رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
اليوم الأول: انطلاق النور... أول عمل يقدمه الله هو انطلاق النور: "وقال: ليكن نور، فكان نور، ورأي الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلًا، وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا" [3- 5]. ويلاحظ في هذا النص: أولًا: إلى سنوات قليلة كان بعض العلماء يتعثرون في هذه العبارة قائلين كيف ينطلق النور في الحقبة الأولى قبل وجود الشمس، إذ كان الفكر العلمي السائد أن النور مصدره الشمس، لكن جاءت الأبحاث الحديثة تؤكد أن النور في مادته يسبق وجود الشمس، لهذا ظهر سمو الكتاب المقدس ووحيه الإلهي، إذ سجل لنا النور في الحقبة الأولى قبل خلق الشمس، الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد. في اختصار يمكن القول بأن الرأي العلمي السائد حاليًا أن مجموعتنا الشمسية نشأت عن سديم لولبي مظلم منتشر في الفضاء الكوني انتشارًا واسعًا (السديم هو سحابة من الغازات الموجودة بين النجوم). ولذلك فمادة السديم خفيفة جدًا في حالة تخلخل كامل، لكن ذرات السديم المتباعدة تتحرك باستمرار حول نقطة للجاذبية في مركز السديم، وباستمرار الحركة ينكمش السديم فتزداد كثافته تدريجًا نحو المركز، وبالتالي يزداد تصادم الذرات المكونة له بسرعة عظيمة يؤدي إلى رفع حرارة السديم. وباستمرار ارتفاع الحرارة يصبح الإشعاع الصادر من السديم إشعاعًا مرئيًا، فتبدأ الأنوار في الظهور لأول مرة ولكنها أنوار ضئيلة خافتة. هكذا ظهر النور لأول مرة قبل تكوين الشمس بصورتها الحالية التي تحققت في الحقبة الرابعة (اليوم الرابع)... لقد ظهر النور حينما كانت الشمس في حالتها السديمية الأولى، أي قبل تكوينها الكامل. والعجيب أن كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم في القرن الرابع جاءت مطابقة لاكتشافات القرن العشرين، إذ قال: [نور الشمس التي كانت في اليوم الأول عارية من الصورة وتصورت في اليوم الرابع للخليقة ]. ربما حمل القديس أغسطينوس نفس الفكر حينما قال إن النور هنا في اليوم الأول ليس بالصادر عن الشمس لكنه ربما يكون نورًا ماديًا يصدر عن أماكن علوية فوق رؤيتنا. ثانيًا:من الجانب الرمزي يري القديس أغسطينوسأن هذا النور خاص بالمدينة السماوية المقدسة التي تضم الملائكة القديسين، وفيها ينعم المؤمنون بالأبدية، هذه التي قال عنها الرسول إنها أورشليم العليا، أمنا الأبدية في السموات (غلا 4: 26)، والتي يكون لنا فيها نصيب، إذ قيل: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة" (1 تس 5: 5). يري القديس أن السمائيين تمتعوا بالنور الذي انطلق في اليوم الأول بمعاينتهم أعمال الله العجيبة خلال كل الحقبات، لكنه متى قورنت معرفتهم للخليقة بمعرفة الله حُسبت معرفتهم مساءً. يمكننا القول بأن أعمال الله بدأت بانطلاق النور حتى تري الملائكة أعماله فتمجده، وهكذا في بداية الخليقة الجديدة أشرق الرب علينا بنوره الإلهي من القبر المقدس عند قيامته حتى إذ نقوم فيه يعلن مجده فينا. في خلقتنا الجديدة - في مياه المعمودية - ننعم بالنور الإلهي، نور قيامته عاملًا فينا، كأول عمل إلهي في حياتنا، وهذا هو السبب في تسمية المعمودية "سر الاستنارة". ثالثًا: فصل الله