03 - 06 - 2023, 04:10 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
السبعون أُسبوعًا
إذ كان دانيال يحمل في قلبه حبه لشعبه، بل ولكل البشرية، وهبه الله نعمة الحكمة والفهم مع النبوة. كشف للملوك أحلامهم وفسرها لهم، كما أُعلن له عن رؤى تخص الأحداث المستقبلية الخاصة بالعالم كله. الآن في شيخوخته، إذ لاحظ أن الله سبق فوعد بالعودة من السبي بعد سبعين عامًا كما جاء في سفر إرميا، بدأ يسأل بروح الاتضاع عن هذا الوعد الإلهي، يطلب من الله الصفح عن خطايا شعبه، وتحقيق وعده معهم، فوهبه الله رؤيا السبعين أسبوعًا، يعلن له فيها ليس فقط عن عودة الشعب إلى أورشليم، بل وعودة البشرية إلى الأحضان الإلهية، بتحديد موعد التجسد الإلهي وتقديم ذبيحة المسيح الفريدة.
جاءت هذه النبوة المسيحانية تصحح مفاهيم اليهود، فإنهم إذ كانوا ينتظرون العودة من السبي لإقامة مملكة يهودية مجيدة، أكد لهم أن كلمة الله المتجسد آتٍ ليُقيم مملكته بذبيحة نفسه، فيهب المؤمنين مجدًا داخليًا، لا مملكة زمنية.
1. دانيال دارس النبوات:
"في السنة الأولى لداريوس بن أحشويرش من نسل الماديِّين الذي ملك على مملكة الكلدانيِّين" [1].
تمت أحداث هذا الأصحاح بعد سقوط بابل، في السنة الأولى من حكم داريوس بن أحشويرش أو Astyages كما يدعوه المؤرخ زينوفون، أي تقريبًا في ذات التاريخ الذي للأصحاح السادس، حوالي سنة 537 ق.م.، قبل أن يسمح كورش لليهود بالعودة إلى أورشليم بسنة. كان اسم أحشويرش شائعًا بين كثير من ملوك مملكة فارس ومادي.
بالقول "الذي مُلك made king" يعني أن داريوس لم يصر ملكًا ببسالته، إنما وُهب له المُلك من آخر؛ أي من كورش ابن أخته وزوج ابنته.
"في السنة الأولى من مُلكه،
أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمال سبعين سنة على خراب أورشليم" [2].
يظهر دانيال ليس كنبي فحسب، لكنه أيضًا كدارسٍ للنبوات (إر 25: 9-11؛ 29: 10؛ 31: 38؛ 2 أي 36: 21)، يدرس كلمة الله والنبوات، ويمزج دراسته بالصلاة، مقدمًا ثلاث صلوات كل يوم. لم تكن دراسته لإشباع لذة فكرية، أو كحب استطلاعٍ ليتعلم شيئًا جديدًا، ولكن للتمتع بوعود الله. كان دانيال قد كبر في السن، وأُحيل على المعاش، قضى حوالي 69 عامًا في السبي منذ عام 606 ق.م. إلى عام 537 ق.م. (حتى لحظات هذه الرؤيا)؛ أما قلبه فلم يشخْ قط، ولا اعتزل العمل الإلهي كرجل الله، بل مع الزمن كانت نفسه تمتلئ قوة ورجاءً في مواعيد الله الصادقة. لهذا التجأ دانيال إلى الكتاب المقدس، يجد فيه كنز هذه المواعيد التي يتمسك بها. هذا وقد مزج دراسته للكتاب بحياة النسك والصلاة بروح الانسحاق أمام الله.
"أنا دانيال فهمت من الكتب" [2]. يزعم بعض النقاد المتحررين أن كلمة "الكتب" جاءت مُعرَّفة في اللغة العبرية، وهذا يعني أن دانيال النبي كان يتحدث عن قانونٍ كاملٍ لأسفار العهد القديم، في حين أنهم يزعمون أن هذا القانون لم يتم إلاَّ في القرن الثاني ق.م، وما يدعيه النقاد مبني على أفكار القرون الثلاثة الماضية وقد أثبتت الدراسات العلمية والأبحاث بطلان هذه المزاعم:
أولًا: لم يكتب الأنبياء أسفارهم لكي يخفوها حتى يأتي من يضعها في القانون كما توهم النقاد، وإنما كان الشعب يحفظ ما جاء في أسفار الأنبياء قبل أن تُكتب، لأن ما بها من إعلانات أُعلنت على الشعب أولًا ثم دُونت في أسفارٍ بالروح القدس بعد ذلك.
ثانيًا: كانت هذه الأسفار تُجمع في الهيكل ومع الأفراد، خاصة الأنبياء وعلماء الدين. وبالطبع فإن كل ما سبق فكُتب قبل دانيال كان معه نسخة منه. كانت النسخة الأصلية توضع دائمًا في الهيكل، كما وُجدت نسخ عديدة في المجامع التي أُنشئت في السبي للعبادة اليهودية وكبديلٍ مؤقت للهيكل.
2. دانيال رجل الصلاة:
إذ فتح دانيال الكتاب المقدس واكتشف كنوز المواعيد السمائية أدرك أن التمتع بهذه الكنوز يحتاج إلى الصلاة الممتزجة بالصوم مع الاتضاع والانسحاق. لقد كشف هذا السفر في أكثر من موضع عن شخصية دانيال كرجل صلاة. يُلاحظ في صلاته هنا الآتي:
أ. الصلاة كلقاء حيّ مع الله:
إذ يعلم أنه لم يكن هو أو شعبه مستعدًا روحيًا لتحقيق ما وعد به الله، التجأ إلى الله يعترف بخطاياه كما يعترف ببرّ الله [3-14]. بهذا يعترف دانيال أنه ينتظر العمل الإلهي ليس عن استحقاقٍ خاصٍ به أو بالشعب، أي ليس عن برٍّ بشري [18].
"فوجهت وجهي إلى الله السيِّد،
طالبًا بالصلاة والتضرعات، بالصوم والمسح والرماد" [3].
الصلاة بالنسبة لدانيال ليست عملًا روتينيًا أو واجبًا يلتزم به، إنما هي تمتع برؤية وجه الله بعينيْ القلب، إذ يقول: "وجّهت وجهي إلى الله"، حتى يدخل معه في حوارٍ، بروح الحب والاتضاع. بهذا حقق ما قاله سليمان الحكيم يوم تدشين بيت الرب: "إذا أخطأوا إليك، لأنه ليس إنسان لا يخطئ، وغضبت عليهم ودفعتهم أمام العدو، وسباهم سابوهم إلى أرض العدو، بعيدة أو قريبة، فإذا ردوا إلى قلوبهم في الأرض التي يُسبون إليها، ورجعوا وتضرعوا إليك في أرض سبيهم، قائلين: قد أخطأنا وعوِّجنا وأذنبنا، ورجعوا إليك من كل قلوبهم، ومن كل أنفسهم في أرض أعدائهم الذين سبوهم، وصلُّوا إليك نحو أرضهم التي أعطيت لآبائهم، نحو المدينة التي اخترت، والبيت الذي بنيت لاسمك، فاسمع في السماء..." (1 مل 8: 46-48).
ب. لم ينقص دانيال الإيمان أن الله يُحقق مواعيده:
* سأل دانيال الله بمسحٍ ورمادٍ لكي يحقق وعده، ليس لأن دانيال كان ينقصه الإيمان بخصوص ما سيحدث في المستقبل، بل بالأحرى أراد أن يتجنب خطر الشعور بالأمان الذي يولد لامبالاة، واللآمبالاة تولد عصيانًا لله.
القديس جيروم ج. الشعور بالعلاقة الشخصية مع الله:
فيدعو: "الرب إلهي" [4، 20]. فإن كان يعترف بخطاياه هو وشعبه، لكنه يتقدم لله لا في رعبٍ، بل في ثقة ويقين بالله صديقه الشخصي والمنتسب إليه، واهب الوعود الصادقة.
"وصليت إلى الرب إلهي واعترفت وقلت:
أيُّها الرب الإله العظيم المهوب،
حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه" [4].
* "وصليت إليك... أيها الرب الإله القدير المهوب"، بمعنى: أنت مخوف للذين يستخفون بوصاياك.
القديس جيروم د. الشعور بمشاركته شعبه خطاياه:
فلا يلقي باللوم عليهم وحدهم، بل وعلى نفسه معهم.يُقدم لنا دانيال النبي مادة صلاته واعترافه، وهو يمزج بينهما، إذ يعترف في اتضاعٍ بعظمة الله المهوب ومراحمه كما يعترف بخطاياه هو وشعبه. يبدأ صلاته بالاعتراف بمجد الله وعنايته الفائقة بشعبه.
لقد عرف دانيال أن الله يُتمم مواعيده لحافظي وصاياه. هذا ويربط الكتاب المقدس بين العهد الإلهي والمراحم الإلهية، إذ أقام العهد معتمدًا على مراحمه. عبر كل العصور يشعر المؤمن أن الله أمين في مواعيده وصادق ورحوم، إنما يليق بالمؤمن أن يعد نفسه للتمتع بالمواعيد الإلهية والمراحم. وذلك بإعلان إيمانه وثقته في الله مع توبته عن خطاياه. يقول الرسول: "أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا" (1 كو 1: 9)، "ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 10: 13).
"أمين هو الرب الذي سيثبتكم ويحفظكم من الشرير" (2 تس 3: 3).
"أخطأنا وأثِمنا وعملنا الشرّ،
وتمرَّدنا، وحِدنا عن وصاياك وعن أحكامك" [5].
إذ يستمر النبي في الاعتراف بخطاياه يُعلن أن ما حلّ به وبشعبه إنما بسبب خطاياهم، فالسبيّ هو تأديب عادل بسبب العصيان. ليس من حقهم التذمُّر على وحشية العدو الذي سباهم وما لحق بهم من أضرارٍ مادية وعارٍ وخزي. هذا وكثيرًا ما ينسب خطايا الشعب إليه،
وكما يقول القديس جيروم: [كان يتطلع إلى خطايا الشعب كما لو كان قد ارتكبها هو شخصيًا على أساس أنه واحد منهم، كما نقرأ هكذا عن الرسول في الرسالة إلى أهل رومية].
إذ نقترب إلى الله بالصلاة مع الاعتراف لا نظن أننا ننال شيئًا بصلواتنا، لكننا كمجرمين في حقه نسترضيه بإيماننا بحبه ومراحمه وبره.
استخدم دانيال النبي أكثر من تعبير في اعترافه بالخطايا، منها:
- أخطأنا chetanu، ولعلها ترتبط بكلمة "شيطان"، لأن طبيعة الشيطان بعد سقوطه هو أن يُخطئ في حق الله. ونحن إذ نخطئ، نرفض أبوة الله، لنعلن البنوة للشيطان. وكما قال السيِّد المسيح لليهود المخطئين: "أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44).
- أثِمنا، أي ارتكبنا الإثم أو الظلم.
- عملنا الشرّ، صار سلوكنا غير لائق.
