منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 04 - 08 - 2023, 12:47 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,274,942

آرميا النبي | سّر ضعفها


سّر ضعفها:

12 اِبْهَتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ مِنْ هذَا، وَاقْشَعِرِّي وَتَحَيَّرِي جِدًّا، يَقُولُ الرَّبُّ. 13 لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً. 14 «أَعَبْدٌ إِسْرَائِيلُ، أَوْ مَوْلُودُ الْبَيْتِ هُوَ؟ لِمَاذَا صَارَ غَنِيمَةً؟ 15 زَمْجَرَتْ عَلَيْهِ الأَشْبَالُ. أَطْلَقَتْ صَوْتَهَا وَجَعَلَتْ أَرْضَهُ خَرِبَةً. أُحْرِقَتْ مُدُنُهُ فَلاَ سَاكِنَ. 16 وَبَنُو نُوفَ وَتَحْفَنِيسَ قَدْ شَجُّوا هَامَتَكِ. 17 أَمَا صَنَعْتِ هذَا بِنَفْسِكِ، إِذْ تَرَكْتِ الرَّبَّ إِلهَكِ حِينَمَا كَانَ مُسَيِّرَكِ فِي الطَّرِيقِ؟ 18 وَالآنَ مَا لَكِ وَطَرِيقَ مِصْرَ لِشُرْبِ مِيَاهِ شِيحُورَ؟ وَمَا لَكِ وَطَرِيقَ أَشُّورَ لِشُرْبِ مِيَاهِ النَّهْرِ؟ 19 يُوَبِّخُكِ شَرُّكِ، وَعِصْيَانُكِ يُؤَدِّبُكِ. فَاعْلَمِي وَانْظُرِي أَنَّ تَرْكَكِ الرَّبَّ إِلهَكِ شَرٌّ وَمُرٌّ، وَأَنَّ خَشْيَتِي لَيْسَتْ فِيكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ. 20 «لأَنَّهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ كَسَرْتُ نِيرَكِ وَقَطَعْتُ قُيُودَكِ، وَقُلْتِ: لاَ أَتَعَبَّدُ. لأَنَّكِ عَلَى كُلِّ أَكَمَةٍ عَالِيَةٍ وَتَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ أَنْتِ اضْطَجَعْتِ زَانِيَةً! 21 وَأَنَا قَدْ غَرَسْتُكِ كَرْمَةَ سُورَقَ، زَرْعَ حَقّ كُلَّهَا. فَكَيْفَ تَحَوَّلْتِ لِي سُرُوغَ جَفْنَةٍ غَرِيبَةٍ؟ 22 فَإِنَّكِ وَإِنِ اغْتَسَلْتِ بِنَطْرُونٍ، وَأَكْثَرْتِ لِنَفْسِكِ الأُشْنَانَ، فَقَدْ نُقِشَ إِثْمُكِ أَمَامِي، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. 23 كَيْفَ تَقُولِينَ: لَمْ أَتَنَجَّسْ. وَرَاءَ بَعْلِيمَ لَمْ أَذْهَبْ؟ انْظُرِي طَرِيقَكِ فِي الْوَادِي. اِعْرِفِي مَا عَمِلْتِ، يَا نَاقَةً خَفِيفَةً ضَبِعَةً فِي طُرُقِهَا! 24 يَا أَتَانَ الْفَرَإِ، قَدْ تَعَوَّدَتِ الْبَرِّيَّةَ! فِي شَهْوَةِ نَفْسِهَا تَسْتَنْشِقُ الرِّيحَ. عِنْدَ ضَبَعِهَا مَنْ يَرُدُّهَا؟ كُلُّ طَالِبِيهَا لاَ يُعْيُونَ. فِي شَهْرِهَا يَجِدُونَهَا. 25 اِحْفَظِي رِجْلَكِ مِنَ الْحَفَا وَحَلْقَكِ مِنَ الظَّمَإِ. فَقُلْتِ: بَاطِلٌ! لاَ! لأَنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ الْغُرَبَاءَ وَوَرَاءَهُمْ أَذْهَبُ. 26 كَخِزْيِ السَّارِقِ إِذَا وُجِدَ هكَذَا خِزْيُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ، هُمْ وَمُلُوكُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَكَهَنَتُهُمْ وَأَنْبِيَاؤُهُمْ، 27 قَائِلِينَ لِلْعُودِ: أَنْتَ أَبِي، وَلِلْحَجَرِ: أَنْتَ وَلَدْتَنِي. لأَنَّهُمْ حَوَّلُوا نَحْوِي الْقَفَا لاَ الْوَجْهَ، وَفِي وَقْتِ بَلِيَّتِهِمْ يَقُولُونَ: قُمْ وَخَلِّصْنَا. 28 فَأَيْنَ آلِهَتُكَ الَّتِي صَنَعْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَلْيَقُومُوا إِنْ كَانُوا يُخَلِّصُونَكَ فِي وَقْتِ بَلِيَّتِكَ. لأَنَّهُ عَلَى عَدَدِ مُدُنِكَ صَارَتْ آلِهَتُكَ يَا يَهُوذَا.

