رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابا شنودة إن كان العقل يقود الإنسان، فما الذي يقود العقل؟ المعروف عند جميع الناس أن الإنسان مخلوق عاقل. وأنا أريد أن أناقش هذا الموضوع: إلى أي حد الإنسان مخلوق عاقل؟ هل الإنسان عقل خالص صرف؟ أم أنه يخضع لمؤثرات كثيرة، تجعله أحيانًا لا يتصرف بعقله كما ينبغي؟ وسنعرض لكل هذه المؤثرات ونفحصها.. 1- أول نقطة نناقشها هي نوع العقل: أهو عقل ذكي؟ أم عقل عبقري؟ أم متوسط الذكاء؟ أم ضعيف الذكاء؟ أم غير ذكي على الإطلاق؟ ذلك لآن عقليات الناس تتفاوت في نوعيتها ودرجاتها. وحسب التفاوت يختلف الفهم والتفكير والاستنتاج. وتختلف أيضا نوعية الذاكرة: هل هي مجرد ذاكرة جامعة وحافظة؟ أم حافظة ومرتبة؟ أم ذاكرة فوتوغرافية؟ وهل تسعفه في أي وقت، أم تخونه أحيانًا؟ كذلك ما نوع تفكيره؟ هل هو تفكير شامل؟ أم يتركز في زاوية واحدة ويهمل الباقي؟ وهل هو تفكير سطحي أو عميق؟ وما درجة عمقه؟ وعلى هذا القياس، إلى أي حد نقول عن كل أحد أنه عاقل؟ ليس الناس على حد سواء، حتى في فهمهم ما هو حادث، أو فهم ما ينبغي أن يحدث.. هناك شخص بالكاد يقود نفسه، وآخر يمكنه أن يقود غيره أيضًا. وثالث يحتاج إلى من يقوده. 2- وهناك من تتعبهم طريقة تفكيرهم. وقد تتعب غيرهم معهم أيضًا.. إنسان قد يفكر في مشكلة، ويساعده عقله على حلها. وإنسان آخر تستقطبه المشكلة، وتستولي على عقله وكل تفكيره، في صحوه وفى نومه، وربما في أحلامه أيضًا. ولا تترك له فرصة ليفكر في غيرها. وبهذا تفكيره فيها يتعبه، ويقينًا يؤثر على أعصابه ونفسيته.. 3- وقد يوجد إنسان يسيطر على عقله الشك: يشك في الأحداث وما تحوى. ويشك في الناس وتصرفاتهم ونواياهم.. يشك فيما يقال وما يسمع. ويشك في قدرته على التصرف. ويشك في المستقبل. والشك يتعبه ويؤلمه، وقد يجلب له الخوف والاضطراب ومع ذلك فعقله غير قادر أن يخرج من دائرة هذا الشك! ومهما قيل له من تبرير يزيل هذا الشك، فإنه يشك في هذا التبرير أيضًا، ومدى صدقه، وما هو هدفه. وقد ينمو الشك عنده فيشمل كل شيء، وكل أحد حتى أعز الأحباء.. ويصبح فريسة للإشاعات وللظنون والأكاذيب.. ومن أصعب الشكوك التي تصيب بعض العقول، الشكوك الإيمانية: مثل الشك في الله عند الملحدين وأمثالهم، والشك في المعجزات عند بعض رجال العلم. والشك في الحياة الأخرى وفى قيامة الأجساد، والشك في الكتب المقدسة، أو في بعض الحقائق الإيمانية والعقائدية والمسلمات. وإذا وصل العقل إلى هذا الحد من الشك، ما أسهل أن يستلمه الشيطان ويلعب به.. ويزوده عدو الخير بأفكار وأفكار، ويرشده إلى قراءات تزيد شكه، وإلى زملاء من نفس النوع، يعمقون الأفكار التي تحاربه ويضيفون إليها.. هل تظنون مثل هذا العقل عقلًا خالصًا، بينما هو في قيادة غيره؟! 4- العقل أيضًا يتأثر بالجهل: سواء كان جهله نتيجة عدم معرفة، أو نتيجة معرفة مضللة وصلت إليه، ونتيجة لوقوعه في الجهل، يتصرف