَ جَميعِ السَّاكِناتِ في الخِيام!" (قضاة 5: 24). وأمَّا عبارة "مُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ" فتشير إلى يسوع، الثّمرة المُبارَكة الذي هو سبب مُبارَكة مَريَم" مُبارَكة أَنتِ في النِّساء!"؛ فيسوع هو الثّمرة المُبارَكة بحيث تصبح مَريَم شجرة الحياة الجديدة، المزروعة في وسط الجنة تُقدّم ثمرتها للأجيال كلّها، والأجيالُ كلُّها تكرّمها من أجل الثّمرة التي تعطيها. وتدل هذه العبارة أيضا على مَريَم العذراء التي أصبحت بمثابة تابوت العهد الحاوي حضور الله. إنها مسكنه الجديد، هي قدس الأقداس الحي الجديد "ألم يقل الملاك لها " قُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ؟" (لوقا 1: 35). فكما كان يهتف داود الملك أمام تابوت العهد بقوله "كَيفَ يَنزِلُ تابوتُ الرَّبّ عِنْدي؟"(2 صموئيل 6: 10) هكذا تهتف أَليصابات أمام مَريَم، تابوت العهد الجديد: "من أين لي أن تأتيني أم ربي؟". مَريَم حقًا هي تابوت العهد الجديد حيث يسكن الله بتجسُّد يسوع المسيح في أحشائها. مَريَم هي "تابوت العهد الجديد"، حيث يسكن الله. يريد الله أن يسكن في قلوب حيّة وعامرة بالإيمان والفرح. وكما أقامت مَريَم عند أَليصابات نحو ثلاثة أشهر (لوقا 1: 56) هكذا "بَقِيَ تابوتُ الرَّبّ في بَيتِ عوبيدَ أَدومَ اِلجَتِّيِّ ثَلاثَةَ أَشهُرٍ" (2 صموئيل 6: 11). وهنا ستكون مَريَم الصَّورة المستقبلية عن الكنيسة التي سيسكنها القربان إلى الأبد. الله فضَّل قلب الإنسان على أي بيت يسكنه من الحجارة، فهذه دعوة لنا أن نجعل من قلوبنا مغارة لميلاد المسيح على مثال الأم البتول مَريَم. وأصبحت تحية أَليصابات تشكل جزءًا من صلاة " السَّلام عليك يا مَريَم " مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ". أمَّا عبارة " مُبارَكة " فتشير إلى جزء من الخِبرة اليوميّة لدى إنسان العهد القديم. نستقبل القريب ونودّعه "فنباركه" بمعنى أننا "نحيِّيه" (تكوين 47 :7). وتدلّ المُبارَكة على الوحدة وعلى علاقة الحياة، وهذا أمر خاص بعلاقاتنا في الشرق. أما كلمة مُبارَكة على فم أَليصابات فتدلُّ على تمجيد لله وشكره، وإقرار بجميله بسبب أعماله ومعجزاته، وبهذا البركة عبّرت أَليصابات عن الوحدة بين الأم مَريَم وابنها يسوع. هي بركة مزدوجة، يسوع ومَريَم يشتركان معا في البركة الإلهية. مَريَم هي المُبارَكة، ويسوع الذي فيها هو المُبارك وكلاهما يأتيان باسم الرَّبّ لإعلان الملكوت المسيحاني. فبركة الرَّبّ تبلغ البشر بواسطة مَريَم ويسوع المُتَّحدين اتحادًا لا ينفصم. إن مَريَم مرتبطة بابنها ارتباطًا وثيقًا في شخصيتها وطبيعتها وتاريخها، لذلك هي ليست أداة مجرَّدة من كل شخصيَّة أو مسؤوليَّة، بل هي شريكة لإعلان الملكوت. أمَّا عبارة "ثَمَرَةُ بَطنِكِ" فتشير إلى يسوع المسيح، كما سبق كثير من رجالات العهد القديم الذين كُرِّسوا للرب "وهم في بطون أمهاتهم " مثل شمشون (قضاة 13: 5) وارميا (ارميا 1: 5) وعبد الله (أشعيا 49: 1)؛ يعني ذلك أن الله سبق فاختارهم للرسالة، كما اختار بولس الرسول " لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعاني بنِعمَتِه" (غلاطية 1: 15). فإنّ أَليصابات قد عظّمت الرّبّ وابتهجت بخلاص الله. تحدّثت المرأتان بنعم الله، والوالدان زيَّنا الأحشاء الوالدية بسرِّ التَّقوى وبنعمِه. 43 مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟" تشير عبارة "مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي" إلى إعلان أَليصابات أمُومة مَريَم لربِّها، بالرّغم من عدم وجود آيةٍ ظاهرةٍ لهذا الحدث الإلهي سوى إصغائها لسلام مَريَم. إن هذا الإعلان يُعبِّر عن فعل سجود وعرفان جميل للخالق. ولمَّا أتَت مَريَم لزيارة أَليصابات عرفت من خلال هذه الآية بواسطة الرُّوحِ القُدُس أن ابن مَريَم العذراء هو المسيح المُنتظر، وأمنت بذلك وفرحت به بالرغم من حَبَل مَريَم العذراء، ولكن سؤال أَليصابات يدلُّ على أنَّ الحَبَل البتولي هو أمر ممكن وليس مستحيل على الله. وبهذا الإعلان تؤكد أَليصابات باسم العهد القديم أن الرَّجاء المسيحاني قد تحقَّق في أحشاء مَريَم. ويعلق الأب رينيه لورانتان قائلاً: "كان بإمكان أَليصابات أن تقول متسائلة: "مِن أينَ لي أن يأتي ربّي إليّ؟" بدل سؤال " مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟". فالمسيح الرَّبّ الجَنين يحمل والدته التي هي "بنت ابنها" كما يقول الأديب الإيطالي دانتيه. ويسوع هو "الكلمة الذي به كان كلّ شيء" بما فيه أمّه. ولكنّ الرُّوحِ القُدُس ألهم أَليصابات احترام الوالدة وإكرامها – لا على حساب ألوهيّة الابن الجَنين، أنّ تحرك الجَنين الإلهيّ لولا تَحرُّك والدته الطهور من النَّاصرة إلى عين كارم ". فلا عجب أن يقف القديس كيرلِّس الكبير رافعًا التَّرنيم لمَريَم أمام آباء مجمع أفسس، قائلًا: "السَّلام لمَريَم والدة الإله، الكنز الملوكي للعَالَم كله، إكليل البتوليّة، الهيكل غير المفهوم، المَسكن غير المَحدود، الأم والعَذراء. السَّلام لك يا من حملتِ غير المُحوى في أحشائك البتوليّة المقدَّسة". أمَّا عبارة " مِن أَينَ لي " فتشير إلى فرصة عظيمة لاليصابات التي لا تستحقَّها أن تأتي "أُم ُّ الرَّبّ" إليها. ويُشبه هذا القول كلام يوحَنَّا المَعْمَدان ليسوع عندما أتى ليعتمد على يده "أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟ " (متى 3: 14). ويعلِّق القديس أمبروسيوس قائلًا على لسان أَليصابات "أي فضَّل لي، أو أيّ عمل قمتُ به، أو أيّ حقٍّ هو لي... فإنَّي أشعر بالمُعجزة وأتلمَّس السَّرّ". علمت أَليصابات أن ابنها يكون عظيمًا (لوقا 3: 15)، لكنها علمت أن ابن مَريَم يكون أعظم منه. أمَّا عبارة "رَبِّي" في الأصل اليُوناني κυρίου μου (معناها سيِّدي) فتشير إلى لَقب الرَّبّ، وهو أحد أسماء المسيح الذي يَدلّ على أن يسوع هو المسيح، ويُوحي بما لسيادته الملكية من طابع إلهي (أعمال الرسل 2: 36) ولسمو المسيح المَدعو "ربيِّ"، كما جاء في تفسير إنجيل متى للمزمور 110 " قالَ الرَّب لِرَبِّي: إِجلِس عن يَميني