بعد هذا العتاب اللطيف الذي فيه أعلن أنه لم يهمل في حقهم ولا في حق آبائهم، بل دائمًا يرعاهم، أما هم فأبدلوه بآلهة غريبة، كشف لهم سرّ ضعفهم من جوانب كثيرة:
أولًا: تركها ينبوع الحياة واتكالها على ذاتها:
يُشهد الرب السموات على شعبه الذي استبدل مجده بأمور باطلة، لرفضهم الله ينبوع المياه الحية ونقرهم الآبار التي هي من عمل أيديهم الذاتية:
"ابهتي أيتها السمويات من هذا واقشعري وتحيري جدًا، يقول الرب،
لأن شعبي عمل شرين:
تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءً" [13].
من الصعب أن نتصور إنسانًا ما يُفضل مياه الأحواض على مياه الينابيع، لكنه لأجل راحة جسده يلتزم بالشرب من مياه الأحواض التي حفرها لنفسه في فناء منزله عن أن يقطع مسافات طويلة ليشرب من الينبوع. هذا يحمل رمزًا للإنسان الذي يختار الطريق الواسع السهل عن طريق الصليب الضيق. من جانب آخر يوضح النبي أن الذي يطلب مياه الأحواض التي حفرها بنفسه عوض مياه الينبوع الطبيعي غالبًا ما يخرج فارغ اليدين، لأنه سرعان ما تتشقق الأحواض وتتسرب المياه من الصخور.
يُعاتب الله شعبه، قائلًا: لقد رفضتموني ورفضتم عملي في أرواحكم وأجسادكم لتعملوا هواكم وإرادتكم الذاتية، فصرتم طبيعيين وجسدانيين لا روحيين. فنحن نعلم أن الرسول بولس قسم البشرية إلى ثلاثة أصناف: روحيين وطبيعيين وجسدانيين.
الإنسان الروحي هو الذي يقبل روح الله فيه ينبوع المياه الحية، عاملًا في روحه وجسده معًا، مقدسًا إياه بالكامل.
أما الإنسان الطبيعي فهو الذي يرفض الينبوع الحيّ لينقر لنفسه آبارًا ذاتيةهي من صنع إرادته، فيسلك حسب كبرياء قلبه حتى في الأمور الروحية.
والإنسان الجسداني، إذ يرفض عمل الروح فيه يستسلم لشهوات الجسد....
لعل الله كرر كلمة "آبار" مرتين، لأنهم حفروا آبارًا حسب إرادتهم الذاتية لأرواحهم، وحفروا آبارًا أيضًا حسب شهوات جسدهم، فسقطوا في الكبرياء والشهوات معًا.
ويرى آباء الكنيسة أن الإنسان يشرب من ينبوع المياه الحية الذي وهبه السيد المسيح لكنيسته المقدسة، فمن يخرج عنها ويقبل المعمودية من غيرها أو التعاليم الغريبة عنها إنما يشرب من الآبار الغريبة التي لا تضبط ماءً!
يقول القديس ايريناؤس: [الذين لا ينعمون بالشركة معه لا يتمتعون بالحياة من ثديي الأم، ولا ينعمون بالينبوع النقي الذي يصدر عن جسد المسيح، وإنما ينقرون لأنفسهم آبارًا مشققة من خنادق أرضية، فيشربون ماءً ملوثًا بالوحل، هاربين من إيمان الكنيسة لئلا يدانوا، ويحتقرون الروح لئلا يتعلموا].
ويقول القديس كبريانوس: [بالرغم من أنه لا توجد معمودية أخرى، إذهي معمودية واحدة، لكنهم يظنون أنهم قادرون على التعميد. لقد هجروا ينبوع الحياة ومع ذلك يعدون بتقديم نعمة المياه الحيّة المخلّصة. فالناس عندهم لا يغتسلون (من الخطية) إنما يتجمعون معًا. مثل هذا المولد (المعمودية) لا ينجب أولادًا لله بل للشيطان، فإن ولادتهم باطلة وقبولهم للمواعيد ليس حقًا].
وأيضًا: [مرة أخرى يحذر الكتاب المقدس قائلًا: تحفظ من المياه الغريبة ولا تشرب من ينبوع ماء غريب (أم 9: 19 الترجمة السبعينية)... كيف يقدر من هو خارج الكنيسة وغير قادرٍ على نزع خطاياه الخاصة أن يعمد غيره ويهبه غفران خطاياه؟!].
هكذا قدم الله لكنيسته ذاته ينبوع المياه الحية، خارجها لا ينعم الإنسان إلا بالآبار المشققة التي لا تضبط ماء.
