16 - 03 - 2023, 06:26 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
مرثاته لحاله
سبق أن أشرت إلى أن مرثاته لحاله حملت نبوات رائعة عن السيد المسيح المتألم كوسيطٍ وشفيعٍ كفاريٍ عنا أمام الآب. وفي نفس الوقت يمثل الكنيسة المتألمة المشاركة لمسيحها آلامه وصلبه من الذين في الخارج، كما من الهراطقة المقاومين للحق الإلهي.
"إِنْ تَكَلَّمْتُ، لَمْ تَمْتَنِعْ كَآبَتِي.
وَإِنْ سَكَتُّ، فَمَاذَا يَذْهَبُ عَنِّي؟" [6]
صار أيوب في حيرة، إن تكلم فما نفع كلماته مع أناسٍ قساةٍ لا يراعون مشاعره، وإن صمت، فهل يُبطل الصمت مرارة نفسه. إن سكب شكواه أُتهم بالتذمر وأسيء فهمه، فيزداد حزنه. وإن صمت أُتهم بالكآبة. إن دافع عن نفسه حسبوه متمسكًا بالبرّ الذاتي، وإن سكت حسبوه شريرًا يستحق تأديبًا أعظم!
الإنسان الجاد في حياته الذي يطلب خلاص نفسه، ينتفع من كلمات أولاد الله، كما ينتفع من صمتهم. إن تكلموا يتقبل الكلمات بروح الله لأجل بنيانه، وإن صمتوا يتلامس مع تأملاتهم الداخلية وتمتعهم بالحياة السماوية. أما الذي في استهتار أو في إصرار لا يطلب الحق ولا الحياة الأبدية، فيتعثر من كلمات الأبرار، وأيضًا من صمتهم.
لقد عبَّر أيوب عن موقف السيد المسيح، الذي إن تكلم بالحق الإلهي أُتهم أنه مجدف (مت 26: 65)، وإن صمت على الصليب قالوا: "خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت 27: 42). كانت نفسه حزينة حتى الموت، ليس من أجل الألم، وإنما لأجل مرارة الخطية التي حملها عنا ليقتلها بموته.
إن كانت نفس السيد المسيح حزينة، تبقى الكنيسة عروسه تئن كل أيام غربتها حتى يكمل المختارون جهادهم، ويتمتع المؤمنون بشركة الأمجاد في مجيء الرب الأخير.
* "ماذا أفعل؟ إن تكلمت لا تُنزع عني كآبتي، وإن احتملت (في صمت) فلا تفارقني"... ليس من أحدٍ يجهل أن هذا ينطبق على شخص أيوب الطوباوي،. أما بالنسبة للكنيسة الجامعة، فإنها عندما تتكلم "لا يتوقف حزنها"، إذ لا ترى الأشرار ينصلحون بكلماتها. وإن صمتت فإن موقفها نفسه بالصمت يحزنها بالأكثر، إذ وهي صامتة ترى خطية الأشرار تتزايد متعالية.
البابا غريغوريوس (الكبير) * صالح لكم الاضطهاد، لأن محبة الصليب غنية فيكم. عزيزة عليكم العذابات، لأن نار محبة ذاك الذي ألقى ناره في العالم (لو 12: 49) مضطرمة فيكم. جهادكم عجيب، لأن مضطهديكم أشرار. معركتكم مليئة عجبًا، لأن أعداءكم ألداء. لو اضطهدكم الوثنيون لكان مسوغًا لآلامكم وراحة لعذاباتكم، لكن الآن يصطف اليهود أعداء الصليب ضدكم. آلامكم أسمى من أية آلام. وإكليلكم أكثر انتصارًا من أي إكليل...
عظيم هو جمال من تكثر آلامه. وهكذا يصير الإكليل جميلًا بقدر قسوة الضيق. فالروح المعزي الذي يجعلكم حكماء يعرف أن يتكلم فيكم، ويقول: "آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" (رو 8: 18). إن ضيق زمن قصير، يقربكم لتحفظوا الحياة الدائمة التي لا نهاية لها، وعندما تموتون عن العالم تظهرون بالموت الحياة مع المسيح.