حتَّى أَجعَلَ أَعداءَكَ تَحتَ قَدَمَيك" (متى 22: 44). كانت أَليصابات الشَّخص الأول الذي ينادي يسوع في الإنجيل بكلمة "κύριος "، أي ربّ. وإن مَريَم ليست أم الرّبّ فقط بل أم "ربّي. ويقول بولس الرسول في هذا الصَّدد" ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: يَسوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (1 قورنتس 12: 3). فيسوع هو المسيح المنتظر، أي المسيح الملك الذي أنبأت به الكتب المقدسة، وأعلنه المُرسلون وأثبتوه لليهود إذ "كانوا لا يَنفكُّونَ كُلَّ يَومٍ في الهَيكلِ وفي البُيوت يُعلِّمونَ ويُبَشِّرونَ بِأَنَّ يسوعَ هو المسيح" (أعمال الرسل 5: 42). ويتضمن لقب "رَب" اسم المسيح القائم من بين الأموات والذي انتصر على الموت. ويُطلق سفر أعمال الرسل على الله اسم "الرَّبّ"، ولكنه يُطلقه على يسوع أيضًا، كما فعل إنجيل لوقا " فلَمَّا رآها الرَّبّ"(لوقا 7: 13). وأعلنت الجماعة المسيحية الأولى حقيقة أن "الرَّبّ هو يسوع المسيح" إذ كان بولس الرسول "يُعلِنُ مَلَكوت الله ويُعَلِّمُ بِكُلِّ جُرأَةٍ ما يَختَصُّ بِالرَّبّ يسوعَ المَسيح، لا يَمنَعُه أَحَد"(أعمال الرسل 28: 31) ليستطيع جميع النَّاس أن يؤمنوا به (أعمال الرسل 11: 17)، إلاَّ أنَّ يسوع الرَّبّ هو ابن الله أيضًا (أعمال الرسل 9: 20). في المسيح يسوع الذي مات وقام، والذي هو ربّ الكل، يُعرض الخلاص لكل من يؤمن به، يهوديًا كان أم وثنيًا" ولَهُ يَشهَدُ جَميعُ الأَنبِياءِ بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ بِه يَنالُ بِاسمِه غُفرانَ الخَطايا" (أعمال الرسل 10: 43). أما عبارة " أُمُّ رَبِّي " فلا تشير إلى مَريَم أنها أمُّ الرَّبّ فقط بل إلى أم ِّ "ربّي" أيضا. إنها أمُّ الرَّبّ الذي خلص أَليصابات ونزع عنها العار وجعلها تنتظر مولوداً، حتى في عمر الشيخوخة، فأنعم عليها برحمته لأنَّها ظلت أمينة لله. وقد افتتح يوحَنَّا المَعْمَدان رسالته مشيرًا إلى المسيح الرَّبّ بلسان أمِّه (لوقا 1: 43). قد استعمل لوقا 19 مرة لفظ "الرَّبّ" في إنجيله، وأكثر من 40 مرَّة في سفر أعمال الرسل. لأن سيادة يسوع تجلّت بعد قيامته. وما سيقوله يوحَنَّا فيما بعد عن المسيح، تقوله أَليصابات الآن لمَريَم. لذلك تدل "أُمُّ رَبِّي؟" على أمِّ يسوع الذي هو المسيح المنتظر، وهو الرَّبّ الاله المُتجسِّد. لو حبذا أن نستقبل مجيء يسوع كما استقبلت أَليصابات مَريَم بنظرة الإيمان التي مكّنتها من رؤية بركة الله مُجدَّداً في عمل التَّاريخ. 44 فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني. تشير عبارة "إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ" إلى صوت مَريَم الذي يُبشّر بيسوع الذي هو علامة من الرُّوحِ القُدُس التي تحقَّقت لاليصابات ما عَلمَتْه سابقًا بقولها: مَريَم" أُمُّ رَبِّي؟". يُعيد لوقا الإنجيلي مرّة أخرى ما قاله "فلَمَّا سَمِعَت أَليصابات سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (لوقا 1: 41)، ويُعلق العلاَّمة أوريجانوس قائلا: "في البدء، لم يُعطِ الرّبّ يسوع المسيح كنيستَه أن تعرفه إلاّ عبر صوته. لقد بدأ بإطلاق صوته عبرَ الأنبياء؛ فمن دون أن يظهر، أسمعَهم صوته فقط". أمَّا عبارة "ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني" فتشير إلى إعادة ما قاله لوقا سابقًا (لوقا 1: 41) مع إضافة صغيرة هامة، وهي "ابتهاجا". والابتهاج يدل سبب ارتكاض يوحَنَّا المَعْمَدان وأمّه أَليصابات. إن لقاء الرَّبّ لم يُجلب لاليصابات ولا لطفلها الخوف أو القلق، بل جلب الفرح. وهذا الفرح دليل أكيد على أمانة أَليصابات لله. إن مَريَم تنقل الفرح إلى منزل خالتها، لأنها "تحمل" المسيح. ويسوع يُقدس يوحَنَّا المَعْمَدان من خلال أمِّه مَريَم. فقد تذوق يوحَنَّا المَعْمَدان طعم الفرح الحقيقي وهو ما يزال في بطن أُمِّه أَليصابات؛ وهو أوَّل شخص -بعد العذراء -استقبل البشارة السَّارة، وقد شهد شهادته الأخيرة بعد ذلك بثلاثين عاماً بفرحه لصوت يسوع " مَن كانَت لَه العَروس فهوَ العَريس. وأَمَّا صَديقُ العَريس الَّذي يَقِفُ يَستَمِعُ إِلَيه فإِنَّه يَفرَحُ أَشدَّ الفَرَحِ لِصَوتِ العَريس. فهوذا فَرَحي قد تَمَّ" (يوحَنَّا 3: 29). ولذلك يُطلق التَّقليد على يوحَنَّا المَعْمَدان لقب "نبي الفرح". فكلّ نفسٍ يغمرها صوتُ كلمةِ الله تكون فرحة وسعيدة ومرتاحة حين تشعر بحضوره. 45 فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ تشير عبارة "فَطوبى لِمَن آمَنَت" إلى تطويب مَريَم، لانَّ علامات إيمانها وابتهاجها ظهرت على وجهها حتى تحقَّقت أَليصابات أنَّها واثقة بوعد الله. وهي شريكة للمؤمنين في فوائد مواعيده تعالى. إن عمل الله هو أن يبارك ويُخلّص، في حين أنَّ عمل الإنسان هو الإيمان بالله الذي يُبارك ويُخلّص. العلامة المُميّزة لمَريَم هو إيمانها. مَريَم هي امرأة جديدة وضعت ثقتها وآمنت أن عمل الله فيها هو بركة وحياة. ويُعلق القديس أمبروسيوس قائلاً: " طُوباكُم أَنتم أَيضًا الذينَ سَمِعْتُم وآمنْتُم، لأَنَّ كُلَّ نَفسٍ إذا آمنَتْ فإنَّها تحمِلُ وتَلِدُ كلمةَ اللهِ وتَعترِفُ بأعمالِه" (في إنجيل القديس لوقا 2، 19 و22-23 و26-27: CCL 14، 39-42). أمَّا عبارة "طوبى" فتشير إلى إعلان وتهنئة من أجل حالة من السَّعادة أو الفرح. طوَّبت أَليصابات مَريَم العذراء لأجل الإله الذي تحمله في بطنها، وطوَّبتها أيضًا لأجل إيمانها. فالمطوَّبون هم الذين يرون، ويسمعون، ويتقبّلون كلمة الله ويضعونها موضع العمل، هم الذين يُؤمنون دون أن يروا. فكل نفس إذا آمنت يُمكنها أن تحمل وتلد كلمة الله، وتعترف بأعماله. ويُعلق الأخ ماكس توريان من تيزيه "مَريَم هي المرأة المُختارة من بين جميع النِّساء، وهي فوقهنَّ جميعًا، إنَّها المرأة الأُولى، إنها الكليّة الطوبى، ما من أحد قبْلها بُورك كما بُوركت، لا ولن يُبارك أحد مثلها. مَريَم أم المسيح، لها وحدها تمام البركة والطوبى، في جميع الأزمنة". أمَّا عبارة " لِمَن آمَنَت " فتشير إلى مَريَم العذراء التي آمنت بكلام المَلاك