- تمردنا reshegn، والتمرد أشر من الخطية، لأن فيه تحدي لوصية الله وأحكامه. ففي التمرد رفض للنور الإلهي المقدم لنا، كقول المرتل: "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز 119: 105)، وقبول للظلمة عن معرفة وبإرادة، وليس عن ضعفٍ أو جهلٍ.
وما سمعنا من عبيدك الأنبياء،
الذين باسمك كلموا ملوكنا ورؤساءنا وآباءنا وكل شعب الأرض" [6].
لم يُقدم النبي تبريرًا للخطأ، بل على العكس يبرر تأديب الله الذي حذرهم عن طريق أنبيائه. هذا وقد اشترك الكل في الخطأ، سواء على مستوى القيادات المدنية أو الدينية أو على المستوى الشعبي، فقد اندفع الكل نحو الشرّ بصورة جماعية.
"لك يا سيِّد البرّ.
أما لنا فخزْي الوجوه، كما هو اليوم.
لرجال يهوذا ولسكان أورشليم ولكل إسرائيل، القريبين والبعيدين، في كل الأراضي التي طردتهم إليها من أجل خيانتهم التي خانوك إياَّها" [7].
إن كانوا قد سقطوا تحت الغضب الإلهي، ففي غضبه هو بار، أما هم فيليق بهم خزْي الوجوه، أي السقوط بوجوههم أمامه معترفين بخطأهم. وكما يقول الرسول: "ليكن الله صادقًا، وكل إنسانٍ كاذبًا، كما هو مكتوب لكي تتبرر في كلامك، وتغلب متى حوكمت" (رو 3: 4). لا نستطيع أن نمجد الله، خاصة ونحن ساقطون تحت التأديب ما لم نكتشف خطايانا ونعترف بها وندرك حكمته من تأديبنا.
يقصد بالقريبين والبعيدين يهوذا وإسرائيل، حيث سُبي إسرائيل منذ زمن بعيد وتشتتوا أكثر من يهوذا.هؤلاء طردوا من أراضيهم بسبب الخيانة، لذا لاق بهم ألاَّ يرفعوا وجوههم، بل في خزي يعترفون للرب.
"يا سيِّد لنا خزي الوجوه لملوكنا لرؤسائنا ولآبائنا،
أخطأنا إليك.
للرب إلهنا المراحم والمغفرة، لأننا تمردنا عليه" [8-9].
يعود فيُكمل النبي اعترافه أمام الله عن نفسه وعن الشعب بقياداته. حقًا لقد استحق الكل خاصة الملوك والعظماء والآباء خزْي الوجوه. وكما جاء في إشعياء: "كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس، وليس فيه صحة، بل جُرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت" (إش 1: 6).
وما سمعنا صوت الرب إلهنا لنسلك في شرائعه،
التي جعلها أمامنا عن يد عبيده الأنبياء.
وكل إسرائيل قد تعدى على شريعتك،
وحادوا لئلاَّ يسمعوا صوتك،
فسكبت علينا اللعنة والحلف المكتوب في شريعة موسى عبد الله،
لأننا أخطأنا إليه" [10-11].
ارتكب إسرائيل خطأين خطيرين:
أ. عدم الطاعة لشريعة الله التي أُعلنت لهم، والتي صارت بين أيديهم. ليس فيها شيء غامض أو موضع شكٍ، فقد أعلن الله عن برّه وإرادته ووصاياه بكل وضوح خلال شرائعه. هذا يجعل الشعب مستحقًا لعقوبة مضاعفة.
ب. لم ينصتوا لصوت الأنبياء الذين حذروهم [6].
لم يحاول دانيال أن يبرر خطأ الشعب، بل أكد أمانة الله في مواعيده وعدم تقصيره من جهة شعبه. مرة أخرى يؤكد أن التعدي كان جماعيًّا. انسكبت اللعنة على الشعب بكل فئاته كفيضان لا يمكن الهروب منه. يستخدم هنا كلمة "سكبت tittach" وهي تستخدم في صهر المعادن وسكبها على أجسام المجرمين، هكذا كانت إحساسات المسبيِّين من جهة مرارة السبي والحرمان من بلادهم وهيكلهم وحريتهم. وهكذا كانت نفوسهم مُرّة من جهة تأديبات الله لهم. لكن الله سبق فحذرهم، باسطًا يديه إليهم منذ أجيال طويلة، بل منذ نشأة هذا الشعب في أيام موسى القائد الأول لهم. أنهم بلا عذر! هذا وقد حسب النبي كل خطية مهما كان دافعها موجهة ضد الله نفسه [11].
يعلق القديس جيروم على هذه العبارة قائلًا: ["وسكبت علينا (اللعنة) قطرة قطرة" (11 LXX)، بمعنى لا تسكب علينا كل غضبك، لأننا لا نقدر أن نحتمله، بل تسكب مجرد قطرة من غضبك لكي نعود إليك عندما نسقط في شبكتك].
"وقد أقام كلماته التي تكلم بها علينا،
وعلى قضاتنا الذين قضوا لنا،
ليجلب علينا شرًا عظيمًا،
ما لم يُجْرَ تحت السموات كلها كما أُجْرِيَ على أورشليم" [12].
كأن ما حلّ بالشعب من تأديبات إنما هو تثبيت لما سبق أن أنبأ به على لسان موسى النبي منذ زمن بعيد. لقد سبق فحذر ليس فقط عامة الشعب، ولكن حتى الذين وهبهم حق القضاء؛ فإنه ليس أحد فوق القانون الإلهي. ليس لجسدٍ أن يفتخر أمام الله، ولا يعفيه مركزه المدني أو الديني من التأديب الإلهي. لقد نال القادة سلطانًا من الله، لكن في حدود ناموسه وإرادته. السلطان الممنوح من الله لا يتستر على خطاياهم، ولا يحميهم من التأديب.
لقد امتدت فترة السبي إلى سبعين عامًا، لكن لم يتحرك الشعب بالتوبة، ولا رجعوا عن آثامهم وقبلوا الحق الإلهي.
لقد اختار الرب أورشليم مدينة مقدسة له، لكنها إذ أخطأت وعصت وأصرت على عدم التوبة، صار تأديبها عظيمًا، لم يُسمع عنه من قبل في كل المسكونة [12].
"كما كُتب في شريعة موسى قد جاء علينا كل هذا الشرّ،
ولم نتضرع إلى وجه الرب إلهنا،
لنرجع من آثامنا، ونفطن بحقِّك" [13].
يعترف دانيال النبي أن تأديب الرب حلّ بهم، ومع هذا لم ينتفعوا من هذا التأديب، للأسباب التالية:
أ. لم يتضرعوا إلى وجه الرب. حقًا لقد مارسوا صلوات كثيرة، سواء الذين بقوا في مدن إسرائيل ويهوذا أو الذين سُبوا؛ مارس الكهنة والقادة والشعب صلوات جماعية وفردية وعائلية، لكنها في عينيْ الله لا تُحسب تضرعًا إلى وجه الرب. مارسوا الشكليات الظاهرة في رياء، أما قلوبهم فلم ترتفع نحو السماء، ولا دخلت في حوارٍ حيٍّ مع الله. لم تصدر صلواتهم عن إيمانٍ حيٍّ، ولا عن حياة توبة صادقة.
ب. لم يرجعوا عن آثامهم؛ الأمر الذي حرمهم من اللقاء مع القدوس، وحجب صلواتهم عنه.
ج. لم يفطنوا بحق الله، إذ سلكوا بحكمة بشرية زمنية، واستهانوا بالحكمة الإلهية. لم تدفعهم سياط التأديب إلى الحكمة، بل بقوا في غباوتهم. بقوله: "لنرجع من آثامنا، ونفطن بحقِّك" [13]. يربط بين الحياة المقدسة والإيمان المستقيم أو الحق الإلهي؛ كما يربط بين السلوك الشرير والانحراف عن الحق.
يقول القديس جيروم: [لتحسب حق الله معادلًا للرجوع عن الشر ].
يربط النبي الصلاة أو التضرع إلى وجه الرب بالرجوع عن الإثم مع التمتع بالحكمة الإلهية النابعة عن الحق الإلهي.
"فسهر الرب على الشرّ وجلبه علينا،
لأن الرب إلهنا بار في كل أعماله التي عملها،
إذ لم نسمع صوته" [14].
"سهر" seked الرب؛ يُستخدم هذا الفعل ليعني يقظة الذهن والاهتمام بكل شيء، لهذا يُستخدم بالنسبة للحراس الذين يسهرون ليل نهار في يقظة لحراسة المدن. يُستخدم هنا ليُعلن أن ما حدث من كوارث لم يأتِ مصادفة، لكن الله الحارس للنفس والمهتم بخلاصها يسمح بحكمته أن تحل الضيقة أو ما نظنه شرًا. لقد أطال أناته إلى أجيال طويلة، وفي الوقت المناسب سمح بالسبي لبنيان شعبه بالتأديب، حتى وإن بدى قاسيًا.
* كلما نُوبخ على خطايانا، يسهر الله علينا، ويفتقدنا بالتأديب. لكن عندما يتركنا الله وحدنا ولا نعاني من التأديب نكون غير أهلٍ لتوبيخ الرب، لهذا قيل أنه ينام. حسنًا نقرأ في المزامير: "يقوم الرب كمن هو نائم، كالثامل من الخمر" (مز 78).
القديس جيروم أكد دانيال في كل السفر خطورة الاعتقاد بأن ما يحلّ بنا من ضيق جاء عارضًا نتيجة أحداث جُزافية. فإنه لا يوجد ما يُدعى بالحظ، إنما تسير كل الأمور خلال يدّ الله ضابط الكل، وإلاَّ نكون قد سلبنا الله عنايته الفائقة بخليقته، وأسأنا إلى قدرته وعدله.
إنه في وسط ضيقتنا يود تأكيد أنه "الرب إلهنا"، المهتم بنا، يليق بنا أن نسمع صوته؛ أي نفهم خطته، وننصت إلى تعاليمه، ليس فقط خلال الوصايا، بل وخلال التأديب والألم! أنه يدخل بنا إلى مدرسة التأديب ويكشف لنا عن فلسفة الألم!
"والآن أيها السيِّد إلهنا،
الذي أخرَجْت شعبك من أرض مصر بيدٍ قوية،
وجعلت لنفسك اسمًا كما هو هذا اليوم،
قد أخطأنا، عملنا شرًا [15].
إذ اعترف دانيال النبي عن خطاياه وخطايا شعبه، كما اعترف أنه بعدلٍ سقطوا تحت التأديب، يعلن عن ثقته في الله مخلص شعبه، إذ حمل خبرة الخلاص حين أخرج الشعب من أرض مصر بيدٍ قوية، الآن يستطيع أن يخرج بهم من بابل، لكي يتمجد اسمه القدوس. آمن دانيال النبي أن الله الذي عمل في القديم لا يزال يعمل الآن.
"يا سيِّد حسب كل رحمتك،
اصرف سُخطك وغضبك عن مدينتك أورشليم جبل قُدسك،
إذ لخطايانا ولآثام آبائنا صارت أورشليم وشعبك عارًا عند جميع الذي حولنا" [16].
