تقديم ذبيحة تسبيح وشكر
كيف يشهد داود النبي أمام الأثمة، ليرد المنافقين إلى الحق؟ بحياة التسبيح والشكر الصادرة عن شفتين طاهرتين وقلبٍ نقيٍ.
"نجني من الدماء يا الله إله خلاصي،
فيبتهج لساني بعدلك" [14].
كثيرًا ما يعلن المرتل أنه لا يستطيع الشرير المتمسك بإثمه أن يسبح الله أو يشكره، حتى وإن ردّد بفمه تسابيح كثيرة. الآن يصرخ أن ينقذه من الخطية -الدماء- حتى يتهلل لسانه الداخلي، ويسبح ببرّ الله.
* حررني من الدماء، أي حررني من الشرور، وطهرني من كل فساد.
القديس أغسطينوس
* يقول القديس أثناسيوس الجليل إن النبي يتضرع متهللًا إلى الله، طالبًا النجاة من سفكه دم أوريا، أو أنه يطلب إبطال ذبائح الحيوانات التي كانت مفروضة في شريعة موسى.
الأب أنثيموس الأورشليمي
يَا رَبُّ افْتَحْ شَفَتَيَّ،
فَيُخْبِرَ فَمِي بِتَسْبِيحِكَ [15].
لا يقف عمل الله مع الخطاة عند ردّ البهجة للنفس، وإنما يفتح بنفسه الشفتين، فتخرج التسبحة مملحة بملح الروح. وكأن التسبيح هو عمل الله نفسه فينا. ما أسهل أن يقدم الإنسان ذبائح حيوانية وتقدمات للرب، لكن الله يطلب الأعماق، يطلب نفسه كي يكون مقدسًا بذبيحة المخلص، فيصير هو نفسه محرقة حب متواضعة في عيني نفسه، لكنها موضع سرور الله واعتزازه.
لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَة،ٍ
وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا.
بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى،
ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ.
الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ،
لاَ تَحْتَقِرُه [16-17].
الله ليس بمحتاجٍ إلى ذبائح كما أوضح في المزمور السابق[47] (مز 50: 7-15)، لكنه في حبه العجيب للإنسان يطلب حب الإنسان كمن هو عطشان إليه. يطلب حبه وتواضعه وقداسته وبرَّه لكي يحيا معه في السماويات، وهذه جميعها هبات إلهية يقدمها لمن يطلبها.
* كانت هذه الذبائح رموزًا، تنبأت عن الذبيحة الواحدة المخلِّصة. فإننا لم نُترك نحن بدون ذبيحة نقدمها لله (أي ذبيحة شركة الصليب)...
قدم بالتأكيد في نفسك ما تريد أن تقدمه...
لا تطلب أن تذبح قطيعًا من الخارج، إنما يوجد داخلك ما تذبحه!
القديس أغسطينوس
* إن لم يتواضع القلب لا يكف عن التشتت، لأن التواضع يجمع القلب (من التشتيت) .
* لنتعلم كيف نستميل قلب الله إلى الرحمة بالصلاة الممزوجة بالتواضع والوداعة، لأن الرب أعطانا مفتاح الوصول إلى قلبه. "تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11: 29) داود أيضًا عرف ذلك، فقال: الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله (مز 51: 17). لا يحب الرب شيئًا مثل النفس الوديعة المتواضعة.
* يستحق مثل هذا الإنسان (المتواضع) الإعجاب، وأن يكون صديقًا لله، إذ قيل بأحد الأنبياء: "إلى من أنظر، إلاَّ إلى المتواضع والمنسحق، الذي يرتعد من كلامي؟!"
* الفكر المعتدل والمضبوط يُرفع إلى الله، لأنه كما هو مكتوب أن الله لا يرذل القلب المتواضع والمنكسر .
القديس كيرلس الكبير
* طوبى للإنسان الذي يعرف ضعفه، فإنه إذ يدرك هذا يصير بالنسبة له أساسًا وبداية لكل ما هو صالح وجميل. إذ يتحقق الإنسان، ويدرك بالحق أنه ضعيف، ينتزع عن نفسه كل بريق يبدد المعرفة، ويصير بالأكثر يقظًا على نفسه.
لكن لا يقدر أحد أن يدرك ضعفه ما لم يتخلَ قليلًا عن الأمور الصغيرة ويتجاهلها ويُحاط بالتجارب، سواء في الأمور التي تسبب آلامًا في الجسد، أو بالطرق التي بها تخضع النفس للآلام. عندئذ فقط إذ يتأمل ضعفه، يتحقق عظم المعونة التي تأتي من الله.
عندما يدرك إنسان أنه في حاجة إلى عون إلهي، يقدم صلوات كثيرة. وما أن يقدم طلبات كثيرة، حتى يتواضع قلبه... "القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز 17:51).
ما دام القلب غير متواضع لا يكف عن الجولان، فإن التواضع يجعل القلب في تركيز .
القديس مار إسحق السرياني
* ما هو منكسر لا يقوم ولا يضرب، وإنما يتأهل لقبول المعاملة السيئة دون ردّها للغير، هكذا هو القلب المنكسر. فإنه وإن أُهين وعومل رديًا يبقى هادئًا، ولا يرغب في الانتقام.
* (التواضع) هو المذبح الذهبي، هو موضع الذبيحة الروحي، لأن الروح المنسحق ذبيحة لله.