بمولد الطِّفل يسوع بينما شكَّ زَكَرِيَّا ولم يُؤمن بكلام المَلاك (لوقا 1: 18). آمنت مَريَم بكلمات المَلاك، وقبلت أن تحمل الطفل حتى في ظروف بشريَّة مستحيلة، لأنَّها آمنت أنَّ الله قادرٌ على عمل المُستحيل. وكان إيمان مَريَم من أمثلة الإيمان الذي ذكره بولس الرسول "الإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى"(العبرانيين 11: 1). لم تلتفت مَريَم إلى الموانع من إكمال الوعد بل نظرت إلى قوة الواعد تعالى. إن عمل الله هو أن يُبارك ويُخلّص، بينما عمل الإنسان هو الإيمان بالله الذي يبارك ويُخلّص. ويُعلق المجمع الفاتيكاني الثّاني " تقدّمت مَريَم في غربة الإيمان"، وفي هذا الصَّدد قال يسوع " طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا" (يوحَنَّا 20: 29). والإيمان وحده يجعل الله حاضرًا في العَالَم. ومن هذا المُنطلق، مَريَم تدعونا إلى التَّجاوب مع الله بالإيمان لا بالضحك، كما عملت سارة امرأة إبراهيم (تكوين 18: 9-15) ولا بالخوف، كما فعل منوح أبو شمشون (قضاة 13: 22)، ولا بالشك، كما فعل زَكَرِيَّا بل بالقبول التَّلقائي الخاضع. ليكن روح مَريَم في كل واحد منَّا ليُمجَّد الله، ليكن روح مَريَم في كل واحد منَّا ليبتهج في الله. إن كانت القدّيسة مَريَم قد صارت مُمثَّلة للبشريّة المُؤمنة، أو مُمثَّلة للكنيسة، لأنها قبلت الإيمان بوعد الله وانحنت لحلول كلمة الله فيها، ويُعلق المجمع الفاتيكاني الثّاني "إن المثال الكامل للحياة الروحية والرَّسولية هو الطوباوية العذراء مَريَم"(رسالة العلمانيين، 4). أمَّا عبارة " فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" فتشير إلى ما عرفته مَريَم بوحي الرُّوحِ القُدُس. أمَّا عبارة " فسَيَتِمُّ " في الأصل اليوناني ὅτι μεται (تفيد السَّببية) فتشير إمّا إلى سبب إتمام وعد الله لمَريَم بمعنى "طوبى لِمَن آمَنَت لان سَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" وبالتَّالي يصبح إتمام وعد الله لمَريَم يرتبط بإيمانها، وإمَّا تشير إلى إتمام وعد الله الذي هو سبب سعادة مَريَم وفرحها، وبالتَّالي تصبح التَّرجمة: "طوبى لِمَن آمَنَت: إن سَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ". إعلان أَليصابات لِمَا حصل معها، هو فعل إيمان واعتراف بعظمة تدخّل الله في حياتها وحياة مَريَم وابنها يسوع. لا إيمان دون عمل الرُّوحِ القُدُس، ولا إيمان دون شهادة، ليس بالأعمال فقط، بل بالإعلان أيضًا. لقد شهد الجَنين (يوحَنَّا) لوجود الرّبّ قبل أن يُولد، وشهدت أَليصابات المُسنَّة لأعاجيب الرّبِّ في حياتها، والبتول مَريَم قد حملت الرّبّ الجَنين وانتقلت به إلى الآخرين. ولا إيمان دون فرح، فالفرح يُميّز وجودَنا كمؤمنين بالمسيح. فالمسيح جاء ليُعطينا الفرح، "فيَكونَ فَرحُكم تاماًّ " (يوحَنَّا 16: 24). إنّ اللقاء بين القديسة أليصابات والقديسة مريم، في حدث الزيارة، لهو لحظة مركزيّة في تاريخ الخلاص. 46 فقالَت مَريَم: ((تُعَظِّمُ الرّبّ نَفْسي)) تشير عبارة "تُعَظِّمُ الرّبّ نَفْسي" إلى نَشيد مَريَم العذراء لتمجيد الله عمَّا سيعمله للعَالَم من خلالها. ويُعلق القدّيس فرنسيس دي سال قائلاً: "اعترفت مَريَم بأنَّ سعادتَها كلَّها نابعةٌ من الله الذي "نَظرَ إِلى تَواضُعِ أمَتِهِ"، فرتّلت ذلك النَّشيدَ الجميلَ والرَّائعَ، "تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرّبّ" (In Ephata، الجزء الأوّل). إنَّها تُشيد بعظمة الله وسخائه نحوها (لوقا 1: 46-49)، وهذا النشيد هو اعتراف بعظمة الله بشكل موضوعي: الله هو عظيم، والعظمة هي فقط لله. يُعلق القدّيس العلامة أمبروسيوس قائلاً: " لقد تعظّم الرّبّ، لا لأنّ الصَّوت البشريّ أضاف له شيئًا، بل لأنّه تَعظَّم فينا، ولأنَّ "صَورة الله هي المسيح" (2 قورنتس 4: 4). لذلك، إذا عمل أحدنا برحمةٍ وعدل، فهو يُعظّم صَورة الله -الذي خلقه على مثاله– وهكذا بتعظيم هذه الصَّورة، يُرفع بنوع من المشاركة بعظمة الله" (مقالة في إنجيل القدّيس لوقا، الكتاب 2). وهذا النَّشيد هو أوَّل نشيد احتفظ به لوقا الإنجيلي حيث تنشد مَريَم شكرها (لوقا 1: 46 -50) وشكر شعبها (لوقا 1: 51-55)، بعد أن تمَّت مواعيد العهد ويليه نشيد زَكَرِيَّا (لوقا 1: 68-79)، ونشيد الملائكة (لوقا 2: 14) ونشيد سمعان الشيخ (لوقا 2: 29-32). ويلخص كتاب التَّعليم المسيحي الكاثوليكي صلاة العذراء بقوله "إن نشيد مَريَم: "تُعَظِّمُ الرّبّ نَفْسي" هو في آنٍ واحدٍ نشيد والدة الإله ونشيد الكنيسة، نشيد ابنه صهيون وشعب الله الجديد، ونشيد شكر لملء النِّعم التي أفيض في تدبير الخلاص، ونشيد "المساكين" الذين تحقق رجاؤهم بإنجاز ما وعد به إباؤنا "إبراهيم واسحق ويعقوب إلى الأبد"ُ (التَّعليم المسيحي الكاثوليكي، رقم 2619). 47 وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي تشير عبارة "تَبتَهِجُ روحي بِاللهِ" إلى تحقيق بشارة الملاك جِبرائيل لمَريَم "إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرّبّ مَعَكِ"(لوقا 1: 28). ويُعلق القدّيس بيدُس المُكرَّم قائلاً: "إنّ المعنى الأوّلي لهذه الكلمات هو بالتَّأكيد اعتراف مَريَم بالعطايا التي أنعم الله بها عليها بصورة خاصّة؛ ولكن بعد ذلك، فإنّها تُذكِّر الجميع بأنّ الله لا يتوقّف أبدًا عن إغدافه النِّعَم على الجنس البشري"(عظات عن الإنجيل). وكلمات مَريَم هذه هي صدى ترنيمة حنِّة بعد أن ولدت صمويل " إِبتَهَجِ قَلْبي بِالرّبّ" (1 صموئيل 2: 1). إن كلا النَّشيدين قد صوَّرت الله نصيرًا للفقراء والأذلاء والمحتقرين والمنبوذين والمظلومين. والله هو مصدر هذا الابتهاج. إنَّه مزمور من الزمن المَلكي الذي يُعبِّر عن رَجاء الفقراء (صفنيا 2: 3)، وينتهي بالإشارة إلى الملك المسيح. لكن في نشيد مَريَم العذراء نجد بُعدًا شخصيًا واضحًا. ويُعلق الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي جان غيتو "إن نشيد مَريَم قد يكون استغرق خمس أو ست لحظات، إنما يروي حياة ً بكاملها". أمَّا عبارة " روحي " فتشير إلى ما أسمى وأعمق ما في الإنسان، وما يجعلنا نُدرك ما لا يُرى وما هو أبدي. أمَّا عبارة " بِاللهِ مُخَلِّصي" فتشير إلى تعبير وجداني عن عظمة الله في حياة مَريَم مُلخَّصة بعشر آيات: ابتهاج بالخلاص الآتي (لوقا 46-47)، فقر وخدمة (لوقا 1: 48)، حال التَّواضع (لوقا 1: 49)، مخافة الله (لوقا 1: 50) انفتاح على التَّدبير الإلهي وتأهب لخدمته (لوقا 1: 51)، إدراك الضُّعْف الذَّاتي (لوقا 1: 52) حِس العدالة (لوقا 1: 53) ثقة بالرَّحمة الإلهية (لوقا 1: 54) وتحقيق وعود الإله الآمين (لوقا 1: 59). كم علينا أن نمتلئ فرحًا، نحنُ أيضًا، عندما يزورُنا هذا المخلّصُ الإلهيّ من خلال القربانِ المقدّسِ والنِّعمِ الداخليّة والكلمات التي يقولُها لنا يوميًّا في قلوبنا! 