تصرفات خاطئة. وإذا يجهل حقائق أي موضوع أو أي حدث، تسيطر عليه بعض الظنون والأفكار التي ما أسهل أن تتعبه.. يحتاج مثل هذا العقل إلى المعرفة الصادقة المقنعة، وإلى التوعية السليمة، وأحيانًا إلى العتاب المشبع بالحب والنية السليمة،لكشف الحقائق.. وأصعب أنواع الجهل الذي يحارب العقل، الجهل الذي يرفض المعرفة.. أعني العقل الذي يتمسك بجهله في إصرار، مقتنعًا بما عنده من أفكار، ويشك في كل توعية وكل شرح.. مثل هذا، ربما التجارب تصقله، أو النعمة تفتقده، بتجديد ذهنه (رو3:12). وعلى كل كلما ينمو الإنسان في المعرفة، تتغير طريقة تفكيره، على حسب نوع المعرفة التي تأتيه.. 5- هناك عقل يقوده مبدأ معين يؤمن به: فهو يعيش داخل هذا المبدأ، سواء كان سليمًا أو خاطئًا.. ولا يحب أن يتزحزح عنه، بل يستمر حبيسًا فيه. ويشكل هذا المبدأ هيكلًا أساسيًا لحياته.. صدقوني، حتى بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة، الذين يحكمهم العقل فرضًا، ينطبق عليهم المثل القائل بأن نقطة البدء في الفلسفة أحيانًا تكون غير فلسفية.. أي ربما يبدأون بعامل نفساني معين، يبنون عليه كل فلسفتهم. مثل كرة ألقيتها من على جبل: إن ألقيتها شرقًا، تستمر بكل قوتها في هذا الاتجاه الشرقي، وأن ألقيتها غربًا، تستمر في هذا المجال الغربي بكل قوتها.. 6- نوع أخر من العقل يسيره أب أو معلم. فهو منقاد إلى عقل آخر يسيره كيفما يشاء، سواء كان عقل أب بالجسد، أو أب روحاني، أو معلم أو مرشد. وليست لديه فرصة أن يتصرف أو حتى يفكر. إلا داخل دائرة هذا المعلم وتفكيره وإرشاده. وتكاد شخصيته أن تكون مفقودة تمامًا. وبخاصة لو كان هذا الأب أو المرشد شديدًا في سلطته، يتطلب لونًا من الطاعة العمياء.. ويزيد هذا الانقياد العقلي الكامل، إن كان عقل من يطيع مدفوعًا بثقة كاملة فيمن يطيعه. أو اعتقاده أنه سيهلك إن هو خرج عن حدود الطاعة، أو إن اقتنع بأن مجرد المناقشة أو الحوار مع من يرشده، لون من الكبرياء.. هنا عقله لا يعمل، إنما يطيع عقلًا آخر. 7- مثل هذا العقل قد تقوده أيضًا الأخبار أو الشائعات. أو يقوده أي كتاب يقرؤه، أو تأثير فيلم يراه في السينما أو في التلفزيون أو في الفيديو.. لأن عقله قد تعود الاستسلام والخضوع لقيادة أخرى تؤثر عليه.. حتى لو كانت الصحافة، أو الأخبار التي يسمعها من الناس أو أي شخص أقوى منه فكرًا ومنطقًا.. وقد يثبت بعد فترة كذب الشائعات، أو عدم صحة الأخبار.. ولكن بعد أن تكون قد تركت في نفسه أثرًا، ليس من السهولة أن يزول.. أما العقل السليم القوي، فهو يفحص ويدقق. كل ما يسمعه، يفحصه ويحلله. ويقبل منه ما يقتنع به، ويرفض الباقي. أو يترك بعض الأخبار الأخرى لمزيد من الدراسة والاستقصاء. ويمكنه أن ينتفع ببعض ما يقوله الناس. ولكنه لا يسلم ذاته لهم تسليمًا كاملًا ولا يكون مثل ببغاء "عقله في أذنيه". بعض القيادات ما أسهل أن تضيعهم التقارير المضللة، وبخاصة لو تأثروا بها