ربنا يسوع المسيح هو الينبوع الحيّ يفيض على الكنيسة فيفجر في أولادها ينابيع حية، ويصيرون هم أيضًا أنفسهم أنهارًا، لذا يقول المرتل: "الأنهار لتصفق بالأيادي" (مز 98: 9)

ويعلق القديس جيروم، قائلًا: [تشرب الأنهار من الينبوع يسوع... هذه هي الأنهار التي تفيض خلال ينبوع المسيح. إنه الينبوع ونحن الأنهار، إن كنا بالحقيقة نستحق أن ندعى أنهارًا. المسيح هو الينبوع والقديسون هم أنهار، والأقل تقديسًا يدعون نهيرات، والبعض مجرد سيول هذه التي تجف مياههم عند التجرية ].
ويرى القديس أمبروسيوس أن اليهود رفضوا السيد المسيح الينبوع الحيّ فصاروا كالجزة التي وضعها جدعون حيث كانت وحدها جافة بينما كان على الأرض طلّ (قض 6: 39)، حيث سقط اليهود في جحد الإيمان بالسيد بينما قبلت الأمم الإيمان به .
ومن ناحية أخرى يرى القديس أمبروسيوس أن الله النار الآكلة (تث 4: 24) هو بعينه ينبوع المياه الحية: "ربنا يسوع المسيح كالنار يلهب قلوب السامعين له، وهو ينبوع المياه الذي يهب برودة. جاء يلقى نارًا على الأرض (لو 12: 49) ويهب مياه حية للعطاش (يو 7: 37-38)".
* جاء في سفر إرميا شهادة للآب كينبوع: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء" (إر 2: 13). وفي موضع آخر نقرأ أنهم قد تركوا الابن ينبوع الحكمة، وأيضًا عن الروح القدس: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا... يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14).
القديس جيروم
* الله بالحق هو الينبوع؛ ليت ذاك الذي يتوق إلى هذا الينبوع يسكب نفسه تحته، فلا يترك شيئًا فيه في ملكية الجسد، بل تفيض نفسه (بالحب) في كل موضع.
القديس أمبروسيوس
* كثيرون عطشى: الأبرار والخطاة أيضًا. الأولون عطشى إلى الحق، والآخرون إلى الملذات. يعطش الأبرار إلى الله، والخطاة إلى الذهب.
قيصريوس أسقف آرل
* إلى هذا النبع جاءت رفقه بجرتها لتملأها ماءً، إذ يقول الكتاب المقدس: "فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت" (تك 24: 16). وهكذا أيضًا نزلت الكنيسة أو النفس إلى نبع الحكمة لتملاْ جرتها وترفع تعاليم الحكمة النقية التي لم يرغب اليهود أن يرفعوها من الينبوع الفائض. اصغوا إليه إذ يقول الينبوع نفسه: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية" (إر 13: 2).
تعطش نفوس الأنبياء إلى هذا الينبوع، فيقول داود: "عطشت نفسي إلى الله الحيّ" (مز 42: 2-3)، لكي يروى ظمأه بغنى معرفة الله ويغسل دم الحماقة بمياه المجاري الروحية.
القديس أمبروسيوس
* لا يأخذ المؤمن قطرة من علم الشيطان، الفلك والسحر وغير ذلك من العلوم المقاومة للتقوى في الله. إنما له ينابيعه، يشرب من ينابيع إسرائيل، ينابيع الخلاص، لا من بئر سيحون. إنه لا يترك ينبوع الحياة ليكنز في الآبار المشققة (إر 2: 13). إنه يعلن أنه يسير في الطريق الملوكي، طريق ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). إنه طريق ملوكي إذ قال عنه النبي "اللهم إعطِ أحكامك للملك" (مز 72: 1). يليق بنا أن نتبع طريق الملك دون أن نميل منأي ناحية، لا إلى حقل ولا إلى الأعمال والأفكار الشيطانية.
العلامة أوريجينوس
في أيام إرميا ترك الشعب الله ينبوع المياه الحية ونقروا لأنفسهم أبارًا لا تضبط ماءً. فقد تظاهر فرعون مصر بالصداقة، وأعلن رغبته في حمايتهم من أشور، لكنه في الحقيقة كان يريد أن يقتنصهم لنفسه ويبتلعهم، وذلك كسيده إبليس الذي يقدم طرقًا تبدو كأنها للخلاص وهي مهلكة وخبيثة. لهذا يقول "زمجرت عليه الأشبال، أطلقت صوتها، وجعلت أرضه خربه، أحرقت مدنه فلا ساكن، وبنو نوف وتحفنيس قد شجوا هامتك" [14-15]. فبنو نوف (ممفيس) وتحفنيس هما مدينتان مصريتان يمثلان مملكة فرعون كلها، هذه التي اتكلت عليها لانقاذهم من أشور، فزمجرت عليهم كالأشبال وحولت أرضهم خرابًا وأفقدت مدنهم سكانها!
ولعل تكراره لكلمة "آبار" مرتين يشير أيضًا إلى تأرجح الشعب في ذلك الحين بين اعتمادهم على ملك بابل ضد فرعون مصر، أو العكس، فيرغبون في الحماية البشرية، يطلبون أن يرتووا من مياه الفرات أو نيل مصر عوض مياه الله الحية. يقول: "أما صنعت هذا بنفسك إذ تركت الرب إلهك حينما كان مسيرك في الطريق. والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه شيحور، ومالك وطريق أشور لشرب مياه النهر" [17-18].