من لا يشتهي أن يجني الحياة الأبدية من ضيقات الزمان؟
العالم ينحل ويذبل جماله، ويترك غناه، وتزول سلطته ويُرذل بهاؤه، وتبطل مرتبته، وتنتهي حياته، وتتغير أشكاله، ويتناثر كالورد، ويذبل كالزهر، ويهرب كالظل، ويُطوى ويسرع كالعجلة، وتزول معه كل الأمور التي تجري فيه، إن كانت الراحة أو العذاب، الكرامة أو الإهانة؛ كل خواصه تظل معه ومثله. ضيقاته لا تطول، وراحته ليست حقيقية.
"إِنَّهُ الآنَ ضَجَّرَنِي.
خَرَّبْتَ كُلَّ جَمَاعَتِي". [7]
إذ شعر أيوب بعدم صدق نية أصدقائه، في مرارة أعلن لهم ارتباكه، فهو يعلم أن ما قد حلّ به هو بسماح من الله، فصار في ضجرٍ وارتباكٍ.
لقد ضجر من عدم قدرته على أخذ القرار السليم: أيتكلم أم يصمت؟ وضجر أيوب من أصدقائه كما من حياته نفسها. أما ما أضاف إليه أحزانًا، فهو خراب كل جماعته. أبناؤه وخدمه ماتوا، والعاملون معه تشتتوا، والأصدقاء صاروا مقاومين له، شامتين ببليته.
"قَبَضْتَ عَلَيَّ.
وُجِدَ شَاهِدٌ.
قَامَ عَلَيَّ هُزَالِي يُجَاوِبُ فِي وَجْهِي". [8]
يرى بعض الآباء أن أيوب وهو رمز للسيد المسيح يرى في كل ما حلّ به إنما ظلال لما سيحل بالسيد المسيح. فإن كانوا قد اجتمعوا على أيوب لتحطيمه، فإن قوات الظلمة تكاتفت ضد السيد المسيح، وأبناء الظلمة قبضوا عليه لصلبه، وللأسف قام أحد تلاميذه بتسليمه.
صار أيوب كمن قُبض عليه في أسرٍ مريرٍ، وصار في هزالٍ شديدٍ حيث بلي لحمه بسبب القروح التي ملأت كل جسمه، صار هزاله موضوع حديث يُعلن على وجهه، بمعنى أن ملامحه تشهد لما بلغه من هزال.
يترجم البعض هذه العبارة: "ملأتني تجعيدات، وهذا شاهد علي، وهزالي قام علي ليشهد لوجهي". صار وجهه كله تجعيدات لا بسبب تقدم السن، بل بسبب شدة الأمراض. منظر وجهه يشهد بأنه لم يشكُ من فراغ وبلا مبررٍ.
* يبرهن أيوب أنه اقتنى ربحًا عظيمًا من هجوم المقاتل (الشيطان)، إذ لم يعرف الأخير أن أيوب يُكَلَل بذات الوسائل التي يظن أنه يخدعه بها. لذلك يقول أيوب: "إذ قبضت عليّ، صرت شاهدًا ضدي" (أي 16: 8). فالعدو لم يقبض فقط على خيرات أيوب وأبنائه وبناته، بل قبض أيضًا على أيوب في شخصه، حيث أن المفتري أمسك به ليصارع معه ويغتصبه.
هذه شهادة ضد البار، حُملت بدقة بواسطة الأعداء. ولهذا فبعد فترة قصيرة من هذه المعارك قدم الله تلك الأفكار لأيوب: تظن إني أتحدث معك بطريقٍ آخر... لكنني سأظهر برّك، ستظهر كحامل الله. في كل الأحوال هذه الشرور أيضًا تحمل شهادة لصالح أيوب.
ما حدث لأيوب كرمزٍ تحقق في شخص السيد المسيح. وما حدث مع السيد المسيح، إنما فتح الباب لكنيسته كي تشاركه آلامه وصلبه. لقد سّلم يهوذا الخائن سيده، أما بالنسبة للكنيسة فيبقى ضد المسيح الكذاب يهاجمها خفية حتى يظهر في أواخر الدهور لمقاومتها علنًا في وجهها.
إنها حرب دائمة بين الله وإبليس، أو بين مملكة الظلمة ومملكة النور. في القديم قام أصدقاء أيوب بتمثيل مملكة الظلمة، وفي أيام السيد المسيح ظهرت بشاعتها في التلميذ الخائن المتكاتف مع المقاومين، وبعد صعود السيد المسيح إلى السماء يقاومها أعداء المسيح الكثيرون إلى يوم ظهور ضد المسيح علانية في معركة حاسمة ومُرة.