لدرجة اتخاذ قرارات سريعة مبنية على باطل.. وما أكثر ما انحلت عائلات، نتيجة تصديق كل ما يقال. 8- والعقل قد تقوده الأعصاب أحيانًا. إن كان سريع التأثر، وسريع الانفعال. ويفكر مدفوعًا بانفعالاته. شمشون أطاع دليله، لأن كثرة إلحاحها عليه، كان ضاغطًا على أعصابه، التي دفعت عقله بلون من الضيق واليأس كشف فيه سره. 9- وكثيرًا ما يخضع العقل لمؤثرات عائلية أو اجتماعية: فكثيرًا ما تستطيع زوجة أب أن تؤثر على عقله وفكره، حتى يسئ معاملة أبنه من زوجته الأولى، مصدقًا ما تصبه في أذنه من مؤثرات. كذلك المجتمع كثيرًا ما يترك تأثيره على عقول الناس. فيكون الإنسان في وسط الجماعة متأثرًا بفكر الجماعة وانفعالها. مثل تلميذ في مظاهرة، يردد كل ما يقوله زعماء المظاهرة. فإذا قبض عليه وألقى في سجن، وجلس وحده، حينئذ يفكر عقله بطريقة أخرى، وقد يلوم نفسه على اندفاعه وراء المظاهرة.. 10- يوجد عامل آخر يسميه البعض (غسيل المخ). وفيه يقع عقل تحت تأثيرات متوالية، وشكوك متعددة، وضغوط فكرية، بحيث تقتلع منه كل ما كان فيه، وتحشوه بفكر آخر جديد عليه.. ويخرج من هذه الدائرة التي حبسوا عقله فيها، وإذا به يفكر بطريقة أخرى، عكس ما كان قبلًا. بل قد يتحمس للفكر الجديد تمامًا، الذي عاش فيه دون إتاحة فرصة للفكر الآخر أن يقيم توازنًا مع ما يقع عليه من ضغوط فكرية. 11- وقد تؤثر على العقل طوائف ومذاهب أخرى. كإنسان يختلط فترة بمجموعة من الشيوعيين، تحول عقله إلى فكر شيوعي. أو يختلط بشهود يهوه فترة، فيصبح وأحدًا منهم وداعية لهم. وكذلك نقرأ عمن اختلطوا بالوجوديين، أو بالهيبز والبيتلز، وبطوائف أخرى متعددة. تركت تأثيرها على عقولهم، فأصبحوا يفكرون بطريقة أخرى. إنسان يخالط متشددين، فيتحول إلى متشدد. أو يختلط بمستهترين، فيتحول إلى مستهتر. يضيق فكره أو يتساهل، حسب تأثير الواقع عليه. 12- وقد تؤثر على العقل نوعية نفسيته: فالإنسان صاحب النفسية الرقيقة الحساسة، ما أسهل أن يتأثر تفكيره بأية كلمة تقال له، ويصور له فكره أنها خطيرة وصعبة. والإنسان صاحب النفسية البسيطة، كثيرًا ما يتقبل عقله أمورًا لا يمكن أن يصدقها متعمق باحث عن الحقيقة.. 13- وقد يتأثر العقل بعاداته وطباعه: تسيره العادة أو الطبع، في أمور لا يقبلها العقل المتزن، بل ربما أكثر من هذا، يبدأ العقل في تبرير تلك العادات وتلك الطباع، وما يصدر عنها من سلوك. وقد يثق العقل بأن هذه العادة تضره، ومع ذلك تنتصر العادة. لأن القيادة لا تكون وقتذاك في يد العقل، وعلى رأي المثل "الطبع يغلب". هل بعد كل هذا نقول إن الإنسان مخلوق عاقل، بمعنى أن العقل هو الذي يقوده؟! كلا. 14- هناك عقل آخر يقوده الخوف: الخوف يشل عقله عن التفكير، ويقوده بنفسه.. مثل أبينا آدم، خاف فاختبأ من الله خلف الشجرة!! بينما العقل يقول إنه مهما اختبأ، لابد أن يراه الله. ولكن الذي كان يقوده، كان هو الخوف وليس العقل.. وقد يقود الخوف هذا العقل ليشتغل لحسابه. كأن يخطئ إنسان، ويخاف من نتائج أخطائه، فيدفع العقل إلى تغطيتها بحيل أو أكاذيب أو اتهام غيره ظلمًا. كل ذلك ليستره.. الإنسان الخائف لا تطمئن إلى سلامة تفكيره. 