يقصد بمياه شيحور مياه النيل، إذ جاء في إشعياء: "وغلتها زرع شيحور حصاد النيل على مياه كثيرة فصارت متجرة الأمم" (إش 23: 3).
يرى القديس جيرومأن كلمة "شيحور" تعني "النهر الوحل المملوء طميًا"، وربما دعي نهر النيل هكذا بسبب ما يحمله من طمي في فترة الفيضان.
إن كانت مصر تشير إلى محبة العالم بسبب خيراتها الكثيرة، وبابل تشير إلى الكبرياء بسبب ما وصلت إليه من كرامة زمنية وسطوة، فإن المؤمن كثيرًا ما ينسحب قلبه من الاتكال على عمل الله ليشبع شهوات جسده ويحقق محبته للأرضيات، أو بسبب روح الكبرياء التي يثور فيه، وفي كليهما يحرم نفسه من الارتواء بالحق.
في الرسالة الفصحية لعيد القيامة عام 335 م.
تطلع البابا أثناسيوس إلى فريقين يحتفلان بالعيد، فريق كالشعب القديم أراد أن ترتوي نفسه من مياه النيل في مصر أو من مياه الفرات في أشور عوض أن ترتوي من ينابيع الله الحية فصاروا في ظمأ أعظم، بينما رأى فريق آخر في المسيح المصلوب القائم من الأموات كل شبعه، فقال: [أنتم تعلمون أن للخطية خبزها الخاص أيضًا - خبز موتها - لهذا فهي تدعو محبي اللذة الذين بلا إفراز، قائلة: "المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ" (أم 9: 17). من يلمسهما لا يدرك أن الذين يرتبطون بالأمور الأرضية يهلكون مع الخطية.
لكن يا للأسف! حتى حينما يتطلع الإنسان إلى الشبع لا يجد ثمر خطاياه مبهجًا، وكما تقول حكمة الله في موضع آخر: "خبز الكذب لذيذ للإنسان، ومن بعد يمتلئ فمه حصى" (أم 20: 17). و"لأن شفتي المرأة الأجنبية (الزانية) تقطران عسلًا، وإلى حين لذيذة، لكن عاقبتها مرة أكثر من الأفسنتين، وحادة أكثر من سيف ذي حدين" (راجع أم 5: 3-4). فيأكل ويُسر إلى حين، لكن بعد ذلك إذ يُقطع من الله يهلك. لهذا السبب يحاول النبي أن يحفظ الخطاة من الابتعاد عن الله، محذرًا: "والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه النيل؟ ومالك وطريق أشور لشرب مياه الفرات؟" [18]].
ثانيًا: ارتباطها بالآلهة الباطلة جعلها باطلة:
ليس فقط رفضت الله ينبوع المياه الحية لتطلب ما لذاتها، الآبار التي من عمل يديها، أو لتلتجئ حسب فكرها البشري للحماية بملك بابل أو فرعون مصر، وإنما سّر ضعفها أنها استعاضت عن الله الحيّ بالآلهة الوثنية الباطلة، فعوض اتحادها بالحيّ لتكونهي حيَّة ارتبطت بالباطل فتصير باطلة، إذ يقول: "ساروا وراء الباطل وصاروا باطلًا" [5]... وفي عتاب يقول: "أين آلهتكِ التي صنعتِ لنفسكِ، فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" [28]... هذا هو سر ضعفها: رفضت الله لتقبل من هم ليسوا آلهة آلهة لها...
يقول الرب لها عن تركها له: "يوبخكِ شركِ، وعصيانكِ يؤدبك، فاعلمي وأنظري أن تركك الرب إلهك شر ومرّ وأن خشيتي ليست فيك" [19].
لو دققنا في العبارة لرأينا الله يكشف لنا عن حقيقة كثيرًا ما تغيب عن ذهننا، أن الذي يوبخ الإنسان شره، والذي يؤدبه عصيانه... حقًا يقوم الله بالتوبيخ وفي محبته يؤدب بحزمٍ، ربما يبدو قاسيًا للغاية، لكننا لا نلوم الله بل أنفسنا فإن ما يحل بنا من توبيخ أو تأديب هو ثمرة طبيعية للشر والعصيان. ما يسمح به الرب لنا هو أن نجني القليل جدًا من ثمر ما أرتكبته أيدينا، وما صنعناه بكامل حريتنا، لينزع عنا الشر ولنرجع عن العصيان فيتوقف التوبيخ ولا يكون للتأديب موضع.
هكذا يجني الإنسان ثمر عمله، وكما يقول الأب ثيوناس: "الذي يوقد شرًا يهلك به "، فإن "كل إنسان بحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22)، وكما يقول الرب: "يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم وبالشرار الذي أوقدتموه" (إش 50: 11). أما عمل هذه النار التي يقدحها الأشرار فهو حرمانهم من الله، إذ ُتسحب قلوبهم من الله وتنزع خشية الرب عنها، فتصير حياتهم مملوءة مرارة. هكذا يقول: "فأعلمي وانظري أن تركك الرب إلهك شر ومّر وأن خشيتي ليست فيك يقول السيد رب الجنود" [19].