* "قام عليّ هزالي (باطلي)". يتحدث أيوب عن يهوذا، فقد كان تلميذ السيد (لو 14: 26، 27، 33) ورسوله، لكنه وُجد كذَّابًا (باطلًا يو12: 6)، وخائنًا (لو6: 16).
* "يجاوب (يتحدى) في وجهي". عندما قلت لتلاميذي: "الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني" (يو 13: 21). تجاسر فقال في وجهي في غير خجل: "هل أنا هو يا سيدي؟" (مت 26: 25)
* سيحارب الشيطان عدونا وخصمنا لكي يحفظنا في قبضته. من سيهرب منه؟ ذاك الذي يفهم ما قيل عن الفقير والمحتاج: "الرب يخلصه في يوم الشر" (مز 1:41).
* لا يشعل العدو الحرب ضدنا مباشرة علنًا، بل خلال حيله. ما هي حيل إبليس؟ إنها تكمن في محاولة أسرنا أحيانًا بطرق مختصرة، ولكنه دائمًا يستخدم الخداع... لا يضع العدو التجارب مكشوفة أمامنا. إنه لا ينادي بعبادة الأوثان علانية، لكن خلال خداعاته الحربية يقدم الفرص للعبادة الوثنية، وبالإغراء بالكلام مستخدمًا مهاراته.
*في المعارك العادية لا يقوم القادة بتسليح النساء أو الأطفال أو الشيوخ، أما قائدنا الرب المسيح، فيوزع هذا السلاح الملوكي (الذي هو اقتناء المسيح نفسه) على الكل بالتساوي. عندئذ يعلمهم حيل إبليس العسكرية .
* كل قصة (من قصص معارك العهد القديم) تتضمن نوعًا من النصرة والغلبة على قوات الشيطان الروحية.
* "قام عليّ الكذاب، ضد وجهي يقاومني ". حتى في وقت سلامها تخضع الكنيسة المقدسة للكذاب، إذ أن كثيرين لا يؤمنون بالوعد بالحياة الأبدية، وباطلًا يدعون أنهم مؤمنون. وإذ لا يستطيعون مقاومة كرازتها علانية تتعرض للكذاب من ظهرها وليس أمام وجهها. وإذ يندلع وقت الشر (أيام ضد المسيح)، فإن ذاك الذي يستخف بالكنيسة يقف بإدراك كامل مقاومًا إياها في وجهها، مستخدمًا عبارات صريحة بكلماتٍ يقتبسها من الإيمان الحق.
لكن يجب أن نتحقق أننا إذ نواجه مثل هذه الأمور من أيدي أناس جسدانيين هؤلاء الذين يقتلوننا بعنفٍ، فإنهم ليسوا في عنف الروح الشرير الذي يسود أذهانهم، كقول بولس: "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر" (أف 6: 12).
البابا غريغوريوس (الكبير) * ضُرب المخلص العظيم بالمقارع، وبالحكم الصادر من الحاكم خرج ليصلب!
أتى إلى خاصته، وخاصته لم تقبله، بل أخرجوه بالهزء من عندهم!
خرج ليموت مع الأثمة بغير زلةٍ، حينئذ ندم يهوذا - السراج الذي انطفأ من بين أصحابه - وخزي من الفعل الشرير الذي صنعه.
الذي أسلمه رد الفضة للذين امسكوه حيث ازدرى بنفسه، واعترف أنه أسلمه بالشر... وأيضًا هرب الصالبون كأنهم غير قريبين، وقالوا: ما علينا أنت تعرف.
الدم الزكي طرح الرعب على من سفكوه، وبدأوا يرتعبون ويرتعشون منه قبل أن يهرقوه!
"غَضَبُهُ افْتَرَسَنِي وَاضْطَهَدَنِي.
حَرَّقَ عَلَيَّ أَسْنَانَهُ.
