الخالق الإلهي
يبدأ المزمور بالدعوة لتسبيح عظمة الرب ومجده في عرشه السماوي. يشير القسم الافتتاحي بشكلٍ واضحٍ إلى العمل الذي تم في اليومين الأول والثاني كما عرضه الأصحاح الاستهلالي في الكتاب القدس (تك 1).
في اليوم الأول جاء في التكوين أن الله قال: ليكن نور، فكان نور. أما هنا فيرى المرتل وراء النور المنظور نور الله غير المنظور. "اللابس النور كثوٍب" [2].
في اليوم الثاني "قال الله: ليكن جلد في وسط المياه" (تك 1: 6)، أما هنا فيرى المرنم الله ينشر السماوات كشقةٍ (قماش الخيمة)، ويسقف علاليه (جمع علية، أي حجرة علوية) بالمياه، ويجعل من السحاب مركبته. يا له من تعبير شاعري جميل!
في اليوم الثالث تجتمع المياه تحت السماء كمحيطات وتظهر اليابسة (القارات). أما هنا فيُصَوِّر الخالق برعدٍ، فتهرب المياه من صوت رعده، وتنزل إلى البقاع التي عينها لها، فقد أقام للمياه حدًا لا تتجاوزه (أي 38: 9-11). إن كان يفعل هذا مع المياه التي هي خليقته الصالحة، فبالأولى يكبح الشر، فيلتزم حدوده (إر 5: 22).
بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ.
يَا رَبُّ إِلَهِي قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا.
مَجْدًا وَجَلاَلًا لَبِسْتَ [1].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الاعتراف وعظم الجلال تسربلت".
ماذا يعني: "قد عظمت جدًا"؟ هل يزداد الله في العظمة، وهو المطلق في عظمته لا يزيد ولا ينقص؟
العظمة التي لله هنا لا تعني جوهره الذي لا يَقْدِرُ أحد أن يعاينه في ذاته، إنما ما يعلنه من مجد وجلال لخليقته لأجل مسرتهم وبنيانهم. لذلك يكمل: "مجد وجلالًا لبست". يقول السيد المسيح: "الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر" (يو 1: 18).
* "باركي يا نفسي الرب".ليت نفسنا جميعًاتصير واحدًا في المسيح، وتقول هذا؟ "يا رب إلهي قد عظمت جدًا" أين عظمت؟ "الاعتراف والجمال لبست" اعترفوا لكي ما تصيروا جميلين، فيلبسكم. "اللابس النور كالثوب". إنه يلبس كنيسته، وإذ صارت نورًا فيه، هذه التي كانت ظلمة في ذاتها كما يقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب" (أف 5: 8).
القديس أغسطينوس
* كلمة "الاعتراف" Confissio يُمكن أن تُفهَم بطريقيْن. يمكن أن تُستخدَم في تسبيح الله، كمثال: "بالجلال تسربلت"، وكما يقول المخلص نفسه في الإنجيل: "اعترف لك أيها الآب" (راجع مت 11: 25)، أي "أحمدُ". وأيضًا يمكن تشير إلى الاعتراف بخطايانا للرب، فإننا نُقَدِّم التسبيح والمجد لله عندما نعترف بخطايانا أمامه[3].
القديس جيروم
* هذا المزمور هو عبادة مُقَدَّمة من الخليقة المُسَبِّحة لخالقها وتباركه (تطلب بركته) بالنبي. وهو مزمور مشابه للمزمور الثامن عشر (19)، القائل: "السموات تمجد الله والجَلَدْ يخبر بعمل يديه".
القديس جيروم
* يبارك الله الإنسان عندما يؤيده، ويعطيه الأمان من أعدائه، ويشرفه ويعظم تعقله كما بارك إبراهيم. وأيضًا يبارك الإنسان الله عندما يشكره على كل أمرٍ. وذلك كما كتب الرسول: "وكل ما عملتم بقولٍ أو فعلٍ، فاعملوا الكل باسم الرب يسوع، شاكرين الله والآب به" (كو 3: 17). وفي الحالتيْن يكون الربح للإنسان، أعني إن بارك الله الإنسان، أو بارك الإنسان خالقه، لأن الله لا يحتاج إلى خيراتنا. وذلك مثل الذي يلعن الله، والله يلعنه، فإن المضرة تقع على ذلك الإنسان ولا يُمَس الله بأذى...
قوله: "عظمت جدًا"، لا يعني أن الله قد زادت فيه العظمة بدل أن كان صغيرًا. حاشا لله، الدائم العظمة والجلال، والفائق على كل عظمةٍ. إنما يعني أن الإنسان إذ صنع أعمالًا نجيبة وحميدة يتعظم الله به، أي تتضح عظمته في أتقيائه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* كما أن الملك إذا وجد فتاة لابسة أسمالا بالية لا يستنكف منها، بل يجردها من ثيابها الدنسة (إش 64: 6؛ زك 3: 4؛ مر 1:1)، ويغسل سوادها (نا 2: 10)، ويُلبِسها حُلَّة بهيجة (لو 7: 25)، ويُصَيِّرها أليفته وجليسته في مائدته وحظه، كذلك الرب وجد النفس مجروحة مضروبة، فداواها وجرَّدها من ثيابها المظلمة، ومن دنس الخطية، وألبسها الحُلَّة الملوكية السماوية الإلهية (مز 104: 1) اللامعة المجيدة، ووضع عليها التاج، وصيَّرها جليسته في المائدة الملوكية فرحًا لها وكفاية.