استخدم داود النبي تعبير "رب الجنود" عندما حاور جليات الجبار (1 صم 17: 45) ليؤكد أن الله هو قائد المعركة، المدافع عن شعبه. وجاء في المزمور: "رب الجنود معنا... إله يعقوب ملجأنا" (مز 46: 7، 11). استخدم إرميا النبي أيضًا هذا التعبير ليعلن أنه قائد المعركة لحماية شعبه، لكن إن رفضه شعبه صار الله لتحطيمهم!
كشف لها عن ضعفها بثلاث تشبيهات أخذها من الحيوانات والبشر والنباتات:
أ. وصفها كحيوانٍ جامحٍ لا يريد العودة إلى صاحبه [20].
ب. كزانية تمارس الفساد علانية بلا خجل، على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء،أي في المواضع التي تتعبد فيها للبعل. وكأن عبادتها قد امتزجت بالرجاسات.
ج. ككرمة منتقاة، لكنها قدمت عنبًا لا نفع منه (ع 20، إش 5). يُشار إلى شعب الله في الكتاب المقدس بأربعة أنواع من الشجر: الكرمة والزيتونة والتينة والعوسج. وقد سبق لنا الحديث عن الكرمة والتينة أثناء دراستنا لسفر هوشع. إن كانت الكرمة كما الخمر (عصير العنب) يشيران في الكتاب المقدس إلى الفرح الروحي، فإن عدم الاثمار أو إنتاج عنب رديء يعني فقدان الكنيسة (أو الشعب) روح الفرح بالرب ، واتسامها بالغم والتذمر الدائم. جاء مسيحنا ككرمة ليجعل منا أغصانًا (يو 15) تشهد لفرحه السماوي، وسلامه الإلهي الفائق.
لقد رفضت عروسه الارتباط به وأحلت البعل عوضًا عنه: "لأنه منذ القديم كسرت نيرك وقطعت قيودك وقلت لا أتعبد، لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية" [20]. لقد قبلت البعل عريسًا لها عوض رجلها فصارت زانية.
لماذا قيل إن إسرائيل قد اضَّجَعت كزانية على كل مرتفعٍ (أكمة عالية) وتحت كل شجرةٍ مظلَّلة (خضراء) (إر 2: 20؛ 3: 6)؟
يقول العلامة أوريجينوس: [لأنهم يتكلمون بتشامخٍ في علوّ، ويستخدمون البلاغة المزهرة. على كل الأحوال إنهم لا يعملون حسبما ينطقون].
وإذ أراد تأكيد مسئوليتها عما تفعله، يقول لها: "وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولتٍ لي سروغ جفنة غريبة؟!" [21]. وكأنه يقول لها: لقد خلقتك كلكِ حق بلا بطلان ولا فساد، زرعتك كرمة مختارة من بذار طيبة، فلماذا تحولتِ إلى كرمة غريبة دنيئة؟!
يعلق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله إن الله صنع لنا كل ما كان ممكنًا أن يكون ممتعًا، لكننا نحن الذين أوجدنا الشر والخطايا لأنفسنا. لهذا يبدو النبي وكأنه يسأل من ملأت المرارة نفوسهم عوض الرقة أو الوداعة التي أودعها الله فينا، قائلًا: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟
["إذ ليس الموت من صنع الله، ولا هلاك الأحياء يُسرّه. لأنه إنما خلق الجميع للبقاء. فمواليد العالم إنما ُكونت معافاة وليس فيهم سم مهلك ولا ولاية للجحيم على الأرض" (حك 1: 13-14). إذا خرجت قليلًا عن الموضوع أقول: مِن أين إذًا جاء الموت؟ "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24).
لقد صنع الله كل ما يمكن أن يكون جميلًا لنا، ونحن خلقنا لأنفسنا الشر والخطايا.
يثير النبي تساؤلًا أمام هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم بالمرارة المخالفة للعذوبة التي وضعها الله فيهم، فيقول: "فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة"؟
يقول: إن الله لم يصنع العَرَج، لكنه على العكس أعطى الجميع أرجلًا نشطة خفيفة الحركة، ثم حدثت علة جعلتهم يعرجون!
خلق الله من البدء جميع الأعضاء سليمة، ثم حدثت علة جعلت بعض هذه الأعضاء تتألم.
هكذا أيضًا ُصنِعَت النفس على صورة الله، ليس فقط بالنسبة للإنسان الأول وإنما بالنسبة لكل إنسان، لأن الكلمات: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) تمتد إلى كل البشر. وما ُيقال عن آدم ُيقال أيضًا عن جميع البشر. كان آدم يحمل في البداية "صورة الله"، ثم أضاف عليها بخطاياه "صورة الترابي" (1 كو 15: 49) هكذا حدث معكل البشر، فقد كانت صورة الله سابقة لصورة البشر.