48 لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال تشير عبارة "لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة" إلى صلاة حَنِّة أمِّ صموئيل وهذا نصِّها: "أَنتَ نَظَرتَ إِلى بُؤسِ أَمَتِكَ وذَكَرتَني ولم تَنسَ أَمَتَكَ" (صموئيل 1: 11). المَرء المُتواضع هو أفضل النَّاس في عيني الرّبّ. والتَّواضع هو موضوع أساس في العهد القديم. والتَّواضع عكس الكبرياء. وفي الكتاب المقدس التواضع هو الفكر، الذي لا يطمع في المَعالي، بل يميل إِلى الوَضيع، ولا يحسب نفسه عاقلا (رومة 12: 16). ولا يرتئي ويسمو فوق ما ينبغي في الاعتِدادِ بِأَنفُسِه مَذهَبًا يُجاوِزُ المَعقول (رومة 12: 3)، بل يتنافس في إِكرامِ غيره (رومة 12: 10) ويضيف بولس الرسول " لا تَفعَلوا شَيئًا بِدافِعِ المُنافَسةِ أَوِ العُجْب، بل على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه "(فيلبي 2: 3). وبكلمة التَّواضع عدم الاعتداد بالذات أو إفناء الذات، بل عطاء النَّفس حق قدرها. وبالتَّحديد، أن يكون الإنسان متواضعًا لا يعني أن يعتبر نفسه أدنى ما هو عليه، إنَّما ألاَّ يدّعي أكثر مِمَّا له وأن يعترف بفضل رَبِّه والنَّاس عليه. ويُعلق القديس منصور دي بول قائلاً: "التواضع هو إفراغ الذات من الذات لإحلال الله مَحلَّها". العذراء القديسة، على كونها أمَة متواضعة، فهي أُمُّ الله. ويُعلق مارتن لوثر " مَريَم تعرف أنها أمُّ الله، فوق البشر أجمعين، ومع ذلك لم تتخلَّ عن بساطتها ولا عن تواضعها، غير معتبرة نفسها أعلى من أحد حتى ولا من خادمة بسيطة. وهي لا تريد أن نذهب إليها هي، بل بها إلى الله". أمَّا عبارة "نظر" فتشير إلى نظر الله الذي لا يستطيع أن ينظر إلاَّ إلى ذاته أو إلى الأسفل، لأنه ليس من شيء فوق الله، كما ورد في كلمات صاحب المزامير "مَن مِثلُ الرَّبّ إِلهِنا الجالِسِ في الأعالي الَّذي تَنازَلَ ونَظَر إِلى السَّمَواتِ والأَرض؟" (مزمور 138: 5-6). ويُعلق اللاهوتي البروتستانتي كارل برْث " إن كان قد حدث في التَّاريخ العَالَمي أمر أساسي، فإنما هو تلك النَّظرة إلى أمته الوضيعة". أمَّا عبارة "أَمَتِه" فتشير إلى مَريَم كما سمَّت نفسها. فكانت من طبقة وضيعة، تعيش في قرية مجهولة في نواحي الجليل وعاشت دائمًا في عمل مشيئة الله وخدمة ابنها يسوع. ويُعلق القدّيس لويس -ماري غرينيون دو مونفور "كان تواضعُ مَريَم عميقًا جدًّا إلى حدّ أنّها لم تَجِدْ على الأرض أيّ ميل قويّ ودائم أكثر من التَّخفّي عن نفسِها وعن كلِّ خليقة، كي لا يعرفَها سوى الله وحدَه. كان تواضعُها عميقًا جدًّا إلى حدّ أنّها لم تَجِدْ على الأرض أيّ ميل قويّ ودائم أكثر من التَّخفّي عن نفسِها وعن كلِّ خليقة، كي لا يعرفَها سوى الله وحدَه"(دراسة عن التَّقوى الحقيقيّة لمَريَم العذراء، 1-6). أمَّا عبارة "سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال" فتشير إلى تبليغ مَريَم العذراء عن موقف الأجيال القادمة منها، وهذه الكلمات لها صدى في سفر التَّكوين "لأَنَّ النِّساءَ تُهَنِّئُني" (التَّكوين 3-13). ومع علمها أن جميع الأجيال ستطوِّبها لأجل العظائم التي صنعها الرَّبّ لها، فهي تريد أن يعود الفضل كلُّه إليه سبحانه تعالى. وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرسول "مَنِ افتَخَرَ فَلْيَفتَخِرْ بِالرَّبّ"(1 قورنتس 1: 31). أمَّا عبارة "تُهَنِّئُني" في الأصل اليوناني μακαριοῦσίν (معناها تطوِّبني) فتشير إلى تهنئة الأجيال لمَريَم لا بسبب فضيلتها بل بسبب قدرة الله، صانع العظائم الذي حقَّقها فيها، كما قال الملاك جِبرائيل لها " وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ (لوقا 1: 35). لذلك وَضْع العذراء المُتميِّز هو نتيجة أمومتها ليسوع. وهذا هو جوهر الإيمان المسيحي الذي يقوم على تجسُّد الكلمة. وهذا ما أوحي إلى مَريَم بسبب دورها الرَّفيع في إتمامه، فقد جاء إليها كلمة الله ليتَّحد فيها بالطَّبيعة البشرية. لذلك تفوهت مَريَم العذراء بعبارة " تُهَنِّئُني "لا عن كبرياء بل اعترافًا بفضل عطيَّة الله لها وتقبُّلها بإيمان. الكبرياء هي رفض قبول عطايا الله، أمَّا الاتضاع فهو قبولها واستخدامها في تمجيده تعالى وخدمته. لنطوب مَريَم العذراء مع أَليصابات بصوتٍ جهيرٍ "مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ" (لوقا 1: 42). 49 لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه تشير عبارة "لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة" إلى صنيع الله لمَريَم بتحقيق ما وعده لإبراهيم وذريَّته للأبد (لوقا 1: 51-55). الله يقف مع مَريَم كما يقف دومًا مع الوضيع والفقير. وإن عظَّم الرَّبّ مَريَم وطوّبها جميعُ البشر، لانَّ القدير صنع لها عظائم. إن عظائم لله تتواصل اليوم أيضا، غير أنها مَخفيَّة ويتوجب علينا أن نكتشفها في أعظم الآمور وأحقرها، وأن نَتمثّلَ بها فلا ننكر ما نلناه من عطاياه، بل لنشكر الله عليها ونستخدمها لمجده. أمَّا عبارة " صَنَعَ إِليَّ " فتشير إلى مَريَم التي كانت أول المُستفيدين من نِعمة التَّجسُّد الخلاصي، إذ صارت مسكن الرُّوحِ القُدُس. أمَّا عبارة " أُموراً عَظيمة " فتشير إلى رائعة التَّجسُّد وأمومة مريم للرَّب يسوع. وفي العهد القديم هذه الأمور العظيمة هي روائع أيام الخروج، ويلات مصر، عبور البحر الأحمر، المّن السَّماوي، وعبور الأردن، كما ورد في سفر الثّنية "هو إِلهُكَ الَّذي صَنَعَ لَكَ تِلكَ العَظائِمَ والأموِرَ الرَّهيبةَ الَّتي رأَتْها عَيناكَ"(تثنية اشتراع 10: 21). أمَّا عبارة " قُدُّوسٌ اسمُه " فتشير إلى قداسة الله، وهي صفة الله الرَّئيسية كما ترنّم صاحب المزامير " اِسمُه قُدُّوسٌ رَهيب "(مزمور 111: 9). ويعلق القديس بيدا المكرم " يُدعَى اسمُه قدّوسًا، أي إنَّه يَسمُو بعزَّةِ قدرتِه فوقَ كلَّ خليقةٍ، وهو مُميَّزٌ ومُفضَّلٌ على جميعِ الكائنات" (في إنجيل القديس لوقا الكتاب 1، 46-55: CCL 120، 37-39). 