طريق التوبة:
12 «اِذْهَبْ وَنَادِ بِهذِهِ الْكَلِمَاتِ نَحْوَ الشِّمَالِ، وَقُلِ: ارْجِعِي أَيَّتُهَا الْعَاصِيَةُ إِسْرَائِيلُ، يَقُولُ الرَّبُّ. لاَ أُوقِعُ غَضَبِي بِكُمْ لأَنِّي رَؤُوفٌ، يَقُولُ الرَّبُّ. لاَ أَحْقِدُ إِلَى الأَبَدِ. 13 اِعْرِفِي فَقَطْ إِثْمَكِ أَنَّكِ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكِ أَذْنَبْتِ، وَفَرَّقْتِ طُرُقَكِ لِلْغُرَبَاءِ تَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَلِصَوْتِي لَمْ تَسْمَعُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. 14 اِرْجِعُوا أَيُّهَا الْبَنُونَ الْعُصَاةُ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي سُدْتُ عَلَيْكُمْ فَآخُذَكُمْ وَاحِدًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَاثْنَيْنِ مِنَ الْعَشِيرَةِ، وَآتِي بِكُمْ إِلَى صِهْيَوْنَ،
كثيرًا ما يكرر الرب على لسان إرميا النبي الكلمتين: "ارجعي... اعرفي..." [12-13].
"لكن ارجعيإليّ يقول الرب" [1].
"فقلت بعدما كل هذه ارجعي إليّ؛ فلم ترجع" [7].
"اذهب ونادِ بهذه الكلمات نحو الشمال وقل: ارجعي أيتها العاصية إسرائيل يقول الرب. لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف يقول الرب. لا أحقد إلى الأبد. اعرفي فقط إثمك أنكِ إلى الرب إلهك أذنبتِ وفرقتِ طرقكِ للغرباء تحت كل شجرة خضراء، ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب. ارجعوا أيها البنون العصاة يقول الرب" [12-14].
"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]
تحدد العبارات الإلهية السابقة مفهوم التوبة في الخطوات التالية:
أ. التوبةهي قبول دعوة الله للنفس بالرجوع إلى محبوبها. فإن الله في حبه للنفس لا يتوقف عن النداء" ارجعي إليّ". في أحلك لحظات الخطية، وفي وسط قساوة قلوبنا يتطلع الله إلينا ينتظر صرخة قلب خفية، أو نظرة عين نحوه، أو تنهدًا داخليًا، ليحملنا على الاذرع الأبدية. إنه يشتاق إلى رجوعنا وخلاصنا ومجدنا أكثر من اشتياقنا نحن إلى خلاص أنفسنا. لكنه في محبته لا يريد أن يغتصب النفس بغير إرادتها، فأنه يقدس حرية إرادتها ويكرم إنسانيتنا!
ب. اكتشاف شخص الله: "لأني رؤوف يقول الرب، لا أحقد إلى الأبد". كثيرًا ما يشوه العالم صورة الله بإظهاره ديانًا قاسيًا، لا يترفق بضعفنا... يعيش في سمواته ولا يشعر بنا نحن في أرضنا. إنه رؤوف، يعين المجربين، ويسند طالبي الرجوع التائبين!
يؤكد الله إخلاصه وحبه، فقد تخونه عروسه، لكنه يبقى الإله الرءوف المخلص لها. يغضب لتأديبها، لكن ليست هذههي كلمته الأخيرة، فإنه كما يقول: "لا أحقد إلى الأبد".
ج. اكتشاف حقيقة ضعفنا: "اعرفي فقط إثمك". لتحكم النفس على ذاتها، وتعترف بإثمها، فتجد مخلصها الرؤوف يبررها. لا طريق للخلاص دون اعتراف الإنسان بخطاياه، لأنه كيف يلتقي المريض بالطبيب ويتجاوب مع مشورته ما لم يشعر بمرضه! مسيحنا هو مخلص الخطاة، نكتشف خطايانا فنشعر بحاجتنا إليه!
إننا نحتاج إلى جلسات هادئة مع الله لكي يكشف روحه القدوس لنفوسنا ضعفاتها دون أن يفقدها رجاءها.