القديس مقاريوس الكبير
اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ،
الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ [2].
غالبًا ما يصاحب إعلان الله عن نفسه النور والنار (تك 15: 17؛ خر 3: 2؛ 19: 18؛ مت 17: 2). فهو نار آكلة (تث 4: 24؛ إش 30: 33؛ إر 21: 12، 14)، ونور لشعبه (مز 27: 1؛ إش 10: 17). يدعوه يعقوب الرسول أبي الأنوار (يع 1: 17).
يرى القديس أغسطينوس أن ثوب السيد المسيح هو الكنيسة، لهذا عندما تجلَّى السيد المسيح أضاءت ثيابه بالنور، لأن شمس البرّ حال في كنيسته.
يتمجد الله في كنيسته، ويتعاظم جدًا حين تصير روحًا واحدًا، وبنفسٍ واحدةٍ تعترف فتلبس الجمال الإلهي.
أما قوله الباسط السماوات كشقةٍ (الغطاء الجلدي للخيمة)،
فيرى القديس أغسطينوس أن التفسير الحرفي لها هو كما أن الإنسان يبسط شقة الخيمة بسهولة، هكذا يبسط الرب السماوات. والتفسير الرمزي هو أن الأسفار الإلهية التي تُقَدِّم لنا الحياة السماوية تنتشر في كل أنحاء الأرض، التي تحوي البشر القابلين للموت مثل جلد الحيوانات الميتة والمستخدمة كشقةٍ لخيمة. فكلمة الله تهب الحياة السماوية للقابلين الموت.
* لاحظوا الترتيب، فالشخص يعترف أولًا فيتقبل الجمال والنعمة، وبعد ذلك يتقبل النور. فالكلمات التالية في المزمور هي: "اللابس النور كالثوب" (مز 104: 2).
* أنت هو إله الكل، إلهي أنا على وجه الخصوص، لأنني لستُ عبدًا للخطية. إني أستحق أن أُدعَي عبدك. "عظيمٌ أنت بالحق. عندما أتطلع إلى السماء والأرض والطيور والحيوانات ذوي الأربع أرجل، والحيات وكل خليقتك أتعجب من الخالق وأمجده.
القديس جيروم
* نزوله مزدوج، واحد يأتي فيه مختفيًا، "مثل المطر على الجزاز" (مز 72: 6)، والآخر مجيء واحد مُنتظَر.
في مجيئه الأول كان ملفوفًا بقماطات في المذود، وفي ظهوره الثاني يظهر "اللابس النور كثوبٍ" (مز 104: 2).
في مجيئه الأول "احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2)، وفي الثاني تحوطه جيوش الملائكة مُمَجَّدًا[7].
فنحن لا نستند على مجيئه الأول فحسب، وإنما ننتظر مجيئه الثاني أيضًا.
وكما قلنا في مجيئه الأول: "مبارك الآتي باسم الرب" (مت 21: 9؛ 23: 39)، سنردد أيضًا هذا في مجيئه الثاني، فإذ نتقابل مع سيدنا وملائكته، نتعبد له قائلين: "مبارك الآتي باسم الرب".
سيأتي لا ليُحكَم عليه، بل ليدين من حاكموه.
ذاك الذي صمت أثناء محاكمته، يقول للأشرار الذي فعلوا معه هذه الجسارة: "هذه الأشياء صنعتم وسكت" (مز 50: 21).
إذن، قد جاء بتدبير إلهي معلمًا الناس بالإقناع، أما هذه المرة بالضرورة يقبلونه ملكًا حتى الذين لا يريدون!
القديس كيرلس الأورشليمي
* يليق بنا أن نضيف أن الثوب الذي نرتديه هو ربنا يسوع المسيح، الذي ينسدل حتى أقدامنا، والألوان المتعددة التي لهذا الثوب هي ألوان زهور الحكمة والأسفار المقدسة والأناجيل المتنوعة التي لا تبهت ولا تضيع ألوانها مع الزمن... كما قيل: "اللابس النور كثوبٍ" (مز 104: 2). لذا يليق بنا عند تفصيل ملابسنا أن نبتعد عن كل ما هو غريب. وعندما نستخدم تلك الملابس نراعي الاقتصاد، وننأى عن الإسراف .
القدِّيس إكليمنضس السكندري
* يوجد انفصال بين الذين يسكنون السماء أو الذين يلبسون الإنسان السماوي وبين الشر، لأن الله في بسطه للسماوات فصل الأشياء الفاسدة عن الأشياء الصالحة، حتى لا يتدنس الإنسان البار الذي يُعتَبَر هو نفسه سماء. فلذلك قيل: "وبفهمه بسط السماوات".
كيف إذًا تم بسط السماوات؟ الحكمة هي التي تبسطها. تشير هنا الآية إلى كيفية بسط السماوات بواسطة الحكمة: "لقد بسطت كلامي، وأنتم لم تنتبهوا إليه". فالأمر هنا يتعلق ببسط كلام . بهذه الطريقة تم بسط السماوات. وقد قيل أيضًا في المزمور: "الباسط السماوات كشقةٍ (كخيمةٍ)" (مز 104 :2). كذلك نحن أيضًا، فإن نفوسنا التي كانت قبلًا منكمشة، سوف تُبسَط حتى تستطيع أن تستقبل حكمة الله.