50 ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه تشير عبارة "ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه" إلى صدى دُعاء صاحب المزامير "رَحمَةُ الرَّبّ مُنذُ الأَزَل وللأبدِ على الَّذينَ يَتَّقونَه وبِرّه لِبَني البَنين"(مزمور 103: 17). كانت مَريَم، والعَالَم كلُّه من خلالها، موضوعَ رحمةٍ من قِبل الرَّبّ. ويُعلق العلاَّمة ماكس توريان قائلاً: " كان، يوم البشارة ولحظة التَّجسُّد، العلامة الوحيدة لرحمة الله، تلك الرَّحمة التي سوف تَعُمُّ جيلاً بعد جيل العَالَم باسره، في المسيح وكنيسته". أمَّا عبارة "رَحمَتُه" فتشير إلى صفة رئيسية من صفات الله التي أُوحيت إلى موسى " الرَّبّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَة والوَفاء" (خروج 34: 6) والتي توسَّع بها المزمور مُشدّدًا عليها ومُمهّدًا بالتَّالي للإنجيل المُقدَّس خاصة وفقا إنجيل يوحَنَّا البشير بقوله "مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة" (1 يوحَنَّا 4: 8). الله محبَّة، ولزامًا علينا أن نكشف هذا الحُبِّ، لانَّ الله لا يفرضه علينا. أمَّا عبارة " يَتَقّونَه " فتشير إلى إكرام الله والعيش بحسب مشيئته. هذا النَّشيد هي كلمات مَريَم العذراء الأولى التي تُعبِّر عن حالتها النَّفسية وتكشف عن الآفاق الرَّوحية العُليا التي كانت تُحلق بها في آفاق حياتها. ويُعلق البابا يوحَنَّا بولس الثّاني قائلاً: "إن هذه العبارات الرَّائعة تنمُّ عن اختبار مَريَم الشخصي، عن انخطاف قلبها. وهي إشعاع لسرِّ الله، ولمِجد قداسته الفائقة، ورحمتِه وللحبِّ الأبدي الذي دخل تاريخ الإنسان عطاءً نهائيًا لا رجوع عنه" (رسالة أم الفادي، 1987، 8/36). ينتهي نشيد مَريَم بوَعْدُ اللهِ بمجيءِ المُخلِّصِ لإبراهيمَ ونسلِه إلى الأبد، أي لأبناءِ الوَعدِ كلِّهم الذين قِيلَ لهم: "فَإذَا كُنْتُم لِلمَسِيحِ، فَأنتُم إذًا نَسلُ إبرَاهِيمَ، وَأنتُم الوَرَثَةُ وِفقًا لِلوَعدِ" (غلاطية 3: 29). ويُعلق القديس بيدا المكرم قائلا: " كَمَا قَالَ لآبَائِنَا، لإبرَاهِيمَ وَنَسلِهِ إلىَ الأبَدِ" (لوقا 1: 54-55). لا يُشِيرُ النَّصُّ هنا إلى نسلِ إبراهيمَ بحسب الجسدِ فقط، بل بحسبِ الرَّوحِ أيضًا، أي ليس فقط الذين وُلِدوا منه بحسبِ الجسد، بل الذين آمنوا به أيضًا سواءٌ في الختانِ أو خارجَ الختان. لأنَّه هو نفسُه آمنَ قبلَ أن يُختَنَ، وعُدَّ له ذلك بِرًّا" (في إنجيل القديس لوقا الكتاب 1، 46-55: CCL 120، 37-39). ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 1: 39-45) بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (لوقا 1: 39-45) نستنتج أن النَّص يتمحور حول زيارة مَريَم لأَليصابات. وهذه الزيارة هي تكملة لبشارة الملاك جِبرائيل لمَريَم العذراء بحَبَلها البتولي بيسوع المسيح؛ إذ أعطى الملاك لمَريَم علامةً على أنَّ الحَبَل البتولي أمر ممكن وذلك "وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبَلت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً"(لوقا 1: 36). وتؤكّد زيارة مَريَم العذراء حقيقة التَّجسُّد من خلال لقاء مَريَم أم المخلِّص المُنتظر، وأَليصابات، أم يوحَنَّا المَعْمَدان، أكبر أنبياء الله، والسَّلام المتبادل بينهما. ومن هنا نتساءل كيف أنَّ سلام مَريَم يؤكد حقيقة التَّجسُّد الإلهي؟ وكيف أَّنَّ سلام أَليصابات يؤكد حقيقة التَّجسُّد الإلهي؟ 1) كيف يُمكن سلام مَريَم أن يؤكد حقيقة التَّجسُّد الإلهي؟ يقول لوقا الإنجيلي: "فلَمَّا سَمِعَت أَليصابات سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس"(لوقا 1: 41). كما أنّ حضور الله في تابوت العهد قد جعل داود الملك يثبُّ ويرقص (صموئيل 6: 16) كذلك سلام مَريَم لحضور المسيح، كلمة الله الذي تحمله، ملأ خالتها أَليصابات من الرُّوحِ القُدُس وأيقظ الفرح والابتهاج في جَنينها، يوحَنَّا، الذي يُمثّل شعب الله المُنتظر خلاص الرَّبّ. كلام الأُمّ (العذراء) ينقل كلام ابنها (يسوع) ويمنح الرُّوحِ القُدُس لاليصابات. هذه الوحدة بين الأمّ وابنها تؤكّد حقيقة التَّجسُّد. كلمة الله أتخذ جسدًا من مَريَم العذراء، إنّه حقًّا ابن مَريَم، ومَريَم هي حقًّا أمُّ كلمة الله. فالأمّ وابنها مُتّحدان في الرسالة. مَريَم في سلامها إلى أَليصابات الحاملة في بطنها الجَنين، يوحَنَّا المَعْمَدان، هي أول المُبشِّرين بالمسيح، إنها أول من حملت بشرى الخلاص، كما جاء في نبوءة أشعيا: " ما أَجمَلَ على الجِبالِ قَدَمَيِ المُبَشِّر المُخبِرِ بِالسَّلامِ المُبَشِّرِ بِالخَير المُخبِرِ بِالخَلاص القائِلِ لِصِهْيون: قد مَلَكَ إِلهُكِ"(أشعيا 52: 7). تحمل مَريَم معها السَّلام والسَّعادة والخلاص مُبشِّرة أنَّ ملكوت الله قد أتى. فكانت أَليصابات، رمزا للعهد القديم، أول المُبشَّرين، إلى حدٍ أنَّ ابنها الجَنين ارتَكَضَ ابتِهاجاً في بَطْنها. كرّر لوقا الإنجيلي هذه الآية مرّة أخرى، لكن بصيغة المُتكلّم، مع إضافة صغيرة هامة، وهي كلمة ابتِهاج، " فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني"(لوقا 1: 44). ويُعلق الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي جان غيتون Jean Guitton على مشهد الزيارة فيقول: "كأنِّي بالأشخاص (مَريَم وأَليصابات) في مشهد الزيارة قد رُفعوا فوق الأرض، وخرجوا من ذواتهم في نشوةٍ. ويبدو للحظة الواحدة، كما في مشهد التَّجلي، وكأنَّ ما يقيّد النَّفس بالجسد قد حُلّ، فظهرت خليقة جديدة وراء الخليقة القديمة، ولكن دون انخطاف ولا أعجوبة. إن ما نلاحظه من حيوية واهتزاز، ومن فرح يفوق الفرح، إنَّما هو فعل الرُّوحِ القُدُس" (لوقا 1: 15، 41). إن مَريَم وابنها لم يجلبا لاليصابات ولطفلها الخوف أو القلق، بل جلب الفرح والابتهاج. يسوع المخلص الحاضر في مَريَم، ومن خلال مَريَم يُحدث شُعاعًا في نفس أَليصابات وابنها يوحَنَّا فيمتلئ كل منهما بالرُّوحِ القُدُس وفرح الخلاص. هل لزيارتنا لبعضنا البعض هذا البعد الروحي حيث نسمح للرَّب أن يكون حاضرًا فينا، ويمنح ذاته لمن نزورهم للخدمة، أو للصداقة أو للتهنئة أو للمؤاساة؟ 