15- عقل آخر تقوده الشهوة: أية شهوة: شهوة جسد، أو شهوة انتقام، أو شهوة مناصب أو ألقاب، أو شهوة مال، أو شهوة عظمة، أو شهرة.. وقد يضيع عقله في سبيل تحقيق هذه الشهوة.. فالذي تسيره شهوة الانتقام، ترى كل عقله يفكر في كيف ينتقم، ولا يفكر مطلقًا في عواقب ذلك، ولا في وصايا الله.. أنه محصور داخل هذه الشهوة، تسيطر على كل تفكيره، وحدها.. وينفذ ويضيع.. لآن عقله لم يستطع أن يمنعه عن الجريمة. 16- والعقل قد تقوده العاطفة. هناك عاطفة تقود العقل، وعاصفة بلا عقل. وهناك عقل بلا عاطفة، وعقل متزن له عاطفة ولكنه يحكمها. أنواع أربعة، وكل نوع يختلف عن الآخر. فالعقل الذي تقوده العاطفة، مثل الأم التي تمنع أبنها من السفر لفائدته، لأنها تريده إلى جوارها، أو الأم التي تتدخل في كل شئون أبنتها الزوجة، بحكم عاطفتها، ولكن بلا عقل فتتلف حياتها، وزواجها. أو مثل تلميذ بسبب العاطفة، يغشش زميلًا له في الامتحان، فيقع الإنسان في مسئولية وتحقيق، وقد يلغي امتحانهما.. إيزابيل باسم العاطفة، فكرت في وسيلة لكي تريح زوجها، وتمكنه من امتلاك حقل نابوت اليزرعيلى. وكانت سببًا في هلاكه وهلاكها. وسمح عقلها أن يغرق في لجة من الأخطاء الدينية والإنسانية. 17- وهناك عقل يقوده الروح القدس: حقًا إن العقل له قدرة على التفكير، ولكن إذا ما استنار بالروح القدس، الذي يعرفه بكل الحق.. حينئذ تكون أفكاره سليمة تمامًا وروحية وموافقة لمشيئة الله. أصعب نوع من العقل، هو الذي يعلن استقلاله عن الله. ويسلك حسب فهمه البشري، الذي قال عنه الكتاب "لا تكن حكيمًا في عيني نفسك" (أم7:3)، والذي قال أيضًا "وعلى فهمك لا تعتمد" (أم5:3). أما الذي يقوده روح الله، فهو الذي يقول لله "لتكن مشيئتك". 18- يشابه هذا العقل الروحي، من تقوده وصايا الله. كما قال داود النبي "وصية الرب مضيئة تنير العينين عن بعد" (مز 19). وكما قال "سراج لرجلي كلامك، ونور لسبيلي" (مز 19). هذان النوعان الأخيران، يمكن أن تقودهما الروح، ويقودهما ضمير صالح أمام الله.. ضمير مستنير بالروح القدس أيضًا... العقل قد يخطئ، وتترسب عليه عوامل تفقده الرؤية السليمة. وهنا نتأمل معًا قول القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو2:12). فما معنى: أهمية تجديد الذهن في المعمودية تأخذ تجديد الطبيعة. أما تجديد الذهن، وتجديد أسلوب الحياة، فأمر نحتاج إليه باستمرار في حياتنا. فلا يتحرر الإنسان على وضع معين. تجديد الذهن، ومعناه تغيير نظرة الإنسان إلى الأمور. وما أكثر عبارة التجديد في المزامير وفى الكتاب. فنحن في كل صلاة نقول في المزمور الخمسين "قلبًا نقيًا أخلق في يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي". ونقول في مزامير