نرجع الآن إلى موضوعنا. فقد قلنا كيف أن السماوات خُلِقَتْ بالفهم. وأن الذين لبسوا الإنسان السماوي هم أيضًا سماوات. في الواقع بما أنه قيل للخاطئ: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يمكننا بالأولى أن نقول للبار: "أنت سماء، وإلى السماء تعود"؟
كما يقال أيضًا للإنسان الترابي الذي يحمل صورة الإنسان الترابي: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يقال لك إذا كنت تحمل صورة الإنسان السماوي: "أنت سماء وإلى السماء تعود؟"
كل إنسانٍ منا له أعمال سماوية وأخرى أرضية. الأعمال الأرضية هي التي تؤدي إلى الأرض، لأنها تحمل الطبيعة الأرضية، مثل ذاك الذي يكنز في الأرض بدلًا من أن يكنز في السماء. وعلى العكس، فإن أعمال الفضيلة تؤدي إلى المواضع التي تحمل نفس طبيعتها أي إلى السماوات، فالإنسان الذي يكنز في السماء هو الذي يحمل صورة السماوي .
العلامة أوريجينوس
* النور هنا هو العِلْمُ الواضح البيان، أي معرفة الأشياء جهارًا وبيانًا مثل إيضاح النور. هذه المعرفة يلبسها مثل الثوب، أعني من كل ناحية يبصر، ولا يختفي عليه شيء.
قال آخر: إن ثوب النور هو الجسد الطاهر الذي لبسه ابن الله، فجاع وعطش. ومرارًا كان يذوي الثوب ويظهر لاهوته يسيرًا، وذلك عندما كان يصنع العجائب.
قال آخر: إن هذه الكلمة تدل على النور الذي خلقه الله في أول أيام الخليقة الذي كان ينشره ويعمل النهار قبل إبداع الكواكب، ويضمه فيصير ليلًا. لذلك ألحق النبي لقوله ما قد خلقه الله في اليوم الثاني، وقال: "الباسط السماء مثل الخيمة". وهي السماء الثانية التي جعلها فاصلًا للمياه، أي بين الماء الذي أخذه فوق، وبين الماء الذي أبقاه أسفل. وقد شبهها بخيمةٍ، ليخبر ببهاء عمل الله، أنه مدَّ السماء الجسيمة كما يمد الإنسان خيمة. وأيضًا أننا نحن في هذا العالم كأننا في ظل خيمة.
الأب أنثيموس الأورشليمي
الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ.
الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ.
الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ [3].
عندما يبني الإنسان حجرة أعلى بيته (عليه) يغطيها بسقفٍ من مادة صلده لتحميه من حرارة الشمس ومن الأمطار. أما الله فيغطي عليته - إن صح التعبير - بالسحاب المملوء مياهًا.
إنه يستخدم السحاب كالخيل يُحَرِّك مركبته كيفما شاء، ويقودها حسب مسرته. كأن كل شيء حتى السحاب والرياح يطيعانه.
كثيرًا ما يُقَدِّم لنا المرتل السحاب كرمز للسماء، لهذا يرى في السحاب مركبة إلهية. عند صعود السيد المسيح لم يكن محتاجًا إلى مركبة، لأنه هو خالق السماء، ويحسبها مركبته.
يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رمزيًا للعبارة: "المسقف علاليه بالمياه"، فيقول إن الحديث هنا عن السماوات التي هي الأسفار الإلهية، أما علاليه فهي وصية الحب، [وصية الحب التي لا يوجد ما هو أعظم منها (مر 12: 31). ولماذا يُقارَن الحب بالمياه؟ "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا" (رو 5: 5). من أين الروح القدس هو مياه؟ لأنه "وقف يسوع ونادى، قائلًا إن عطش أحد فليُقْبِلْ إليّ ويشرب، من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 7: 37-38)... "الماشي على أجنحة الريح"، أي فوق فضائل النفوس؟ الحُب ذاته. ولكنه كيف يمشي فوقه؟ لأن محبة الله نحونا أعظم من محبتنا نحن له.]
* لماذا "أخذته سحابة" (أع 2: 9)؟ هذه أيضًا كانت علامة أكيدة أنه صعد إلى السماء. إذ لم تأخذه نار، ولا مركبة نارية كما في حالة إيليا، وإنما "أخذته سحابة"، رمز للسماء. وكما يقول النبي: "الجاعل السحاب مركبته" (مز 104: 3). كما يُقال عن الآب نفسه. لذلك يقول نبي آخر: "الرب جالس على سحابة خفية" (إش 19: 1 LXX) .
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بهذا القول يخبر النبي أن عناية الله تُدَبِّر المياه والسحاب والرياح، ويمنح منافع من هذه كلِّها للعالم. وأيضًا أن طبيعة الله سريعة الحضور كأنها على أجنحة الرياح. أما علاليه فهي الأسرار الكنسية التي يشيدها ويسقفها بمياه المعمودية.
جعل مركبته السحاب أيضًا عندما ظهر لبني إسرائيل... وأيضًا عندما صعد ربنا من على جبل الزيتون إلى السماء، رفعته سحابة من تحت قدميه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لا بد أن يكون هناك ملائكة مسئولين عن الأعمال المقدسة، يرشدون إلى فهم النور الأزلي، إلى معرفة سرائر الله وعِلْم ألوهيته. الملائكة أيضًا مُبَشِّرون.
الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا،
وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً [4].
يليق بنا أن نعمل تحت قيادة الله، الذي يقيم منا أشبه بملائكة، نتسم بسرعة الحركة كالرياح، لأننا نعمل بنعمته الفائقة. ونحمل روح القوة، فنصير بالحق خدامه الملتهبين نارًا مقدسة.