"لقد لبسنا" ونحن خطاة "صورة الترابي". لنلبس إذًا بتوبتنا "صورة السماوي"، عالمين رغم كل شيء أن الخليقة قد صنعت على صورة السماوي.
تضع كلمات الكتاب المقدس هذا التساؤل أمام الخطاة؛ فيقول لهم الله بنغمة العتاب: "فكيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟" فأنا "قد غرستكِ زرع حق كلها".
سبق لنا القول أن الله غرس نفس الإنسان مثل "كرمة جميلة"، لكن بتغيره وانحرافه، تحول إلى عكس ما أراد الخالق.
"وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها"، وليس "زرع حق بعضها"، ليست زرع حق هنا وزرع رديء هناك، ولكنها "زرع حق كلها" فكيف تحولتِ إلى مرارة على الرغم من إنني خلقتكِ كُلكِ بجملتك حق؟ كيف أصبحت كرمة غريبة؟]
خلقها الله كرمة مقدسة له، لكنها اختارت لنفسها أن ترفضه، فصارت "سروغ جفنة غريبة"، لذا لا يدعوها "كرمتي" بل مجرد "كرمة"،هي رفضت انتسابه إليها كإله، وهو يرفض انتسابها إليه حتى تعود إليه مقدسة فيه.
يقول القديس أغسطينوس: [إنه لم يقل كرمتي، فلو كانت كرمته لكانت صالحة، أما كونها رديئة فهي ليست له لذا فهي غريبة].
في العهد القديم "غرسه كرم سورق (كرمًا مختارًا)" (إش 5: 2)،أي غرس كرمًا من أفضل أنواع الكروم، كشعبٍ مختارٍ نال عهدًا مع الله، لكي يحمل "الحق" فيه، كقول الرب: "وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولت إلى سروغ جفنة غريبة؟!" [12].
أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء "الحق" نفسه، كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه كرمة يحملنا فيه أغصانًا حية تأتي بثمر كثير (يو 15: 5).
* عندما يقول: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو 15: 1) يميز نفسه دون شك عن تلك التي وجه إليها الكلمات: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة؟" [21]، إذ كيف يمكن لكرمة حقيقية يُنتظر أن تصنع عنبًا فصنعت شوكًا؟!
* انتظرت أن تصنع ثمرًا فوجدت خطية.
القديس أغسطينوس
* اشتقت أن تعطى (الكرمة) خمرًا فأخرجت شوكًا. ها أنتم ترون الإكليل الذي أتزين به!
القديس كيرلس الأورشليمي
لم يقف الأمر عند إفساد نفسها بنفسها باعتزالها إلهها وعدم انتسابه إليها وانتسابها إليه، إنما حتى عندما أرادت إصلاح نفسها اتكأت على ذراعها البشري عوض الرجوع إليه كمخلصٍ لها. كأنها حتى في ندامتها يزداد انشقاقها عن الله الحقيقي لأنها عوض الاعتراف بخطاياها حاولت تبرير نفسها. لذا يقول لها: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الأشنان فقد نُقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب" [22].
إذ تكون النفوس عنيدة للغاية يهدد الله بالعقوبة دون أن يفتح بابًا للرجاء، ليس لكي يسقطوا في اليأس، وإنما لكي لا يحوِّلوا هذا الرجاء إلى استهانة واستخفاف. فعندما أرسل يونان النبي إلى أهل نينوى بدا في الحديث كأن لا رجاء لهم في الخلاص من العقوبة، لكنهم إذ تابوا غفر لهم ودافع عنهم أمام نبيه.
* عندما يقول للمدينة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي" [22]، لم يقل هذا لكي ليلقى بهم في اليأس، وإنما ليثيرهم للتوبة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
ظنت أنها قادرة بذاتها أن ُتغسل بالنطرون أو بالإشنان (صابون أو منظف)... ولم تدرك أن هذا من عمل الخالق نفسه، هو وحده الذي يغسل النفس ويقدس الجسد!
وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[فلننظر بعد ذلك إلى العبارة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي يقول السيد الرب".
هل معني هذا أن النفس الخاطئة تظن أنه باغتسالها بالنطرون المادي تضع نهاية لإثمها وخطيتها؟!
هل يظن أحد أنه باغتساله بذلك العشب (الإشنان) الذي ينبت من الأرض يطهر نفسه، حتى تقول كلمة الله للكرمة المتحولة إلى المرارة والتي أصبحت غريبة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسك الإشنان فقد نقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب"؟
لا، ولكن يجب علينا أن نعرف أن كلمة الله ُكليّ القدرة، قادر على شفاء الكل "لأن كلمة الله حيّ وفعال وأمضى من كل سيف ذي حدين" (عب 4: 12).
توجد إذًا كلمة عبارة عن نطرون، وأخرى عبارة عن عشب، كلمة بمجرد نطقها تتطهر الخطايا التي من نوع معين. ولكن كما أن كلمات النطرون والعشب لا تصلح علاجًا لكل الخطايا، إذ توجد خطايا تتطلب علاجًا آخر خلاف العشب والنطرون، قيل للنفس التي ظنت أن خطاياها يمكن أن تُغسل بالنطرون والعشب: "فإنكِ وإن اغتسلتِ... يقول السيد الرب".
