"المعلم إبراهيم جوهري": كيف تؤرخ القداسة؟
كيف لسيرة المسؤول المالي في مصر القرن الثامن عشر، أن تحضر في القداديس، وهو ليس كاهناً ولا شهيداً؟
"مات الذمّي المعلم ابراهيم الجوهري رئيس الكتبة الأقباط بمصر. وأدرك في هذه الدولة بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة وعظم الصيت والشهرة مع طول المدة بمصر ما لم يسبق لمثله من أبناء جنسه فيما نعلم. وأول ظهوره من أيام المعلم رزق كاتب علي بك الكبير، ولما مات علي بك والمعلم رزق ظهر أمر المترجم، ونما ذكره في أيام محمد بك. فلما انقضت أيام محمد بك وترأس ابراهيم بك قلده جميع الأمور، فكان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات، حتى دفاتر الروزنامة والميري، وجميع الإيراد والمنصرف، وجميع الكتبة والصيارف، من تحت يده وإشارته. وكان من دهاقين العالم ودهاتهم، لا يعزب عن ذهنه شيء من دقائق الأمور... وعمرت في أيامه الكنائس وديور النصارى، وأوقف عليها الأوقاف الجليلة والأطيان، ورتب لها المرتبات العظيمة والأرزاق الدارة والغلال. وحزن إبراهيم بك لموته، وخرج في ذلك اليوم إلى قصر العيني، حتى شاهد جنازته وهم ذاهبون به إلى المقبرة، وتأسف على فقده تأسفاً زائداً".
(الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار)
في الخامس والعشرين من بشنس (الشهر التاسع في التقويم القبطي)، تقرأ الكنائس القبطية في قداديسها سيرة إبراهيم الجوهري من كتاب السنكسار، تطويباً له في ذكرى وفاته السنوية. يحوي السنكسار صنفاً فريداً من التاريخ، هو تاريخ مقدس بالطبع، لكنه تاريخ طقسي أيضاً، أي تاريخ في حالة من الممارسة اليومية في صيغتها التعبدية. أما إدراج الجوهري في ذلك السجل الرسمي للقداسة، فأمر لا يقل فرادة. فالسنكسار يتضمن بشكل حصري، إما سير القديسين من الكهنة والرهبان، أي الإكليروس، أو سير العلمانيين ممن نالوا الشهادة. فكيف لسيرة لجوهري، المسؤول المالي الكبير في الدولة المصرية في القرن الثامن عشر، أن تجد مكاناً لها في قراءات القداديس، وهو لم ينتمِ إلى أي من الفئتين، لا الكهنوت ولا الشهادة؟
يسعي مجدي جرجس، في كتابه "المعلم إبراهيم جوهري: سيرة مصرية من القرن الثامن عشر" إلى الإجابة عن هذا السؤال بين أسئلة أخرى. وفي سبيل ذلك، يعمل بالتوازي على مستويين من التأريخ من حيث المنهج، التاريخ المصغر أي استنطاق السيرة الشخصية للجوهري بغية فهم تاريخ المرحلة. ومن أجل تفادي أغلاط التعميم من الحالة الفردية وإسقاطها على السياق بأكمله، تستحضر فصول الكتاب تاريخاً مكبراً في الوقت ذاته، يُمكّننا من المقارنة وفهم الفردي من سياقه.
يضعنا الفصل الأول أمام عشر سير مختلفة للجوهري، تتضمن تفاوتات شاسعة في تفاصيلها. يدوّن اثنان من معاصري الجوهري، سيرتين من العشرة، وتمتد السلسلة لتضم رجال دين أقباط لم يعاصروه، ورحالة وتجار أوروبيين وأحفاداً للرجل، حتى تصل في نهاياتها إلى كتاب السنكسار في نسخة العام 1951- طبعة صالح نخلة. يتعامل الكتاب مع تلك السير بطريقتين متعارضتين في الظاهر. فسيرة الجوهري تُقرأ كمنتح اجتماعي لعمليات من التنافس والصراع، فالسيرة المقتضبة والمتقشفة التي نقرأها للجبرتي تتراكم فوقها مع الزمن طبقات من التفاصيل المفتقدة للأساس التاريخي والمضاف إليها العديد من الكرامات والظهورات المعجزية والأحلام، أو ما يطلق عليه جرجس "قوالب صناعة الرمز المقدس". في السياق، يسعى الكتاب لفهم كيفية تحول السيرة إلى سيرة مقدسة. لم يكن الجوهري مجرد وجيه قبطي، بل تولي أيضاً رئاسة الطائفة وتمثيلها أمام السلطات العثمانية المملوكية، بحسب عرف أضحى سائداً منذ القرن السابع عشر، حيث حل الأراخنة من العلمانيين محل البطاركة والكنيسة، في موقع تمثيل الطائفة وتولي سلطة إدارتها. لكن عملية إسباغ القداسة على سيرة الجوهري بشكل أكثر رسمية، حدثت في سياق لاحق، مع ظهور الطباعة في نهاية القرن التاسع عشر في مصر، واحتدام صراع آخر بين العلمانيين المصلحين والكهنوت، وكان الترويج لسيرة الجوهري تصب في مصلحة الطرف الأول ولصالح تمثيل غير ديني للطائفة. كما أن مطالبة الأقباط بتولى المناصب العليا في الدولة مع صعود "المسألة القبطية" مطلع القرن العشرين، كانت تستدعي الاستشهاد بالجوهري، "كبير المباشرين"، كنموذج تاريخي وحجة.