2) كيف يُمكن لسلام أَليصابات أن يؤكد حقيقة التَّجسُّد الإلهي؟ في البشارة لم يُعلن الملاك جِبرائيل عن الوقت الذي فيه يتحقق كلامه حول الحَبَل البتولي لمَريَم بيسوع المسيح، إلاَّ أن هذا السَّر يُثبِّت ويظهر حِسّيّا وقت الزيارة. إذ تؤكد أَليصابات باسم العهد القديم أن الرَّجاء المسيحاني قد تحقق في أحشاء مَريَم البتول، وذلك من خلال تحيَّتها لمَريَم العذراء. ومن هنا يُمكن أن نقسم سلام أَليصابات إلى ثلاث أجزاء: الجزء الأول: "هَتَفَت أَليصابات بِأَعلى صَوتِها "مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ" (لوقا 1: 42). مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ: مُبارَكة هي كلمة تَمجيد لله وشكرٌ له تعالى لمَريَم وابنها. إنَّها بركة لأُمومة مَريَم العذراء، إذ إن الله اختارها ومَيّزها من بين جميع النِّساء لتكون أمَّ المسيح. فالخلاص يأتي من خلال المرأة. إنما هذا لا يعني إن المرأة هي المُخلص، بل المُخلص هو يسوع المسيح. لكن مَريَم، مثل كل أمٍ، مرتبطة بابنها في شخصيتها وتاريخها ورسالتها. ولذلك فإن البركة المزدوجة "مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ" " توحي اشتراك يسوع ومَريَم في عمل الخلاص، فبركة الرَّبّ تبلغ البشر بواسطة مَريَم ويسوع المُتَّحدين اتحادًا وثيقًا. شهدت أَليصابات وهي ممتلئة من الرُّوحِ القُدُس بهتافها لحضور الله في أحشاء مَريَم، وقد ملأ الرُّوحِ القُدُس قلبها وقادها للتَّسبيح على غرار أولئك الذين يُسبِّحون الله أمام تابوت العهد في المقدس مثل داود النَّبي (2 صموئيل 6: 16). ومن هذا المنطلق، فان مَريَم بمثابة تابوت العهد الحاوي حضور الله. ألم يقل لها الملاك "قُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ" (لوقا 1: 35). وإن الهتاف الذي تُطلقه أَليصابات أمام ظهور الخلاص النهائي في مَريَم هو هتاف فرح بمجيء المسيح وبكثرة الأبناء الذين سيُولدون إلى الإيمان به، كما جاء في نبوءة أشعيا " إِهتِفي أَيَّتُها العاقِرُ الَّتي لم تَلِدْ إِندَفِعي بِالهُتافِ وآصرُخي أَيَّتُها الَّتي لم تَتَمَخَّض فإِنَّ بَني المَهْجورةِ أَكثَرُ مِن بَني المُتَزَوِّجة" (أشعيا 54: 1). إنه هتاف عظيم، لأنَّه أينما حلَّت مَريَم العذراء الممتلئة نعمة ً تملأ كل شيء بالفرح. وقد ابدى الأخ ماكس ترويان من جماعة تيزيه إعجابه في مَريَم قائلاً: "مَريَم هي المرأة المُختارة من جميع النِّساء، وما من أحد قَبْلها بُورك كما بُوركت، ولن يُبارك أحدٌ مثلها. مَريَم أم المسيح، لها وحدها كمال البركة والسَّعادة". الجزء الثّاني: "مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ (لوقا 1: 43). استدركت أَليصابات هذا الحدث العظيم كفرصة عظيمة لا تستحقها فأكملت هتافها " مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ (لوقا 1: 43). وهنا نجد إشارة إلى قول داود النَّبي حيث يدعو المسيح ربًا بوحي من الرُّوح "قالَ الرَّبّ لِسَيِّدي: اِجلِسْ عن يَميني حتَّى أَجعَلَ أَعداءَكَ مَوطِئًا لِقَدَمَيكَ " (مزمور 110: 1) ويُفسر يسوع المسيح هذا القول لليهود: كيفَ يَقولُ النَّاسُ إِنَّ المسيحَ هو ابنُ داود؟ فداودُ نَفْسُه يَقولُ في سِفْرِ المَزامير: قالَ الرَّبّ لِرَبِّيَ: اِجلِسْ عن يَميني حتَّى أَجعَلَ أَعدَاءكَ مَوِطئاً لِقَدَمَيكَ. فَداودُ يَدعوهُ رَبَّاً، فكيفَ يكونُ ابنَه؟ ". يلمِّح المسيح في هذا المزمور إلى ألوهيته وتساميه (متى 22: 44). ولذلك فإن يسوع المسيح تَجسَّد حقًا. هو حقًا ابن مَريَم، وهي حقًا أمُّ الله. أليست مَريَم مسكن العَلي الذي يُظللها الله بقدرته؟ أليست هي تابوت العهد الجديد الحامل " حضور الله؟ تتّضح عقيدة الكنيسة الكاثوليكيّة على ضوء صرخة أَليصابات: " مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟". هذا السَّؤال نجده أيضاً في سؤال داود عن تابوت العهد " كَيفَ يَنزِلُ تابوتُ الرَّبّ عِنْدي؟") 2صموئيل 6: 9). مَريَم تُكرَّم لأنّها أمّ المسيح وحاملته، وجود مَريَم لدى أَليصابات هو وجود الرَّبّ لديها، ووجود مَريَم في حياتنا يعني وجود الرَّبّ معنا. من أين لي أن تأتي إليّ أم ربيّ؟ هنا يجد الإكرام لمَريَم معناه الحقيقي، مَريَم تُكرّم، لأنّها تابوت العهد، حاملة الابن يسوع. يسوع، ابنُ الله وهو جَنينٌ في بَطْن مَريَم يزور أَليصابات. وأَليصابات بالرُّوحِ القُدُس تخاطب مَن تفوَّقت على النِّساء في القداسة والطُهر، واستحقّت أن تحمل الثّمر المُبارَك يسوع. وهنا تتكلم أَليصابات بالرُّوحِ القُدُس وتُسمِّي العذراء "أمَّ الرّبّ"، أي " أمّ الله "، لأنَّ " الرَّبّ هو اللهُ وقد أَنارَنا " (مزمور 118: 27). هنا أَليصابات تنطق بالرُّوح وتُعلن أمومة مَريَم لربِّها، بالرغم من عدم وجود آية ظاهرة لهذا الحدث الإلهي. إنما شهادة أَليصابات بأُمومة مريم العذراء لربِّها انطلاقا من إصغائها لسلام مَريَم. وجاءت شهادة أَليصابات أنَّ ابن مَريَم هو ربٌّ بالرغم من أنَّه لا يزال في بطن أُمِّه، وذلك بقوة الرُّوحِ القُدُس. لكن لم يلقّب يسوع ب "الرَّبّ" إلاّ بعد القيامة (أعمال الرسل 2: 36) بعد أن انتصر على الموت. ولم تكتفِ أَليصابات إن تدعو مَريَم أمَّ الرّبّ بل تدعوها أم "رَبِّي" وتعني ذلك أمُّ الله الذي خلصني ونزع عنى العار ورحمني. فهل نصغي نحن لإلهام الرُّوحِ القُدُس في حياتنا؟ فهذه البركة التي تحملها القدِّيسة الكليَّة القداسة مَريَم هي الثّمرة المُبارَكة، وهي التي تجعل مجيء القديسة مَريَم إلى أَليصابات شرفًا عظيمًا لا تستحقه أَليصابات. الجزء الثّالثّ: " فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" (لوقا 1: 45). تابعت أَليصابات سلامها بتحيَّة قائلة: "فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" (لوقا 1: 45). إذا كان عمل الله أن يبارك ويُخلص، فإنَّ عمل الإنسان هو أن يُؤمن بالله الذي يبارك ويُخلص، فيصبح الإنسان مُباركًا. وهكذا فان مَريَم العذراء وضعت ثقتها بالله وآمنت في عمله في حياتها فأصبحت مُبارَكة. والإيمان هو دومًا فعل انطلاق نحو الآخر، هو خروج من الوحدة والعزلة والانطلاق، هو مختصر حياة مَريَم، أمنت فانطلقت نحو أَليصابات، في خدمة أَليصابات ومحبّتها. أجل آمنت مَريَم العذراء ببشارة الملاك جِبرائيل، أنّها ستلد ابنها يسوع بقدرة الرُّوحِ القُدُس، إذ قالت "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لوقا 1: 38). استحقت مَريَم العذراء الطُّوبى والسَّعادة، لأنها آمنت بكلام الله وعملت به. ولا يشير هذا الكلام إلى تواضع بقدر ما هو كلام إيمان وثقة ومحبة. إن رسالة الاله المُتجسِّد في مَريَم قد انطلقت منها. وفي هذا الصَّدد يقول المجمع الفاتيكاني "إن المثال الكامل للحياة الروحية والرَّسولية هو الطوباوية العذراء مَريَم. فإنها، وإن عاشت حياة عائلية، قد ظلت على اتصال وثيق بابنها، وما زالت مشتركة بصورة تامة في العمل الخلاصي بطريقة فريدة"(قرار مجمعي في رسالة العلمانيين ،4). تدعونا زيارة مَريَم العذراء إلى الإيمان بمولود بيت لحم، ونحن لا نُدركه. وتدعونا زيارة مَريَم العذراء أيضا أن نرى يسوع، على ضُعْفه، إلهًا قديرًا، كما آمنت أَليصابات، وآمن يوحَنَّا وهو في أحشاء اُمِّه. تدعونا أَليصابات إلى اللجوء، بإيمان وتواضع وثقة إلى الله. إنَّه القدير والحنون الذي يستجيب الدُّعاء، ولا يُخيِّب الرَّجاء، وان نبتهج بدنو مَريَم ويسوع منَّا، كما ابتهجت أَليصابات وابتهج ابنها يوحَنَّا. وتدعونا زيارة العذراء أن ننقل إلى النَّاس بشرى يسوع، كما نقلتها وان نشكره لله عظائمه فينا، كما شكرت. وأخيراً تدعونا لقاء العذراء مع نسيبتها أَليصابات إلى قبول الآخرين والتَّرحيب بهم مُتذكرين قول يسوع وصية يسوع "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا" (متى 10 :40). نطلب أخيرًا من سيدتنا مَريَم العذراء أن تزورنا كما زارت نسيبتها أَليصابات فنُحيّها بتحية ملاك جِبرائيل وتحية أَليصابات وتحية الكنيسة قائلين "السَّلام لك يا مَريَم العذراء الممتلئة نعمة، الرَّبّ معك، مُبارَكة أنتِ في النِّساء ومبارك ثمرة بطنكِ يسوع، يا قديسة مَريَم، يا والدة الله صلي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا. آمين. إنّ استخدام نشيد مَريَم "تعظم" في صلاة الغروب لهو استخدام رائع وخلاصي يُعطّر الكنيسة المقدّسة. يمكننا أن نتوقّع أن تلتهب أرواح المؤمنين، وهي تتذكّر تجسّد الرَّبّ، بحماسة أكبر، وأن تشدّد الأمثلة المُتكرّرة عن القدّيسة مَريَم إيمان تلك الأرواح. وأنّ صلاة الغروب هي الوقت المناسب، لكي نعود فيه إلى نشيد مَريَم، وذلك لأنّ روحنا، التي تكون مُتْعبة ومُشتّتة خلال النَّهار في اتّجاهات مختلفة، تكون بحاجة في وقت الرَّاحة إلى العودة إلى الذَّات لاستعادة وحدة انتباهها وقوتها ووحدتها. "فعيوننا إليك ترحل كل يوم، وتدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد" (فيروز). مزار سلطانة فلسطين في دير رافات التسمية: الاحتمال الأول أن لفظة رافات مشتقة من جذر فعل رفا وهو يفيد اللين والتَّراخي والرفاء والشفاء. فيكون معناها مكان الرَّاحة والاستشفاء الاحتمال الثّاني: رافات مشتقة من فعل رَفَتْتُ أي تَحَطَّمَ وَصارَ رُفاتاً. "رَفَتَتِ العِظامُ تَحْتَ التَّرَابِ" أي الجثمان. وذلك لكثرة ما اكتشف فيها من قبورـ والكاتب شاهد على ذلك أثناء مرافقة معلمه الأب باغاتي في مسح الأرض دير رافات. الموقع: دير رافات هي قرية فلسطينية مهجرة، قضاء القدس، تمَّ احتلالها في الثّامن عشر من تمّوز يوليو سنة 1948. حينها كان عدد بيوتها 157 ما بقي منها إلاّ القليل. وتبعد القرية حوالي 30 كلم إلى الغرب من القدس وإلى 5 كم عن بيت شمش. واستأجرت نفر من قبيلة الصَّانع وهي من بدو النَّقب رقعة من أراضي القرية من دير اللاتين، مالك أراضي القرية، وضرب فيها بعض الخيام. بقرب دير رافات تقوم قرية صَرعة كان سكّانها يعدّون 390 نسمة حين تمّ احتلالها في الرّابع عشر من تمّوز سنة 1948. وقد ورد اسم صرعة في رسائل تلّ العمارنة في مصر، في القرن الرّابع عشر قبل الميلاد. وكان بالإمكان الوصول إليها بالطّريق الرّئيسيّ بين بيت جبرين وباب الواد. تاريخ مزار سلطانة فلسطين في دير رافات أنشأ البطريرك لويس برلسينا في 15تموز 1920 صلاة سيدة فلسطين وذلك ليُكرِّس أبرشيته لله بشفاعة العذراء. وكان هذا البطريرك أوَّل من أطلق سلطانة فلسطين على العذراء مريم وذلك استعطافا لحماية العذراء الذي للديار الفلسطينيَّة علمً القديس أميديوس، اسقف لوزان قد دعا سيدتنا مريم العذراء، باسم "سيدة فلسطين"، إذ يليق بالبتول الوالدة، وبكرامة ابنها، أن تملك في الأرض أولاً، ثم تُكلل بالمجد في السَّماء" (العظة ( (Source Chrétiennes7,72 . فتمت فيها نبوءة صاحب المزامير "قامَت مَلِكَةٌ عن يَمينكَ بِذَهَبِ أُوفير" (مزمور 45: 19). وغدت مريم كنزًا للنعم، تفيض بوفرة على الشعب المؤمن وتهب العافية للأجساد والعلاج للنفوس. وفي سنة 1927 قام البطريرك نفسه ببناء مزار دير رافات يحمل اسم "سلطانة فلسطين" قام بتصميمها الأب كزلر البندكتان. والى جانب الكنيسة بنى دير وميتم للأطفال سنة 1927. وكان قد استملكت البطريركية اللاتينية ارض رافات على عهد البطريرك منصور براكو. عام 1866. وحصل البطريرك أيضا من روما تصريح لإنشاء عيد خاص بسلطانة فلسطين. أشاد البطريرك برلسينا كنيسة لإكرام سيدة فلسطين في الحادي والعشرين من آذار عام 1925. وفي 21/3/1928 تم مباركة الكنسية في دير رافات، فرسمت