الساعة "سبحوا الرب تسبيحًا جديدًا". وفى الوضع الجديد لنا في المسيحية يقول الكتاب "خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة الله" (كو 3: 9، 10). لاحظوا هنا عبارة جديد، ويتجدد. ولكنه يتجدد للمعرفة. وهنا نفهم تجديد الذهن، أي يأخذ معرفة جديدة لم تكن له. وهذا التجديد في المعرفة، تصحبه قوة جديدة للتنفيذ. إذ يقول الكتاب "وأما منتظرو الرب، فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون" (أش 31:40). إن الله يريد أن يكون لنا عنصر الجدة في حياتنا. لذلك يقول لنا في سفر حزقيال النبي "أعطيكم قلبًا جديدًا، وأضع روحًا جديدة في داخلكم" (حز26:36). وهنا نسأل ما معنى تجديد الذهن؟ الإنسان يخطئ، لأن فكره يقوده إلى الخطية. لذلك فإن الله يريد للإنسان أن تتغير نظرته إلى الأمور. ولنأخذ كمثال: نظرة الإنسان إلى الجسد: هل تفكير ذهنه في الجسد، أن الجسد هو للمتعة واللذة؟ سواء كانت المتعة في الأكل والشرب والملبس، أو في الممارسات الجنسية أو الزنا، أو في الشعور بجمال الجسد أو قوته.. إن كان الأمر كذلك، فسوف يخطئ. وهنا ينصحه الرسول بتجديد ذهنه، أي أن يأخذ فكره شكلًا جديدًا. وفى تجديده، ينظر إلى الجسد كهيكل لله: باعتباره أنه هيكل للروح القدس، والروح القدس يحل فيه (1كو19:6). إذا تجدد ذهنك، حينئذ ينظر إلى الجسد كمجرد وعاء للروح، سواء روحه الإنسانية أو روح الله الساكن فيه. وحينئذ يمكنه عن طريق الجسد أم يمجد الله، كما قال الرسول: "مجدوا الله في أجسادكم، وفى أرواحكم، التي هي لله" (1كو20:6). وهنا على الإنسان باستمرار أن يمجد الله في الجسد وبالجسد. ولعل هذا يتم إن كان الجسد يسير مع الروح في طريق واحد. أما إن كان هناك صراع بين الجسد والروح (غل17:5). فهذا يدل على أنه لا يزال في المفهوم القديم للجسد من حيث أنه جهاز للمتعة، ويحتاج أن يغير فكرته هذه. لأنه حتى لو أنتصر على شهوة الجسد، وهو بهذا الوضع، يكون قد امتنع عن ارتكاب الخطية، وهو لا يزال يحبها. أما في تجديد الذهن، فهو ينتصر على الخطية لأنه قد ارتفع فوق مستواها، ولا يحتاج إلى جهد للخلاص منها. وعندما يتجدد ذهنه، لا ينظر فقط إلى جسده بهذه النظرة، إنما ينظر هكذا أيضًا إلى أجساد الآخرين. فإن نظر إلى امرأة، لا يشتهيها في قلبه (مت28:5). ذلك لأن جسدها -في مفهومه الروحي- هو هيكل للروح القدس، له سمة القداسة وبخاصة في حالة تناولها من الأسرار المقدسة. بتجديد ذهنه، ينظر إليها كابنة لله، لها احترامها، تنال منه كل توقير، بعيدًا عن النجاسة والفساد. ولا يلزم المرأة أن تتغطى من قمة رأسها إلى كعب قدميها، لكي ينجو هو من الشهوة الكائنة في قلبه.. طبعًا الحشمة لازمة ولكن: بتجديد ذهنه ينجو من الشهوة، من الداخل. بدون وسائل خارجية تلجم شهوته. وهو مجرد لجام من الخارج! وهكذا -في تجديد ذهنه- لا يقول إن المرأة تعثرني. إنما يقول: إن ما كان يعثرني -قبل تجديد ذهني- هو شهوات