التواضع هو والد الحكمة.
إن كان لإنسان هذه الفضيلة تكون له بقية الفضائل[53].
* "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 3)... توجد أنواع من التواضع: فيوجد المتواضع على قدر قامته، وآخر ينزل إلى أقصى حدود التواضع. هذا الأخير (الذي هو من القلب) يمتدحه النبي المبارك مصورًا لنا، لا مجرد خضوع النفس، بل انكسارها كلية، وذلك عندما يقول: "الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 17).وها الفتية الثلاثة يقدمون انسحاقهم هذا كذبيحة عظمى لله قائلين: "ولكن في نفس منسحقة وروح متواضعة ليتنا نكون مقبولين لديك" (دا 3: 39 تكملة دانيال) هذا هو ما يطوِّبه المسيح الآن.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* أعتقد أن اللطف ومحبة البشر والتقوى العميقة هي أسس استيعاب الغنوسي (صاحب المعرفة الروحاني)، وإنني أؤكد أن هذه الفضائل هي ذبيحة مقبولة في عين الله (في 4: 18). ويؤكد الكتاب المقدس أن القلب المتواضع مع المعرفة هو محرقة لله. وكل من يسلك في القداسة يستنير إلى وحدةٍ لا تنفصم.
القديس إكليمنضس السكندري
* إنكم تقدمون هذه الذبيحة لله، وتحتفلون بها دون توقف، ليلًا ونهارًا، إذ تصيرون ذبائح لله، وتقدمون ذواتكم تقدمات مقدسة بلا دنس، كما ينصح الرسول ويقول: "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله... ولا تُشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادةالله الصالحة المرضية الكاملة" (رو 12: 1).
القديس كبريانوس
* القلب الذي غرق في جنون الملذات، يريد الله أن يطهره بندمٍ، يسوقه إلى الخلاص المنقذ. وتعالي الكبرياء الذي يصب علينا جراحات مؤلمة، يريد الله أن يشفيه بتواضع الحياة المنكسرة. هكذا تقول الأسفار المقدسة: "(قلت للمفتخرين) لا ترفعوا إلى العلي قرنكم، لا تتكلموا بعنقٍ متصلبٍ" (مز 75: 4)، لأنه إن فشل الأثمة، ولم يقروا بشرورهم، ولم يقدموا توبة بتواضعٍ، فإنهم بذلك يرفعون قرونهم. لذلك يقول الكتاب المقدس: "القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17). كل الذين يبكون على خطاياهم دون أن يتركونها، لهم قلب منكسر، ولكنهم في الحقيقة يستنكفون من أن يسحقوه. بينما الذين يتركون الخطايا، ولا ينوحون عليها، يسحقون قلوبهم ولكن في غير انكسار .
الأب غريغوريوس (الكبير)
* لا شيء يفيد النفس مثل التواضع. مكتوب: "ذبائح الله هي روح متواضعة" (مز 51: 17). التواضع صفة للصليب. أما الكبرياء فعزيز على الشياطين الأعداء. في التواضع لا مجال للسقوط إلى أدنى منه. إن أرادت الشياطين أن يُسقطوا (المتواضع) من علوٍ، لا توجد مسافة تحته لتسعه لو سقط!
* إن ألم من هو متواضع بالندامة لأنه سقط، أبسط من ألم الممتطي حصان الكبرياء، ويمشي بخيلاء، لأنه يمارس سيرة روحية كما تُعرف بوضوح من مَثَل الفريسي والعشار.
* الآن فلتهتم قداستك يا سيدي، ليس باستئصال الزوان، لكن بتحويله ليصير حنطة. يستطيع تواضعك أن يجعل البواشق (من الطيور الجارحة) حمامًا، والذئاب حملانًا .
القديس مار يعقوب السروجي
* قال لهم: لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة، بل أوصيتهم بهذا الأمر، قائلًا: "لا يفكرن أحد في السوء على قريبه في قلوبكم، ولا تحبوا يمين الزور" (إر ٧: ٢٢، ٢٣؛ زك ٨: ١٧)... إنّه يقول: "الذبيحة لله روح منسحق" (مز ٥١: ١٧)؛ القلب المنسحق عطر للرب الذي جبله .
* عندما نصلي دائمًا يجب ألا نتعب، لكن نصرخ إليه بلهفة ليلًا ونهارًا، ضارعين إليه بقلبٍ منكسرٍ وروحٍ متواضعةٍ. "ذبائح الله هي روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17) .
مارتيريوس - Sahdona
* يريد كل من الجسد والنفس، أي الإنسان بكليته، أن يصير ذبيحة مقدسة لله. يعلن المرتل أن النفس هي ذبيحة مقدمة لله، بقوله: "الروح المنسحق ذبيحة لله".
* لنقدم نفوسنا ذبيحة بالصوم. فإننا لا نستطيع أن نقدم لله ما هو أفضل من هذا. يؤكد النبي ذلك بقوله: "الروح المنسحق ذبيحة لله، والقلب المتواضع لا يرذله الله". قدم يا إنسان نفسك لله. قدم تقدمة الصوم. أفعل هذا لتجعل نفسك ذبيحة طاهرة، ذبيحة مقدسة، ذبيحة حيَّة تبقى لك وأنت تقدمها لله.
الأب بطرس خريستولوجوس