إن كانت خطايانا عظيمة وشرورنا كثيرة ونستحق الموت مئات المرات، لكن مراحمك أيضًا غير محصاة، لذا نطلب "كل" رحمتك.
إذ ندخل بجرأة أمام عرش رحمتك، تصرف غضبك عن مدينتك التي نعتز بها، وعن جبل قدسك الذي اخترته لنتقدس نحن فيه، إذ عليه نُقدم لك الذبائح المرضية أمامك.
فاسمع الآن يا إلهنا صلاة عبدك وتضرعاته،
وأضيء بوجهك على مقْدِسك الخرب من أجل السيِّد" [17].
كأنه يقول له: قدم لنا الدليل على مصالحتك لنا بإشراق نور وجهك علينا، فنضيء بك.لم يطلب من الله أن يسمح لهم ببناء الهيكل الذي خُرب، وإنما أن يشرق بنوره على الهيكل، فإنه ليس بالحجارة يُبنى بيت الرب، بل بسكناه فيه ورضاه على شعبه.
يختم الصلاة بطلب تدخل الله السريع ليس عن شعور بالاستحقاق وإنما من أجل نعمة الله. لم يطلب من الله الرحمة من أجل ذاته، ولا من أجل إسرائيل، وإنما من أجل الله نفسه، لكي يتمجد اسمه، إذ يرى الأمم عجائبه معهم. لم يجد دانيال ما يُقدمه لله ليبرر التمتع بمراحمه، إنما يجد في الله المحب إمكانية العطاء بسخاء.
"كل رحمة الله" [16]... فمراحم الله عظيمة [18]، ومتسعة وتغفر كل خطايانا وعصياننا.
· "من أجل مدينة الله جبل قدسه" [16]، فقد صارت في عاٍر بسبب خطايانا، لكنها هي مدينة الله وجبل قدسه. هنا تظهر إحساسات الرسول بالحرمان الشديد والمرارة، لأن مدينة الله والهيكل المقدس يحتلان قلبه، وقد حُرم منهما.
· "من أجل السيِّد" [17]،أي من أجل الله نفسه.
· "من أجل اسمه" الذي دعيَ على الشعب وعلى المدينة.
"أمل أُذنك يا إلهي، واسمع،
افتح عينيك وانظر خُربنا والمدينة التي دُعي اسمك عليها،
لأنه لا لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك،
بل لأجل مراحمك العظيمة.
يا سيِّد اسمع، يا سيِّد اغفر، يا سيِّد اِصغ واِصنع.
لا تُؤَخِّر من أجل نفسك يا إلهي،
لأن اسمك دُعيَ على مدينتك وعلى شعبك" [18-19].
لا يطلب من الله أن يستمع إليه وينظر إلى الخراب الذي حلّ بالمدينة، إنما يطلب أن يميل الله بأذنه إليه، وأن يفتح عينيه ليرى. فإننا إذ نخطئ نشعر كأن الله يتجاهلنا تمامًا، يبتعد بأذنيه كي لا يسمع، ويغمض عينيه لكي لا يرى. بقوله هذا كأنه يقول: "نُريدك قبل أن تسمع وترى أن تلتصق بنا. نراك تميل بأذنيك كأبٍ ينحني نحو طفله، ويفتح عينيه بالحب فتستريح نفوسنا. نُريدك أنت! لتقترب إلينا، فإننا في حاجة إليك".
ويقول القديس جيروم: [عندما يحول وجهه نظهر غير أهلٍ لاهتمام عينيه أو أذنيه].
شعر الشعب طوال فترة السبي كأن الله قد تركهم، ولم يعد يسمع لهم ولا يصغي ولا يعمل لحسابهم، الآن يطلب دانيال باسم الشعب أن يغفر دون تأجيل، فإنهم يطلبون التمتع بصلاحه ومراحمه.
هكذا قدم دانيال لله مبررات لكي يرحم شعبه، متشبهًا بموسى الذي كان يشفع في الشعب. لم يبرر دانيال نفسه، لكنه شعر بالمسئولية كعضوٍ في هذه الجماعة، وأن له دوره الإيجابي الذي يلتزم به. حقًا لم يذكر الكتاب شيئًا عن خطايا شخصية ارتكبها دانيال، لكن هذا لا يمنعه من التوبة مع الشعب بشكل جماعي، إذ يقول: "اعترف بخطيتي وخطية شعبي" [20].
إذ كان دانيال النبي رجل صلاة تمتع بالبركات التالية:
أ. ظهور ابن الإنسان له أكثر من مرة (دا 7: 13؛ 8: 15؛ 10: 5-9). هكذا تمتع دانيال بذاك الذي هو مشتهى الأمم.
ب. انفراد دانيال برؤى سماوية فائقة، إذ يقول: "فرأيت أنا دانيال الرؤيا وحدي، والرجال الذين كانوا معي لم يروا الرؤيا، لكن وقع عليهم ارتعاد عظيم، فهربوا ليختبئوا، فبقيت وحدي ورأيت هذه الرؤيا العظيمة" (دا 10: 7-8).
ج. تمتع بصحبة رئيس الملائكة جبرائيل الذي سأله ابن الإنسان أن يُفسر له الرؤى ويُفهمه أسرار مجيئه الأول والأخير وعمله الخلاصي (دا 8: 16؛ 9: 21؛ 11: 1)، كما كان يقوِّيه (دا 10: 19).
د. دُعي بالرجل المحبوب جدًا من الله (دا 9: 23؛ 10: 19). المعنى الحرفي "الرجل الذي يشتهيه الله ويسرّ به".
3. استجابة الصلاة:
"وبينما أنا أتكلم وأُصلي وأعترف بخطيتي وخطية شعبي إسرائيل،
وأطرح تضرعي أمام الرب إلهي عن جبل قُدس إلهي" [20].
كثيرًا ما كان القديس أغسطينوس يقتبس هذه الآية في حديثه ضد أتباع بيلاجيوس وكالستوس Coelestius الذين كانوا يعتمدون على العمل البشري، ويتجاهلون النعمة الإلهية وطلب المراحم الإلهية. كان القديس أغسطينوس يؤكد دائمًا أنه لا يوجد في العالم إنسان واحد بار لا يحتاج إلى مراحم الله. إن كان دانيال الذي لم يذكر عنه الكتاب المقدس خطية ما ارتكبها، وشهد له حزقيال أنه أحد ثلاثة أفراد في العالم مشهود لهم "أيوب ونوح ودانيال" (حز 14: 14)، قد ألقى بنفسه في قطيع الخطاة، طالبًا باتضاع وانسحاق مغفرة خطاياه، فماذا يكون حالنا نحن؟! لقد طالب السيِّد المسيح جميع تلاميذه أن يطلبوا في كل يوم مغفرة الخطايا أكثر من مرة خلال الصلاة الربانية، فمن يظن أنه بار وغير محتاج إلى المغفرة إنما يفصل نفسه عن مدرسة السيِّد المسيح.
يقول القديس جيروم: [كما سبق فأشرنا قبلًا لم يفكر دانيال في خطايا الشعب فقط بل وفي خطاياه بكونه واحدًا من الشعب، أو فعل هذا بطريق الاتضاع، فإنه وإن لم يكن قد ارتكب خطايا شخصية، لكن هدفه هو نوال العفو باتضاعه ].
"وأنا متكلم بعد بالصلاة،
إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء مُطارًا واغفًا لمسني عند وقت تقدمة المساء.
وفهَّمني، وتكلم معي وقال:
يا دانيال إنيّ خرجتُ الآن لأُعلِّمك الفهم.
في ابتداء تضرُّعاتك خرج الأمر،
وأنا جئتُ لأخبرك لأنك أنت محبوبٌ جدًا.
فتأمل الكلام وافهم الرؤيا [21-23].
يكشف دانيال النبي عن حب الله الفائق الذي يستمع إلى صلاته، ويقبل اعترافه عن خطاياه وخطايا شعبه، وينصت إلى تضرعه من أجل جبل قدس الرب، أي من أجل مدينة أورشليم والهيكل وكل المقدسات الإلهية.
يُسر الله بالمؤمنين المتضعين الذين يعترفون بضعفاتهم، والذين في غيرة متقدة، لا يطلبون لأجل أنفسهم، بل لأجل الغير، كما لأجل المقدسات الإلهية.
أولًا: يقول دانيال النبي: "وأنا متكلم" [21]. لم يُصلِّ دانيال بقلبه فحسب، وإنما أيضًا بلسانه؛ يُقدم الصلاة بروحه كما بجسده؛ يشترك بكل كيانه في التعبير عما في أعماقه. وقد جاءته الإجابة على سؤاله بينما كان يُصلي.
ثانيًا: لم يكن بعد قد انتهى دانيال النبي من صلاته، إذ يقول: "وأنا متكلم بعد بالصلاة" [21]، استجاب الله لصلاته قبل أن يفرغ منها. والعجيب أن رئيس الملائكة جبرائيل يقول له: "في ابتداء تضرعاتك خرج الأمر" [23]، أي في بدء الصلاة، لأن الله استجاب لقلب دانيال قبل أن يُعبر عما فيه بشفتيه.
ثالثًا: أرسل الله إليه رئيس ملائكة طائرًا بسرعة! اهتمام إلهي عجيب. هنا لأول مرة نسمع عن أجنحة الملائكة أو أنها كائنات طائرة. ظهر له على شكل إنسانٍ، لذا قال "الرجل جبرائيل". بهذا يؤكد الله تقديره للإنسان واعتزازه به، فيجعل ملائكته ليس فقط تظهر لخدمة الإنسان، وإنما تحمل أيضًا شكله، حتى يمكن التلاقي بينهم. يقول القديس جيروم: [قيل أنه "طار" لأنه ظهر بمظهر إنسانٍ ].
رابعًا: ظهر رئيس الملائكة لدانيال ولمسه "عند وقت تقدمة المساء"، أي في وقت الساعة الثالثة بعد الظهر. كان دانيال مسبيًا منذ قرابة سبعين عامًا، لم يرَ ذبيحة المساء، التي كان الكهنة يقدمونها في هيكل الرب. لكن السنوات الطويلة لم تسحب قلبه عن الذبيحة، ولم تحرمه عن التمتع ببركة بيت الرب الذي تهدمت حجارته! في وسط القصر ببابل كان قلبه ينطلق مع كل صباحٍ ومساءٍ ليشارك بالروح العبادة التي انقطعت في أورشليم. هكذا يرتبط الإنسان مع كل الشعب في العبادة، حتى وإن كان مستبعدًا في زنزانة، بل ويشارك الكنيسة السماوية عبادتها الفائقة أينما وُجد.
يقول القديس جيروم: [قيل: "عند وقت تقدمة المساء" ليُظهر أن صلاة النبي قد امتدت من وقت ذبيحة الصباح حتى المساء، لهذا وجه الله رحمته إليه].
