رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الكوارث إنذار للتوبة أو للعقاب
الأحد الثالث من الصوم: الكوارث إنذار للتوبة أو للعقاب (لوقا 13: 1-9) النص الإنجيلي (لوقا 13: 1-9) 1 وفي ذلِكَ الوَقتِ حَضَرَ أُناسٌ وأَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّينَ الَّذينَ خَلَطَ بيلاطُس دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم. 2 فأَجابَهُم: ((أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً مِن سائِرِ الجَليليِّينَ حتّى أُصيبوا بِذلك؟ 3 أَقولُ لَكم: لا، ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم. 4 وأُولئِكَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذينَ سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ وقَتَلَهم، أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم؟ 5 أَقولُ لكم: لا ولكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ)). 6 وضَرَبَ هذا المَثَل: ((كانَ لِرَجُلٍ تينَةٌ مَغروسَةٌ في كَرمِه، فجاءَ يَطلُبُ ثَمَراً علَيها فلَم يَجِدْ. 7 فقالَ لِلكَرَّام: ((ِإنِّي آتي مُنذُ ثَلاثِ سَنَواتٍ إِلى التِّينَةِ هذه أَطُلبُ ثَمَراً علَيها فلا أَجِد، فَاقطَعْها! لِماذا تُعَطِّلُ الأَرض؟)) 8 فأَجابَه: ((سيِّدي، دَعْها هذِه السَّنَةَ أَيضاً، حتَّى أَقلِبَ الأَرضَ مِن حَولِها وأُلْقِيَ سَماداً. 9 فَلُرَّبما تُثمِرُ في العامِ المُقبِل وإِلاَّ فتَقطَعُها)). مقدمة في الأحد الثالث من الصوم يصف لوقا الإنجيلي حدثين مروّعين: مذبحة الجليلين وانهيار برج سلوام على الثَّمانِيَةَ عَشَر شخصا (لوقا 13: 1-9) يرى فيهما يسوع إنذاراً موجّها إلى جميع الناس: كلنا خطأة ونحن بحاجة إلى التوبة، فالرب يوجّه لنا إنذاراً ويدعونا إلى ضرورة التوبة معطيا لنا مهلة للعودة إلى رحمة الله وغفرانه والاَّ نلنا عقابا. لعلَّ كلمة الرب تُحاور اليوم قلوبنا وتُجدِّد حياتنا في مسيرة التوبة والارتداد في هذا الزمن الأربعيني للتمتع بفرح القيامة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 13: 1-9) 1 وفي ذلِكَ الوَقتِ حَضَرَ أُناسٌ وأَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّينَ الَّذينَ خَلَطَ بيلاطُس دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم. تشير عبارة " وفي ذلِكَ الوَقتِ " إلى وقت الخطاب الذي ورد في الفصل السابق، الثاني عشر. أمّا عبارة "الجَليليِّينَ" فتشير إلى سكان الجليل إذ كانت فلسطين مُقسَّمة في ذلك الوقت إلى ثلاثة أقسام: الجليل، والسامرة، واليهودية. وكان الجَليليُّون سكان القسم الشمالي منها، وهم تحت حكم هيرودس لا حكم بيلاطُس، وكانوا يقاومون شرائع روما، ويذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس أنَّ الجَليليِّينَ كانوا أشرارا وكثيري الفتن؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير " قيل أنَّ هؤلاء الجَليليِّينَ هم أتباع أفكار يهوذا الجليلي الذي يشير إليه معلمنا لوقا (أعمال الرسل 5: 27). هذا الذي أعلن بأنه يجب ألا يُدعى أي إنسان سيدًا، وقد التف حوله جمهور كبير ورفضوا دعوة قيصر أن يكون سيداً عليهم، ونادوا بعدم تقديم أية ذبيحة لله لم ترد في الشريعة الموسويَّة، مانعين الشعب من تقديم ذبائح لله من أجل سلام الإمبراطور والدولة الرومانية، لهذا عاقبهم بيلاطُس". ورُبما يتكلم الإنجيل عن "الغيورين" الثوار. أمَّا عبارة " أَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّينَ " فتشير إلى الاعتقاد أنَّ هؤلاء الجَليليِّينَ قد عوقبوا بعدل، لأنهم بذروا فتنة بين الشعب، وحَرَّضوا على الثورة ضد الحكام. فأراد القوم الذين عرضوا هذه القضية على المسيح أن يعرفوا رأيه، وربَّما كانوا ينتظرون من السيِّد المسيح أن يثور على بيلاطُس