لوحة "سلطانة فلسطين" الأخت ماريا -جوفانينا الفرنسيسكانية على طلب البطريرك برلسينا، وهذه الصورة تمثل جبل صهيون في القدس وجبل الكرمل يعلوهما نجم ساطع يرمز للبتول القديسة بسبب علاقتهما بها والجبلان يطلان على البحر الأبيض المتوسط. وقام الفنان الفلسطيني مبارك سعد بتخطيط أولى كلمات السلام الملائكي بمائتين وثمانين (280) لغة على سقف الكنيسة. وفي 10/3 /1029 نصب تمثال البرونز الكبير لسلطانة فلسطين يعلو واجهة الكنيسة وهي تبسط يديها اليمنى تبارك أبناء شعبها أرضها. وفي 15 آب 1929 وتمّ أول احتفال وحج لعيد سلطانة فلسطين في دير رافات. وأقر الكرسي الرسولي منذ العام 1933. انتقل الاحتفال بعيد مريم سلطانة فلسطين اليوم إلى 25 تشرين أول. ويقام الاحتفال الرئيسي السنوي في دير رافات في الأحد الأخير من تشرين الأول من كل سنة بمشاركة كافة رعايا الأبرشية إضافة إلى العديد من الرهبانيات والحجاج. ويختتم الاحتفال بدورة تقليدية بأيقونة وتمثال مريم العذراء سلطانة فلسطين مع البركة من البطريرك والأساقفة. وافق مجمع الليتورجيا في 16 آب 1933 على نص قداس سلطانة فلسطين. 1948 قد دمرت القرية ولم يبق منها إلا ديراً وكنيسة تابعة للبطريركية اللاتينية. يُعد هذا عيد سلطانة فلسطين عيد شعبي لجميع سكان الأرض المقدسة الذين يأتون الدير رافات ليعبِّروا عن شكرهم ومحبتهم وثقتهم بأمهم السماوية مريم العذراء سيدة فلسطين. وتلي القداس الدورة التقليدية بتمثال مريم العذراء سلطانة فلسطين. وفي نهاية الدورة نال جميع الحضور البركة بأيقونة مريم العذراء سلطانة فلسطين. الخلاصة: يُروي الإنجيل زيارة مَريَم العذراء لخالتها أَليصابات، والدة يوحَنَّا المَعْمَدان في عين كارم بعد أن حملت في أحشائها المُبارَكة السَّيد المسيح. إن اللقاء بين الوالدتين هو في الواقع بين الولدين الذين هما في خدمة الرسالة. فيوحَنَّا ينال الرُّوح وهو في بطن أمِّه، كما أنبأ الملاك أباه زَكَرِيَّا "سيَكونُ عَظيماً أَمامَ الرَّبّ، ولَن يَشرَبَ خَمراً ولا مُسكِراً، ويَمتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ القُدُس وهوَ في بَطْنِ أُمِّه" (لوقا 1: 15). ويوحَنَّا يفتتح رسالته بالدلالة على المسيح بلسان أمِّه "مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟" (لوقا 1: 43). إن المسيح لم يكن في أحشائها المُبارَكة لتخفيه أو تحجب عن النَّاس بل لتُعطيه كل يوم إلى أن يصل بها يوم أن تُعطيه العطاء الكامل على الصَّليب لخلاص جميع النَّاس. ومن هذا المطلق، فإنَّ زيارة سيدتنا مَريَم العذراء تُعلِّمنا أن نؤمن بدورنا بالسَّير على خُطى العذراء أمِّنا، وأن نؤمن بمولود بيت لحم مُخلصًا والهًا، وان نبتهج بدنوه منَّا، كما ابتهجت مَريَم العذراء وأَليصابات، وان ننقله إلى النَّاس بشرى خلاص، وان نشكر لله عظائمه فينا كما شكرت مَريَم العذراء ونسيبتها أَليصابات. وبعبارة أخرى، كلمة الله سكن في الإنسان وصار "ابن الإنسان" ليُمكّن الإنسان من أن يُدرك الله، ويجعل إقامة الله في الإنسان أمرا ممكنا بحسب رضى مشيئة الله الآب. في زيارة مَريَم العذراء لنسيبتها أَليصابات نجد دعوتنا المسيحيّة: يتدخّل الله في حياتنا، يدعونا، فنؤمن ونقبل الدعوة، ونثق بالله، ونضع هذه الدعوة في خدمة الآخرين، نحمل إليهم كلمة الله ونُبشّر بها، لا بالكلام فقط، بل خاصّة بالعمل، بالمحبّة وبالخدمة. ونختتم بتأمل مع بطريرك القسطنطينية بروكليس (446) وهو يصف زيارة سيدتنا مَريَم العذراء لاليصابات: "لقد فهمتِ يا مَريَم، كيف أن أَليصابات أصبحت أُمًا وهي عاقر في شيخوختها. اذهبي إلى بيت أَليصابات فتعرفي أمَّ من أنت! وعندما تشعرين بابتهاج يوحَنَّا المَعْمَدان، ستفهمين كيف ستُطوِّبك جميع الأجيال. وأَليصابات العاقر ستكتشف فيك، أنت البتول، ثمرة الحياة، يسوع. تُحيِّيك أم يوحَنَّا، وهي مُفعَمة بالفرح، كأمِّ الرَّبّ. وبهذا تعلن الخليقة تأنس الخَالق، ويُصبح النَّبي (المَعْمَدان) رمز السَّيد، والمُعمِّد رمز المُعمَّد، ومن ولد من أمِّ أرضية رمز ذاك الذي وُلد من الأب قبل كل الدهور." نحن أبناء الأرض المقدس لنُكرِّم مريم البتول، سلطانة فلسطين، ولنحتفل بمجدها، لأنها تملك مع المسيح إلى الآبد. لنصلّ من أجل فلسطين وكلّ شعبها، في الوطن والمهجر، سائلين العزّة الإلهيّة أن تتكرّم وترحم هذا الشّعب المقهور وسائر الشّعوب المظلومة كي يشرق مجدّدًا من الشّرق النّور ويتبدّد الظُّلم والظّلام ويحل السلام العادل. دعاء أيّها الإله الأزليّ القدير، الذي أوحيت إلى القدّيسة مَريَم البتول، وهي حامل بابنك المتجسّد، أن تخرج إلى زيارة أَليصابات وهي حامل بيوحَنَّا وتخدمها، اجعلنا نهتف بفرحٍ مع أَليصابات "طوباكِ، يا مَريَم العذراء، لأن فيكِ تجسَّد يسوع المسيح ربِّنا، وأن نبتهج في حضرتك كيوحَنَّا فنتقدس ويتمجّد بنا اسمك المُبارك فتُعظمك نفوسنا إلى دهر الدهرين، آمين صلاة سيدة فلسطين يا مَريَم البَريئةُ من كل عَيْب، يا سُلطانةَ السَّماء والأرض البهية، ها نحن جاثون، أمام عرْشك السَّامي، واثقون كل الثِّقة، بجودتك وقدرتك غير المَحدودة، فنلتمسُ منك أن تُلقيَ نَظرةً عَطوفاً، على هذه البلاد، الفلسطينية التي تخُصُك أكثر من سائر البلاد، لأنَّكِ باركْتِها بميلادِكِ فيها، وبفضائِلكِ وأوجاعِكِ، ومن هذه البِلاد، مَنحت الفَادي للعَالِم. اذْكري أنَكِ هنا، أقِمتِ لنا أمَّا شفيقة، وموزِّعةً للنِّعم، فاسْهري إذن بعناية فريدة على وطنك هذا الأرْضي وبِدِّدي عنه ظُلمات الضِلال، بعد أن سَطَعَت فيه شِمْسُ البِّرَ الأبدي، واجْعلي أن يتمَّ سريعًا الوَعدُ الصَّاَّدر من فم ابنك الإلهي، بأن تكونِ رعيةً واحدةً وراعٍ واحد. استمدِّي لنا أجْمعين أن نخدُمَهُ تِعالى، بالقداسَةِ والبَرارِة، مُدة أيَّام حياتِنا، حتى نستطيع أخيرًا، باستحقاقات سيدنا يسوع المسيح، وبعوْنك الوالدي، أن ننتقلَ من أورشليم هذه الأرضية، إلى أفراح أورشليم السَّماوية. آمين. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مزار سلطانة فلسطين في دير رافات |
رافات الامير تادرس الشطبي |