رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إرميا والمراثي نستكمل رحلتنا في أسفار الأنبياء الكبار ونتوقف في هذا العدد عند سفري إرميا والمراثي. في سفر إرميا، يُطالعنا الإصحاح الأول ع١-٣ بشخصية إرميا وأنه تنبأ في أواخر أيام مملكة يهوذا قبل السبي البابلي مباشرةً ونفهم من ٢ملوك٢٢-٢٤، أنه تنبأ لمدة ٤٠ سنة تقريبًا من ٦٢٥ ق.م إلى ٥٨٦ ق.م. عاصر إرميا حبقوق وصفنيا اللذين تنبّآ أيضًا لمملكة يهوذا قبل السبي، وعاصر كذلك دانيآل وحزقيال اللذين تنبّآ في السبي. معنى اسم إرميا هو “يهوه يرفع أو يؤسس”، وكان من سبط لاوي من الكهنة إلا أنه لم يمارس الكهنوت مثل حزقيال ويوحنا المعمدان، بل دعاه الرب للنبوة. يحدثنا الجزء ١: ٤-١٩ عن دعوة الرب له والتي أظهر الرب فيها مقاصده من نحو إرميا (صوَّرتك.. عرفتك.. قدستك.. جعلتك نبيًا) وشجعه بمعيته له (أنا معك ع٨، ١٩؛ ١٥: ٢٠). أعطاه الرب التكليف «... أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ». وأهَّله لذلك: «وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ الرَّبُّ لِي: هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ» وأعطاه القوة والشجاعة اللازمة لتميم المهمة (١: ٧، ٩). لم يكن إرميا يشعر بالكفاءة في نفسه لهذه المهمة العظيمة وقال للرب: «آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ»، ولكن الرب شجعه قائلاً: «لاَ تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ» (إرميا١: ٧)؛ فالرب لا ينظر إلى كفاءة الأشخاص، لكنه يدعو مَنْ هُم بحسب قلبه ويؤهلهم مهما كان ضعفهم. هذا ما حدث أيضًا مع موسى (خروج٣؛ ٤) وجدعون (قضاة٦) وغيرهم. كان إرميا رقيقًا ذا مشاعر جيَّاشه، عبَّر كثيرًا في السفر عن حزنه وآلامه (إرميا٩: ١)، يُعرف بـ“النبي الباكي” لكثرة ما ذرفه من دموع على شعبه وهو يرى دينونة الله الوشيكة عليهم ويحزن على قساوة قلوبهم وعدم رجوعهم له بالتوبة. تكررت الكلمات التي تعبر عن الحزن في النبوة أكثر من ٢٠ مرة. نتعلم منه كيف يجب أن تكون المحبة لشعب الله مهما كانت حالتهم. تتميز النبوة بالطابع الوعظي والدعوة للرجوع للرب، وكذلك الوعد برد مستقبلي وبعهد جديد سيقطعه الرب مع هذا الشعب. إن كان إشعياء تكلم عن مرض الشعب، وحزقيال عن نجاسة الشعب، ودانيآل عن تيهان الشعب؛ فإن إرميا تكلم عن خيانة الشعب. لقد تركوا الرب وعبدوا الأوثان (انظر مثلاً أصحاحات ٢؛ ٥؛ ٧). إشعياء يبرز قداسة الله ودانيآل يبرز سلطانه وحزقيال يبرز مجده، أما إرميا فيبرز محبته. وردت بهذا السفر الآية الشهيرة «وَمَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ» (٣١: ٣). كانت هناك نهضة في أيام يوشيا (٢ملوك٢٢؛ ٢٣؛ ٢أخبار٣٤؛ ٣٥) لكن نفهم من نبوة إرميا أن هذه النهضة لم تكن عميقة ومتأصلة في الشعب! يُمكن تقسيم سفر إرميا لثلاثة أقسام كالتالي: ص١-٤٥: نبوات عن إسرائيل ورسائل من الرب لهم. ص٤٦-٥١: نبوات عن الأمم. ص٥٢: تذييل تاريخي. القسم الأكبر من السفر (ص١-٤٥) يُمكن تقسيمه إلى ٥ أجزاء كالتالي: ص١-٢٩: نبوات عن القضاء وحيثياته. ص٣٠-٣٣: الوعد بالرجوع والبركة. ص٣٤-٣٨: العصيان. ص٣٩-٤٣: جزء تاريخي عن أحداث السبي. ص٤٤، ٤٥: رسالة توبيخ وتحذير. أكثر الكلمات تكرارًا في النبوة هي بابل (١٦٦ مرة)، وسبي (حوالي ٥٠ مرة)، ورجع ومرادفاتها (أكثر من ٦٠ مرة)؛ وهذا هو موضوع النبوة. السبي سيحدث بواسطة بابل والرب يدعوهم للرجوع والتوبة، ولكن بكل أسف لم يرجعوا. ٣ مرات تتكرر عبارة «فَارْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيءِ» (١٨: ١١؛ ٢٥: ٥؛ ٣٥: ١٥)، ومرتين عبارة «اِرْجِعُوا أَيُّهَا الْبَنُونَ الْعُصَاةُ» (٣: ١٤، ٢٢)، لكنهم لم يرجعوا (٣: ٧، ٩؛ ١٥: ٧). وإن كان الرب قد استخدم بابل في توقيع قضائه على شعبه فإن الرب أيضًا سيدين بابل لشرها (ص٥٠؛ ٥١)، وهذا ما حدث حيث قضت مملكة فارس على بابل وسيحدث مستقبلاً في دينونة بابل الزانية العظيمة (رؤيا١٧؛ ١٨). حدد إرميا بالوحي مدة السبي بأنها ٧٠ سنةً (٢٥: ١١، ١٢؛ ٢٩: ١٠) ولماذا هذه المدة بالذات؟ الإجابة نجدها في ٢أخبار٣٦: ٢١ حيث يخبرنا الوحي أن المدة تحددت بناءً على كسر الشعب لوصية السنة السابعة (لاويين٢٥: ١-٧). لم يُطع الشعب الوصية واستمروا يكسرونها لمدة ٤٩٠ سنة (غالبًا من أيام عالي الكاهن حتى وقت السبي) فكان عدد السنين التي وجب إراحة الأرض فيها ٧٠ سنة وهي نفس المدة التي طردهم فيها الرب من الأرض. ويا للتحذير الخطير لنا هنا من خطورة كسر الوصية! تحدث إرميا كثيرًا عن “العهد” حيث وردت الكلمة في نبوته ٢٤ مرة. هكذا كان ينظر إلى علاقة الرب بشعبه. والشعب أثبت خيانته للعهد لكن الله أمين لا يخون ولا ينكر نفسه. تٌعتبر ٣١: ٣١-٣٤ هي الآيات المفتاحية للسفر والحديث فيها عن “العهد الجديد” وقد اُقتبست في عبرانيين٨: ٨-١٢. هذا العهد الجديد هو عهد من الله لشعبه الأرضي (بيت إسرائيل وبيت يهوذا - ٣٠: ٤؛ ٣١: ٣١؛ عبرانيين٨: ٨) بالرجوع والبركة. لقد رجعوا من السبي، ولكن لم يكن الرجوع من السبي إتمامًا لهذا الوعد لأن الذين رجعوا كانوا بقية صغيرة من مملكة يهوذا ولا يزال هذا الوعد ينتظر الإتمام المستقبلي. نحن نطلق مجازًا تعبير «العهد الجديد» على الأسفار ال ٢٧ التي كُتبت بعد مجيء المسيح أما الكتاب فيستعمل هذا التعبير عن علاقة الرب بشعبه الأرضي. من المهم أيضًا أن نلاحظ أن الكنيسة، مؤمنو تدبير النعمة الحالي، ليست طرفًا في هذا العهد وإنما