لكن، وكما أن السيرة هي منتج تاريخي لتقاطعات الحاضر والماضي، فإن جرجس يتعامل مع التاريخ بوصفه أيضاً وقائع محددة. وبالاعتماد على أرشيف هائل من الوثائق والحجج والعقود ومستندات الوقف والسجلات من المحاكم الشرعية وأرشيف الكاتدرائية وغيرها من المصادر، يدقق الكتاب تفاصيل سيرة الجوهري، مبيناً سلسلة طويلة من الأخطاء في نص السنكسار والسير السابقة عليه ومن ضمنها حتى المنقولة عن أحفاده، أخطاء تتعلق بمكان ولادته ووضع عائلته الاجتماعي وسيرته المهنية وزيجات أنجاله، بل وحتى اسمه الكامل وتاريخ وفاته. هكذا يقدم لنا جرجس سيرة منقحة وموثقة للجوهري، وبالتوازي، يتعامل مع سيره غير الدقيقة بوصفها نصوصاً لا تقل أهمية في استقراء عمليات تاريخية تتعلق بالحاضر بقَدر ارتباطها بالماضي.
في الفصلين الثاني والثالث، يتتبع الكتاب الحراك الاجتماعي لعائلة الجوهري، وانتقالها من فئة الحرفيين إلى أصحاب القلم، ومن ثم التاريخ المهني للرجل وتقاطعه مع الصراع السياسي الأوسع حينها بين الولاة العثمانيين والمماليك. في الشق الأول تقدم الوثائق صورة تفصيلية للقفزة الكبيرة في ثروة الرجل وأملاكه، كما أن نصوصها تكشف التقاليد المعقدة لكتابة السجلات القانونية والتراتبيات الاجتماعية التي تتضمنها، فصفة الذمّي الملحقة باسم الجوهري في تلك الوثائق تبدأ في الاختفاء تدريجياً مع صعود وضعيته في السلم الوظيفي، أما أولوية أسماء المسلمين بغض النظر عن صفتهم الاجتماعية فتصبح عرضة للتفاوت من وثيقة إلى أخرى. وفي الشق المهني، يستعرض جرجس الدور الذي لعبته فئة المباشرين الأقباط، عبر احتكارهم المعرفة المالية، في الصراع السياسي على الحكم في مصر أثناء تلك الفترة مع ضعف السيطرة المركزية للدولة العثمانية.
أما الشأن الطائفي ودور الجوهري ككبير للقبط، فيتناوله الكتاب في فصله الرابع والأخير، مستعرضاً صعود نظام شبه رأسمالي في المركز العثماني وولاياته، واعتمد على إيجاد مخارج شرعية لتدوير الأوقاف الراكدة وإدخالها إلي السوق العقاري. كان تطور ذلك النظام راجعاً إلى تفاعلات داخلية وإلى سياقات أوسع على مستوي عالمي، وكان لضعف السلطة المركزية للسلطنة أن يسمح بتطور نخب وهويات محلية وترسيخ نفوذها وشبكات من العلاقات طويلة الأمد. مكّن هذا كله، أعيان الأقباط، من استثمار فائض ثرواتهم التي راكموها من عملهم لدى الدولة، في تحقيق حراك اجتماعي داخل الطائفة وصولاً إلى قيادتها.
بشكل ضمني، يدفعنا "المعلم إبراهيم جوهري" في خاتمته إلى التأمل في الحاضر، فكيف انقلبت تلك الصيرورة التاريخية التي ارتبطت فيها عمليات شبه الرسملة بعلمنة تمثيل الأقباط، لتعود الكنيسة اليوم ممثلهم الوحيد والحصري؟ أو لنطرح السؤال على مستوى التاريخ الدقيق، كيف تحولت سيرة رجل الدولة والسياسة إلى سيرة قديس؟