ظهور رئيس الملائكة ولمسه "في وقت تقدمة المساء" يحمل معنى رمزيًا، أنه قد جاء المساء، وحلّ ملء الزمان الذي فيه لا تنتهي السنوات السبعون للسبي بل ينتهي زمان الخطية بمجيء المحرر المخلص، الذي يلمسنا بتجسده الإلهي، ويدخل بنا إلى المعرفة السماوية الجديدة.
خامسًا: كشف رئيس الملائكة جبرائيل لدانيال عن مركزه لدى الله إذ يقول: "لأنك أنت محبوب جدًا" [23]، وبالمعنى الحرفي للكلمة العبرية "الرجل الذي يرغب فيه الله"، أي موضع سرور الله. الله محب كل البشرية يُسر بالأكثر بمن يتمتعون بشركة عميقة معه، فيُسر أن يُعلن لهم أسراره الإلهية.
سادسًا: قدم له وصية إلهية، بل عطية إلهية، وهي عطية الفهم: "فتأمل الكلام وافهم الرؤيا" [23]. لقد درس دانيال نبوات إرميا، وفهم تاريخ العودة من السبي، لكنه كان محتاجًا إلى فهمٍ أعظم، حيث ينسحب قلبه من الرجوع إلى كنعان إلى الرجوع إلى السماء عينها خلال عمل المسيا.
4. رؤيا السبعين أسبوعًا:
مقدمة:
لهذه الرؤيا أهميتها الخاصة عند اليهود كما عند المسيحيِّين، وقد اتفق الفريقان على أن اليوم هنا يُشير إلى سنة، والأسبوع إلى سبع سنوات. وكما جاء في سفر اللآويِّين: "تعد لك سبعة سبوت سنين، سبع سنين سبع مرات..." (لا 25: 8).
أما عن غاية هذه الرؤيا فيقول القديس جيرومأن تعليم اليهود السابقين لعصره يختلف عن تعليم المعاصرين له. فالأولون في اتضاعٍ اعترفوا أن هذه العبارة لا يمكن فهمها إلاَّ بمجيء المسيا. لكن من الملاحظ أن أغلب الحاخامات يرون في هذه الرؤيا أن العقوبة الإلهية تحل باليهود حتى بعد عودتهم من السبي. وفي رأيهم أن السبعين أسبوعًا تبدأ بخراب الهيكل السابق وتنتهي بدمار الهيكل الثاني في أيام تيطس. وأما بالنسبة للكنيسة المسيحية فمع اختلاف آراء المفسرين واللآهوتيِّين، لكن الكل يتفق أن مركز الرؤيا كله هو شخص السيِّد المسيح، كما سنرى في شرحنا لنصوص الرؤيا.
أولًا: غاية الرؤيا:
"سبعون أُسبوعًا قُضِيت على شعبك،
وعلى مدينتك المقدَّسة،
لتكْميل المعْصية وتتْميم الخطايا ولكفاَّرة الإثم،
وليُؤتى بالبرّ الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القُدُّوسين" [24].
حُددت هذه المدة (سبعون أسبوعًا) لتحقيق غرض خاص له ست نتائج، ثلاثة منها سلبية، والثلاثة الأخرى إيجابية، وقد تحققت هذه كلها فعلًا بمجيء السيِّد المسيح:
أ. تكميل المعصية، أي إزالتها من أمام عيني الله، وذلك بالكرازة بإنجيل الخلاص والتمتع بعطية الروح القدس التي وهبها الله لكنيسته في استحقاقات الدم الثمين، إذ صارت معصيتنا كأنها غير موجودة أمام الله. كان السبي تأديبًا عن معاصي إسرائيل ويهوذا، لكنه لم يكن قصاصًا عادلًا عنها، وليس للسبي القدرة على محو الخطية وإزالتها، لذا كانت هناك حاجة إلى ذبيحة الصليب، حيث يُقدم السيِّد المسيح نفسه كفارة عن خطايا العالم كله (1 يو 2: 1).
ب. تتميم الخطايا، وتترجم "إنهاء". إذ قدم السيِّد المسيح نفسه ذبيحة خطية مرة واحدة عن العالم كله، هذا الذي لا يوجد عيب في نفسه أو في جسده، وضع للخطية نهاية.
ج. لكفارة الإثم، وتعني ضمنًا أن الضرورة تقتضي تقديم ذبيحة للمصالحة أو الكفارة.
هذه هي النتائج السلبية حيث تُنزع لعنة المعصية والخطايا والإثم، هذه التي حجبتنا عن الله، ودخلت بنا إلى العداوة فصرنا في حاجة إلى مصالحة. الآن يحدثنا عن النتائج الإيجابية الثلاث.
د. جلب البرّ الأبدي الذي يجلب سلامًا دائمًا، حيث يأتي به المسيا ويُقدمه هبة إلهية، يُقدم نفسه برًا فنتبرر به. يؤتى إلينا بالبرّ من خارج طبيعتنا، إذ هو عمل الله فينا بالمسيا البار.
وإذ يعلق القديس أثناسيوس الرسولي على نبوة دانيال النبي في هذا الأصحاح يقول: [هذا هو السبب لكل نبواتهم، أعني إلى أن يأتي البار الحقيقي، ذاك الذي صار فدية عن خطايا الكل]. وكما يقول القدِّيس بولس الرسول: "المسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرّ وقداسة" (1 كو 1: 30). إذ نقل مونتجمري الذي تَبَنَّى آراء النقاد الحديثين بعض آراء علماء اليهود في تفسير هذه النبوة ذكر بأن الحاخام موسى هادرشان Haddershan يقول: "البرّ الأبدي هو الملك المسيا".
ه. الختم على الرؤيا والنبوة، حيث تتحقق نبوات العهد القديم والرؤى الواردة فيه بمجيء المسيا، والإعلان عن شخصه وعمله الفدائي ومجده الأبدي. لقد تمتع دانيال وغيره من الأنبياء برؤى ونبوات لحساب شعب الله، لكنه يأتي وقت لا تكون هناك حاجة إلى ذلك، حيث يحل كلمة الله نفسه في وسطنا، ويتحدث معنا فمًا لفمٍ.
وكما يقول البابا أثناسيوسأنه متى جاء السيِّد المسيح لم تعد هناك حاجة إلى النبوات والرؤى عند اليهود.
[لأنه متى توقفت النبوة والرؤيا عن إسرائيل إلاَّ عندما جاء المسيح، قدوس القدِّيسين؟
فإن هذه علامة وبرهان قوي على مجيء كلمة الله أن أورشليم لا تقف بعد، ولا يقوم بعد نبي، ولا تُعلن لهم رؤيا، هذا أمر طبيعي جدًا. لأنه ما قد عُني به قد جاء، فما الحاجة بعد إلى أية إشارة إليه؟ إذ جاء الحق، أية حاجة بعد إلى الظل...؟
هكذا إذ جاء قدوس القدِّيسين بالطبيعة يُختم على الرؤية والنبوة وتنتهي مملكة أورشليم.
كان الملوك يُمسحون من بينهم فقط حتى جاء قدوس القدِّيسين الذي مُسح. يتنبأ يعقوب عن مملكة اليهود أنها تتأسس إلى مجيئه، إذ قيل: "لا يزول حاكم (قضيب) من يهوذا، وأمير (مشترع) من بين رجليه حتى يأتي (شيلون)، والذي تتوقعه الأمم" (راجع تك 49: 10). وصرخ المخلص نفسه قائلًا: "الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا" (مت 11: 13؛ لو 16:16). لو أنه وُجد الآن بين اليهود ملك أو نبي أو رؤيا لكانوا حسنًا ينكرون أن المسيح قد جاء].
و. مسح قدوس القدِّيسين، إذ قدَّس ذاته لأجلنا، مقدمًا نفسه رئيس كهنة وذبيحة فريدة وشفيعًا عنا. وكما يقول السيِّد المسيح في صلاته الوداعية: "لأجلهم أُقدس أنا ذاتيّ ليكونوا هم مُقدّسين في الحق" (يو 17: 19). كأن لا غاية له سوى الدخول بكل نفس إلى الأمجاد الأبدية، والتمتع بالميراث السماوي. وفي ترجمة أخرى "مسح قدس الأقداس"، أي مسح المكان الكلي القداسة، أي أقدس موضع في الهيكل.
لاحظ القديس جيروم أن الله يقول لدانيال النبي: "شعبك، مدينتك المقدسة" ولم يقل: "شعبي، مدينتي المقدسة"، ذلك لأن الله قد طلَّق شعبه، ورفض مدينته بسبب معاصيهم. هكذا تحدث الله مع موسى النبي حينما كان الشعب مُصرًّا على الخطية. ولعلَّه هنا يُعلن الله لدانيال الذي يُحب شعبه اليهودي ومدينة أورشليم، أنه إذ سيأتي السيِّد المسيح ويحقق الخلاص، لا تقبله خاصته، ولا تؤمن به، فيصير شعبًا مرفوضًا، ومدينة تحت التأديب!
ثانيًا: مراحل السبعين أسبوعًا الثلاث:
"فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع،
واثنان وستون أُسبوعًا يعود ويُبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة.
وبعد اثنين وستين أُسبوعًا يُقطع المسيح، وليس له وشعب.
رئيس آتٍ يَخرب المدينة والقُدس وانتهاؤُه بغَمارةٍ وإلى النهاية حرب وخُرب قُضي بها.
ويُثبِّت عهدًا مع كثيرين في أُسبوع واحدٍ،
وفي وسط الأُسبوع يُبطل الذبيحة والتقدمة،
وعلى جناح الأرجاس مُخرَّب حتى يتم ويُصَبَّ المَقْضي على المُخرِب" [24-27].
لقد حدد الله وقتًا معينًا لمجيء كلمة الله المتجسد إلى العالم، وبحكمة فائقة حدد الساعة التي يولد فيها المسيا، واللحظة التي فيها يُقدم حياته كفارة عن خطايا العالم، فإن مجيء السيِّد وعمله الخلاصي هما في عينيْ الله مركز التاريخ، وعصب العناية الإلهية، وإكليل النعمة. لا يحدث شيء مصادفة، بل يتم كل شيء في دقة عجيبة. لقد أكد الكتاب المقدس مجيء المخلص في ملء الزمان في أواخر الدهور.
جاءت هذه النبوة أشبه بكوكب مضيء في وسط أحزان المسبيِّين الذين يعانون من ظلمة الحزن القاتل. لقد فهم كثيرون النبوة، حتى أنه عندما جاء كان هناك توقعًا عامًا بين اليهود عن مجيء المسيا. كان الرجال والنساء القديسون يدرسون النبوات باجتهاد، وكانوا يترقبون مجيء المخلص. كان سمعان الشيخ ينتظر تعزية إسرائيل، وحنة تترقب الخلاص في أورشليم مع غيرها ممن حملوا نفس فكرها. ليس فقط اليهود، بل والسامريُّون كانوا يتوقعون قرب مجيئه كما يظهر من حديث المرأة السامرية: "أنا أعلم أن مسيا الذي يُقال له المسيح يأتي" (يو 4: 25). حتى بين الأمم كان يترقب البعض مجيئه كما حدث مع المجوس الذين رأوا نجمه.