عَدُوِّي يُحَدِّدُ عَيْنَيْهِ عَلَيَّ". [9]
من هو هذا العدو الذي يفترسه بغضبه عليه؟ هل أليفاز ومن معه الذين سحقوه باتهاماتهم ضده ظلمًا؟ أو هل الشيطان الذي لن يستريح براحة إنسان يعبد الله بالحق، فيثير الأشرار عليه؟
يرى البعض أنه في ضعفه يرى عدوه هو الله نفسه الذي سمح له بالتجارب القاسية، والتي لا يعرف أيوب علةً لذلك. إن كان "غضب الملك رسل الموت" (أم 16: 14)، فماذا يكون غضب ملك الملوك؟ لكن واضح من سياق الحديث أنه لا يُقصد ذلك.
*"جمع غضبه ضدي، وهددني، وصرّ أسنانه عليَّ، تطلع إليَّ عدوي بعينين مرهبتين" (أي 16: 9) LXX. من هم الأشرار إلاَّ أعضاء الشيطان؟ لذلك يعمل هو بهم بما يضعه في قلوبهم ويلتزمون به. فالشيطان حتى الآن يضمر غضبًا على الكنيسة المقدسة، لكن غضبه يتشتت، لذا يضع تجاربه الخفية خلال وكالة أفراده...
أسنان هذا العدو هم المضطهدون ومنفذو العذابات على الصالحين، الذين يشوهون أعضاء الكنيسة عندما يصبون المحن على مختاريها باضطهاداتهم لهم. أما عينا هذا العدو فهم الذين يخططون ما هو لضررها للتنفيذ، وبمشورتهم يلقون ضوءً على قسوة مضطهديها. لذلك فإن عدوها القديم يصر بأسنانه عليها، مادام يصطاد خلال أبناء الهلاك القساة حياة الصالحين فيها. يتطلع عليها بعينين مرهبتين، وذلك خلال مشورات الأشرار. فلا يكف عن أن يضع خططًا للمحن لكي يعذبها أكثر فأكثر. وكما أن الحق المتجسد (السيد المسيح) في كرازته اختار أشخاصًا فقراء من العامة وبسطاء، فمن الجانب الآخر الملاك المرتد، الإنسان الملعون، سيختار في نهاية العالم للكرازة ببطلانه ماكرين وملتوين لهم معرفة هذا العالم.
البابا غريغوريوس (الكبير) * انظروا كيف كانت الأمة اليهودية زانية!
احتقرت أباها وأبغضته من سيناء، ولما تجسد ابنه لخلاصها أمسكته ووضعته على الصليب، ووقفت ترقص وتضحك وتزدري وتهزأ.
تعال يا موسى، أنظر العروس التي أخرجتها من مصر، ماذا تعمل بعريسها الطاهر!
تعال، انظر الوليمة التي وضعتها أمامه. أحضرت المر، مزجت الخل، استلت السيف. عوض المن أعطته الخل. عوض المياه المرة التي جعلها لها حلوة، وضعت له المر في المياه الحلوة.
الكرمة المختارة صنعت عنبًا رديئًا.
"فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ.
لَطَمُونِي عَلَى فَكِّي تَعْيِيرًا.
تَعَاوَنُوا عَلَيَّ جَمِيعًا. [10]
أما بالنسبة للسيد المسيح الذي تكاتفت كل قوى الشر ضده، فقد قيل عنه: "فغروا عَليّ أفواههم" (مز 22: 13)، كما قيل: "يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده" (مي 5: 1)، وقد تحقق ذلك حرفيًا (متى 26: 27).
* "لطموني على خدي، كملوا ملء عقوباتي" (أي 16: 10)... هكذا يلطم الأشرار خد الكنيسة المقدسة عندما يضطهدون الكارزين الصالحين.
يظن الخطاة المفقودون أنهم يمارسون عملًا عظيمًا حين يضعون نهاية لحياة الكارزين.
بعد اللطم على الخد لاق القول: "كملوا ملء عقوباتي"، فإن هذه العقوبات تكمل شبعهم، هذه التي تؤدب ذهن الكنيسة بطريقة خاصة.
البابا غريغوريوس (الكبير) * حجبوا عينيه واستهزأوا به، ولكموه، وقالوا له: تنبأ لنا من الذي ضربك!
لطموا بالقصبة الرأس المرتفع، فارتعبت الملائكة!
بهذه الأمور الفاسدة الشريرة كافئوه بجنون...!
