الاستقرار النفسي والعاطفي رؤية مسيحية
القمص بيشوي وديع
+كل إنسان فينا محتاج أن تستقر عاطفته وتشبع بالحب وتأخذ كفايتها من دفء الحنان والشبع العاطفي.ولقد أوجد الرب في الحياة قنوات كثيرة يصل منها هذا الإشباع إلى نفوس الجياع والعطاش إليه. وقبل أن نعرض لهذه القنوات نود أن نؤكد أن مصدر الحب أصلاً هوالله. "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه"(1يو4: 6). ومن خلال هذا الحب الينبوع الغزير والمصدر الأصيل للحب تأخذ كل القنوات وتفيض على المحتاجين.
+نخطئ إذن ونضل كثيراً إذا التمسنا الحب وطلبنا الأستقرار من خلال الارتماء في أحضان غريبة وقنوات نجسة لا تمنح القلب حباً بقدر ما تزيده فراغاً وتلطخ النفس قباحة وتشويهاً.
+ونحن هنا نخاطب بالذات أبنائنا الفتيان والفتيات, الشبان والشابات لأنهم معرضون بحكم مراحل النمو والانطلاق الحسي والعاطفي- إلى فوران العواطف وإثارة الغرائز فيندفعون دون فهم أو روية لتكوين علاقات عاطفية مبكرة في سن غير ناضج وبفكر غير مسئول. وهكذا تطيش عواطفهم إلى مجرد لهو عبثي بعلاقات وتبادلات مجوفة لمشاعر غير صادقة ولا أصيلة تجاة الجنس الآخر. وأقول إنها غير صادقة ولا أصيلة لسبب هام وجوهري هو أن هذه العلاقات تفتقر إلى عناصر أساسية هي:
•أن يكون مصدرها الله.
•أن تكون في الوقت الناضج المناسب.
•أن تكون من خلال قنوات روحية مقدسة.
+إذن الأمر محتاج أن نبدأ رحلة الأستقرار العاطفي بدءاً بمرحلة الطفولة ونعومة الأظافر. والمسئولية هنا تقع على عاتق الوالدية الحكيمة ممثلة في الأبوة الحانية الدافئة, والأمومة الواعية العطوفة. إن الوالدين مسئولون تماماً عن تربية أبنائهم في جو الحب الحكيم الواعي فيشبوا شباعى بالعاطفة مرتوين بالحب الأصيل, فلا يلتمسونه خارج الأسوار الحصينة التي لأورشليم (أعني خارج أسرهم الممسوحة بالحب أو قلوبهم المخصصة لله).
+وهكذا كلما نما الإنسان في الحب الطاهر مسنوداً بدفء الأسرة ورعاية الكنيسة, وسهر الخدام المسئولين عن تربية النشء ويقظتهم ، وفيض الحب المنهمر من قلوبهم السخية على أولادهم ومخدوميهم، فحينئذ ينعم الإنسان باستقرار عاطفي ينمو يوماً فيوماً إلى أن يصل إلى النضج الكافي والمسئول الذي يؤهلهم لزيجة مسيحية فائقة، مبنية على الشبع والأستقرار وليس الهوى الردئ والعاطفة الكاذبة الهوجاء التي لانجني منها سوى بيوت متهالكة: بنت يوم تهلك وتنهار (حتى ولو كان هذا اليوم فترة زمنية معدودة بشهور أو سنوات).
+وثمة نقطة أخرى ننقاشها ونحن نعرض للأستقرار العاطفي ألا وهي الاستقرار الزيجي من خلال الارتباط بشريك الحياة وتكوين أسرة سعيدة مستقرة تنعم بالحب المتبادل بين أفرادها وتختبر حياة الشركة والبذل والعطاء بمحبة غامرة تشمل كل أفرادها وتستر عليهم بستر المحبة الربانية، والدفء الإلهي.
+وقد نتفق على فكرة حصول الشاب أو الشابة على قدر كبير من الأستقرار العاطفي والهدوء النفسي حينما يعثر أحدهما على الأنيس والشريك ويتبادلان العواطف الحبية النبيلة في إطار من القداسة والتعفف والاحترام المتبادل بمشاعر راقية ممسوحة بالنعمة وعمل الروح. ولكننا نود أن نؤكد على حقيقة أخرى مكملة لهذا المعنى وهي أن هذا الأستقرار الذي ينعم به أي من طرفي الزواج يلزمه أن يسبقه استقرار كل منهما في الرب بالتقوى والعبادة الروحانية. لأن استقرار النفس البشرية في أحضان عريسها السماوي يؤهلها طبيعياً للاستقرار في العلاقة مع الشريك الأرضي.