يقول القديس يوحنا كاسيان: [بمقدار ما يتقدم عقل الإنسان ويمتد نحو الصفاء والنقاوة في التأمل يظهر له دنسه وعدم نقاوته.
عندما يرى ذاته في مواجهة مرآة الطهارة الحقة!
لأنه كلما ترتفع النفس إلى تاوريا (تأمل) أعلى، وتمتد إلى الأمام، تتوق إلى أمور أعلى من التي نفذتها، حينئذ تتأكد من حقارة الأشياء التي تؤديها وتفاهتها، لأن النظرة الحاذقة تكشف خبايا كثيرة. والحياة التي بلا لوم تنشئ حزنًا عميقًا على ما يفرط من الخطايا].
د. إدراك أن كل خطأ في الحقيقة موجه ضد الله: "إلى الرب إلهك أذنبت" [13]. وكما يقول داود النبي في مزمور التوبة: "لك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت" (مز 51)، حتى وإن كانت الخطية في الفكر لم تؤذِ أحدًا. لأن كل خطيةهي كسر لوصية الله الذي يريدنا أن نتشكل على صورته ونصير على مثاله: "ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب" [13].
ه. إدراكنا لموقفنا أو مركزنا كبنين، فإنه ما أصعب أن ُيهان الشخص من ابنه؟! "ارجعوا أيها البنون العصاة" [14].
و. ثقتنا في المخلص كأبٍ قادر أن يشفي جراحاتنا، وينزع عنا طبيعة العصيان: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22].
من هم هؤلاء البنون العصاة الذين يطالبون بالرجوع إلى الله؟
يرى العلامة أوريجينوس أن المؤمنين قد صاروا أبناء الله، لكن أحيانًا بعد تمتعهم بالبنوة - خلال المعمودية - يعصون الله أبيهم، ومع هذا يدعوهم إلى الرجوع إليه... أبواب التوبة مفتوحة أمام الجميع!
غلق أبواب التوبة أمامأي إنسان بدعة تقاومها الكنيسة، وقد كتب آباء كثيرون في هذا الموضوع، منهم القديس كبريانوس الذي كتب مقالين عن التوبة موضحًا أن الكنيسة مثل عريسها عملها أن تحل دون أن تغلق الباب في وجه أحد .
واستخدم القديس جيروم بعض عبارات من سفر إرميا (إر 3: 29؛ 8: 4) في رسالته إلى مارسيلا ليوضح كيف تفتح الكنيسة أبوابها للتوبة كل يوم، بينما يغلق أتباع ماني باب الكنيسة أمام البعض لأخطاء معينة ارتكبوها.
يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهي: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]، قائلًا:
[في بدء قراءاتنا هذا اليوم، يقول الرب لبني إسرائيل: "تدعينني يا أبي، ومن ورائي لا ترجعين. حقًا إنه كما تخون المرأة قرينها هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب" [19-20]. بعدما قيل هذا الكلام الذي يخص إسرائيل يتوجه الروح القدس إلينا نحن أيضًا بني الأمم ويقول: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]. فإننا نحن المقصودون بالناس المملوئين عصيانًا (جراحات). يمكن لكل واحد منا أن يقول: "نحن الذين كنا قبلًا، نحن أيضًا كنا غير مؤمنين، أغبياءً، ضالين، عبيدًا للشهوات والأهواء المتنوعة، نحيا في الشر والشهوة، مُبغضين ومبغضين بعضنا بعضًا، ولكن حين أُظهر صلاح مخلصنا الله وحبه للبشر سكب رحمته علينا بنعمة الميلاد الجديد".
إذ ذكرت هذا القول للقديس بولس الرسول أحاول شرحه بأكثر وضوحٍ. فإنه لم يقل "نحن الذين كنا قبلًا أغبياء" بل قال القديس بولس ابن إسرائيل الذي كان من جهة الناموس بلا لوم: "نحن الذين كنا قبلًا نحن أيضًا"،أي "نحن أيضًا بنو إسرائيل" "كنا غير مؤمنين، أغبياء". لم يكن بنو الأمم وحدهم أغبياء، ولم يكونوا وحدهم غير مؤمنين، ولا وحدهم خطاة، وإنما نحن أيضًا الذين استلمنا الشريعة كنا كذلك قبل مجيء السيد المسيح.