لم يذكر الكتاب المقدس أن للسمائيين أي نوعٍ من الأجساد، بل قيل عنهم بوجه عام: "الصانع ملائكته أرواحًا، وخدامه لهيب نار" (عب 7:1؛ مز4:104). الملائكة أرواح (حب 7:1، 14؛ رؤ 14:16). يميل رأي آباء الكنيسة إلى القول بأن الملائكة أجسام روحانية، فهم إن قورنوا بالبشر يُحسَبون أرواحًا، لأنهم بلا جسد مادي ملموس مثل البشر، ولا يحتاجون أن يأكلوا أو يشربوا أو يستريحوا أو يتزوجوا الخ. وإن قورنوا بالله "الروح" فيُحسبون أجسادًا روحانية. قرَّر مجمع نيقية Nicea عام 784 م. أن للملائكة أجساد أثيرية أو نورانية، غير أن مجمع اللاتيران عام 1215 م. قرر أن الملائكة بلا أجساد نهائيًا، ومع هذا فإن بعض اللاهوتيين الكاثوليك والأرمن واللوثريين والمصلحين ينسبون للملائكة أجسامًا نقية .
يرى القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس أن الملائكة أرواح بلا أجسام.
يرد القديس كيرلس الكبير على ديؤدور وثيؤدور، قائلًا: [الملائكة هم أرواح ومن السماء، وليسوا أجسامًا. بما أنهم ليسوا مُجَسَّمين، فقد ظهروا ويظهرون للكاملين بأشباه مختلفة جسمية متخيلة. ظهروا لإليشع شبه مركبة وخيل، ولبلعام كرجلٍ مستلٍ سيفه، ولجدعون كرجلٍ ممسكٍ بعصا، ولدانيال كرجل يلبس ثياب الكرامة ومتمنطق بزنارٍ من ذهب الأوفير وجسمه أبيض اللون، ووجهه كمنظر البرق، وعيناه كمصابيح النار، وذراعاه كالنحاس اللامع، وصوت كلامه كقواتٍ كثيرة. وكان الملائكة يطيرون إلى القبر الإلهي وهم متمنطقون بثيابٍ بيضاءٍ .]
"خدامه نار ملتهبة"، هذه هي طبيعة السمائيين الذين يخدمون السماوي، النار الآكلة. فإنهم إذ يلتقون بنا يلهبون حياتنا بالشوق نحو الخالق، خلال عمل نعمته الفائقة، فيحترق ما فينا من خشب أو عشب أو قش، بينما يتلألأ ما فينا من ذهب أو فضة أو حجارة كريمة. هذه هي النار الإلهية العاملة في السمائيين، كما تعمل بنعمته في المؤمنين.
أما بخصوص النار المتواصلة، فقد قيل عن الله نفسه إنه نار آكلة (عب 12: 29)، خدامه أيضًا لهيب نار (مز 4:104). فبظهور المركبة الإلهية خلال نار متواصلة يُعلِن عن حضرة الله النار المتقدة، الذي يحرق الأشواك الخانقة للنفس، وفي نفس الوقت يهبها استنارة داخلية لتضيء كالبرق، فيكون لها "لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار".
نزل الرب علي جبل سيناء كنار آكلة، كان يتحدث مع موسى والجبل يُدَخِّن "وصعد دخانه كدخان أتون، وارتجف كل الجبل جدًا" (خر18:19). يقول المرتل عن الله: "قدامه تذهب نار" (مز 3:79)، إذ هو نفسه نار آكلة، وخدامه حوله ويتقدمونه كنارٍ ملتهبةٍ (مز 4:104) يحرقون من كان خشبًا أو عشبًا أو قشًا، كما ينقون من كان ذهبًا أو فضة أو حجارة كريمة.
* ما لم يبشر الخادم بنارٍ، فانه لا يُلْهِبُ من يكرز لهم.
القديس أغسطينوس
* "وخدامه لهيب نار". هذا يشير إلى نقاوتهم وإلى حقيقية أنهم لا يخضعون للخطية. يوجد تفسير آخر: إن كان إنسان مؤمنًا كمثال، فإن ملاكًا صالحًا يُرسَل إليه، ملاك من نور. إن كان خاطئًا يُرسَل إليه ملاك غضب متوهج يعذبه.
* هذه هي النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فألزمتهم بالقول: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا، إذ كان يكلمنا في الطريق، ويوضح لنا الكتب!" (لو 24: 32)
القديس جيروم
* لا يتحدث عن أحدهم (الملائكة) كابن. "الجاعل ملائكته رياحًا، وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). أما بالنسبة للابن، فيتحدث بما يليق به، ويقول أمورًا كثيرة عنه في الأنبياء.
* "لأنه قد عيَّن ملائكته حولك، ليحفظوك في كل طرقك" (مز 91: 11)... فإن البار يحتاج إلى معونة ملائكة الله، حتى لا تطرحه الشياطين، ولا يخترق قلبه "سهم يطير في الظلام" .
* يعلن كاتب "الراعي" (هرماس)، قائلًا إن ملاكيْن (واحد صالح والآخر شرير) يلازمان كل إنسانٍ؛ وكلما جاءت أفكار صالحة إلى عقولنا يُقال إنه يُقَدِّمها الملاك الصالح، وإن جاءت أفكار عكسية قيل إنها من تأثير الشرير .
* "لأن كل واحدٍ يتأثر بملاكيْن، واحد للبرّ والآخر للدنس. فإن وُجِدَتْ أفكار صالحة في قلوبنا، ما من شك أن ملاك الرب يتحدث إلينا، ولكن أن أتتْ على قلوبنا أفكار شريرة، فإن ملاك الشر هو الذي يخاطبنا!