تتمتع ببركاته، لكن امتيازاتها حاضرًا ومستقبلاً أعظم جدًا! تتحدث نبوة إرميا كثيرًا عن «كلمة الرب» حيث يرد التعبير أكثر من ٦٠ مرة. أحب إرميا كلمة الله «وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي» (١٥: ١٦). ما أعظمها في قوتها «كَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْر» (٢٣: ٢٩). وإن كانت كلمة الله كالحنطة فإن كلام الأنبياء الكذبة كالتبن. تكلم إرميا بكلمة الله رغم الرفض وعدم التجاوب والتهديد والاضطهاد وتصديق الكذب الذي ساد في أيامه ويا لها من قدوة لنا في أيامنا! فرغم فساد غالبية الشباب إلا أنه كان هناك نماذج مشجعة (اقرأ قصة بنو ركاب ص٣٥). أشهر الاقتباسات من نبوة إرميا جاء في العهد الجديد في متى٢: ١٧؛ عبرانيين٨: ٨-١٢. نرى المسيح في سفر إرميا في صور كثيرة أبرزها أنه «غُصْنَ الْبِرِّ» (٣٣: ١٥) وظن الناس في المسيح أيام تجسده أنه إرميا (متى١٦: ١٤)؛ نظرًا لحياته التي ميزها الحزن على خطية شعبه، كان المسيح هو رجل الأوجاع (إشعياء٥٣: ٣) الذي بكى على أورشليم (لوقا١٩: ٤١). سفر المراثي: مكتوب بطريقة شعرية يُعبِّر فيها إرميا عن حزنه العميق لسقوط أورشليم. كل إصحاح من إصحاحاته الخمسة عبارة عن ٢٢ آية ما عدا الإصحاح المتوسط، الثالث، عبارة عن ٦٦ آية (٢٢×٣). اسم السفر في العبرية هو “كيف؟” التي يبدأ بها الإصحاح الأول وكذلك الإصحاحات الثاني والرابع. وهي تُعبر عن الحيرة التي كان إرميا يعانيها بسبب معاملات الرب مع شعبه. يبدأ السفر بكيف...؟ وينتهي بهل كل الرفض رفضتنا؟ ونعلم من رومية١١: ١ أن الله لم يرفض شعبه للأبد. تتكرر الكلمات التي تعبِِّر عن الحزن والدموع حوالي ٢٠ مرة، والغضب حوالي ٢٠ مرة أيضًا. موضوع السفر هو “أورشليم” ويتكرر اسمها ٧ مرات ويُكنى عنها أيضًا بـ «صهيون» و«يهوذا» اللتين وردتا ٢٠ مرة. يُسمّي إرميا أورشليم “بنت شعبي” وتكرر التعبير في السفرين ١٤ مرة. يكشف السفر عن محبة إرميا لشعبه فهو لم ينظر إليهم شامتًا فيهم، بل باكيًا عليهم (٨: ٢١). كان الوضع في السبي مأساويًا (٤: ١-١٢) للدرجة التي فيها أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهنَّ! في كل هذه المعاملات ظهرت صفات الله واضحة، بره (١: ١٨)، أمانته (٢: ١٧)، رحمته (٣: ٣٢، ٣٣)، سلطانه (٣: ٣٧). يحدثنا السفر عن الرب يسوع رجل الأحزان الحقيقي، آلامه الكفارية (١: ١٢، ١٣؛ ٣: ١-٢٠، ٤٧-٦٥)، والنفسية (٢: ٥)، ومن أيدي الناس (١: ١٤)، ثم رجاؤه وقيامته (٣: ٢١-٢٦). كان مُسلَّمًا بمشورة الله (٢: ١٧) وهو نَفَس أنوف شعبه (٤: ٢٠). أرجو أن تساعدك هذه المفاتيح على قراءة نبوة إرميا وسفر المراثي والتأمل فيهما. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|