قدم العلامة ترتليانفي مقاله "An Answer to the Jews" فصل 8 عرضًا تفصيليًا كيف تحققت هذه النبوة بدقة بميلاد السيِّد المسيح وآلامه وخراب أورشليم.
* بخصوص هذه النقطة (مجيء السيِّد المسيح)، فان آراءهم تُفند بالأكثر لا بأيدينا نحن، بل بتلك التي للحكيم جدًا دانيال، الذي حدد كلًا من التاريخ الفعلي لمجيء المخلص وحلوله الإلهي بيننا، إذ قال: "سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك..." ربما بالنسبة للنبوات الأخرى يمكنهم أن يجدوا أعذارًا وأن يرجئوا ما هو مكتوب إلى المستقبل. لكنهم ماذا يستطيعون أن يقولوا عن هذه (النبوة)، أو كيف يمكنهم أن يواجهوها تمامًا؟ فإنها ليست فقط تُشير إلى المسيح، بل تُعلن أن ذاك الذي يُمسح ليس إنسانًا مجردًا بل قدوس القديسين، وأن أورشليم تثبت إلى حين مجيئه، وعندئذ تتوقف النبوة والرؤيا في إسرائيل .
القديس أثناسيوس الرسولي يُعلق نيافة الأنبا ديسقورس على هذا الأصحاح قائلًا بأنه نظرًا لدقة ووضوح هذا الأصحاح في تحديد زمن صلب السيِّد المسيح بعد تجسده، فقد قام اليهود باستبدال تعبير "مسح قدوس القديسين" إلى "تدشين قدس الأقداس" وذلك في النسخة المتداولة عندهم باسم الماسوريتك Masoretic والتي يُرجعون تاريخها إلى القرن الحادي عشر الميلادي، حتى تبدو النبوة أنها خاصة بمكان وليس بشخصٍ، بل وضمُّوا سفر دانيال إلى قسم الكيتوبيم الذي يحتوي على الأسفار التاريخية والمزامير وكتب الحكمة السماوية لكي لا يُحسب من الأسفار النبوية. هذا نادى به بعض الدارسين.
ويعلق القمص بيشوي كامل على هذه النبوة بقوله: [والحقيقة أن هذه الحسابات أعطت الفرصة لليهود لمعرفة ميعاد مجيء المسيح بالتقريب. لذلك يقول معلمنا لوقا الإنجيلي:"... مع المنتظرين تعزية إسرائيل،... فداء أورشليم" (لو 2: 25، 38). بل قال بعضهم: "إن ملكوت الله سيظهر في الحال" (لو 19: 11). لذلك أصبح اليهود بلا عذر في تحديد ميعاد مجيء السيِّد المسيح].
ثالثُا: ما هو معنى الأسبوع؟
جاءت كلمة "أسبوع" هنا في العبرية "شبوع Shabua"، المشتقة من "seba" لا بمعنى سبعة أيام، بل وحدة من سبعة. وقد جاء الجمع للكلمة "شبوعيم Shabu’im" وهي ليست الجمع المؤنث المعتاد لكلمة أسبوع، من ثم فهي تعني سبعات أو فترات من سبعة(234). وقد أجمع علماء ومفسرو اليهود والمسيحيِّين في تفسيرهم لهذه النبوة، مع اختلاف اتجاهاتهم، على أن عبارة "سبعون أسبوعًا" تعني سبعين وحدة من سبعات، وهي بهذا تعني سبعين أسبوعًا من السنين. رأى غالبية المفسرين أن هذه الفترة تبدأ فيما بين 457 و445 ق.م. وتنتهي فيما بين 26 و70 م.
رابعًا: المراسيم الخاصة بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل وأورشليم:
صدرت ثلاثة مراسيم أو أوامر ملكية خاصة بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل وأورشليم:
المرسوم الأول: أصدره كورش عام 538 ق.م. أو 537 ق.م، بعد استيلائه على بابل (إش 44: 8؛ 45: 1؛ عز 1: 1-2؛ 2 أي 36: 22-23). بدأت العودة الأولى تحت قيادة زربابل، وبدأ ترميم المذبح وإعادة تنظيم العبادة، لكن قاومهم الأعداء. وفي عهد داريوس الأول بُحث عن مرسوم كورش وأمر الملك بالاستمرار في العمل (من سنة 520 إلى 515 ق.م). يليق بنا أن نلاحظ أن كورش أصدر أمرًا ببناء الهيكل فقط، لكنه لم يصدر أمرًا بتجديد مدينة أورشليم وبنائها. يقول دانيال النبي أنه من صدور الأمر بتجديد أورشليم وبنائها، وهو غير صدور الأمر ببناء الهيكل. فيوجد بين الأمرين فرق عظيم، فكورش رأى أن لا مانع من جواز مساعدة اليهود على بناء الهيكل سياسة منه، لكنه رأى أن مساعدتهم على بناء المدينة وإعادة حصونها خطر عليه. فبناء الهيكل يُعتبر نهاية مدة السبي وهي 70 سنة. وقد ذُكر في سفر (عز 1: 2-3) أمر الملك: "هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها ليّ الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. مَنْ منكم مِن كل شعبه ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا فيبني بيت الرب إله إسرائيل. هو الإله الذي في أورشليم". لم يذكر في هذا الأمر كلمة عن تجديد المدينة وبنائها.
المرسوم الثاني: أصدره الملك ارتحشستا الأول Artaxerxes I (464-424ق.م.) عام 457 ق.م. وحمله عزرا الكاهن والكاتب (عز 8) بعد حوالي 80 عامًا من العودة الأولى. سمح المرسوم للراغبين من اليهود أن يعودوا إلى أورشليم (عز 7: 13)؛ وتنظيم القضاء وتطبيق شريعة موسى (عز 7: 7)، وترتيب الأمور المالية الخاصة بالهيكل (عز 7: 15، 20). كان اهتمام عزرا هو إعادة بناء الشعب نفسه أخلاقيًا وروحيًا (دا 7: 9). لقد أُعطيَ الحق في تجديد بناء الهيكل وإقامة الأسوار، إذ قال: "لأننا عبيد نحن وفي عبوديتنا لم يتركنا إلهنا، بل بسط علينا رحمة أمام ملوك فارس ليُعطينا حياة لنرفع بيت إلهنا ونُقيم خرائبه وليعطينا حائطًا في يهوذا وفي أورشليم" (عز 9: 9). للأسف لم يُقدم التاريخ لنا شيئًا عما حدث من إصلاحات خاصة بالبناء، لكن واضح أن عزرا قام بالإصلاح الأخلاقي والروحي ولم يستطع القيام ببناء الأسوار ولا تجديد المدينة. هذا ما يظهر مما قاله فيما بعد حناني لنحميا: "هناك في البلاد هم في شرٍ عظيمٍ وعارٍ، وسور أورشليم منهدم، وأبوابها محروقة بالنار" (نح 1: 3). واضح من تصرف نحميا في نفس الأصحاح أنه لم يكن متوقعًا أن يكون حال أورشليم هكذا، ربما لأنه كان يتوقع أن عزرا ومن معه قاموا بتجديدات في المدينة وبناء الأسوار .
المرسوم الثالث: أصدره ارتحشستا الأول في نيسان من السنة العشرين لملكه (مارس/ إبريل 445 ق.م.)، حمله نحميا، ساقي الملك (نح 1: 11)، وقام نحميا ببناء سور أورشليم وبناء المدينة إذ يقول للملك: "إذا سُرّ الملك، وإذا أحسن عبدك أمامك ترسلني إلى يهوذا، إلى مدينة قبور آبائي فأبنيها" (نح 2: 5).
خامسًا: حسابات المراحل الثلاث:
طالب دانيال النبي -بإيمان- أن يحقق الله مواعيده، وهي عودة الشعب بعد سبعين عامًا من السبي؛ فإذا بالله يُقدم له ما هو أعظم، يتحقق لا بعد 70 سنة بل بعد سبوتها (70 × 7=490 سنة)، فيتمتع هو وكل البشرية بسبتٍ جديد، وراحة فائقة وبرّ الله، وهيأها لها عبر الأجيال، واشتهاها الآباء والأنبياء وهي رجوع البشرية إلى الله خلال عمل الله الخلاصي. وذلك بتجسد الكلمة وتقديم ذاته كفارة عن خطايا العالم. لقد حدد موعد مجيء هذا المخلص وصلبه كما كشف عن أحداث مجيئه الأخير.
* تقف هذه العبارة هكذا، إذ تمسّ عجائب كثيرة...
واضح أن العبارة تتحدث عن مجيء المسيح الذي كان يجب أن يعلن عن نفسه بعد سبعين أسبوعًا. ففي وقت المخلص، أُزيلت المعاصي وانتهت الخطايا، ومُحيت خلال المغفرة الآثام مع المعاصي بالكفارة، وكُرز بالبرّ الأبدي الذي يختلف عن برّ الناموس، و(توقفت) الرؤى والنبوات إلى يوحنا، ومُسح الكلي القداسة. فإن هذه الأمور لم تتحقق قبل مجيء المخلص، بل كانوا يترجُّونها.
يعلمنا الملاك أن بداية الأعداد، أي السبعين أسبوعًا التي هي 490 عامًا، تبدأ بالأمر الصادر بالبدء في بناء أورشليم (كاستجابة لطلب المسبيِّين). هذا حدث في السنة العشرين من ملك ارتحشستا ملك فارس. فقد سأله نحميا واستلم الإجابة أنه يلزم بناء أورشليم... كان ذلك في السنة 115 من الإمبراطورية الفارسية والسنة الرابعة من الدورة 83 من الأولمبي، والسنة العشرين من ارتحششتا نفسه.
إلى هذا التاريخ، حيث السنة الثانية من الدورة 202 للأولمبي، والسنة 16 من ملك طيباريوس قيصر (حيث صُلب السيِّد المسيح)، تكون المحصلة 475 سنة، وهي تُقابل 490 سنة بالحساب اليهودي، حيث يحسبون السنة حسب دورة القمر. هذا أمر يسهل بيانه، إذ تتكون السنة عندهم من 354 يومًا بينما تتكون السنة الشمسية من 365 يومًا وربع، فإن السنة الأخيرة تزيد في ال12 شهرًا حسب دورة القمر 11 يومًا وربع...
الأب يوليوس أفريكانوس [ما بين السنة الرابعة للدورة الأوليمبية 83 والسنة الثانية من الدورة 202 حيث تُقام الدورة كل 4 سنوات تكون المحصلة 475 سنة شمسية، وهي توازي 490 سنة قمرية].
وقد أورد القديس جيروم رأي الأب يوليوس أفريكانوس Julius Africanus فيتفسيره لهذه الرؤيا.