بين النور والظلمة لكي نقبل النور كأبناء للنور وأبناء للنهار ونرفض الظلمة فلا نسقط تحت ليل الجهالة المهلك. يهبنا الرب النور الداخلي ليبدد الظلمة القديمة، كقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة" (أف 5: 8). يهبنا أيضًا روح التمييز فنفصل بروح الله بين النور والظلمة، فلا نسقط تحت الويل النبوي: "ويل للقائلين للشر خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا، والنور ظلامًا، الجاعلين المر حلوًا والحلو مرًا" (إش 5: 20). رابعًا: ليست "الظلمة" مادة مخلوقة أوجدها الله، بل هي حرمان من النور، فبظهور النور انفضحت الظلمة وعُرفت. ومع هذا فكما يقول القديس أغسطينوس: [أن الله يأمر النور الذي خلقه والظلمة التي لم يخلقها ويطيعانه]. خامسًا: يري القديس هيبولتيس الروماني أنه [في اليوم الأول خلق الله الأشياء من العدم، أما في الأيام الأخرى فلم يخلق بقية الأشياء من العدم وإنما مما خلقه في اليوم الأول بتشكيله حسب مسرته]. هذا وإن كان كثير من الآباء علق على عبارة: "قال فكان" بأن الخلق كله خلال المراحل الست قد تم كثمرة للأمر الإلهي، فيقول القديس أمبروسيوس: [لم يخلق الله الأشياء بأدوات وفن، وإنما قال فكان (مز 33: 9)، إذ تكمن قوة العمل في الأمر الإلهي]. ويقول القديس باسيليوس الكبير: [الأمر في ذاته عمل]. سادسًا: يعلق القديس باسيليوس على العبارة "ورأي الله ذلك (النور) أنه حسن" [4، 12، 18، 21]... [الله لا يحكم بأن الشيء حسن خلال افتتان العين به ولا لتذوق الفكر لجماله كما نفعل نحن وإنما يراه حسنًا متى كان الشيء كاملًا، مناسبًا لعمله، نافعًا حتى النهاية ]. تحدث كثير من الآباء عن صلاح الخليقة... فقد "رأي الله ذلك أنه حسن"، لكن الإنسان بفساده أفسد استخدام الخليقة الصالحة. لذلك إذ جاء السيد المسيح يجدد طبيعتنا الساقطة وكأنه يخلقها من جديد، لا نعود نرى في العالم شيئًا شريرًا. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الأشياء التي تبدو فاسدة كتلك التي استخدمت في العبارة الوثنية: [خليقة الله ليست دنسة، فإن كانت قد صارت هكذا فلديك العلاج: اختمها "بعلامة الصليب" وقدم لله شكرًا ومجدًا فيزول عنها الدنس ]. سابعًا: يختم حديثه عن اليوم الأول أو الحقبة الأولى بقول: "وكان مساء وكان صباح يوم واحدًا". بدأ بالسماء وختم بالصباح، وفي التقليد اليهودي يبدأ اليوم بالعشية ليليها النهار. فإن كان المساء في نظر القديس أغسطينوس [يشير إلى الجسد القابل للموت، والصباح يشير إلى خدمة البر أو النور فإن المساء يسبق الصباح بمعنى أن يكون الجسد خادمًا للبر، لا البر خادمًا لشهوات الجسد ]. فإن كنا قد بدأنا حياتنا بالمساء فلننطلق بالروح القدس إلى الصباح فلا نعيش بعد كجسدانيين بل كروحيين. ثامنًا: إذ نختم حديثنا عن انطلاق النور نورد ما قاله القديس أغسطينوس عنه: [انه قد يشير إلى خلق السمائيين أي الملائكة بطغماتهم فقد خلقوا أولًا، وأن فصل النور عن الظلمة يشير إلى سقوط جماعة من الملائكة بالكبرياء فصاروا ظلمة. ويري القديس أن هذا الفصل تم قبل السقوط بسابق معرفة الله لهم ]، وإن كان هذا الرأي غير مستحب، فالله لا يفصل إلا بعد السقوط. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|