البنطي الذي انتهك حرمه الهيكل بسبب ظلمه. أمَّا عبارة "بيلاطُس" في الأصل اللاتيني Pilatus (معناه من له حربة أو مطرقة لأنه حربة الرومان كانت على شكل مطرقة) ويُلقب Pontius البنطي، (متى 27: 2) فتشير إلى الوالي الذي أقامته الحكومة الرومانية نائباً أو حاكماً على اليهودّية في سنة 29 م. واستمرّ حكمه بضع سنين إلى ما بعد صعود مخلصنا يسوع المسيح إلى السماء، وكانت قيصرية مركز ولايته. وكان يصعد بيلاطُس إلى أورشليم إلى دار الولاية فيُقضي للشعب هناك (يوحنا 18: 28). وأمَّا أيام حكومته فلم تكن مرضية لليهود، لأنَّه كان قاسياً جدّاً غير مهتم إلاَّ بمنفعته الشخصية. وفضلاً عن ذلك، هو الذي سلَّم المسيح لليهود لصلبه مع أنه اعترف ببراءته وعدم اقترافه جرماً يُوجب تسليمه لهم. ويرّجح أنَّ تلبية بيلاطُس لطلب اليهود كان لغاية المحافظة على مركزه بالرغم من اقتناعه ً ببراءة يسوع (يوحنا 19: 6 و12)، وهو الذي سمح ليوسف الرامي أن يأخذ جسد يسوع بعد موته ويدفنه (متى 27: 57-61) وربَّما لآنَّه ندم على ما صنع. وأخيراً وضع حرّاساً على القبر يحرسون جسد يسوع (متى 27: 62-66). وقد أقيل من وظيفته لقسوته ونُفي إلى فرنسا ومات هناك. ويقول بعضهم أنه مات منتحراً. أمَّا عبارة "خَلَطَ بيلاطُس دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم" فتشير إلى الجَليليِّينَ الذين ذُبحوا على أيدي الجنود الرومان بينما كانوا يُقدّمون الذبائح في الهيكل، لأنَّهم نادوا بعدم تقديم ذبائح لله من أجل سلام الإمبراطور والدولة الرومانية، الأمر الذي أثار بيلاطُس فطلب قتلهم وهم يقدمون ذبائحهم في الهيكل في أورشليم عقابا لهم. ويرى بعض المؤرخين أن ما فعله بيلاطُس بهم سبَّب عداء بينه وبين هيرودس انتيباس لأنهم كانوا من رعاياه (لوقا 23: 12). ويعتبر هذا العقاب الدموي لهؤلاء الجَليليِّينَ صادر عن إرادة بشرية للحاكم الروماني الإنذار الأول للتوبة. "أمَّا عبارة "ذَبائِحِهِم " إلى عادة تقديم اليهود الذبائح لله كطريقة للتكفير عن الخطايا (التكوين 8: 20). فكان جزء من الضحية (سواء أكانت حيواناً كبيراً أو صغيراً يُصبح من حق الله، سيد الحياة (دماً مراقاً، شحوماً محرقة،)، في حين كان يستخدم اللحم كطعام للمدعوِّين؛ أمَّا المسيحيون الآن فهم في غنى عن هذه الذبائح، لأنَّ المسيح رُفع على الصليب ذبيحة طاهرة كاملة لأجلهم (العبرانيين 13: 11 و12)، لذلك فهم يقدِّمون ذبائح من صنف آخر تدل على شركتهم في المسيح، كالتسبيح وفعل الخير والتوزيع كما جاء في رسالة العبرانيين " فلْنَقَرِّبْ للهِ عن يَدِه ذَبيحَةَ الحَمْدِ في كُلِّ حين، أَي ما تَلفِظُه الشِّفاهُ المُسَبِّحَةُ لاسمِه. لا تَنسَوُا الإِحْسانَ والمُشارَكة، فإِنَّ اللهَ يَرتَضي مِثْلَ هذِه الذَّبائِح" (العبرانيين 13: 15 -16). 2 فأَجابَهُم: ((أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً مِن سائِرِ الجَليليِّينَ حتّى أُصيبوا بِذلك؟ تشير عبارة " الجَليليِّينَ " إلى منطقة الجليل، والجليل اسم يونانيّ Γαλιλαία للقسم الشماليّ من جبل غربيّ الأردن. ترجع لفظة جليل إلى العبريّة הַגָּלִיל التي تعني مقاطعة، بقعة. واستعملت الجليل كاسم علم لمقاطعة فلسطين الشماليّة (يشوع 20 :7). وبعد مزج السكان الأصليّين مع العناصر الوثنيّة التي جاء بها تغلث فلاسر، ملك أشور (2ملوك 15 :29؛ طوبيا 1 :1-2)، صار الكتاب المقدس يتحدّث عن جليل الأمم (أشعيا 9 :1؛ متى 4 :15). وبعد أن احتلّ بومبيوس فلسطين، صارت الجليل مقاطعة في مملكة يوحنا هركانوس الثاني ثمّ في مملكة هيرودس الكبير. أمَّا بعد موت هيرودس، فأصبحت الجليل مع بيرية، تحت حكم هيرودس انتيباس (4 ق.م.