وقد قُسمت المدة هكذا:
أولًا: 7 أسابيع، أي 7×7=49 عامًا، وهي الفترة ما بين صدور الأمر بإصلاح الهيكل وبناء السور بواسطة منشور أرتحشستا الأول في 14 نيسان (مارس - إبريل) سنة 445 ق.م، وتعيين نحميا واليًا على أورشليم، وانتهت الفترة بسنة 397 أو 396 ق.م. حيث مات نحميا في أيام ملاخي النبي. فالسبعة أسابيع (أي 49 سنة) هي مدة تجديد أورشليم وبنائها، لأنها كانت أطلالًا بالية. ولا شك أن نحميا صرف هذه المدة في بناء أورشليم، وكان آخر عمله في ولايته على أورشليم هو تنظيم أحوال الأمة الإسرائيلية وإصلاح شؤونها. لقد تعين نحميا واليًا على اليهودية ولم يكمل تجديد أورشليم إلاَّ في مدة ولايته للمرة الثانية. ففي المرّة الأولى استمر 12 سنة واليًا على اليهودية، وذلك لأن أرتحشستا أصدر إليه أمرًا ببناء أورشليم، وعيّنه واليًا عليها. وفي السنة الثانية والثلاثين رجع إليه نحميا، ثم استأذن من الملك ليرجع إلى أورشليم (نح 13: 6-7) فصرّح له. ولا يخفى أن نحميا عمّر طويلًا، فإذا كان عمره لما شرع في تجديد أورشليم 30 سنة، وصرف 49 سنة في بنائها، كان عمره 79 سنة، وقد قال المؤرخ يوسيفوس أنه كان هرِمًا.
يُقدم البعض حسابًا لبناء الهيكل خلال 49 عامًا كالآتي: لقد سمح كورش للشعب أن يبني الهيكل، فوضعوا الأساسات في ثلاث سنوات عندما ذهب كورش إلى الحرب في سكيثيا Scythis، لكن اضطر اليهود إلى التوقف عن البناء في أيام خليفته كمبيز Cambyses الذي كان معاديًا لهم. وإذ سُمح لهم بالبناء تمموا ذلك في 46 عامًا في هذه الفترة (3 + 46 = 49 سنة) تم إصلاح أورشليم وكذا حال الشعب اليهودي دينيًا ومدنيًا بواسطة عزرا ونحميا.
ثانيًا: 62 أسبوعًا (62 × 7 = 434 عامًا). هذه الفترة التي تبلغ أربعة قرون تمثل أظلم فترات الشعب روحيًا، إذ لم يوجد فيها أنبياء إلى ظهور القدِّيس يوحنا المعمدان. فحُسبوا بحق جالسين في الظلمة حتى يشرق عليهم شمس البرّ بصليبه.
* بعد عودة الشعب من بابل تحت قيادة يشوع بن يهوصاداق وعزرا الكاتب وزرُبابل بن شلتيئيل من سبط داود (وتجديد أورشليم وبنائها) يوجد 434 عامًا حتى مجيء السيِّد المسيح حيث يظهر كاهن الكهنة للعالم، ويقوم بوضوح ذاك الذي ينتزع الخطية من العالم كما يقول يوحنا عنه: "هوذا حمل الله الذي يحمل خطية العالم". ولكن من هو هذا الذي يمحي معاصينا؟ يُعلمنا بولس الرسول، قائلًا: "هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا" (أف 2: 14)؛ وعندئذ "يمسح صك خطايانا الذي علينا" (كو 2: 14).
توجد 434 سنة ما بين عودة الشعب من بابل (وتجديد أورشليم وبنائها) ووقت ميلاد السيِّد المسيح. هذا يمكن إدراكه بسهولة.
القديس هيبوليتس الروماني في هذه الفترة تم حدثان هامان:
الحدث الأول هو ظهور أنطيوخس إبيفانُس (167-164 ق.م) الذي يُعتبر "ضد المسيح" في العهد القديم، هذا الذي أوقف تقديم ذبيحة المحرقة الدائمة لمدة ثلاث سنوات ونصف، وأقام كهنة اليونانيِّين الذين أدخلوا عبادة الآلهة اليونانية ودنّس الهيكل بدم خنزير وقتل الآلاف من اليهود، ولكن المكابيِّين تصدّوا له حتى تمَّ تحرير الهيكل وعودة المحرقة.
أما الحدث الثاني وهو في أيام الإمبراطورية الرومانية حيث ملك هيرودس الكبير، وقد أراد أن يكسب رضا اليهود، فبدأ ببناء الهيكل الجديد حوالي سنة 20 ق.م. واستغرق بناؤه 46 عامًا؛ وكان قد وسَّع أرض الهيكل إلى ضعف المساحة تقريبًا.
إذ جاء في [27] أن إبطال الذبيحة الحيوانية في وسط الأسبوع، أي في وسط الأسبوع الأخير من الـ69 أسبوعًا فيعني هذا أن الصلب يتم في الأسبوع 68.5، أي بعد (68.5 × 7) 479.5 عامًا من صدور المنشور بالعمل بتجديد الهيكل بواسطة نحميا (عام 445 ق.م)، بهذا يكون الصلب بعد 33 سنة ونصف من الميلاد وهذا تحقق، إذ صُلب السيِّد المسيح وهو في هذا السن. أما نهاية الأسبوع الأخير فيكون بعد الصلب بحوالي 35 عامًا (3.5 يومًا)، أي حولي سنة 70 م. حيث نُقض الهيكل تمامًا على يد تيطس الروماني.
يرى بعض الدارسين أن صلب السيِّد المسيح قد جاء بعد 483 عامًا (7 + 62 = 69 × 7 = 483) من صدور منشور أرتحشستا السابق ذكره. لأن الصلب تم في إبريل سنة 30م، فإن كان المنشور صدر سنة 445 ق.م. فالفارق هو 445 ق.م. + 30 = 475 سنة وليس 483 أي يوجد فارق 8 سنوات. والسبب في هذه الثماني سنوات هو أن السنة في الكتاب المقدس تحسب 360 يومًا وليس كالسنة الفلكية أو اليوليانية 365 يومًا وربع. فالخمسة أيام وربع في السنة يسبب فارقًا قدره 8 سنوات. بهذا تحقق مجيء المسيا الرئيس بعد 69 أسبوعًا (69 × 7 = 483 عامًا) تمامًا، وذلك بحساب السنة كما جاء في الكتاب المقدس .
يرى Gleason L. Archerأن الـ69 سنة رمزية (483 سنة) تُحسب من المرسوم الثاني، أو المرسوم الأول بالنسبة للملك ارتحشستا الأول عام 457 ق.م. الذي حمله عزرا الكاتب للبناء، وإن كان لم يتحقق البناء إلاَّ بواسطة نحميا. فإن طرحنا 483 من 457 ق.م يتبقى 26، وحيث لا توجد سنة تعادل الصفر يُضاف رقم 1 إلى 26 فيكون الموعد هو 27م. وإذ عُرف أن السيِّد المسيح صُلب عام 30 م، فإنه يكون قد بدأ خدمته وعماده عام 27 م. بهذا تحققت النبوة بدقة.
يرى آخرون أن السنة العشرين من أرتحشستا هي سنة 454 ق.م. حسب تحقيقات العلاّمة هنجستنبرج و"أشر". فإذا طرحنا هذه المدة من حاصل ضرب 69 أسبوعًا في 7(483 سنة ميلادية)، وهي المدة التي قال عنها النبي دانيال في آية 25، كان الباقي حوالي 29 سنة ميلادية، وهي بداية خدمة السيِّد المسيح، أو دعوته إلى طريق الخلاص، فإنها الغاية المقصودة بالذات، لأن النقطة المهمة في تواريخ الملوك والسلاطين هي أوائل حكمهم وعملهم، وليس مولدهم، لهذا راعي النبي دانيال هذه النقطة المقصودة بالذات.
هكذا يرى الكثيرون أن هذه الفترة الثانية تنتهي بعماد السيِّد المسيح وبدء كرازته بإنجيله، لتأتي الفترة الثالثة حيث يُقدم السيِّد المسيح ذبيحته في وسط الأسبوع أي بعد ثلاث سنوات ونصف من خدمته، فتبطل الذبائح الحيوانية.
ثالثًا: الأسبوع السبعون، أو الأسبوع الأخير.
"ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يُبَطّلُ الذبيحة والتقدمة..." [27].
يوجد رأي أو تأمل في تفسير هذه الآية بأن هذا الأسبوع يُشير إلى أسبوع الآلام بأيامه السبعة حيث دخل السيِّد المسيح إلى الهيكل يوم الأحد (العاشر من نيسان) كحمل وأخرج الخراف التي كانت ترمز إليه، وظل يبيت في بيت عنيا كأنه تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر (الخميس) حيث عمل الفصح الأخير مع تلاميذه وأبطله، وكان العشاء حيث قدم لتلاميذه ذبيحة العهد الجديد بجسده ودمه المتحولان من الخبز والخمر كطقس ملكي صادق كنبوة داود النبي في المزمور. فتُشير الخمسة الأيام الأولى إلى خمسة آلاف عام (تقريبًا) التي كانت تقدم فيها الذبائح الدموية التي كانت ترمز إليه، ثم اليومان الباقيان من الأسبوع إلى ألفي عام، وبذلك يتحقق قول بطرس الرسول حينما يتكلم عن مجيء السيِّد المسيح الثاني للدينونة قائلًا "ولكن لا يخف عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء أن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد. لا يتباطأ الرب عن وعده كما يُحسب قوم التباطؤ لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة.. إلخ" (2 بط 3: 8-10).
يرى البعض أن الـ69 أسبوعًا قد انتهت بتقديم السيِّد المسيح نفسه ذبيحة حب فريدة، والآن تنتقل بنا رؤيا دانيال إلى نهاية العالم، وهي مدة السبع سنوات الأخيرة التي خلالها يأتي ضد المسيح ليملك ثلاثة سنوات ونصف حيث الضيقة العظيمة التي قال عنها السيِّد المسيح: "فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي في المكان المقدس. ليفهم القارئ. فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيت شيئًا... لأنه يكون حينئذٍ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون. ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقّصر تلك الأيام (مت 24: 15-21). وقد تحدث بعد ذلك عن مجيئه الأخير.
تحدث عنها أيضًا دانيال في موضع آخر: "ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت" (دا 12: 1). وفي إرميا: "آه لأن ذلك اليوم عظيم وليس مثله، وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه" (إر 30: 7)؛ وجاء في صفنيا: "لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم في يوم غضب الرب بل بنار غيّرته تؤكل الأرض كلها" (صف 1: 18).
وجاء في سفر الرؤيا: "هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ 7: 14). جاء وصف فترة الضيق هذه في (رؤ 6: 15؛ 11: 1-14؛ 12: 6-17).
* ببسط يديه يعني آلامه، وبالإشارة إلى زمان وزمانين ونصف زمان يُشير إلى الثلاث سنوات ونصف لضد المسيح... وهي الـ1290 يومًا التي تنبأ عنها دانيال لإنهاء الألم وتحقيق التشتيت عندما يأتي ضد المسيح.
القديس هيبوليتس الروماني من وحي دانيال 9
تهبني أكثر مما أطلب،
وتعطيني فوق ما احتاج!
