قداسة البابا شنوده الثالث
فكرًا جاء متأخرًا
إنسان بدلًا من أن يفكر في نتائج عمله قبل أن يقدم على العمل، فإنه يعمل دون تفكير في العواقب، ودون أن يعمل حسابًا لردود الفعل... ثم بعد أن يتم عمله، ويُواجه بنتائجه، يبدأ في أن يفكر في ما حدث...
إنه تفكير جاء متأخرًا، بعد فوات الفرصة...!
وإنسان آخر ينذر نذرًا، دون أن يفكر قبل النذر هل باستطاعته الوفاء به أم لا؟... ثم بعد أن يتم الأمر، ويجد نفسه مقيدًا بالنذر، مع علمه بأنه من الخير للإنسان أن لا ينذر، من أن ينذر ولا يفي!! حينئذ يبدأ أن يفكر: هل يغيرّ النذر، أو يبدله، أو يعلن عجزه عن الوفاء به...! إنه تفكير جاء متأخرًا بعد أن انتهى الأمر.
أو امرأة تعيش مع زوجها في خلاف مستمر، وفي نكد وعناد، بنوع من المعاملة تفقدها محبته، وتطيع أمها وأقرباءها أكثر منه. ولا تأبه بأية نصيحة لتغيير مسلكها. وتغضب أحيانًا وتثير إشكالاته، وترفض مع ذلك كل التدخلات للصلح. ويحاول زوجها أن يرضيها، فلا يستطيع. وأخيرًا بعد أن يصل به الوضع إلى أن يكرهها، ولا يعود يتصور المعيشة معها، ويسعى إلى الانفصال عنها... فهل حينئذ، إذا بدأت الزوجة أن تشعر بسوء حالتها، وأخذت تفكر في أن فقدها لزوجها ليس من صالحها... ألا يكون هذا التفكير قد جاء متأخرًا بعد فوات الأوان!!
وأب يهمل تربية أولاده، وينشغل عنهم بكثير من أعماله، حتى يصبح غريبًا عن أسرته. وينشأ أولاده على الانفرادية والاستقلالية واللامبالاة، وعدم الاهتمام بأوامر الأسرة. ويرسخ فيهم كل ذلك كطباع، وتصبح تصرفاتهم مرارة قلب للوالدين والأخوة... وأخيرًا يفكر الأب في أن انشغاله عن أولاده كان من أخطائه... ألا يكون هذا الفكر قد جاء متأخرًا، بعد رسوخ طباع أبنائه!!
وتلميذ يستهويه اللعب واللهو طول العام الدراسي، ولا يعطى اهتمامًا لدراسته واستذكار دروسه... ثم يُفاجأ بأن الامتحان على الأبواب. وحينئذ يبدأ أن يفكر كيف يستعد للامتحان. ألا يكون هذا تفكيرًا قد جاء متأخرًا؟!
والكاتب الذي تعوّد أن يهاجم المعارضين في الفكر أو في السياسة، بأية ألفاظ أو بأي أسلوب. والمهم عنده أن يحلل شخصية من يعارضه، ويثبت العيوب التي يلصقها به... هل إذا فلت الحرص من هذا الكاتب، واتهم أمام القضاء بتهمة سب وقذف. هل إذا بدأ يفكر في أنه كان يجب عليه أن يحترس في أسلوبه، ألا يكون هذا الفكر قد جاء متأخرًا؟!
وأيضًا رجل الأعمال الغنى، الذي كلما كان ينجح في عمله، يزداد رأس ماله، حتى بلغ درجة كبيرة من الثراء. وليس له فكر سوى تنمية عمله، واستثمار أمواله، والدخول في مشروعات جديدة وأعمال اقتصادية عالية المستوى... وهو في كل ذلك لم يهتم بالفقراء والمحتاجين. وفيما تزداد كنوزه على الأرض، لم يكنز له شيئًا في السماء! أو كان عطاؤه للمحتاجين ضئيلًا جدًا لا يتناسب مع ثرواته... هل هذا الإنسان إذا ما فاجأه مرض خطير، ووجد نفسه على فراش الموت، وسيترك كل الأموال التي تعب في جمعها، دون رصيد له في الأبدية. هل إذا فكر انه لم يفعل شيئًا لآخرته. ألا يكون فكرًا قد جاء متأخرًا؟!
وذلك الإنسان المتردد بطبعه، الذي لا يستطيع أن يكمل عملًا قد بدأ فيه. هل إذا فاتته فرص كثيرة كان من الخير أن تفيده. فندم على تردده. ألا يكون ندمه متأخرًا؟!
وتلك الفتاة التي تهب نفسها لكل شاب يغريها، واثقة من كلامه ووعوده... هل إذا خلا بها الكل بعد أن تكون قد فقدت عفتها... ثم جلست أخيرًا إلى نفسها تندب سوء حالتها. وتقول يا ليتني ما كنت سهلة في تعاملي واستسلامي للغير. ألا يكون هذا الفكر قد جاء متأخرًا؟!
ونقول نفس الكلام عن الشاب الذي يجرى وراء اللذة الخاطئة، حتى يقع أخيرًا فريسة لمرض الإيدز بلا شفاء... أو الشاب الذي تجرفه المخدرات إلى مستوى الإدمان، ويجد إرادته عاجزة أمام إدمانه... هل إذا فكر أخيرًا بأنه ما كان يجب عليه سلوك هذا الطريق، ألا يكون تفكيرًا قد جاء متأخرًا؟!
تذكرني غالبية هذه الأمور، بتلك القصة الخيالية التي تقول إن شخصًا كانت عنده دجاجة تبيض له كل يوم بيضة من ذهب، فرأى أن يذبحها ويأخذ الكنز الذي في داخلها دفعة واحدة!! فلما فعل ذلك لم يجد شيئًا. فندم على ذلك ندمًا شديدًا. ولكن ندمه جاء متأخرًا، بعد فوات الفرصة...
لذلك كله، على الإنسان أن يتنبه لنفسه من أول الطريق. ويعرف أين هو؟ وإلى أين يقوده ما هو فيه؟ سواء كان ذلك طبعًا ثابتًا فيه، أو أسلوبًا في الحياة يتبعه...