أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْسًا لَهُمْ.
أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ [8].
إذ عُلق على الصليب هرب تلاميذه وكل الذين أفاض عليهم بعطاياه. وإذ اقترب وقت الغروب، طلب اليهود رفعه عن الصليب حتى لا يتنجس يوم السبت، وكأن القدوس الذي بروحه يقدس الخطاة كأنه في أعينهم رجسًا لهم.
يتساءل القديس أغسطينوس عن ما يقصده بقوله معارفي، فإن السيد المسيح الخالق يعرف كل البشرية، لكنه يحسب من هم أبرار معارفه، أما الأشرار فلن يستحقوا أن يُحسبوا معارفه.
إذن يقصد بهم تلاميذه الذين هربوا ولم يقفوا حتى في لحظات محاكمته. ولعله يقصد أنهم وإن كانوا معارفه، إلا أنهم لم يكونوا بعد عرفوه في حقيقته أنه كلمة الله.
* "أبعدت عني معارفي" [8]. إن كنا نفهم بالمعارف أولئك الذين يعرفهم، فإنهم كل البشر، فمن منهم لا يعرفه؟ إنما يدعو هؤلاء المعارف أولئك الذين هم يعرفوه قدر ما كانوا يعرفونه في ذلك الوقت، على الأقل كانوا يعرفونه كبارٍ، وإن كانوا يحسبونه فقط كإنسان وليس كإله. ومع ذلك فهو يدعو الأبرار الذين يستحسنهم معارفه، أما الأشرار فيحسبهم غير معروفين. هؤلاء الذين سيقول لهم في النهاية: "لست أعرفكم" (مت 7: 23)... فهل قيل هذا لأن تلاميذه كانوا خارجًا حين كان يُحاكم في الداخل (مت 26: 56)؛ أو نعطي لهذه الكلمات معنى أعمق: "أبعدت" بمعنى "بقيت مخفيًا بالنسبة لمشيري الخفيين، لم أظهر لهم من أنا، لم أعلن لهم نفسي، لم يُكشف عني"؟
* "أبعدت عني معارفي". في ألم الصليب هرب حتى رسلي مني؛ نأى الكل عني تمامًا، حتى بطرس نفسه قال: "لست أعرف هذا الرجل" (مر 14: 71). "تطلعوا إليّ كرجسة"، لقد صرخ اليهود حتمًا: "أصلبه، ليس لنا ملك إلا قيصر" (راجع يو 19: 15). "سُجنت ولم أهرب". لقد خانني اليهود، ومع هذا ففي رحمتي المملوءة حنوًا لم أتركهم، بل أحببتهم. سلموني إلى بيلاطس ولم أهرب منهم، بل صليت على الصليب: "يا أبتاه اغفر لهم، إنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). لنعبِّر عن هذا بطريقة أخرى: "لقد سُجنت ولم أهرب".
عندما طلبوا أن يلقوه من على قمة التل عبر في وسطهم في أمانٍ (لو 4: 29-30). هذا إذن ما يقوله: أليس في إمكاني الآن وأنا مسجون أن أهرب من شِباك البشر ومخاطر الموت بقوة لاهوتي؟ إذ جئت لكي أتألم، فإن هذه هي إرادتي الكاملة أن أتألم. إرادتي هي أن أُسجن، وبإرادتي لا أهرب.
لنقدم تفسيرًا آخر. لقد سُجنت كإنسانٍ، ولم أفارق جلال لاهوتي.
يوجد أيضًا تفسير آخر: لقد سُجنت بواسطة البشر، ولم أترك حضن الآب.
وأيضًا: لقد سُجنت كإنسانٍ على الأرض، وبكوني الله لم انسحب عن السماء.
القديس جيروم