انظروا إلى الجروح: توجد جروح تُعالج بالمراهم والدهون، وأخرى تُعالج بالزيت، وأخرى بعصابة وأربطة. هذه الأنواع من العلاج تكفي لشفائها، ولكن هناك جروح أخرى قيل عنها: "ليس فيه صحة بل جرح واحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت. بِلادكم خربة. مُدنكم مُحرقة بالنار" (إش 1: 6-7). نفس الشيء بالنسبة للخطايا: بعضها يؤدي إلى اتساخ النفس هذه تحتاج إلى كلمة نطرون أو كلمة عشب لتنظيفها، وبعضها لا يمكن علاجه بهذه الطريقة لأنها تُعاني أكثر بكثير من مجرد الاتساخ.
أنظر كيف أن الرب الذي يعرف أن يفرق بين الخطايا، يعلن في إشعياء قائلًا: "غسل السيد قذر بنات صهيون، ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وبروح الإحراق" (إش 4: 4).
قذر ودم؛ القذر "بروح القضاء" والدم "بروح الإحراق".
فإذا ارتكبت خطية، حتى ولو لم تكن "خطية للموت" (يو 5: 16)، فقد اتَّسَخْتْ: وسوف "يغسل السيد قذر بنات صهيون وينقي دم أورشليم من وسطها". وما نحتاجه نحن حينما نخطئ خطية أخطر ليس هو النطرون أو العشب وإنما نحتاج إلى "روح الإحراق".
لعلّى الآن قد عرفت ما هو سبب أن السيد المسيح يُعمِّد "بالروح القدس والنار" (لو 3: 16).ليس أنه يعمد إنسانًا واحد بالروح القدس والنار، وإنما هو يعمد الإنسان البار بالروح القدس، أما الإنسان الآخر الذي بعدما يؤمن وبعدما يكون مستحقًا للروح القدس، يخطئ من جديد، فإن الرب يغسله بالنار.
طوبى لمن اعتمد بالروح القدس ولا يحتاج أن ُيعَمَّد بالنار، ومسكين جدًا من يكون محتاجًا أن يعمد بالنار. ومع ذلك فإن يسوع المسيح يستطيع أن يعمد في الحالتين. مكتوب: "يخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" (إش 11: 1). القضيب للمُعَاقَبِين والغصن للصالحين. كذلك فإن الله "نار آكلة" (عب 12: 29)؛و"الله نور" (1 يو 1: 5) نار آكلة للخطاة، ونور للأبرار والقديسين].
إذ حاولت تغطية خطاياها بتبريرها لذاتها فضحها أمام نفسها، قائلًا لها: "أنظري طريقك في الوادي" [23]. هنا يقصد وادي بني هنوم (2 مل 23: 10، إر 7: 31-32؛ 19: 5-6) الذي فيه كانوا يقدمون أطفالهم محرقات للأوثان. هذا يكشف كيف سيطرت عبادة الأوثان على قلوبهم وحياتهم، فلم يمارسوها لأجل منافعٍ زمنيةٍ وإنما بلغ بهم الأمر إلى حرق أطفالهم كذبائح آدمية وهم يرقصون ويتهللون أمام الأصنام.
عاد مرة أخرى يوبخها على تركها إياه وجريها وراء البعليم الغريب، مؤكدًا لها أنها باعته، وليتها باعته بثمن وإنما بلا ثمن، إذ لم تقتنِ من البعليم شيئًا سوى الانحدار من الجبال العالية المقدسة والنزول إلى الوادي [23]. يقول لها: "أنظري طريقك في الوادي" [23]؛ لقد تركتي الحياة السمائية العالية، إذ أنزلك البعليم إلى السفليات وانحدر بك إلى الأرضيات. ولعله بقوله هذا يذكرها بما تفعله في وادي هنوم حيث تقدم أطفالها الصغار ذبائح بشرية وضحايا للبعل (إر 7: 31)، فتفقدهم بلا ثمن! في مرارة يقول لها: "اعرفي ما عملتِ يا ناقة خفيفة، ضبعة في طريقها، يا أتان الفرا قد تعودت البرية، في شهوة نفسها تستنشق الريح" [23-24]. لقد صارت كأنثى الجمل التي بلا قائد لها، تتحرك بخفة وبغير توقفٍ بلا هدف ولا نفع، تجري في كل اتجاه متخبطة؛ وكالضبعة التي تحفر القبور لتأكل الجثث، رائحتها كريهة، جبانة بطبعها! صارت كأنثى الحمار الوحشي التي تعودت الحياة في برية القفر، ولا تستريح وسط الخيرات والبركات، إنما تقضي كل وقتها تجري وراء الذكور من هنا ومن هناك، تفقدها رغبتها في الاشباع الجنسي اتزانها وراحتها. صارت تشتهي أن تستنشق الريح!