صاروا في جنون ليحجبوا وجه شمس البرّ، لئلا يُشرق، فينظر العالم فسادهم.
حجبت العروس الجاهلة العريس، لئلا ينظر فجورها وفسادها.
حجبوا الطبيب، لئلا يضمد جراحاتهم ويشفيهم!
أنظر في المسيح، كم احتمل من الأثمة؟!
ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه!
كيف تجاسرت أيها اللسان أن تنضح بالبصاق...؟!
كيف احتملتِ أيتها الأرض هزء الابن...؟!
نظرة مخوفة، مملوءة دهشًا، أن ينظر الإنسان الشمع قائمًا ويتفل في وجه اللهيب...
وهذا أيضًا من أجل آدم حدث، لأنه كان مستحقًا البصاق لأنه زل! وعوض العبد قام السيد يقبل الجميع!
قدم وجهه ليستقبل البصاق، لأنه وعد في إشعياء أنه لا يرد وجهه عن احتمال خزي البصاق...!
شفق سيد (آدم) على ضعفه، ودخل هو يقبل الخزي عوضًا عنه!
"دَفَعَنِيَ اللهُ إِلَى الظَّالِمِ،
وَفِي أَيْدِي الأَشْرَارِ طَرَحَنِي". [11]
لم يكن للأشرار سلطان على ربنا يسوع المسيح، لكنه إذ قبل أن يكون ذبيحة إثم عن العالم، حبًا في البشرية وطاعة للآب محب البشر، أُعطاهم سلطانًا من فوق (يو 19: 11).
هكذا كانت تطلعات أيوب البار، كان يحسب أن كل حياته في يد الرب، حتى ما يصيبه من الأشرار إنما بسماح من الله، لذا يقول: "دفعني الله إلى الظالم". بنفس الروح عندما سبّ شمعي داود النبي حسب ذلك من قبل الله (2 صم 16: 5-13).
يستخدم الله حتى الأشرار مع تمتعهم بكامل حريتهم ليكونوا سيفًا ضد الأشرار اخوتهم، أو لتأديب أولاده (إش 10: 5) أو تزكيتهم.
* يقول أيوب إن هذا يتم بواسطة "الله". واضح أنه يقصد الآب، لأن الابن الوحيد خضع لهذه (الآلام)، ليس فقط بكامل إرادته، بل وأيضًا حسب إرادة أبيه، لأن إرادة الآب والابن واحدة، إذ يريد أن يتمم عمله العجيب لأجلنا، ويتألم لأجل خلاصنا. حسنًا! لنقارن كلمات أيوب هنا بكلمات المخلص...
"دفعني الرب إلى الظالم"، أي إلى قيافا، هذا الذي استجوبه قائلًا: "استحلفك بالله الحيّ أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله" (مت 26: 63). وقد نال إجابة لم يكن يستحقها، ولكن من أجل أنه استحلفه سمع هذه الإجابة على سؤاله: "من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا على سحاب السماء" (مت 26: 64)، فمزق قيافا ثوبه كمن هو أمام مجدفٍ.
"وفي أيدي الأشرار طرحني"، أي في حضور قيافا وقادة اليهود الآخرين. إذ كيف لا يكونون أشرارًا، هؤلاء الذين صرخوا لبيلاطس: "خذ هذا (للموت)، وأطلق لنا باراباس، هذا الذي طُرح في السجن لأجل فتنةٍ حدثت في المدينة، وقُتلٍ" (لو 13: 18-19).
"كُنْتُ مُسْتَرِيحًا فَزَعْزَعَنِي،
وَأَمْسَكَ بِقَفَايَ فَحَطَّمَنِي،
وَنَصَبَنِي لَهُ هَدَفًا". [12]
كان أيوب مستريحًا في تمتعه بخيرات الرب الزمنية له قبل التجربة، لكنه في وسط التجربة شعر أن كل ما يحدث له ليس جزافًا، ولا هي أحداث عارضة. إنما كأن الله قد زعزعه، وأمسك بعنقه، كما يمسك الأب ابنه في ثورته. كأنه اختاره من بين كل البشرية لينصبه غرضًا أو هدفًا له يُوجه إليه كل سهامه، كأن الله قد أفرزه لهذا الهدف.
