رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الرجّاءُ لا يُخيّبُ صاحِبَهُ مَثَلُ القَاضِي الظَّالِم، مَثَلٌ مِن خِلَالِهِ يُريدُ يَسوع أَنْ يَقولَ لَنا، بِأَنْ إِذا كَانَ البَشَرُ قَادِرينَ عَلَى إِحقَاقِ الحقِّ، وَتَحقيقِ جُزءٍ مِنَ العَدَالَةِ بَينَ بَعضِهم البَعض، فَاللهُ رَبُّ جَميعِ البَشَر، الّذي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ الحُكمِ والقَضَاء، قَادِرٌ عَلى إِنصافِ مُلْتَمِسيهِ وَمُتَّقيه. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخرَى، نَسْتَشِفُّ أنَّ الْمُعضِلَةَ تَكمُنُ أَحيانًا في طُولِ أَنَاةِ اللهِ وَقِلَّة صَبرِ الإنْسَان، أَو في تَعارُضِ مَشيئةِ اللهِ وَطَريقَتِهِ في التَّعَامُلِ مَع القَضَايا والأمور، مَع رَغبَةِ وطريقةِ الإنسان! فَعِندَ الْمَواقِفِ والأحدَاث، نحنُ نَطلُبُ حُلُولًا فَوريَّةً توُافِقُ رَغَبَاتِنا، وَأَجوِبَةً سَرِيعَة نُريدُ أَنْ نَسمَعَها. وَهَذا مَا لا يَحدُثُ غالِبًا، كَمَا تُعلِّمُنَا الخبرَةُ مَع الله! وَها هي الآيةُ الثّامِنَةُ مِنَ الْمَزمورِ 103، تَقول: ﴿الرَّبُّ رَؤوفٌ رَحيم، طَويلُ الأناةِ كَثيرُ الرّحمة﴾. وَفي الأمْثِلَةِ الشَّعبِيَّةِ نَقُول: "إنَّ اللهَ يُمهِلُ ولا يُهمِل". دَلالَةٌ عَلى أَنّ اللهَ لَو لَم يَستَجِبْ فَورًا كَمَا نَتَمنَّى، فَلا يَعني ذَلِكَ أَنّهُ قَد نَسِيَ أو غَفِلَ، أَو قَدْ يَعني ذلِك أَنَّ إِرَادَتَهُ هِيَ أَمرٌ آَخَر، أَو أنَّ هُناكَ عوائِقَ طَبيعيَّةً أَو حَتَّى وَضْعِيَّةً مَقْصُودَة. وَمَع ذَلِك، أَرَى أَنَّ جَميعَ هَذهِ الأسبابِ وَالْمُبَرِّرَات، قَدْ لا تُقنِعُ إنْسَانًا يَتَألَّم لحَاجَةٍ أَو سُؤال، مَشْروعٍ وَعادِل، ولا يَجِدُ إِجَابَةً أَو استِجابَةً مِنَ لَدُنِ الله! وَهُنا يَأتي قَولُ الْمَسيح: ﴿مَتَى جَاءَ ابنُ الإنسان، أَتُراهُ يَجِدُ الإيمانَ على الأرض؟﴾ (لوقا 8:18)، أَي في قُلوبِ النَّاس! لأنَّ الْمُؤمِنَ قَدْ يحبَطُ مِن إِبْطَاءِ الله، أَو عَدمِ اسْتَجابَتِهِ سُؤلَهُ بالشَّكلِ الّذي يَتَمَنَّاه، وَبِالطَّريقَةِ الّتي يَرجوهَا. هَذه كانَتْ حَالَةُ التّلاميذ الْمُحبَطين، بَعدَ صَلبِ يَسوع. فَنَذكُرُ تِلميذي عِمَّاوس وَهُمَا نَازِلانِ مِن أورشليم، كيفَ قَالَا للمسيحِ الّذي تَرَاءى لَهُما: ﴿كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّهُ هوَ الّذي سَيَفتَدي إسرائيل﴾ (لوقا 21:24). جملةٌ تحمِلُ كَثيرًا مِن مَشاعرِ خَيبةَ الأملِ والانْكِسار! وَنحنُ يَا أَحبَّة، حالُنا كَحَالِهم، عِندَمَا نَتَعرّضُ لِصَدمَةٍ أَو بَلوَةٍ أو مُصيبَة، وَنَشعرُ فيهَا أنَّ الله قَد تخلَّى عنَّا