رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
من حق المتألم أن يشكو "فأجاب أيوب وقال" [1]. إن كان الذي دخل معه في الحوار أليفاز إلا أن أيوب أدرك أن أليفاز يتكلم باسم الكل معُا، لذا وجه أيوب إجابته للجميع (15:5). اتسم أيوب بالتعقل والاتزان إذ لم يقاطع أليفاز الذي بدأ حديثه بقسوة. واستمع أيوب بصبرٍ حتى أكمل أليفاز كل ما أراد أن يقوله. لَيْتَ كَرْبِي وُزِنَ، وَمَصِيبَتِي رُفِعَتْ فِي الْمَوَازِينِ جَمِيعَهَا [2]. كشف أيوب عن كربه، أنه لا يمكن تصويره تمامًا، ولا أن يدركه أحد إدراكًا كاملًا. وليس من ميزانٍ في العالم يستطيع أن يزن حزنه، فطلب أن تُجمع كل الموازين لتزن حزنه الشديد. * "فأجاب أيوب وقال: آه، من يزن بالحق كربي، ويرفع مصيبتي في الموازين جميعها؟" هذه العبارة تخص الكلمات السابقة (3:4-5): "أنت قد أرشدت كثيرين... وثبت الركب المرتعشة، والآن إذ جاء عليك ضجرت، إذ مسَّك ارتعت". أود أن تصير كربتي واضحة، وتدرك أنه ليس أحد اختبر مثل هذه الأحزان. تطلع إلى كارثتي، فإنها بطبيعتها تقيم لي عذرًا، وإن كان على وجه الدقة ما يخصني هو أمر لا يغُفر... لقد برهن أليفاز على أن هذه الكارثة بسبب شره، مقدمًا الحجة على ذلك: "أذكر من هلك وهو بريء، وأين أبيد المستقيمون؟" (7:4). إنه يقول تمامًا كما قال البرابرة عن بولس بعد أن لدغته الحية في مالطة: "لم يدعه العدل يحيا ولو نجا من البحر" (أع 4:28). يقول: البشر - خاصة العامة - يحكمون على الأحداث بطريقة ساذجة عشوائية، لا يضعون أساسًا لأحكامهم على تصرفات الشخص، بل بالحري على ما يحل به من تأديبات وعقوبات. لهذا يقول أليفاز: "هل المائت (الإنسان) أبرّ من الله؟" (17:4). يجيب أيوب: لا أستطيع أن أجيب، ولا أن أقول إنني أعاني من أحزانٍ كثيرةٍ ومرعبةٍ هكذا دون أن أرتكب أية خطية، فإن الضربات تنطق ضدي. يقول: إني أستطيع أن أقترب من القدير وأناضل معه. القديس يوحنا الذهبي الفم البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّهَا الآنَ أَثْقَلُ مِنْ رَمْلِ الْبَحْرِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَغَا كَلاَمِي [3]. كانت كوارثه مضاعفة وثقيلة جدًا لا يُمكن إحصائها ولا وزنها، فهي "أثقل من رمل البحر". لهذا طلب التماس المعذرة إن "لغا كلامه" أي وجد فيها ما يبدو باطلًا أو ممتزجًا بمرارة، فإنه وسط هذه الآلام يصعب تزيين الكلمات أو حتى ضبطها. هكذا يعتذر أيوب عما صدر من فمه تعبيرات ثائرة عندما سبَّ يوم الحبل به أو يوم ميلاده. فهو لا يبرر ذلك، لكنه كان يتوقع من أصدقائه أن يضعوا في اعتبارهم حاله قبل أن ينتقدوه. كان يليق بهم أن يترفقوا به وسط هول مصيبته، فهو في حاجة إلى الحنو لا إلى النقد المر. * إن وضعت كربي في ميزان، أحكامي مع عذابات آلامي، وتزنهم، ليس منفصلين بل جميعًا معًا، تجد أحزاني "أثقل من رمل البحر". لأن ما أحزن أيوب ليس فقدان ممتلكاته، وخسارة ثروته، وسحق أبنائه، ولا القيح الصادر عن قروحه، بل النتائج المؤلمة التي بلغت إليها روحه... كل أمواج البحر الظاهرة ليست في ثقل الكلمات التي تصدر مع التدمير الصادر عن مقاطعة العدو. الأب هيسيخيوس الأورشليمي لأَنَّ سِهَامَ الْقَدِيرِ فِيَّ، تَشْرَبُ رُوحِي سُمَّهَا، أَهْوَالُ اللهِ مُصْطَفَّةٌ ضِدِّي [4]. ما هي سهام القدير التي تصوب نحو أولاد الله، فتشرب روحهم؟ إنها سهام الحب التي يصوبها الله نحو قديسيه فيُجرحون بالحب الإلهي، ويشتهون الموت ليَلتقوا معه، ويختبروا محبته الإلهية في أكمل صورها. يرى كثير من الآباء أن الآب في محبته للبشرية صوَب سهمه الثمين، كلمة الله، حيث دفع به نحو قلوب البشر، ليجرحهم بجراحات الحب، فتصرخ النفس: "أنا مجروحة حبًا" (نش 5:2). وكما يصوب الله سهام حبه نحو قلوبنا ليهبها جراحات الحب الواهبة للشفاء والسعادة على مستوى أبدي، هكذا يقذف عدو الخير سهامه الملتهبة نارًا في قلوب البشر لكي يقتلها، ويؤهلها لجهنم الأبدية (أف 16:16). هذه الصورة حتمًا منقولة عن عادة شائعة بين الأمم المتبربرة حيث يغمسون رؤوس السهام في مواد سامة، حتى متى أصابت أحدًا تفيض بهم إلى الموت. إن كانت الكوارث التي حلت به لا يمكن لموازينٍ أن تزنها، فإن ما هو أخطر من ذلك السهام الداخلية، سهام القدير التي وُجهت إليه. يرى الله الذي يحبه ويعبده قد جلب عليه تلك المتاعب، وصَّوب سهامه فيه. شعر كأن حمتها أو السم الذي مُسحت به السهام قد تسرب إلى روحه، ففقد اتزانه وانهارت أعماقه. لقد وقف مذهولًا. إنه في معركة أمام جيش الله المصطف ضده، يحاربه الله بأهواله، فمن أين له بالتعزية؟ لا يستطيع أن يرفع عينيه إلى السماء، إذ لا يجد تعزيات تحل عليه منها، بل أهوال الله تقاومه. * مدحت العروس رامي الرمح على تصويبه الدقيق، لأنه رماها بسهمه. فقالت العروس: "إني مجروحة (مريضة) حبًا" (نشيد 5:2). تعني هذه الكلمات أن سهام العريس قد نفذت إلى داخل قلبها. إن مُصوّب هذه السهام هو الحب (1 يو 8:4)، الذي يرسل "سهمه المختار" (إش 2:49)، الابن الوحيد، إلى هؤلاء الذين يخلصون، ثم يغمس سن السهم الثلاثي في روح الحياة. وسن السهم هو الإيمان وبواسطته يقدم الله مُصوّب السهم وكذلك السهم معًا إلى القلب كما يقول السيد المسيح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلًا" (يو 23:14). الأب غريغوريوس النيسي حقًا نتطلع عادة إلى السهام بكونها كلمات الله. ولكن هل استطاع أن يشعر بآلام كثيرة عندما طُعن بها؟ كلمات الله، وإن كانت سهامًا، فهي تثير الحب لا الألم. أو هل هي سهام لأنه لا يوجد حب بدون ألم؟ عندما نحب شيئًا دون أن نملكه لا نستطيع إلا أن نشعر بحزنِ. الإنسان يحب بغير ألم عندما يملك موضوع حبه، فلا يتألم ولا يتأوه. لهذا فإن عروس المسيح في شخص الكنيسة تنطق بهذه الكلمات في نشيد الأناشيد: "فإني مجروحة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8). تعلن بنفسها أنها مجروحة بالحب. إنها تحب ما لم تبلغه بعد، إنها تحزن لأنها لم تقتنه بعد. وإذ تحزن تُجرح، ولكن هذا الجرح يُحضرها سريعًا إلى كمال الصحة الحقيقية. من لا يُضرب بهذا الجرح لن يقدر أن يبلغ تمام الصحة الحقيقية. *"سهامك انغرست فيٌ، ويدك ثقلت عليٌ" (مز 2:38)... ذات العقوبة (التي على آدم)، ذات السخط، أي آلام كل من الذهن والجسد، هي ضرورة يلزمنا أن نحتملها