*"حين كنت مستريحًا زعزعني، وأمسك بشعري واقتلعه" (LXX). بحق يمكن القول بأن السيد المسيح يدعو رسله "شعره" ماداموا زينة الرأس، فقد كان معهم هو في سلام. لكنهم إذ تركوا المسيح بسبب الآلام، تشتت التلاميذ، ولهذا قال أيوب هذه العبارة. كيف تحقق ذلك؟ قال المسيح نفسه لتلاميذه: "كلكم تشكُّون فيَّ في هذه الليلة" (مت 26: 31)... أضاف يسوع بعد ذلك: "لأنه مكتوب: إني أضرب الراعي، فتتبدد خراف الرعية" (مت 26: 31؛ زك 13: 17).
البابا غريغوريوس (الكبير) * نحن ننظر ونتعجب بالظافر الذي وقف في المحكمة. ابن الأحرار الذي لُطم على خده،
الشمس الذي احتضن العمود (الذي رُبط السيد حوله ليُجلد)،
النار التي تُجلد بالسياط (مت 27: 26)،
النور الذي تحتقره الظلمة (يو 8: 12؛ 1: 5)،
رب جبرائيل الذي ضربه عبد قيافا (يو 18: 22)،
شبل الأسد الذي تنهشه الثعالب الحقيرة (هو 5: 14).
البحر الكبير الذي يحكم عليه التراب.
المخوف الذي على الكاروبيم ركب شجرة الصليب.
واهب السوسن المجد، والورود الألوان المتنوعة (مت 6: 28)، معلق عاريًا في عارٍ.
غارس الفردوس يُعطَى له الخل والمرارة (تك 2: 8؛ مت 27: 34).
اللهيب يُطعن بالحربة (يو 19: 34).
مكلل الشمس بالأشعة وُضع على رأسه إكليل شوك (مت 27: 29).
"أَحَاطَتْ بِي رُمَاةُ سِهَامِهِ.
شَقَّ كُلْيَتَيَّ، وَلَمْ يُشْفِقْ.
سَفَكَ مَرَارَتِي عَلَى الأَرْضِ. [13]
حسب أيوب الذين ساهموا في حلول بلاياه أشبه برماةٍ خاصين بالله، صدر إليهم الأمر الإلهي بتصويب سهامهم نحوه. وقد جاءت السهام صائبة، بلغت إلى كليتي أيوب فشقتهما دون رحمة، كأن غاية السهام هي قتله بلا شفقة.
"سفك مرارتي على الأرض". أخذ هذا التشبيه عما يفعله الصيادون حينما يصطادون وحشًا بريًا ويذبحونه، يلقون بمرارته على الأرض في اشمئزاز. حسب نفسه قد صار بالفعل قتيلًا مُستهدفًا.
"يَقْتَحِمُنِي اقْتِحَامًا عَلَى اقْتِحَامٍ.
يَهْجِمُ عَلَيَّ كَجَبَّارٍ". [14]
لم يُصب أيوب بضربة واحدة قاضية، يموت فيستريح، لكنه أُصيب بضربات متوالية، ضربة تلو الأخرى، وجرح على جرحٍ. فمن جهة لم يسترح بموته، ولا أخذ أنفاسه بين الضربة والأخرى، بل صار يتوقع المزيد، فلا أمل من انتهاء متاعبه، أو حتى التوقف عند الحد الذي بلغ إليه.
ربما شعر كأن الله يقتحمه كجبارٍ، كما كان الملوك القساة حين يغلبون يأتون بأعضاء الأسرة الملكية المنهزمة، ويلقون بهم على الأرض، ويطأ الملك بقدمه على رقابهم، كنوِع من الاستعباد والإذلال والتشهير بهم.
يرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن أيوب يتحدث عن عدو الخير الذي لن يتوقف عن اقتحام الكنيسة ليسلب الأعضاء الضعيفة كأسرى تحت سلطانه، فيهجم على الكنيسة كماردٍ جبارٍ. يحارب العدو الكنيسة كجماعةٍ، كما يحارب كل عضوٍ فيها بكل الوسائل الممكنة، حتى يحطم إن أمكن الكثيرين.