قلبي الداخلية، بسبب مرض ذهني وسوء تفكيره. الذي تجدد ذهنه ينظر إلى الجسد نظرة سامية، كخادم لعمل الروح، لعمل البربه يركع ويسجد ويصلي. وبه يخدم ويتعب في الخدمة. بل يقدم الجسد ذبيحة مرضية لله (رو1:12). وهكذا نرى أن الشهداء والمعترفين قدموا أجسادهم لله ذبيحة مقدسة، ولم يكن الألم عائقًا لهم. بتجديد ذهنهم لم يخافوا الموت، بل رأوا أن الموت هو الوسيلة التي توصلهم إلى المسيح. هذا الذهن الجديد هو الذي منح الشهداء شجاعة في مواجهة الحكام الوثنيين، وشجاعة في تحمل الآلام، ناظرين إلى الألم كإكليل فوق رؤوسهم. وبهذا الذهن الجديد كانوا يسبحون ويرتلون وهم في طريق الاستشهاد. وبهذا المفهوم لما أراد أهل رومه أن ينقذوا القديس أغناطيوس الأنطاكي من إلقائه إلى الأسود الجائعة، عاتبهم على ذلك بقوله "أخشى أن محبتكم تسبب لي ضررًا. وقد وصلت إلى نهاية المطاف..". نفس الوضع بالنسبة إلى الصوم، فالإنسان الروحي الذي تجدد ذهنه، لا يبذل جهدًا في الانتصار على لذة الطعام، لماذا؟ لأنه. وصل إلى الجسد الزاهد، وليس إلى مجرد الجسد الصائم. لقد تغيرت نظرته إلى الأكل والطعام. ورأى أنه في الصوم يشعر بانطلاق روحه بغير عائق من الجسد.. ارتفع فوق مستوى الماديات، ولم تعد الماديات تغريه.. ويتطور متقدمًا في الوصول إلى روحانية الجسد.. طبعًا الجسد الروحاني نلبسه في القيامة (1كو44:15). ولكنه يقترب من هذه الروحانية،بقدر ما تحتمل طبيعته. نتحدث عن تجديد الذهن أيضًا، من جهة الطموحات والآمال. حسب هدف الإنسان، هكذا تكون وسائله. فإن كان الإنسان ينظر بنظرة عالمية إلى العلو والعظمة والكرامة، وإلى النجاح والطموح، فكهذا تكون تصرفاته. الإنسان الروحي -الذي تجدد ذهنه- ينظر إلى الطموح نظرة روحية، فيها يرجع إلى الصورة الإلهية التي خلق بها منذ البدء. بحيث يرى العظمة الحقيقية، أنه يعيش بلا خطية.كما قال الرسول إن المولود من الله لا يخطئ والشرير لا يلمسه. ولا يستطيع أن يخطئ، لأنه مولود من الله (1يو9:3) (1يو18:5). في تجديد ذهنه يقول: كيف اهبط بمستواي إلى وضع الخطية؟! "كيف أفعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله" (تك9:39). ومن جهة النجاح والتفوق، للذهن المتجدد رؤية أخرى. فهو لا يخلط النجاح بالذات، إنما بالوصية الإلهية. إنه لا يجعل النجاح مجرد وسيلة، ليرضى عن نفسه، ولكي تكون صورته مضيئة أمام الناس. إنما ينجح لأن أولاد الله ينبغي أن يكونوا دائمًا ناجحين. ليرضى الرب عنهم. وأيضا يكونوا ناجحين، لأن الرب معهم وهو سبب نجاحهم. والتفوق في نظره، هو تفوق في النوعية، وليس مجرد تفوق على الغير. فحتى لو تفوق على غيره، وكان الأول في الترتيب، ومع ذلك بم يصل إلى المستوى العالي، فإن هذا لا يرضيه. وفى داخله يشعر بالتقصير.. إنها في نظره ليست منافسة مع الغير، يصير فيها الأول. إنما هو جهاد للوصول إلى الكمال، بكل ما تستطيع طاقته أن تصل إليه. ومن جهة العظمة، لا