* توجد ملائكة قد وُضِعَ لهم أن يتولوا الأعمال المقدسة، وهم الذين يُعَلِّمون فهم النور الأبدي، ومعرفة أسرار الله وعِلْم الإلهيات .
* كان للرسل ملائكة تسندهم في إتمام خدمتهم الكرازية وفي تكميل عملهم الإنجيلي .
* إن كان من بين الناس من نالوا كرامة الخدمة كإنجيليين، وإن كان يسوع المسيح نفسه قد جاء بالأخبار الصالحة السارة، وكرز بالإنجيل للمساكين، فإنه بكل تأكيد لن يستثنى خدامه الذين هم ملائكته الرياح وخدامه النار الملتهبة (مز 4:104) من أن يكونوا هم أيضًا مُبَشِّرين.
لذلك جاء الملاك إلى الرعاة، ومعه "مجد الرب الذي أضاء حولهم"، وقال لهم: "لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ، يكون لجميع الشعوب. إنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب" (لو 10:2-11). وفي وقت لم يكن بين الناس معرفة بسرّ الإنجيل، هؤلاء الذين هم أعظم من الناس الساكنين في السماوات، جيش الله، قد سبَّحوا الرب قائلين: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة". وإذ سبحوه عادوا إلى السماء، تاركين إيّانا لنتأمل كيف أن الفرح الذي جاء به ميلاد المسيح هو مجد لله في الأعالي. لقد تنازلوا إلى الأرض، ثم عادوا إلى موضع راحتهم، ليُمجدوا الله في الأعالي بيسوع المسيح. يتعجب الملائكة أيضًا للسلام الذي يحل بميلاد المسيح على الأرض مهد الحروب، والتي إليها يسقط إبليس كوكب الصبح من السماء، ليدخل في حربٍ مع يسوع ثم يندحر منها .
* عندما تَثْبُتُ في اتحاد مع المؤمنين باسمه، لابد أيضًا أن تَعْبُرَ إلي السموات، مجتازًا إلي ما وراء الأرض ومجاهلها، بل إلي ما فوق السماوات أيضًا وما يخصها، لأن الرب يسوع قد اختزن لنا في الله - كما في كنزٍ - آيات وعجائب أعظم بكثير مما ورد ذكره. ولا يمكن أن نستوعبها ونحن في طبيعةٍ ترتبط بالجسد، بل لابد أن نترك كل ما للجسد. وإني مقتنع أن الله قد ادَّخر لنا في نفسه أشياء تفوق روعتها كل ما رأته العيون كالشمس والقمر والكواكب، بل أكثر وأبهى مما اطلع عليه الملائكة القديسون الذين صنعهم الله أرواحًا ونارًا ملتهبة (مز 4:104؛ عب7:1). وسوف يكشف لنا عن هذه العجائب عندما تخلص الخليقة من عبودية العدو إلي حرية مجد أولاد الله (رو 21:8) .
العلامة أوريجينوس
* هو الله نفسه صانع الملائكة وبارئهم ومُخرِجهم من العدم إلى الوجود، وقد خلقهم على صورته الخاصة، طبيعة لا جسمية، على مثال ريح ما ونارٍ لا مادية. كما يقول داود الإلهي: "الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). وقد صمَّم الله فيهم الخفَّة والتوقد والحرارة وسرعة النفاذ والحدة في تلبية أوامره وخدمته والتسامي بذواتهم ونفوذهم من كل فكرٍ ماديٍ.
الأب يوحنا الدمشقي
* بقول النبي أرواح عن الملائكة، لأنهم غير منظورين بأعين جسدية، ولسرعتهم في قضاء أوامر الله. وقوله نار، لأنهم أقوياء مثل النار...
أيضًا الرسل هم ملائكة، لأنهم أخبروا العالم بالعهد الجديد. وهم أرواح لأنهم روحيون، ونار تلتهب، لأنهم أخذوا نعمة الروح القدس التي حلَّت عليهم شبه نار وأحرقوا عدم الإيمان وأضاءوا العالم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* هذه النار الإلهية أشعلتْ عظام الأنبياء، كما قال إرميا: "كان في قلبي كنارٍ محرقة محصورة في عظامي، فمللت من الإمساك، ولم أستطع" (إر 20: 9) .
القديس أمبروسيوس
* قوات السماء ليسوا مقدسين بطبيعتهم، لأنه لو كان الأمر هكذا لما اختلفوا عن الروح القدس. لكنهم مقدسون نسبيًا كامتياز لهم من التقديس بالروح القدس. فالحديد المُحَمَّى بالنار نراه كما لو كان نارًا، إلا أنه شيء والنار شيء آخر. هكذا الحال مع القوات السمائية يبدو جوهرهم كأنه ريح في العلا أو نار غير مادية .
القديس باسيليوس الكبير
* أول كل شيء قَبلَ الله تقدمة هابيل بسبب نقاوة قلبه، ورُفضتْ تقدمة قايين (تك4: 4). كيف نعرف أن تقدمة هابيل قُبلتْ، بينما رُفضتْ تقدمة قايين؟ وكيف شعر هابيل بقبول تقدمته؟ وكيف تأكَّد قايين من رفض تقدمته؟ سأحاول قدر استطاعتي شرح ذلك.