* "يقتحمني اقتحامًا على اقتحامٍ". تنكسر الكنيسة المقدسة باقتحامٍ على اقتحامٍ خلال أعضائها الضعيفة، عندما تُضاف خطية على خطية، حتى يبلغ الإثم إلى درجةٍ خطيرةٍ. ينطبق هذا على من يدفعه الطمع إلى السرقة، والسرقة إلى الخداع، فيدافع عن الخطية بالكذب...
"يلتقي به مثل المارد" (LXX). يمكن مقاومة العدو بسهولة إن كان الشخص لا يوافقه، سواء من جهة الارتداد عن الإيمان أو الاستمرار فيه. ولكن إن اعتادت النفس على الخضوع إلى إقناعاته، فبقدر ما تخضع لها، يصعب عليها جدًا أن تصارع ضده في قليلٍ أو كثيرٍ.
عدونا الشرير "مثل مارد" يحارب ضدها عندما تُغلب بعادة شريرة. ولكن غالبًا ما ترد الكنيسة المقدسة أذهان المؤمنين إلى التوبة، حتى بعد ارتكاب الخطايا وتغسلها من ممارسة الخطايا بفاعلية تأديب الإنسان لنفسه باختياره.
البابا غريغوريوس (الكبير) قدم لنا القديس مار يعقوب السروجي في رسالته (19) التي أرسلها إلى دير مار اسحق جيولا صورة حيَّة عن مقاومة إبليس للبشرية. يقول إنه بدأ حربه بالكذب (يو 8: 44) ويود أن ينهيها بالضلال.
في الجيل الأول في جنة عدن، ألقى العداوة بين الله وصورته (آدم وحواء).
وفي الجيل السابع علَّم الإنسان الزنا، ودنّس أولاد الله (أولاد شيث الطاهر) ببنات قايين الطريد وجمالهن المزركش.
وفي الجيل العاشر امتلأت الأرض بالأثمة. أرسل الله الناموس الإلهي، يمد يد موسى كمصباحٍ ينير الأرض التي أظلمت.
وفي الجيل الرابع عشر امتلأت الأرض بعبادة الأصنام، ونُسي الله حتى في وسط شعبه. فأرسل الله إيليا النبي -موسى الثاني- ليعلن عن غيرته على مجد الله ضد الضلالة.
وفي آخر الأزمنة أرسل الله ابنه متجسدًا، وصار واحدًا منا، ليجعلنا معه ومثله، وأعطانا نفسه ليأخذنا لأبيه، ونزل إلى أسفل العمق ليرفعنا إلى قوة العلو، وتواضع غاية التواضع ليحتقر بتواضعه الأثيم ذاك الذي أراد أن يصير إلهًا بالاختلاس.
* يشن العدو حربًا ليخرج (المرء) من شكل إلى شكل آخر. وعندما يخرجه من ذلك الشكل، يبدأ يلوم نفسه بأفكار الكآبة التي يلقيها الشيطان في عقله، فيفكر أنه أساء التصرف يوم بدّل عمله والتحق بعملٍ آخر.
إنه يقلقه في كل الفرص، وفي كل ما يعمله، لكي يستقطبه، جاذبًا إياه إلى مشوراته الماكرة والمعاكسة.
"خِطْتُ مِسْحًا عَلَى جِلْدِي،
وَدَسَسْتُ فِي التُّرَابِ قَرْنِي". [15]
لم تعد ثيابه الفاخرة تليق بجسمه المملوء قروحًا، ولا تناسب من هو في كربٍ كهذا، لهذا خاط لنفسه مُسحًا؛ خاط المسح بنفسه، إذ لا يوجد من يشفق عليه ليخيطه له وسط آلامه الشديدة.
كان "القرن" يشير إلى السلطة والقوة؛ فداس بنفسه في التراب قرنه، علامة رفضه التام أية كرامة أو رفعة. لقد حسب أيوب أن التراب هو أفضل موضع لا للجلوس في وسطه فحسب، بل وليردم فيه كرامته وسلطانه.
* ماذا يقصد بالمُسح والرماد سوى الندامة، والجلد والجسد سوى خطايا الجسد؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
"اِحْمَرَّ وَجْهِي مِنَ الْبُكَاءِ،
وَعَلَى هُدْبِي ظِلُّ الْمَوْت"ِ. [16]
لم يفقد أيوب الفرح فحسب، وإنما صار الوقت لائقًا أن يذرف الدموع من أجل خطاياه، ومن أجل تأديبات الرب له، وقسوة أصدقائه عليه، فصار وجهه محمرًا من البكاء، وحملت عيناه علامات الموت.