يهدف أن يكون عظيمًا أمام الناس. إنما كما كان المعمدان "عظيمًا أمام الله" (لو1:15). هيرودس الملك كان عظيمًا أمام الناس، عظمته فيها كبرياء، ويعطى فيها مجدًا لله. لذلك سمح الله أن يضربه الملاك، فأكله الدود ومات (أع21:12 -23). أما يوحنا المعمدان، فكان سر عظمته، أنه من بطن أمه كان مملوءًا من الروح القدس. وأمام الناس كان يقول عن السيد المسيح "ينبغي أن ذاك يزيد، وأنى أنا أنقص" (يو30:3) "أنا لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" (لو16:3). فما هو نوع العظمة الذي يدور في ذهنك؟ هل هو الكرامة العالمية في البحث عن مديح الناس؟! أم هي كرامة الاتضاع كما قال الرب: من يضع نفسه يرتفع.. استمع إذن إلى قول القديس أنطونيوس الكبير: من سعى وراء الكرامة، هربت منه. ومن هرب منها بمعرفة، سعت وراءه، وأرشدت الناس إليه".. إذا تجدد ذهن الإنسان، يركز نظره في الأبدية، أكثر مما ينظر إلى العالم الحاضر. وذلك حسبما قال الرسول "غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى، بل إلى التي لا ترى لأن التي ترى وقتية. وأما التي لا ترى فأبدية" (2كو18:4). إنه لا يفعل مثل الغنى، الذي ركز في خيرات العالم الحاضر، وكيف أنه سيهدم مخازنه ويبنى أعظم منها ويقول لك يا نفسي خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة (لو19:12). فجاءه الصوت الإلهي "يا غبي. في هذه الليلة تؤخذ نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟!". الذي يركز في الأرضيات، تزعجه الضيقة. فإن تجدد ذهنه، يفرح بالضيقات. بنظرته الجديدة يرى في الضيقات بركات عديدة. كما قال الرسول "احسبوا كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة.." (يع2:1). وهكذا يأخذ من الضيقة فضائل الصبر والاحتمال، وبركة الآلام وأكاليلها. ولذلك قال القديس الأنبا بولا السائح "من هرب من الضيقة، هرب من الله". وبهذا أوصانا الله أن ندخل من الباب الضيق الذي يؤدى إلى الحياة (مت13:7، 14) الإنسان الذي تجدد ذهنه، يجدد وسائله. ربما فيها شر يظنه خيرًا. ربما فيما ينشر الخير، أو ما يضنه خيرًا، يلجأ إلى وسائل خاطئة مثل العنف والقسوة، أو الإدانة ومسك سيرة الناس. ربما ينظر باستمرار إلى القذى التي في عين أخيه، ناسيًا الخشبة التي في عينيه.. فإن تجدد ذهنه، يعالج الأمور في وداعة وفى رحمة وفى أتضاع وحب. وفى ذلك قال الرسول "أيها الأخوة إن انسيق إنسان فآخذ في زلة، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظرًا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضًا. احملوا بعضكم بعضًا أثقال بعض" (غل1:6،2). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الروح القدس الذى يقود |
ما هو طريقك؟ ذاك الذي يقود إليك |
أصعب أنواع الجهل الذي يحارب العقل، الجهل الذي يرفض المعرفة |
الأكل الذي يقوي فيتامين د |
إن كان العقل يقود الإنسان، فما الذي يقود العقل؟ |