بعد هذا الكلام الموجه إلى إسرائيل، قيل لنا نحن أبناء الأمم:
"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم".
لكن قد يقول قائل: "إن هذا الكلام موجه إلى إسرائيل وها أنت تطبقه على الأمم".
إنني أوضح أنه عندما يوجه الله إلى إسرائيل حديثًا يختص بالتوبة والرجوع، لا ينتظر كثيرًا ليضيف كلمة "إسرائيل"، وإنما يبدأ بها في الحال، فقد قيل بعد ذلك:
"إن رجعتِ يا إسرائيل يقول الرب،
إن رجعت إليّ،
وإن نزعت مكرهاتك من أمامي، فلا تتيه.
وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر،
فتتبرك الشعوب به وبه يفتخرون" (إر 4: 1-2).
إذًا الفقرة الأولى موجهة إلى أبناء الأمم والشعوب، ثم بعد ذلك إلى إسرائيل، لأنه القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل، حسبما قال الرسول في رسالته إلى أهل رومية (رو 11: 25-26).
أنظر كيف يدعونا الله، إن رجعنا فلنرجع بالكامل، حيث يعدنا أنه إذا رجعنا إليه بالتوبة يشفي جراحاتنا (عصياننا) بالمسيح يسوع.
ونحن أيضًا بلا انتظار ولا تأخير نجيب مثل إسرائيل ونقول: "ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا" [22].
يقول الرب: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم"، ويجيب بنو الأمم: "سنكون عبيدًا لك أنت"، نحن الذين كنا قبلًا عبيدًا للشيطان ولقوات الشر...
الآن بعدما دعوتنا للتوبة نجيب: "ها قد أتينا إليك" [22]، لأننا لم نكن ننتظر إلا شيئًا واحدًا: دعوتك.
إننا على عكس الذين دعوتهم فقدموا لك أعذارًا، نحن إذ ُدعينا لم نعتذر.
هذا ما نجده فعلًا في أمثال الإنجيل، فإن الذين دُعوا أولًا كانوا يقولون واحدًا بعد الآخر: "إني اشتريت حقلًا، وأنا مضطر أن أخرج وأنظره؛ أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماضٍ لأمتحنها، أسألك أن تعفينى. وقال آخر: إني تزوجت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء" (لو 14: 18-20).
ليس هذا هو أسلوبنا نحن أبناء الأمم، أن نُدعى فنعتذر.
لماذا نعتذر؟ ما هو هذا الحقل الذي يشغلنا؟ وأية زوجة تشغلنا؟ حقًا ماذا يمكن أن يشغلنا؟
إذن، إذ يقول الله لنا: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" ننظر إلى جراحاتنا، وإلى الوعد بالشفاء ونجيب حالًا، قائلين: "ها قد أتينا إليك، لأنك أنت الرب إلهنا". لنتذكر أننا بهذه الكلمات نقيم عهدًا مع الله، فلا نكون لآخر غيره،؛ لن نكون ملكًا لأفكار الغضب، ولا لأفكار الكآبة، ولا لأفكار الشهوة؛ لن نصير ملكًا للشيطان ولا لجنوده. بل بالعكس، دُعينا فأجبنا: "ها قد أتينا إليك".
لنُثبت بأفعالنا أننا ِملكٌ له وحده، ونضيف: "لأنك أنت الرب إلهنا". فإننا لا نعرف لأنفسنا إلهًا آخر. ليست البطن إلهًا لنا مثل الذين قيل عنهم: "الذين آلهتهم بطونهم"، ولا الفضة ولا الطمع.
يلزمنا ألا نقيم إلهًا، ولا نؤله شيئًا مما يؤلهه الناس، لكن لنا إله الذي هو فوق كل شيء، الله الذي هو "إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم" (أف 4: 6). وبما أن شغلنا الشاغل هو حب الله، نقول: "ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا"].