رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا، يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ [14]. الله في محبته يتعامل معنا حسب ضعفنا، فهو يعْلم أننا تراب نحتاج إلى من يقيمنا منه. * فانه يليق به بالأكثر، أن يصلي النبي بهذه الكلمات: "اذكر أننا تراب نحن"، أي تعاطف معنا؛ فإنك تعرف (إذ تألمتَ) بخبرة شخصية المعاناة من ضعف الجسد. لذلك فإن الرب المُعَلِّم صالح للغاية موثوق فيه، ومتعاطف معنا؛ وذلك من قبل عظم محبته للطبيعة الخاصة بكل إنسانٍ. القديس إكليمنضس السكندري * لقد فعل إرميا نفس الشيء، محاولًا التماس المغفرة للخطاة، فقال: "وإن تكن آثامنا تشهد علينا يا رب، فاعمل لأجل اسمك" (إر 7:14). وأيضًا: "عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته" (إر 23:10)، "يذكر أننا تراب نحن" (مز 14:103). من عادة المتضرعين عن الخطاة، أنهم إذ لا يجدون أمرًا صالحًا يقولونه في حقهم، يبحثون عن أي ظلٍ لعذرٍ لهم حتى وإن كان ليس صحيحًا حرفيًا أو لاهوتيًا. لأن ذلك يُحسَب نوعًا من العزاء للنائحين على عناد الخطاة. إذًا لا تفحص الكلام حرفيًا، لكن ضع في ذهنك أنها كلمات تصدر عن نفسٍ مُرَّة تسعى أن تجد فرصة لإنقاذ الخطاة، وحكمًا عادلًا لحسابهم . القديس يوحنا الذهبي الفم * "لأنه يعرف جبلتنا"، أي ضعفنا. إنه يعرف ما قد خلقه، كيف يسقط، وكيف يُصلح أمره، وكيف يتبناه، وكيف يغنيه[26]. * يستطيع في رحمته أن ينظر إلى ضعفنا ويرانا، كما قيل: "يذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14). إنه ذاك الذي صنع الإنسان من التراب وأحياه، من أجل صنعته الخزفية أسلم ابنه إلى الموت، من يستطيع أن يوضح، من يستحق أن يدرك مقدار محبته لنا؟ القديس أغسطينوس * "لماذا نسيتني؟" (مز 42: 9) ولماذا رفضتني؟ (مز 43: 2)، والله لا ينسى، فمن المستحيل حقًا أن ينسى، لأن كل الأحداث الماضية والمستقبلة حاضرة عنده، لكن خطايانا جعلته يوقع عقوبةَ النسيان، لكي يمحو أولئك الذين يعرف أنهم غير مستحقين لافتقاده، لأن "الرب يعرف خاصته" (2 تى 2: 19). وعندما يقترف البعضُ شرًا، يقول لهم: "أنا لا أعرفكم" (مت 7: 23). فمن إذن يقدر أن يقول لله: "لماذا نسيتني؟" لكن هذا الشعور يشترك فيه القديسون ونحن الضعفاء. فالقديس يتحدث وكأنه واعٍ لاستحقاقه. لكنه كلما ازداد قداسةً، ازداد تواضعًا، لكن إن كان القديس يتحدث بمشقةٍ بالغة، فمن أنا الخاطئ حقًا، إلا أن أعود لتلك الشكوى: لماذا نسيتَ عملك؟ (قابل عب 6: 10). لماذا نسيت افتقادك؟ أجل لماذا نسيتَ ضعفي؟ لأنه من هو الإنسان حتى تفتقده؟" (قابل مز 8: 5 (4)؛ عب 2: 6). لهذا لا تنسَ من هو ضعيف، تذكرْ يا رب أنك خلقتني ضعيفًا، تذكرْ أنك جبلتني ترابًا" (قابل مز 103 :14، أي 10: 9)، فكيف أقوى على الوقوف إن لم تشملني برعايتك دائمًا لتقَّوىَ هذا الطين، متى تأتي قوتي من وجهك؟ "فحين تحجب وجهك يرتاعُ كل شيءٍ!" (مز 104: 29) إن مارستَ عنايتك فالويل لي! فأنت لا ترى فيَّ سوى أدرانَ الخطايا! وما من فائدة أن أُترك، أو يُعتنى بي، لأنه حتى ونحن موضع رعايتك، نقترف الآثام! لكن مع ذلك، لا أزال متيقن أن الله لا يرفض الذين يعتني بهم، لأنه يُطَهِّر الذين يراهم، ونار توقد أمامه تحرق الخطية (قابل يؤ 2:3) . القديس أمبروسيوس * بينما يُطلب منَّا التعمُّق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه، نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست بأقل من مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة، لذلك يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها" (رو 2: 1)، فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة، وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة. فلنُصَلِّ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدَ العون والمساعدة، ولنَسع ألاَّ نسقط كما سقطوا، فإنَّ "الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس" (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا، وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟! إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتك نفسك بمحاكمة الآخرين، فاعلمْ أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته. فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه، هذا كان حال المرتل المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يا رب يا سيِّد، فمن يقف" (مز 130: 3). وفي موضع آخر يكشف المرتل عن ضعف الإنسان، ويتلمَّس له الصفح والمغفرة، إذ ورد قوله: "اذكرْ أننا تراب نحن" (مز 103: 14)... سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: "لا تدينوا لكي لا تدانوا"، والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين، والحُكْم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا، ونُجَرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا، سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا. فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم، وفحص أسقامهم وأمراضهم، وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير، وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟! إنك لمتجاسر إذا قمتَ بذلك، فالأوْلى بك أن تنزع عنك مخازيك، وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبون فيما هو دون جرائمك. أتريد أن تنجلي بصوتك، فتقف على مبلغٍ ما في اغتياب الآخرين من مقت وشرٍ؟ كان السيِّد يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وما أن وقع نظر الفريسيِّين على التلاميذ حتى اقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: انظرْ كيف أن تلاميذك يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع، نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين عبثوا بحُرْمَة القدس، وتعدُّوا على وصاياه وأوامره على حد نبوَّة إشعياء عنهم: "كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون، صارت فضتك زغْلًا، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء اللصوص، كل واحدٍ منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم، ودعوى الأرملة لا تصلْ إليهم" (إش 1: 21-23). بالرغم من هذه المُنكرَات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس، تمادوا في خِزيهم ومكرهم، ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّي على يوم السبت المقدَّس، إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم، إذ أجابهم بالقول: "ويلٌ لكم أيها الكتبة والفرِّيسيُّون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين يُصفُّون عن البعوضة، ويبلعون الجمل" (مت 23: 23-24). كان الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا، يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخازي نكرانًا، وأعظم الشرور فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: "قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت 23: 27). هذا هو شأن المرائي وهو يدين الآخرين، ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب، وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه. إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة، طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب، بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يَصحُ له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذَى به، وله عند ذلك حق الحُكْم على الآخرين، إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة. أما إذا كان المُرشِد مهمِلًا ومرذولًا، فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين، كذلك ينصحنا الرسل الطوباويون بالقول: "لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يع 3: 1)، ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات" (مت 5: 19) . القديس كيرلس الكبير |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|