هنا، هذه التي وصفها بأنها "سهام". وقد أشار أيوب إلى ذات السهام (4:6)، وقال إن سهام البرّ انغرست فيه، بينما كان يعاني تحت تلك الآلام. لقد اعتدنا أيضًا أن ندعو كلمات الله سهامًا كمن تهب الحب لا الألم... لنفهم إذن "سهامك انغرست" هكذا: "كلماتك انغرست في قلبي". بهذه الكلمات ذاتها يحدث أن أتذكر السبت، وبتذكري السبت (الأبدية) وعدم نوالي إياه، أُحرم من الفرح في الوقت الحاضر، وأتذكر أنه ليس لي صحة في جسدي، بل ولا يليق بي أن أحسبها صحة عندما أقارنها بالصحة التي أنالها في الراحة الأبدية، حينما يلبس هذا الفاسد عدم الفساد، وذاك المائت عدم الموت (1 كو 53:15)، وأرى بمقارنة ما سأكون عليه أن الصحة الحاضرة ليست إلا مرضًا. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم الأب هيسيخيوس الأورشليمي هَلْ يَنْهَقُ الْفَرَاُ عَلَى الْعُشْبِ، أَوْ يَخُورُ الثَّوْرُ عَلَى عَلَفِهِ؟ [5] كان يليق بهم عوض نقده أن يشاركوه آلامه، فإن شكواه ومرارة نفسه ليست من فراغ، فالحيوانات غير العاقلة لن تصرخ بدون سبب. عبٌر أيوب عن حال الهزال الذي بلغه بسبب كثرة الكوارث وشدتها وعنصر المفاجأة بجانب عدم مبالاة أصدقائه لحاله، فعوض تقديم كلمة تعزية تسنده، بدأوا يكيلون له اتهامات كثيرة وخطيرة. صار أشبه بحجرٍ بلا إحساس، ليس في قدرته أن يعبر عما في داخله، فلا يقدر أن ينهق مثل الفرا (الحمار الوحشي) لأنه لا يجد عشبًا، ولا يصيح (يخور) كالثور على علفه. اضطر أن يأكل طعامًا لا يليق به كإنسان دون أن يفتح فاه. لقد صار في موقفٍ لا يُحسد عليه، فهو يعلم أنه لا يقدر أن يتبرر أمام الله، لكنه كان يترقب كلمات تعزية من أصحابه، تفتح أمام نفسه المحطمة أبواب الرجاء، لا أن يحطمه اليأس. يرى البابا غريغوريوس أنه صار كمن سقط تحت لعنة الناموس الفاضح للخطية دون أن تمتد إليه النعمة لتقيمه. حقًا ليس في الناموس خطأ، إنما الحاجة إلى النعمة الغافرة للخطايا التي كشفها الناموس. كان يليق بأصدقاء أيوب أن يسندوه بالتطلع إلى نعمة الله، لا أن يبكتوه بمرارة ويحطموا نفسه. * هل يمكن لأحدٍ أن يذوق ما يجلب موتًا بتذوقه؟ فإن من يتذوق الناموس بطريقة جسدانية يجلب موتًا، إذ وصيته تُظهر الخطية ولا تزيلها... كما يشهد بولس قائلًا: "إذ الناموس لم يكمل شيئًا" (عب 19:7). وأيضًا: "إذ الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة" (رو 12:7-13)، بعد ذلك يقول للحال: "لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتًا لكي تصير الخطية خاطئة جدًا بالوصية" (رو 13:7) البابا غريغوريوس (الكبير) الناموس الذي يدين أُعطي بموسى، وأما النعمة التي تبرر، فقد صارت بواسطة الابن الوحيد. فكيف لا يكون المسيح فائق المجد وبما لا يمكن مقارنته؟ القديس كيرلس الكبير ثيؤدورت أسقف قورش * ألقى الرب بشجرة في المياه، مما جعلها عذبة. أما عندما تأتي شجرة (صليب) يسوع، ويسكن في داخلي تعليم مُخلصي حينئذ يصير ناموس موسى "عذبًا"، ويصير مذاقه، لمن يقرأه ويفهمه، بالحقيقة حلوًا" . العلامة أوريجينوس هَلْ يُؤْكَلُ الْمَسِيخُ بِلاَ مِلْحٍ، أَوْ يُوجَدُ طَعْمٌ فِي مَرَقِ الْبَقْلَةِ؟ [6] كان أيوب ملحًا نزع بنعمة الرب وبحبه الفائق الفساد عن كثيرين، مقدمًا لهم تعزيات سماوية صادقة، والآن إذ دخل في بوتقة التجارب لم يقدم له أحد ملحًا. لقد صار في فقرٍ مادي مدقعٍ، وفي فقره لم يجد ملحًا يملح به الطعام الماسخ الذي يتصدق به البعض عليه. * "هل يمكن للطعام الكريه أن يؤكل بدون ملح؟" (أي 6:6) في الناموس المعنى الخفي هو ملح الحرف. فمن يعتمد على الملاحظات الجسدية ويرفض فهم المعنى الروحي ماذا يفعل سوى أنه يأكل طعامًا كريهًا؟ ولكن هذا الملح، أي الحق، يوضع في الطعام عندما تعلم أن رائحة المعنى الخفي توجد في أعماق الناموس، قائلًا: "لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني" (يو 46:5). وأيضًا: "ليكن لكم في أنفسكم ملح، وسالموا بعضكم بعضًا" (مر 50:9). البابا غريغوريوس (الكبير) عَافَتْ نَفْسِي أَنْ تَمَسَّهَا، فَصَارَتْ خُبْزِيَ الْكَرِيهِ! [7] ما كانت نفسه تعافه في أيام رخائه، وما لم يكن قادرًا أن يمسه بيده صار خبزه الكريه. يقول المرتل:"صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا، إذ قيل لي كل يوم: أين إلهك؟" (مز 42: 3). "قد أطعمتهم خبز الدموع، وسقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5). "إني قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابي بدموعٍ" (مز 102: 9). "قال الرب: هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين أطردهم إليهم" (حز 4: 13). كما قيل: " قل لشعب الأرض هكذا قال السيد الرب على سكان أورشليم في ارض إسرائيل، يأكلون خبزهم بالغم، ويشربون ماءهم بحيرةٍ، لكي تخرب أرضها عن ملئها من ظلم كل الساكنين فيها" (حز 12: 19). "هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب" (عا 8: 11). * "ما عافت نفسي أن تمسها، هذه صارت مثل خبزي الكريه" (أي 7:6). قبلًا كانت النفس مهتمة فقط بما لنفعها، مشمئزة من أن تحمل أثقال الغير، عطفها على الآخرين قليل، وكانت عاجزة عن أن تواجه المضادين. الآن تلزم نفسها أن تحتمل ضعف قريبها. إنها تحتاج إلى قوة لتغلب المضاد، حتى بحب الحق تطلب متاعب الحياة الحاضرة بشجاعة عظيمة هكذا، حتى الأمور التي كانت قبلًا تهرب منها في ضعفها. فبانحنائها (من أجل الغير) تُبنى. بانجذابها إلى الغير تمتد إلى قدام، وبمشاركتها المشاعر تتقوى، وإذ تنفتح لحب قريبها تكون كمن بتصميم عزيمتها ترتفع نحو خالقها. البابا غريغوريوس (الكبير) يقول هكذا: ما كنت قد اخترت أن أنتحب على هذا الأمر، لو لم توجد ضرورة تحثني على هذا. فإن كان ليس من المقبول أكل خبز بلا ملحٍ، فليس أقل من أن ألتزم بالنحيب وأتوجع وانطق بكلمات زائدة... "فإن نفسي لا تجد راحة"، لماذا؟ لأني أعرف أن طعامي له رائحة تعافه النفس كرائحة الأسد. القروح والصديد لا يكفيان، فأضاف عذابًا جديدًا. المرض قد أفسد كل أحاسيسه حتى صار الطعام بالنسبة له عذابًا. يقول إن الغثيان مع رائحة كريهة للغرغرينا نزعت تمييزه الحسي. أي شيء أكثر عذابًا من هذا؟ النوم لا يعطي راحة والطعام لا يقوته! القديس يوحنا الذهبي الفم |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|