وابتَعَد، تَنْتَابُنَا هَكَذَا مَشاعِر. وَنَتيجَةً لِذَلِك، قَدْ يُشَكِّكُ البَعضُ في قُدْرَةِ الله، رَافِضًا مَشيئَتِه، مُنْقَلِبًا مِن حَالَةِ إيمان، إلى حَالَةٍ مُغَايرَةٍ تَمامًا، تَصِلُ حُدودَ الغَضَبِ والقنوطِ، أَو الكُفْرِ وَالجُحود! حَتَّى أنَّ الْمَزمورَ الثّاني والعِشرين، يُعبِّرُ عَن هَذهِ الحالَةِ الرُّوحِيّةِ الْمُرَّةِ وَالعَنيفَة، الّتي قَدْ تَعْصِفُ بِالْمُؤمِن، فَتَهُزُّ أَركَانَ إيمانِه. فَالآيَةُ الثّالِثَة مِنهُ تَقول: ﴿إلَهي، في النَّهارِ أدْعو فَلا تُجيب، وَفي الّليلِ لا سَكينَةَ لي﴾ (مز 3:22). كَمْ مِنَ الصَّلَواتِ اِرْتَفَعَت طَلَبًا؟ كَمْ مِن الطَّلَباتِ سُئِلَت تَوَسُّلًا، أَمامَ مَذبحِ الرب، أَمَامَ أَيقونَةِ السَّيدَة: عِندَ حَدَثٍ أَليم، عِندَ مَرَضٍ عُضَال، عِندَ لَحظةِ ضَعف، عِند ظُلمٍ وَقَعَ عَلَينَا، عِندَ حَاجَةٍ مُلِحَّة، عِندَ وَضعٍ صَعب...إلخ، وَمَع ذلِك شَعَرنا أنَّ اللهَ قَدْ خَذَلَنا، لَمْ يُنصِتْ إِلَينَا، أو قَدْ تَخلَّى عَنّا! فَصَرخنَا صرخَةَ صَاحِبِ الْمَزمورِ الْمُعَذَّب: ﴿إلهي، إلهي، لِمَاذا تَركتَني؟﴾ (مز 2:22). وَهِيَ صَرخَةُ عَتَبٍ شَديدَة، مَليئَةٍ بالإحباطِ مِن نَاحيَة، وَلَكنَّهَا لا تَزالُ مُؤمِنةً مِن ناحيةٍ أُخرَى، جَرّاءَ وَاقِعٍ صَعَب، أَردتُ فِيهِ أَن يَتَدَخَّلَ اللهُ كَمَا أُريدُ وأَبْغي، وَلكن لَم يَحصُل ذلك! هَلْ إِرادَتُه تَعالَى شَيءٌ آَخَر، هَل يريدُ الاستِجَابَة، وَلَكن لم تَأتِ السّاعَةُ بَعد... يُمكِنُنا أن نَضعَ عَشراتِ الاستنتاجات. ولكن تَبْقَى الخِبرَةُ خِبرةَ ألم! وَهذا مَا يُؤكِّدُ عَلَى أَنَّ امتِحَانَ الْمُؤمِن، في هَذِهِ الحَياة، هُوَ امتِحَانُ إيمان، قَبلَ كُلِّ شَيء. فِيهِ يَظَلُّ البَعضُ أَمْينًا لإيمانِه، وَفيهِ يَفقِدُ البَعضُ إيمانَهُ! ذلِكَ أنَّ مِحنَ الحياةِ وَشَدَائِدَهَا، وَكَثْرةِ ضِيقَاتِها وَخَيبَاتِ آَمالِها، قَادرةٌ عَلى أَن تَهوي بِصَرْحِكَ الإيمانيّ وَتُطيحَهُ أَرضًا، لِأنَّهُ بِبَسَاطَة كَانَ عِبَارةً عَن كَومَةِ قَشْ لَيسَ أَكثَر، تحرِقُه أَدْنى شِدَّة. كانَ "صَرحًا مِن خَيالٍ فَهَوى"، كَمَا يَقولُ إبراهيم نَاجي في قَصيدَتِه الأطلال، والّتي غَنَّتهَا بِصَوتِها العَذبِ أُمُّ كلثوم! دَعونَا نَعودُ إلى الْمَثلِ مِن جَديد. هو يَتَحَدَّثُ عَنْ امْرَأَةٍ أَرْمَلَة، فَقَدَت زَوجَها، وَأَصْبَحَت وَحدَهَا بِلا نَصيرٍ أَو ظَهير، تُعَارِكُ الحياةَ وَتُصارِعُها. وَلِهذِه الأرملَةِ خَصْمٌ ظَلَمَها وَأَوقَعَ شَرَّهُ عَلَيها. فَتَأتي إلى القَاضِي طَالِبَةً العَدلَ والإنْصاف. وَمَع أنَّهُ قَد أَبَى عَليها ذلِكَ مُدَّةً