* شعر دانيال في اتضاع أنه غير مستحق لمواعيدك،
صلى متضرعا وهو في المسوح والرماد،
اعترف بخطاياه وخطايا شعبه كاسر الوصية.
اشتهى أن تحقق له وعدك بالعودة بعد سبعين عامًا!
* بعدل وبرِّ أدبت شعبك بالسبي البابلي،
في وسط التأديب كنت ساهرًا على شعبك،
كل ما حلّ بشعبك بسماحٍ من عندك.
إنك تود أن تمحصهم فتمجدهم!
* استغاث بك فقد حجبت الخطايا شعبك عنك،
تضرع إليك أن تميل بأذنك وتسمع،
تفتح عينيك وتنظر ما بلغه الشعب من عارٍ.
تغفر الآثام من أجل اسمك،
من أجل هيكل قدسك ومدينتك!
* لقد توقفت الذبائح إذ خرب الهيكل،
لكن مع موعد تقديم كل ذبيحة
كان دانيال يُسكب نفسه ذبيحة حب.
يصرخ إليك يا ينبوع الرحمة.
أرسلت له جبرائيل رئيس الملائكة يهبه فهمًا.
أعلمه أنه محبوب لديك جدًا،
قدم له رؤيا وشرحها له.
* مع الوعد القديم بالتحرر من السبي بعد سبعين عامًا.
قدم له وعدًا جديدًا في سبت هذه السبعين.
أراه كيف يتحرر العالم من سبي الخطية،
تنتهي الخطايا ويُكفر عن الآثام.
يتمتع المؤمنين بالبر وتتحقق النبوات بقدوم قدوس القدِّيسين.
* حددت له موعد التجسد الإلهي وغايته.
أعلنت له عن سرّ الصليب الذبيحة الفريدة.
كشفت له عن نهاية الأزمنة والتمتع بالأمجاد الأبدية!
حقًا أنك تُقدم ليّ أكثر مما أطلب،
وتهبنيّ دومًا فوق ما احتاج!
ملحق للأصحاح التاسع
آراء أُخرى بخصوص السبعين أسبوعًا:
قدم لنا القديس جيروم الكثير من آراء آباء الكنيسة وعلماء اليهود بخصوص رؤيا السبعين أسبوعًا، إن اختلفت في طريقة الحسابات لكنها تتركز جميعها حول شخص المسيح وعمله الخلاصي.
بدأ برأي الأب يوليوس أفريكانيوس، وقد سبق لنا عرضه. كما قدم لنا بعد ذلك مجموعة آراء ليوسابيوس أسقف قيصرية التي وردت في الكتاب الثامن من عمله "الإعداد للإنجيل Praeparatio Evangelica" نذكرها هنا في شيء من الاختصار.
1. الرأي الأول:
يقوم هذا الرأي على أساس أن السيِّد المسيح، رئيس الكهنة، هو مركز الرؤيا، لذا تقوم الحسابات من خلال رؤساء الكهنة الذين تعاقبوا على شعب إسرائيل منذ عودتهم من بابل إلى مجيء المخلص الممسوح لأجلنا.
[لست أظن أن تقسيم السبعين أسبوعًا جاء جزافًا... لنفكر في الرؤساء (المسحاء) الآخرين الذين تعهدوا شعب اليهود، وقد جاءوا ملاحقين لهذه النبوة وللعودة من بابل، أي رؤساء الكهنة arkiereis، الذين يدعوهم الكتاب المقدس مسحاء. كان يشوع بن يهوصاداق (عز 3: 22؛ 4: 3؛ ويُدعى أيضًا يهوشع زك 3: 1، 3) تلاه آخرون ممن احتلُّوا هذه الوظيفة حتى وقت مجيء ربنا ومخلصنا... بمعنى أن المقصود هنا هو جمع السبعة أسابيع إلى ال62 أسبوعًا فيكون المجموع (69 × 7 = 483 سنة) بعد وقت كورش. ولئلاَّ يُقال أننا قد استخدمنا الحدس لنحصي أولئك الذين احتلُّوا هذه الوظيفة كمسحاء يتعهدون الشعب من أيام يشوع بن يهوصاداق حتى مجيء الرب، أي الذين مُسحوا رؤساء كهنة (نذكر هنا بالتفصيل)...].
· يشوع بن يهوصاداق رئيس الكهنة، هذا الذي اشترك مع زرُبابل بين شلتيئيل في وضع أساسات الهيكل وتحقق البناء في 49 عامًا، إذ تعطل البناء بواسطة السامريِّين وغيرهم من الأمم المحيطة. وقد انفصلت هذه الأسابيع السبعة (49) عن الـ62 أسبوعًا كما جاء في النبوة. أخذ اليهود أخيرًا بهذا الرأي، إذ قالوا للرب كما ورد في قصة الإنجيل "في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟!" (يو 2: 20)... يضيف يوسيفوس ثلاث سنوات أخرى تمت خلالها الأعمال الخاصة بالإعداد للبناء وغيرها فيكون المجموع 49 سنة تُحسب من السنة السابعة لداريوس. في ذلك الحين كان متعهِّدًا الشعب هما يشوع بن يهوصاداق وزرُبابل (الذي كان قد بلغ الذروة)، وقد تنبأ في ذلك الوقت حجِّي وزكريا.
· ثم جاء عزرا ونحميا من بابل وبنيا أسوار المدينة أثناء رئاسة كهنوت يوياقيم بن يشوع (نح 12: 10) الملقب يهوصاداق، وأعقبه ألياشيب في الكهنوت (نح 12: 10)، ثم تلاه يوياداع ويوحانان، وجاء بعده يدوع (نح 12: 22) الذي في عهده أنشأ الإسكندر، ملك المقدونيِّين، الإسكندرية، كما ذكر يوسيفوس في كتبه Antiquities، وجاء إلى أورشليم وقدم ذبائح دموية في الهيكل. لقد مات الإسكندر في الدورة الأولمبية الـ113 في السنة 236 للإمبراطورية الفارسية التي بدأت بدورها السنة الأولى للدورة الأولمبية 55. وجاء هذا التاريخ مطابقًا للوقت الذي فيه هزم كورش ملك فارس البابليِّين والكلدانيِّين.
· وبعد موت يدوع الكاهن الذي كان متعهدًا الهيكل أثناء مُلك الإسكندر تولى أونياس رئاسة الكهنوت. في ذلك الحين نصّب سلوقس نفسه ملكًا على سوريا وآسيا بعد فتحه بابل في السنة الثانية عشرة بعد موت الإسكندر. حتى ذلك الحين كان مجموع السنوات التي انقضت منذ كورش الملك هي 248 عامًا. وجاء تاريخ سفر المكابيِّين مطابقًا لذلك.
· بعد أونياس الكاهن الأعظم جاء اليعازر يرأس الكهنوت عند اليهود. في هذه الفترة قام السبعون بترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية في مدينة الإسكندرية.
· بعد ذلك جاء أونياس الثاني ثم سمعان الذي قاد الشعب، وقد كتب يشوع بن سيراخ، وعنوانه اليوناني Panartos (رجل كامل فاضل)، والذي نسبه كثيرون إلى سليمان خطأ. في هذا الوقت كان أنطيوخس يحاول إلزام اليهود بتقديم ذبائح لآلهة الأمم. بعد أونياس جاء يهوذا المكابي الذي طهَّر الهيكل وحطم تماثيل الآلهة الوثنية. ثم جاء بعده أخوه يوناثان، ومن بعده أخوه سمعان ليحكم الشعب. وبموته انقضى 277 سنة من حكم المملكة السريانية. وقد سجل لنا سفر المكابيِّين الأحداث التي تمت في ذلك الحين، بهذا تكون نهاية مكابيِّين الأول وموت سمعان الكاهن الأعظم هي 425 سنة.
· بعد ذلك تولى يوحنا هركانسHyrcanus رئاسة الكهنوت لمدة 29 عامًا، وبعد موته تولى أرسطوبولس (الأول) رئاسة الشعب لمدة عام، وكان أول من جمع بين كرامة رئاسة الكهنوت وسلطة المُلك بعد الرجوع من السبي البابلي.
· وتلاه اسكندر الذي كان بالمثل رئيس كهنة وملك، حكم الشعب لمدة 27 عامًا. عند هذه النقطة يكون مجموع السنوات منذ السنة الأولى لكورش وعودة المسبيِّين الذين رغبوا في العودة إلى اليهودية هي 483 عامًا. هذا المجموع يضم الـ7 أسابيع مع الـ62 أسبوعًا، أي الـ69 أسبوعًا في جملتها. خلال هذه المدة تولى رئاسة الكهنوت كهنة حكموا الشعب اليهودي، واعتقد أنهم هؤلاء الذين أُشير إليهم بالمسحاء.
بعد موت آخرهم وهو إسكندر انقسم الشعب اليهودي إلى أحزابٍ مختلفةٍ، وحدثت في وسطهم فتنة داخلية إذ كانوا بلا قائد. هذا دفع بإسكندرا زوجة إسكندر والتي دُعيت Salina أيضًا أن تنتزع السلطة، وتحتفظ بمركز رئاسة الكهنوت لابنها هركانس (الثاني)، أما المُلك فسلمته لابنها الأخير أرسطوبولس (الثاني) الذي اعتلى العرش لمدة عشرة سنوات. لكن الأخوين تنازعا، وخاضا حربًا أهلية، وانقسم الشعب اليهودي إلى أحزاب. حينئذ ظهر بومباي Graeus Pompey جنرال الجيش الروماني على مسرح الأحداث. وإذ غزا أورشليم بلغ قدس الأقداس في الهيكل وأرسل أرسطوبولس (الثاني) مقيدًا إلى روما ليسخر به وهو في موكب نصرته. وأعطى رئاسة الكهنوت لأخيه هركانس (الثاني)، فصارت الأمة اليهودية لأول مرة خاضعة للرومان. أعقبه هيرودس بن أنتيباتر في تولى المُلك على اليهود بمرسوم من مجلس الشيوخ (الروماني) بعد اغتيال هركانس. هذا صار أول أجنبي يحكم اليهود. وأيضًا بعد موته والديه أَعطى رئاسة الكهنوت لأولاده مع أنهم لم يكونوا يهودًا، معارضًا بهذا الناموس الموسوي. وهو لم يعهد إليهم بهذه الوظيفة إلى مدة طويلة إلاَّ بناء على تعهُّدهم أن يٌقدموا له منافع خاصة به ورشاوي، إذ احتقر وصايا ناموس الله.