أنت تعلم يا عزيزي أن علامة التقدمة المقبولة من الله هو نزول نار من السماء وحرق التقدمة. عندما قدَّم هابيل وقايين تقدماتهما معًا، نزلت النار الحيَّة التي تخدم أمام الله (مز 104: 4) والتهمت ذبيحة هابيل النقيَّة، بينما لم تمس ذبيحة قايين غير النقيَّة. وهكذا عرف هابيل قبول تقدمته، وقايين رفْض تقدمته. لقد عُرفتْ ثمار قلب قايين بعد ذلك حين اُختبِر، ووُجِدَ أن قلبه مملوء غشًا، حين قتل شقيقه، وهكذا فما حبل به في فكره ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته .
القديس أفراهاط الحكيم الفارسي
* يبقى لنا أن نقارن بولس بالملائكة. لنترك الأرض ونصعد إلى أبواب السماء. لا يقل أحد إن كلماتنا تحمل جسارة فائقة إن كان الكتاب المقدس يدعو يوحنا ملاكًا وأيضًا الكهنة، فلماذا تتعجب حين نقول إن بولس يستحق أن يُدعَى هكذا لتفوقه في هذه الفضائل؟!
ما هو سبب عظمة الملائكة؟ طاعتهم لله، هذا ما أعجب داود فيهم: "أقوياء في الفضيلة، يطيعون كلمته" (مز 20:102). لكن طاعة بولس لا تُقاَرن حتى بالكثير من الكائنات غير المتجسدين. ما يجعلهم مباركين هو طاعتهم لوصية الله ورفضهم التام لعصيانه. هذا ما فعله بولس بإخلاص تامٍ. لقد تمم كلمة الله ووصاياه أيضًا. ليس فقط وصاياه، بل ما هو أكثر، كما أفصح قائلًا: "إذ وأنا أُبَشِّر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة" (1 كو 18:9).
ماذا يرى النبي في الملائكة ما يستحق الإعجاب؟ "الصانع ملائكته رياحًا، وخدامه نارًا ملتهبة" (مز 4:103). هذا أيضا نراه في بولس، كنارٍ وريحٍ عبْر الأرض طولًا وعرضًا في ترحاله...
هذا ما يجعل الأمر مميزًا بالأكثر، بينما كان بولس على الأرض في الجسد الفاني أظهر مثل هذه الشجاعة وهزم القوات غير المنظورة.
كم نُحسَب في لومٍ إذًا إن لم نجاهد متمثلين بمثل هذا الإنسان على وجه الخصوص الذي اجتمعتْ فيه كل الصفات الجليلة في إنسانٍ واحدٍ.
لنفكر مليًا في هذه الاعتبارات، فنكون بلا لومٍ.
لنجاهد لكي تكون لنا مثل غيرته، فنشاركه ذات البركات بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته الحانية، الذي له المجد والقوة، الآن وكل أوان، آمين .
* "الصانع ملائكته أروحًا، وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). فبولس يُقَدِّم لكم المشهد عينه. فهو كالروح والنار، يطوف الأرض كلها ويُطَهِّرها، حين لم يكن بعد قد اقتنى السماء، وفي ذلك أعجب العجب، من كونه وهو لا يزال حيًا في هذا العالم ولابسًا جسدًا مائتًا، قد ماثل القوات المُجرَدة عن الجسد .
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إله الكل الذي خلق ملائكته (أرواحًا) هو روح، "وخدامه لهيب نار". لهذا عند الرحيل من مصر أمر الجموع عَدَم لمْس الجبل حيث كان الله يُسَلِّمهم الناموس، لأنهم لم يكونوا قد اتسموا بهذه السمة. لكنه دعا موسى الطوباوي ليتسلمه، إذا كان متقدًا بالروح، وكان ذا نعمة لا تُطفَأ، قائلًا: "يقترب موسى وحده" (خر 24: 2). وقد دخل السحابة أيضًا. وحينما كان الجبل يدخن لم ينله أذى، بل بالحري نزل مُطهرًا من خلال كلمات الرب التي هي "فضة مصفاة في الأرض" (مز 12: 6)...
* عندما رغب بولس الطوباوي ألاَّ تبرد نعمة الروح المعطاة لنا، حذرنا قائلًا: "لا تطفئوا الروح" (1 تس 5: 19)، حتى نبقى شركاء مع المسيح. ذلك إن تمسكنا حتى النهاية بالروح الذي أخذناه، إذ قال: "لا تطفئوا..." ليس من أجل أن الروح موضوع تحت سلطان الإنسان أو أنه يحتمل آلامًا منه، بل لأن الإنسان غير الشاكر يرغب في إطفاء الروح علانية، ويصير كالأشرار الذين يضايقون الروح بأعمال غير مقدسة...
فإذ هم بلا فهم، مخادعين، ومحبين للخطية، وما زالوا سائرين في الظلام، فإنه ليس لهم ذلك النور الذي يضيء لكل إنسان آت إلى العالم (يو 1: 9).
لقد أَمسكت نار كهذه بإرميا النبي عندما كانت الكلمة فيه كنارٍ، قائلًا إنه لا يمكن أن يحتمل هذه النار (إر 20: 9)...
وجاء سيِّدنا يسوع المسيح المحب للإنسان لكي يلقي بهذه النار على الأرض، قائلًا: "ماذا أريد لو اضطرمت؟" (لو 12: 49).
لقد رغب الرب - كما شهد حزقيال (حز 18: 23، 32) - توبة الإنسان أكثر من موته، حتى ينتزع الشر عن الإنسان تمامًا، عندئذ يمكن للنفوس التي تَنَقَّتْ أن تأتي بثمر. فتثمر البذور التي بذرها (الرب) البعض بثلاثين والبعض بستين والآخر بمائة.