+وعلى صعيد التكريس نقول للنفوس المكرسة والبتولة وكل من اختار الرب عريساً حقيقياً لنفسه: ينبغي قبل أن نبحث عن نمط التكريس أو الرهبنة أو الأختلاء عموماً بالرب أن نبحث عن شبع نفوسنا وتمتعنا بجمال الله وحلاوة العشرة معه في داخل القلب. فالنفس التي تود أن تكرس حياتها للرب عليها أن تشبع منه وتستقر فيه وتنتمي إليه وتقتنع داخلياً بأن معه على الأرض لا تريد أصلاً شئ. وهكذا بعد أن تستقر داخلياً بعاطفة قوية مشهود لها من الجميع ومن الحق نفسه يمكن أن تتقدم وتنطلق في مجال حي يكرس القلب والكيان كله لحساب من أحبته واستقرت فيه.
+حقاً أن العاطفة الملتهبة حباً للرب بصدق وعزيمة كاملة تخترق الحواجز والعقبات حتى تستقر في الله أولاً وأخيراً.ولعل هذا المعنى عاش فيه واختبره القديس أوغسطينوس بعد توبته ودخوله في عشرة حبية مع الرب فطفق يقول : (أيها الرب الصالح أقطع من قلبي محبة هذا العالم وأبدل حبي له بحبي لك. وأنا أعلم أن محبتي فبك ستلهيني عن ميلي إليه ، فانحل منه بغير اغتصاب لأرتبط بك إلى الأبد في حب شديد ثابت!).
+نعود فنقول عن مهمة توصيل النفس البشرية إلى الشبع والاستقرار العاطفي ،وتربية نفوس سوية غير مهزوزة أو مضطربة هي مسئولية الأطراف المتعددة التي أخذت على عاتقها حمل نير الخدمة ورعاية النفوس. وكما ذكرت فلنبدأ بالوالدين والرعاة والكهنة والخدام والمربين والمنشغلين بمجالات التربية والرعاية.
+وأكون صريحاً- وأنا اناقش هذا المجال الحيوي لميادين الأستقرار- إذا قلت أن على الكنيسة أن تواجه التركات المحملة بالديون الآتية عليها من الأسر والعائلات التي أخفقت في مهمة إشباع أولادها عاطفياً إما عن جهل أو فتور روحي أو طياشة أغرقتهم في العالم هم وذويهم وأبنائهم.
هذا معناه أن الكنيسة مطالبة- أكثر من أي وقت مضى- بزيادة الجهد وتكثيف الجرعات الروحية المشبعة التي تؤصل النفوس في الحب, وتتعامل مع كيان الإنسان في أعماقه. وحينما يصل عمل الروح القدس وتأثيرات النعمة إلى النفوس والقلوب ينكشف أمامها جمال الإله الأبرع جمالاً من بني البشر, فتشبع النفس حبياً بعاطفة ملتهبة نحو الله, وينطبق عليها قول إشعياء النبي وهو يصف استقرار النفس من بعد الذل والاضطراب فيقول: "أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية هأنذا أبني بالأثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك. وأجعل شرفك ياقوتاً وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة. وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيراً. بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين وعن الإرتعاب فلا يدنو منك" (إش54: 11- 14).
+عودة مرة أخرى إلى الكنيسة وجهدها المطلوب في هذا الميدان. إن مهمتها بالحق ثقيلة وطويلة خصوصاً في زماننا المعاصر الذي اتجه فيه كثير من الشباب إلى علاقات وارتباطات هزيلة نابعة من الفراغ الهائل الذي تعيشه قلوبهم عاطفياً. ولعل من البديهي-روحياً وعقلياً- أن نؤكد أن الفراغ لا يٌملأ بفراغ أشد منه أو أعمق منه تجويفاً. فالإنسان غير المستقر عاطفياً والفقير في دسم المحبة ينبغي أن نهيئ له موائد الشركة المقدسة وفرص الأغابي والمودة الأخوية ممسوحة بالعفة والطهارة, وهكذا يشبع بالحب ,وفي الحب يهنأ ويستقر.
+ما أجمل هذه الصورة الحبية المستقرة التي يرسمها لنا سفر أعمال الرسل لحياة المؤمنين الأوائل في كنيسة الرسل: "وجميع الذين آمنوا كانوا معاً وكان عندهم كل شئ مشتركاً...وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون"(أع4: 44- 47). بالحقيقة إنها صورة جميلة لكنيسة ونفوس مستقرة, ومؤمنين فرحين بالرب ومستقرين فيه بالفرح والحب والسلام.
+هنا وينبغي أن نحذر بشدة من الاتجاهات الاجتماعية ذات الطابع الدنيوي التي تفشت في بعض الأماكن والخدمات بدعوى الانفتاح وإطلاق طاقات الشباب, فاختلطت الأوراق وقصرت الرؤيا وضاع الهدف الروحي ورؤية الملكوت وصار شبع الشباب العاطفي هدفاً بغير تحقيق، وعنواناً بغير شرح، وغاية بغير أصول!
ليت الرب يعيننا لنخدم خدمة مرضية مشبعة للنفوس موصلة إياهم للهدف الحقيقي وهو المتعة بالله والاستقرار فيه وهكذا ننعم بملكوت سماوي فيه حب وعاطفة واستقرار.