2. الرأي الثاني
يُقدم لنا القديس جيروم تفسيرًا ثانيًا ليوسابيوس القيصري، جاء فيه أن عدد السنوات منذ السنة السادسة لحكم داريوس الذي تولى الحكم بعد كورش وابنه كمبيز، هذا التوقيت الذي يُضاهي وقت انتهاء العمل لبناء الهيكل، إلى وقت هيرودس وأوغسطس قيصر، هذه المدة تُقابل السبعة أسابيع مضافًا إليها 62 أسبوعًا، وفي مجموعها 483 سنة. في ذلك الوقت اُغتيل هيركانس بكونه آخر رئيس كهنة للمكابيِّين بواسطة هيرودس، وانتهت بذلك رئاسة الكهنوت بحسب الناموس. في ذلك الحين أيضًا دُمِّرت المدينة والمقدس على يد قائد روماني. ربما بيد هيرودس نفسه الذي نصب نفسه حاكمًا ذا سلطة بدون وجه حقٍ. وبحسب قول الملاك: "ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد، وفي وسط الأسبوع..."، يُفهم الآتي:
وُلد المسيح أثناء مُلك هيرودس في اليهودية وأوغسطس قيصر في روما، وكرز بالإنجيل، وأسس عبادة الإله الحق لكثيرين ونعني بلاشك الرسل والمؤمنين عامة، ثم بعد آلام الرب بطلت الذبيحة والتقدمة في وسط الأسبوع. لأنه ما قُدمت من ذبائح بعد ذلك لم يكن بذي قيمة لدى الله... إذ صرخ الجميع: "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 2: 25)، وأيضًا "ليس لنا ملك إلاَّ قيصر".
ذكر يوسابيوس هذا في كتاب Chronicle أما بخصوص حساب السنوات منذ إتمام بناء الهيكل إلى السنة العاشرة لمُلك الإمبراطور أوغسطس قيصر، أي حين ذُبح هركانس وتولى هيرودس ولاية اليهودية، ففي مجموعها 7 + 62 أسبوعًا (69 × 7) أو 483 سنة، ويمكن تقديمها هكذا:
تحقق إتمام بناء الهيكل في الدورة الأولمبية 67، وهي السنة السادسة لداريوس. وفي السنة الثالثة للدورة 186 أي العاشرة لأوغسطس انتزع هيرودس الحكم على اليهود. بهذا تُحسب مدة الـ483 سنة بحسب الدورات الأولمبية، حيث تتم الدورة كل 4 سنوات.
[توجد 120 دورة ما بين 186، 67. (120 × 4 = 480 + 3 (السنة الثالثة بعد الدورة) = 483)].
3. الرأي الثالث:
يقول القديس جيروم إن ليوسابيوس رأي آخر لا يرفضه تمامًا، وهو تقييم الأسبوع الأخير من السنين بكونه يقابل سبعين عامًا باعتبار أن كل يوم يوازي عشرة سنوات من الزمن.
ففي منتصف الأسبوع، أي حوالي سنه 35م قُدِمت ذبيحة المسيح، وبعدها بحوالي 35 عامًا (سنة 70م) قامت روما ضد اليهود وهدمت الهيكل على يد تيطس الروماني.
رأي القدِّيس هيبولتيس الروماني:
سبق لنا عرضه في تفسير الأصحاح. يرى أن الأسبوع الأخير يخص نهاية العالم حيث يظهر ضد المسيح كما يظهر إيليا النبي لإعلان معرفة الله. أخيرًا يأتي السيِّد المسيح ويقتل المضلَّ بنفخة فمه وتخرب مملكته.
رأي أبوليناريوس:
رأى أنه مع ميلاد السيِّد المسيح وعمله الخلاصي تمت السبعة أسابيع (49 عامًا)، فإذا أُضيفت إليها الـ62 أسبوعًا (434 عامًا)، أي في عام 482 م. يُعاد بناء الهيكل وأورشليم... حيث يظهر إيليا الذي يرد قلوب الآباء على الأبناء، حينئذ يأتي ضد المسيح كقول الرسول أنه يجلس في هيكل الله (2 تس 2) ويشن حربًا ضد القدِّيسين، ثم يُقتل بنفخة ربنا ومخلصنا. هذا يحدث في منتصف الأسبوع فيثبت عهد الله مع قدِّيسيه، بعد أن يصدر ضد المسيح مرسومًا يمنع فيه تقديم ذبائح، لأن سيُقيم رجسة الخراب، أي تمثالًا للوثن داخل الهيكل. ثم يتم الدمار النهائي ويُدان اليهود الذين يُفتنون بضد المسيح بعد أن رفضوا المسيح.
يستشهد أبوليناريوس بمؤلف الـTempora وهو يوليوس أفريكانيوس الذي سبق لنا عرض تفسيره في شرح الأصحاح.
إنه يؤكد أن الأسبوع الأخير يأتي في نهاية العالم، لكن أبوليناريوس يقول بأنه يستحيل فصل الفترات عن بعضها البعض، إنما هي ملتصقة وراء بعضها.
رأي القدِّيس أكليمنضس السكندري:
رأى أن الفترات متتابعة وأن السبعين أسبوعًا تمت وذلك من مُلك كورش ملك فارس حتى تولى فسبسيان الروماني وتيطس الحكم، فهي تضم عصر فارس واليونان وقياصرة روما.
رأي العلامة أوريجينوس:
مع تبنِّيه للتفسير الرمزي إلاَّ أننا نجده في هذه الرؤيا لا يميل إلى الرمزية بل كان ملتزمًا بالحقائق التاريخية. هكذا قدم لنا الملاحظة المختصرة التالية في المجلد العاشر من المتفرقات Stromata.
[يجب أن نتحقق بدقة المدة ما بين السنة الأولى لداريوس بن أحشويرش ومجيء المسيح الثاني، ونكتشف كم تتضمن من عدد السنوات، وما هي الأحداث التي قيل أنها قد حدثت أثناءها؛ ثم نرى ما إذا كانت هذه التوقيتات تتفق مع وقت مجيء المسيح الثاني].
رأي العلامة ترتليان:
قدم لنا القديس جيروم رأي العلامة ترتليان عن كتابه "ضد اليهود Contra Judaeos" في شيء من الاختصار.
كيف نقول أن السيِّد المسيح قد جاء خلال ال 62 أسبوعًا؟ يبدأ حساب ذلك بالسنة الأولى لداريوس حيث يطابق هذا التوقيت إعلان الرؤيا لدانيال. لهذا قيل وفهمني وتكلم معي وقال يا دانيال إنيّ خرجت الآن لأعلمك الفهم، في ابتداء تضرعاتك خرج الأمر" [22-23].
ملك داريوس 19 سنة، وملك أرتحشستا Artaxerxes 40 سنة، أما Ochus الملقب كورش فملك 24 سنة وأرغوس Argus عامًا واحدًا ثم داريوس الثاني المسمى Melas لمدة 21 عامًا. وملك الإسكندر المقدوني 12 عامًا. ملك سوتير Soter في الإسكندرية 35 عامًا، خليفة فلاديلفيوس لمدة 38، ثم تولى الحكم إفرجيتس Euergetes لمدة 25 عامًا ثم فيلوباتور لمدة 17 عامًا وتلاه إبيفانس لمدة 24 عامًا، وأيضًا ملك إفرجيتس الثاني لمدة 29 سنة وسوتير 38 سنه، وبطليموس لمدة 37 عامًا وكيلوباترة لمدة 20 عامًا وخمسة أشهر. وأيضًا شاركت كيلوباترة أوغسطس في الحكم لمدة 13 سنة. وملك أوغسطس بعد حكمه مع كيلوباترة لمدة 43 سنة أخرى، فكانت مجموع سنوات حكم أوغسطس 56 سنة. وقد عاش أوغسطس هذا بعد ميلاد السيِّد المسيح لمدة 15 سنة.
جاء مجموع السنوات حتى ميلاد السيِّد المسيح (السنة 41 من حكم أوغسطس) فيها 13 سنة في شركة كيلوباترة و28 من حكمه وحده (وجاء ميلاد السيِّد في السنة 29 من حكمه)، هو 437 سنة وخمسة أشهر بمعنى أنه يكون قد انقضى 62.5 أسبوعًا، أي ما يوازي 437 سنة و6 أشهر عند ميلاد المسيح. حينئذ ظهر الصلاح الأبدي، ومُسح قدوس القدوسين وهو المسيح، وبطلت الرؤيا والنبوة، ومحا المسيح الخطية لكل من يؤمن به. لكن ماذا يعني أنه قد تثبتت الرؤيا والنبوة...؟
يقول العلامة ترتليان: قد خُتمت النبوة، محققًا كل النبوات التي جاءت قبلًا بخصوصه.
ومن المؤكد أنه قد بطلت كل رؤيا ونبوة عن مجيء المسيح وآلامه، لأنها قد تحققت.
يضيف ترتليان: لنبحث إذًا عن معنى السبعة أسابيع ونصف التي قُسمت بدورها إلى أجزاء من أسابيع سابقة، كيف تحققت خلال تلك الأجزاء؟ بعد موت أوغسطس الذي عاش بعد ميلاد السيِّد المسيح، انقضت 15 عامًا، وتلاه طيباريوس قيصر وملك لمدة 22 سنة و7 شهور و28 يومًا. في السنة 15 لملكه تألم المسيح في الـ33 سنة من عمره. ثم ملك غايس قيصر الملقب Caligula لمدة 3 سنوات و8 أشهر و13 يومًا. وملك نيرون لمدة 9 سنوات و9 أشهر و13 يومًا. وملك "غالبا" Galba لمدة 7 أشهر و28 يومًا. وملك Otho لمدة 3 أشهر وخمسة أيام؛ أما Vitellius فملك لمدة 8 أشهر و28 يومًا. هزم فسبسيان اليهود في السنة الأولى لملكه، فصار مجموع السنين 52 سنة و6 أشهر، لأنه ملك لمدة 11 سنة مجموع السنين 52 سنة و6 أشهر، لأنه ملك لمدة 11 سنة وبذلك في الوقت الذي اقتحم فيه أورشليم، فيكون اليهود قد أتمُّوا السبعين أسبوعًا كما جاء في نبوة دانيال.
رأى اليهود:
يقول القديس جيروم إن اليهود حسبوا الـ490 سنة تبدأ بالسنة الأولى لداريوس الذي ذبح بيلشاصر وحول الإمبراطورية الكلدانية إلى مادي وفارس، وتنتهي إلى عصر المسيح، فوجدوا فيها نبوة عن موته وعن اقتراب الجيش الروماني تحت قيادة فسبسيان وابنه تيطس. وإن النبوة قد تحققت بدمار أورشليم على أيدي الرومان، واعتبر اليهود أن الثلاث سنوات ونصف الأولى من الأسبوع الأخير تُشير إلى دمارها على أيدي فسبسيان وتيطس والثلاث سنوات ونصف الأخرى تُشير إلى حرب هادريان.
هذا وقد ذكر مونتجمري James Montgomery الذي تَبَنَّى أراء النقاد في القرن العشرين أن كثير من علماء اليهود في العصور الوسطى اتبعوا الرأي التقليدي في اعتبار أن نقطة النهاية في النبوة هي دمار أورشليم بواسطة تيطس أو هادريان؛ مثل راشي وابن عزرا وغيرهما، وينقل أرتحشستا.
وينقل عنShottgen أمثلة لتفاسير اليهود لهذه النبوة، كقول الحاخام Nachmanides بأن "قدوس القدوسين ليس سوى المسيا، المكرس من أبناء داود".
ويقول الحاخام موسى هادرشان "البرّ الأبدي هو الملك المسيا".
|