ماذا أخذت من تركها إلهها واهب الخيرات وانجذابها إلى البعليم، إلا فقدان إنسانيتها وأولادها وتعقلها وكل بركة لتعيش هكذا هائمة كمن في البرية!
صارت في خطر كمن يسلك في أرض وعرة حافيًا، وقد جف حلقه من الظمأ، ومع ذلك لا يريد أن يلبس نعلًا ولا أن يشرب ماءً! "احفظي رجلكِ من الحفا وحلقكِ من الظمأ، فقلتِ باطل: لا، لأني قد أحببت الغرباء ووراءهم أذهب!" [25].
يتوسل إليها أن ترجع ليحفظ قدميها من العثرة ويروي حلقها عوض الظمأ، لكنها في إصرارٍ ترفض قائلة: "لا"، لأنها تظن أن جريها وراء الغرباء مع التعرض للخطر والظمأ أفضل لها من التمتع بأحضان عريسها الإلهي ونوال بركاته المشبعة. لذا يبدأ بالتهديد بعد التوسل، قائلًا: "كخزي السارق إذا وُجد، هكذا خزي بيت إسرائيل، هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم" [26]. يبقى السارق متهللًا بسرقته حتى ولو لم يستخدم المسروق، ويفتخر أنه استطاع أن يسرق ولم يدرِ به أحد، لكنه متى ٌقبض عليه صار في خزي ولا ينفع الندم، هكذا فعل إسرائيل على أعلى المستويات من ملوك ورؤساء وكهنة وأنبياء لكنهم سيقضون يومًا أمام الله كالسارق في دار القضاء، وليس من يشفع فيهم، ولا من يستر على خزيهم، لأنهم اختاروا العود (الأصنام الخشبية) أبًا لهم، والحجر (الأوثان الحجرية) أمًا [27]، ورفضوا الله أباهم! تركوا القادر أن يخلصهم في يوم القضاء والتصقوا بمن يهلكهم ويهلك معهم!
في مرارة يقول "حولوا نحوي القفا لا الوجه"، لقد رفضوا أبوتي واقتنوا لأنفسهم أبًا وأمًا هما من الخشب والحجارةّ، تركوني أنا الخالق محب البشر وارتموا في أحضان الخليقة الجامدة بعدما تدنست!
يرى العلامة أوريجينوس أن الأشرار يختفون عن وجه الرب إذ قيل: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" [27]، أما الأبرار فيقفون أمامه بثقة ليهبهم الحياة المقدسة (1 يو 3: 21)، قائلين مع اليشع النبي: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 مل 5: 16).
يليق بالحامل للعرش الإلهي وقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر (قفا)، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى الله بلا عائق. لذلك عندما أخطأ الشعب لله عاتبهم قائلًا: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" [27]. التعبير الذي استخدمة أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (إر 7: 24، 18: 17، 32: 33).
ثالثًا: التعريج بين الفريقين:
قلنا أن سر ضعفهم هو تركهم ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبار مياه ذاتية من عندياتهم. هذا من جانب ومن جانب الآخر تركوا آباهم الحيّ ليقبلوا العشتاروت الخشبي وهي إلهة الخصوبة الأنثى أبًا لهم، أو من الإله الذكر الحجري أمًا لهم. إذ يقول: "قائلين للعدو أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" [27]. هنا نوع من السخرية، إذ يعلن لهم النبي أنهم فقدوا كل إدراك طبيعي وكل منطقٍ بشري، فجعلوا من الأنثى أبًا، ومن الذكر أمًا ولودًا لهم! إنهم لم يفقدوا فقط قدرتهم على التمييز بين الله الحقيقي والآلهة الباطلة، وإنما حتى التمييز بين الذكر والأنثى، والأب والأم!
وأخيرًا فإنهم حتى في وسط الضيق لا يرجعون إلى الرب بكل قلوبهم بل يعرجون بين الفريقين، يطلبون الله ليخلصهم أما قلبهم فملتصق بالبعل.
يقول "وفي وقت بليتهم يقولون قم وخلصنا، فأين آلهتك التي صنعتِ لنفسكِ؟! فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" [27-28].
إنها ذات الكلمات التي سبق فوبخ بها آباءهم في عصر القضاة: "أنتم قد تركتموني وعبدتم آلهة أخرى، لذلك لا أعود أخلصكم، امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها، لتخلصكم هي في زمان ضيقكم" (قض 10: 13-14). يقول هذا عن حب، فإنهم إذ أدركوا خطأهم ورجعوا إليه يقول الكتاب: "ضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل" (قض 10: 16)... إنه ينتظر رجوعنا ولا يحتمل دموعنا!
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
آرميا النبي | بأمرٍ إلهي نزل إرميا النبي إلى وادٍ منخفض
آرميا النبي | يقدم الله أيضًا إجابة لتساؤل النبي
آرميا النبي | جوانب من سّر ضعفها
آرميا النبي | كشف لها عن ضعفها بثلاث تشبيهات
آرميا النبي | يعلن الرب لإرميا النبي حدود خدمته


الساعة الآن 02:39 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024