وكمثال، أولئك الذين مع كليوباس (لو 24: 32) مع أنهم كانوا ضعفاء في بداية الأمر بسبب نقص معلوماتهم، لكنهم أصبحوا بعد ذلك ملتهبين بكلمات المخلص، وأظهروا ثمار معرفته.
وبولس الطوباوي أيضًا عندما أمسك بهذه النار لم ينسبها إلى دمٍ ولحمٍ، ولكن كمُخْتَبرٍ للنعمة أصبح كارزًا بالكلمة (المسيح) .
البابا أثناسيوس الرسولي
* في كهفٍ حجريٍ في القبر الجديد الذي لنيقوديموس وضعوا ابن هذه الطوباوية.
وأيضا هذه الطاهرة أم ابن الله وضعوها في قبر في كهفٍ من الحجر.
كل جموع الرسل اجتمعوا، ووقفوا بجوارها بينما في الواقع سيدهم هو الذي وضعها معهم في القبر.
طغمات وأفواج وفرق من أبناء النور وحشد من الكائنات الملتهبة نارًا (مز 104: 4)،
السيرافيم الناريون بأجنحتهم المغطاة باللهيب، الكاروبيم الذين يحملون العرش تحركوا جميعًا ليُسَبِّحوا أوصنا.
أتباع جبرائيل، الجمع المتوهج نارًا يتحركون بطرق متنوعة بطبيعتهم.
أتباع ميخائيل الذين ينزلون باحتفالٍ وبفرحٍ ويسبحون "هليلويا" من أجل هذا اليوم.
امتلأت السماء والهواء من تسبيح السماويين الذين أتوا ونزلوا إلى موضع الأرض.
امتلأ الجو برائحة بخور عطرة وطاهرة من مباخر الملائكة الذين نزلوا.
القديس مار يعقوب السروجي
* لم تكن الوصية لمجرد أن يعيش الإنسان تلك الحياة الطبيعية التي قدَّمها له الله، بل لكي يحيا الفضيلة، أي في علاقة مع الله ووصيته.
لذلك فقد وهبه أن يعيش عندما شكَّله في نفس حية؛ وأوصاه أن يعيش في حياة الفضيلة عندما أمره بطاعة الوصية.
هكذا يظهر أن الله لم يخلق الإنسان لكي يموت... إنما الإنسان هو الذي جبل الموت لنفسه، ليس عن ضعفٍ أو جهلٍ لئلاَّ يُلام الخالق.
فالذي خدع الإنسان كان من قَبل ملاكًا، ولكن الإنسان - ضحية تلك الغواية - كان حُرًا، له السيادة على نفسه، بكونه على صورة الله ومثاله، فكان أقوى بكثير من أي ملاك، كذلك بكونه نفخة من فم الله كان أعظم من الكيان الروحي الذي للملائكة، إذ يقول: "الصانع ملائكته رياحًا (أرواحًا)، وخدامه نارًا ملتهبة" (مز 104: 4).
فلو كان الإنسان أضعف من الملائكة في السلطان وأقل منهم، ما كان قد جعل كل شيءٍ خاضعًا له، الأمر الذي لم يعطهِ للملائكة. وما كان يضع عليه عبء الوصية، لو لم يكن الإنسان قادرًا على احتمالها بدرجة عظيمة، وما كان يهدد بعقوبة الموت لمخلوقٍ يعرف الله أن لا ذنب له بسبب عجزه.
بالاختصار، لو أن الله خلقه ضعيفًا ما كان قد أعطاه حريةً واستقلالًا لإرادته، بل بالأحرى كان قد نزع عنه حقل هذه المواهب.
العلامة ترتليان
الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا،
فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [5].
يقف العلماء في دهشة بخصوص الأرض، من جهة تحرُّكها المستمر، وفي نفس الوقت يشعر الساكنون عليها أنها ثابتة ومستقرة، وأيضًا من جهة الجاذبية الأرضية. الله خالق الأرض وهبها قوانين طبيعية لراحة الإنسان وخدمته.
إن كان الإنسان الأول قد خُلِقَ من التراب (الأرض)، فإن الخالق يهتم أن يكرَّمه ويسنده حتى لا يتزعزع.
* ما هو أساس الكنيسة إلا ذاك الذي يقول عنه الرسول: "لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح" (1 كو 3: 11)... لقد أسَّس الكنيسة على المسيح الأساس. تتزعزع الكنيسة إن تزعزع الأساس.
القديس أغسطينوس
* بالحقيقة إنه لأمر عجيب كيف ثِقَل الأرض العظيم يستقر على قوة، فلا تتزعزع إلى الأبد. خلال عناية الله تبقى غير مضطربة.
القديس جيروم
* يقول النبي عن الإنسان أنه أرض، لأنه قد أسسه على اشتياق الإيمان، ولن يزول إلى دهر الدهور، أي إلى الدهر العتيد.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ.
فَوْقَ الْجِبَالِ تَقِفُ الْمِيَاهُ [6].
يرى البعض أن الحديث هنا يخص الطوفان الذي حلّ بالأرض في أيام نوح، كما ورد في سفر التكوين 7: 18-19. ويرى آخرون أنه يخص ما حلّ بالأرض أثناء الخليقة (تك 1: 9).