العجيب أن أيوب قد أحمر وجهه كله، وليس فقط عيناه، وذلك بالدموع الكثيرة، لكنه لم يخشَ الموت، إذ صار بلا سلطان عليه. رآه ظلًا عابرًا بعد أن قاد المسيح بنفسه عجلة الموت ليحطم بها الموت نفسه، ويهبنا قوة قيامته. هذا ما تتغنى به الكنيسة مسبحة القائم من الأموات: "بموته داس الموت!"
* "على جفون عيني ظلال الموت" (أي 16: 16). ليس الموت بل "ظلال الموت"، لأن المخلص نائم. لهذا تنبأ الأب يعقوب عن موت المخلص من أجلنا، ناطقًا بالكلمات التالية في بركته: "من نسلي يا ابني تصعد، ترقد كأسد ومثل شبل، ومن عندئذ يوقظه؟" ( راجع تك 49: 9). فإنه ليس بمحتاج إلى أحد يوقظه، هذا الذي يقيم كل البشرية. إنما قام بنفسه بإرادته.
*"جفوني أظلمت" (LXX): بحق لقبوا أولئك الذين يؤتمنون على الحراسة من أجل أمان سبل الأقدام بالجفون. ولكن لا يقدر الولاة الحارسون على فهم أحكام الله السرية، "جفون" الكنيسة المقدسة "تظلم".
البابا غريغوريوس (الكبير) * استخفت الحياة بالموت، قائلة: "أين شوكتك يا موت؟ وأين غلبتكِ يا هاوية؟" (1 كو 15: 54-55).
في نهار الأحد فُتح لهم باب السماء الذي كان موصدًا يوم الجمعة في وجه الملائكة لئلا ينزلوا إلى الجلجثة، فأسرعوا لينحدروا بثيابهم البيض، ليستقبلوا ملكنا الذي خلص المسبيين وعاد عند أبيه.
صار القبر الجديد بيت العرس، أُنشأ في الحديقة للعريس المذبوح، الذي أعاد العروس من حرب الأعداء.
اجتمع وحضر إلى الباب الحسن الملائكة في ثيابهم البيض، والتلميذات بأطيابهن (لو 23: 56). سمعان ويوحنا يركضان بسبب الأخبار السارة (يو 20: 3-8). كليوباس وأخوه (سمعان) تنفتح أعينهما بخبز البركة لينظرا القيامة علنًا. الأصدقاء يكشفون عن وجوههم، والمبغضون يطأطئون رؤوسهم.
حنان خجل، وقيافا لا يستطيع أن يتكلم.
يهوذا مشنوق، ورؤساء المجمع يلطمون على وجوههم.
أُغلق باب الهاوية، وفُتح باب المعمودية.
نُصب الصليب في مجاري المياه.
جاء القطيع الناطق ليرتوي من المياه التي سالت من الصليب.
نظر إليه وهو لابس النور، وواقف على الينبوع، فحبل وولد على شبه منظر نوره الحسن.
لبس بياضًا ناصعًا كالنور، وجعله أبيض كالثلج...
القطيع كله أبيض، لأن الصليب كله متشح بالنور.
* بعد أن جاء المسيح ومات لأجل حياة العالم لم يعد ُيدعى الموت موتًا، بل نومًا ونياحًا.
* أما تعرف كيف أصلح الصليب أخطاء كثيرة؟ ألم يحطم الموت، ويمسحُ الخطية، وينهى قوة الشيطان، وُيشبع كيان جسدنا الصالح؟ ألم يصلح العالم كله، ومع هذا لا تثق أنت فيه؟
* من يخبر عن أعمال الرب القديرة؟ (مز 2:105) من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم النصرة والطريق التي بلغتها؟ تعلموا كيف اُقتنيت هذه الغلبة بدون تعب وعرق. لم تتلطخ أسلحتنا بالدماء، ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة، لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو (تمتعنا) بمسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا.
مادامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنودٍ أن نرتل اليوم بأصوات مفرحة بتسابيح الغلبة. لنسبح سيدنا قائلين: "قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت أين شوكتك يا هاوية؟" (1 كو 54:15-55).
|