طَويلة، إلّا أنَّها لم تَيأَس، بَل ظَلَّت مُصِرَّةً عَلَى انْتِزاعِ حَقِّهَا، إلى أَنْ حَصَلَت عَليه آَخِرَ الأمر. هَذا الْمثَل ضَرَبَه يسوع لِيُريَنَا ضَرورَة الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّلاةِ وَالثَّبَاتِ عَلَيها، مِن غَيرِ مَلَل! لأنَّنَا بِبَسَاطَةٍ مُعرَّضونَ للإصابَةِ بالْمَلَلِ والكَسَل مِنَ الصّلاةِ، عِندَمَا نَشعرُ أَنَّهَا بِلا فَائِدَة، فَنَهجُرُها وَنتَخلَّى عَنها، وَكَأنَّ اللهَ الّذي إليهِ نَبُثَّ صَلاتَنَا، لا يُصْغي ولا يُجيب! حَتَّى أَنَّ القِدّيسينَ الشُّهَدَاء، في سِفرِ الرّؤيا يَصيحونَ إلى الله قائِلين: ﴿حَتَّامَ يا أَيُّها السّيدُ القُدّوسُ الحَق، تُؤخِّرُ الإنْصافَ والانْتِقامَ لِدِمائِنا مِن أهلِ الأرض﴾ (رؤيا 10:6). أَلا نَطلُبُ نحنُ أَيضًا الانْصَافَ والجَزاءَ الإلهي، جَرَّاءَ ظُلمٍ وَجَور، واعتِداءٍ وافْتِراء؟! أَلا نَقرَعُ بَابَ اللهِ كُلَّ يوم، وهوَ الّذي قال: ﴿إِسْأَلوا تُعطَوا، أُطْلُبوا تَجِدوا، إِقْرَعوا يُفتَح لَكُم﴾ (متّى 7:7)، نَسْأَلُهُ أَن يَنظُرَ إِلَينَا وَيَتَحَنَّنَ عَلَينا، وَيَشفِيَ وَيَرحَم، وَيَستَجِبْ سُؤلَنا؟! وَكُلَّمَا طَالَ انْتِظَارُنا، زَادَ أَلَمُنا وَشَقَاؤُنا! خِبْرةُ الانْتِظَارِ مع الله، خِبرَةٌ صَعبَةٌ وَمؤلِمَة! مَسيرَتُنا كَمؤمِنين بالله في هَذِهِ الحياة مَسيرَةٌ طَويلَة، تحتاجُ إلى نَفَسٍ طَويل، وَقُدرَةٍ عَاليةٍ على التَّحَمُّل، مَع التَّحَلِّي بِكَثيرٍ مِنَ الصَّبرِ وَالجَلد، وإلّا اِنْكَسَرنَا مَع أَوّلِ شِدَّةٍ وَمُصيبَةٍ تُلِمُّ بِنَا! في مَسيرتِنا مَع الله، نَحتَاجُ أَحيانًا أَنْ نَكونَ مِثلَ هَذهِ الأرمَلَةِ الَّلحوحَةِ الَّلجوجَة، نَسأَلُ بِلا كَلَلٍ وَدونَ مَلَل. وَلَكِن في أَحيَانٍ أُخرَى، نحتاجُ إلى أَنْ نَكونَ مِثلَ مَريم، الّتي بالرّغمِ مِن عَدمِ فَهمِها وَكثرَة تَساؤلاتِها ساعَةَ البِشارَة، اِسْتَطَاعَت أنْ تَصِلَ إلى مَرْحَلَةِ القُبولِ الطّوعيّ لإرادةِ الله، قائِلَةً: ﴿أَنَا أَمَةُ الرّب، فَلْيَكُنْ لِي بِحَسبِ قَولِكَ﴾ (لوقا 38:1). إيمانُنا بالله، وإنْ لَم يُعطينا حصانَةً ضِدَّ الآلامِ الحياة، إلّا أَنَّه يَبقى مِرسَاةَ نجاة، مِن خلالِها نَضمَنُ لنا الثّبات وَسط اضطراباتِ الحياةِ وكَثرةِ عَواصِفِها. وَكما قالَ بولسُ في رسالتِه إلى أهلِ رومَة: ﴿بَلْ نَفتَخِرُ بِشَدَائِدِنا نَفْسِهَا، لِعِلْمِنَا أنَّ الشِّدَّةَ تَلِدُ الثّبات، والثّباتَ يلِدُ فَضيلَةَ الاختِبار، وَفضيلَةَ الاختِبارِ تَلِدُ الرّجاء، والرّجاءُ لا يُخَيِّبُ صاحِبَهُ﴾ (رومة 3:5-5). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|