إن كانت البحار (المحيطات) عميقة للغاية، وتمثل رعبًا للإنسان الساكن على اليابسة، لكنها تسكب على الأرض نوعًا من الجمال كثوبٍ يزينها ويفيدها.
يرى القديس أغسطينوس أن الكنيسة تغمر بطوفان الاضطهادات في كل المسكونة حتى أن الجبال العالية أو القادة يختفون.
* هذه العبارة تعني تدبير الله غير الموصوف مع العجز عن إدراك حكمته غير المُدْرَكة. فكما أن عيوننا هذه تعجز عن النظر إلى العمق (الغمر) الذي لا يُسبَر غوره، هكذا لا يمكننا أيضًا أن نتأمل في جلال الله وحكمته...
بحسب النص العبري، يلزمنا أن نفهم "الثوب" أنه ثوب الأرض، فيكون المعنى أن الغمر (العمق) يدعونه محيطًا يحيط بالأرض كلها، بمعنى أن المياه تحول كل الأرض، وأن الأرض تشبه جزيرة...
"فوق الجبال تقف المياه". من الجانب الرمزي فإن المياه تشير إلى التعاليم والجبال إلى القديسين.
القديس جيروم
* جاء في ترجمة أكيلا وثاودونيون: "جعلت رداءها لجة (غمرًا). فيكون معناه أن مياهًا كثيرة اكتنفت الأرض من جوانبها كثوبٍ تغطيها. ومن شدة هبوب العواطف ترتفع أمواج البحار، وتكبر مثل الجبال، لكنها لا تفوق الأرض لأن أمرك يا رب مثل انتهار وكصوت الرعد يخيفها ويردها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مِنِ انْتِهَارِكَ تَهْرُبُ،
مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ تَفِرُّ [7].
يكشف المرتل عن سلطان الله، فإن كان قد خلق المحيطات لخدمة الساكنين على الأرض، وتُمَثِّل زينة جميلة لليابسة، إلا أنها مع أعماقها واتساعها تهرب من انتهار الرب لها. يقول الإنجيلي: "فخافوا خوفًا عظيمًا، وقالوا بعضهم لبعض: من هو هذا، فإن الريح أيضًا والبحر يطيعانه" (مر 4: 41).
إن كان الله يسمح بالضيقات على الكنيسة حتى تغطي الجبال، فإنه إذ ينتهر مياه هذا الطوفان تتراجع إلى الوراء، ولا تعود تضغط على الجبال، أو تُغَطِّيها. كمثال بطرس وبولس العملاقيْن قد غطاهما الطوفان إلى حين لكنهما الآن مُكَرَّمان من الأباطرة.
* الرعد هو صوت الرب، فهو أعطى أمرًا، والمياه أطاعته وانسحبتْ إلى موضوع واحد (تك 1: 9-10).
القديس جيروم
تَصْعَدُ إِلَى الْجِبَالِ.
تَنْزِلُ إِلَى الْبِقَاعِ،
إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَسَّسْتَهُ لَهَا [8].
يظن البعض أن الحديث هنا عن الجبال التي تصعد فوق سطح البحر، والوديان التي تنزل أحيانًا تحت سطح البحر، لكن من الواضح أن الحديث هنا خاص بالمياه. نراها تصعد إلى الجبال، حيث تكتسي بعض الجبال بالثلوج التي تذوب في بعض البلاد، وتتحول إلى بحيرات عند قمم الجبال كما في كاليفورنيا "big Bear"، وتنحدر أحيانًا من الجبال كما في الشلالات مثل نياجرا فول بكندا.
يرى القديس أغسطينوس أن الحديث هنا عن المياه، فإن الأمواج تثور وترتفع كما إلى الجبال ثم تهبط كما إلى الوديان. هكذا مياه الاضطهادات ترتفع لكي تغطي الجبال مثل الرسل والخدام لكنها تعود فتهبط هذه الموجات من الضيق.
* "تصعد إلى الجبال، تنزل إلى البقاع (الوديان)"؛ إشارة إلى قوة المياه، فإنها ترتفع إلى العُلا كما إلى الجبال ثم تغطس إلى أسفل إلى الوديان.
القديس جيروم
وَضَعْتَ لَهَا تُخُمًا لاَ تَتَعَدَّاهُ.
لاَ تَرْجِعُ لِتُغَطِّيَ الأَرْضَ [9].
عندما يقف الإنسان أمام هياج أمواج البحار والمحيطات يبدو له أنه ليس من قوة تقف أمام هذا الهياج. لكن الله قد وضع لها حدًا، والعجيب أن هذا الحد يُحَقِّقه بالرمل الذي يبدو تافهًا ولا قدرة له على المقاومة.
لن تتعدى الأمواج حدودها بدون سماح خالقها.
إن كان الله يسمح بالضيقات والاضطهادات أن تثور لتصير الأمواج الهائجة والمرتفعة كالجبال، فيبدو كأنه لا يستطيع أحد أن يقف أمامها، غير أنه يلزمنا ألا نخاف، فإن الله يصنع لها حدودًا لا تتعداها، فتصير كأمواج البحار التي لا تُغَطِّي الأرض.
* "وضعت لها تخمًا لا تتعداه". هذا يسبب بالحقيقة دهشة، أن تسمع هدير البحر وثورته الهائجة واندفاع الأمواج إلى أعلى كما إلى السماء، وتراها مندفعة كما لو كانت ستغرق العالم كله، وبكل قوتها تندفع نحو الشاطئ، وبعد ذلك تنسحب وتقف عند الحدود التي عينها لها الله، أما الناس فلا يحفظون أوامر الله.
القديس جيروم