-37 ب. م.). وحسب الأناجيل الإزائيّة، مارس يسوع رسالته الأولى في الجليل. وإن يهوذا ابن غامالا الذي يعتبر مُؤسِّس حزب الغيورين قد سمّي الجليليّ (أعمال 5 :37). هذا يعني أن اللفظة اتخذت رنّة سياسيّة مع المفهوم الجغرافيّ. في هذا المجال، كان حديث عن ثورة الجَليليِّينَ على هيرودس (يوسيفوس، العاديات 14 :45؛ لوقا 13 :1). أمَّا عبارة "أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً" فتشير إلى اليهود الذين كانوا يعتبرون أن العقاب الذي يحلُّ بالإنسان هو نتيجة الخطيئة المقترفة حيث وجهوا سؤالهم إلى يسوع قائلين: رابِّي، مَن خَطِىءَ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ أعْمى؟ فخرج يسوع من هذا المنطق، فأجابهم: لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله"(يوحنا 9: 1-3). الموت حاضر وينتظرنا في كلّ لحظة بغض النّظر عن طريقة موتنا. ليست الطريقة التي نموت بها هي المهمّة، إنّما أن نكون مع ذاتنا متّحدين مع الله. آنذاك يصبح الموت عبور حقيقيّ باتّجاه الحياة. أمَّا عبارة “خَطيَئةً" في الأصل اليوناني ἁμαρτωλός (معناها دَين) تشير إلى مخالفة، إثم، تمرد، ظلم... الخ، وتضيف اليهودية إليها لفظ "دَين"، الذي يستخدمه العهد الجديد في هذا المعنى. وتدل لفظة "دَيْن" في الكتاب المقدس على واجب قانوني وتجاري بين البشر، وكان هذا الالتزام ذا شأن عظيم جداً في العالم القديم فيعرّض لفقدان الحرية لمن لا يدفع دَينه كما ورد في مثل الخادم القليل الشفقة (متى 18: 23-35). واستخدم الكتاب المقدس كلمة "الدَيْن" لوصف موقف الإنسان من الله، وهو مَدينٌ له تعالى حتى إنَّه عاجزٌ عن الوفاء، وفي هذه الحال تدل الاستعارة على أنَّ الأنسان خاطئا، وهكذا نفهم صلاة يسوع في (أبانا) " وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه" (لوقا 11: 4). فإنْ يسوع شبَّهَ الخطيئة "بِدَيْن" بل إنه استخدم هذا اللفظ أحياناً " أَعْفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه"(متى 6: 12). أمَّا في اللغة العربية فتدل الخطيئة على عدم الإصابة، وقد يكون عن عمد، وقد يكون عن غير عمد. 3 أَقولُ لَكم: لا، ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم. تشير عبارة "لا" إلى لا النافية، حيث ينفي يسوع أن هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً؛ إن البلايا الخارجيَّة والضيقات ليست بالضرورة عِلَّة خطايا خاصة. فقتل هؤلاء الرجال لا يعني بالضرورة أنهم أكثر شرًا من غيرهم من الجَليليِّينَ، إذ كان يسود اليهود اعتقادأنَّكلضيقة يجتازها إنسان، إنَّما هي علامة غضب الله عليه. لكن الربّ ليس إلهًا يُعاقب الشر ويُزيله بهذه الطريقة العنيفة. لا نستطيع أن نضع أي إنسان في خانة الموت والهلاك ونحكم عليه، أو أن ننسب للرب حكم الموت هذا. لان الشر يُقيم في قلب الجميع كما ورد على لسان بولس الرسول "بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا" (رومة 3: 23). ولذلك يدعونا يسوع جميعاً إلى التوبة وعدم الحكم على الآخرين. ويسوع خلال حياته الأرضيّة وتعاليمه لم يحكم أبدًا على أي إنسان ولم يعاقب أي إنسان، بل ساعد الإنسان على اكتشاف ملكوت الله من خلال الرحمة والمسامحة حتى الصليب، إذ قال"يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34)، ويُحذِّر يسوع سامعيه من تحميل الضحايا مسؤولية المحن لكن يدعونا أن نتعظ من الكوارث وأعمال العنف لأجل الارتداد والتوبة. أمَّا عبارة " تَتوبوا" في الأصل اليوناني μετανοέω, ( معناها تغيير العقلية) فتشير إلى استغلال السيِّد المسيح هذا الخبر، ليحث سامعيه إلى حياة التوبة حتى لا يخافوا من بيلاطُس، وإنما من الخطيَّة التي هي عِلَّة الهلاك. فالجميع بحاجة إلى التوبة. والتوبة هي الطريق التي تؤدِّي إلى النجاة، إذ هي تغيير العقل للأفضل، وإصلاح المرء نفسه بسبب ما أرتكبه من الخطايا والمنكرات. ويُعلق البابا لاون الكبير "فَلنَمُتْ عن الخطيئة لنَحيا للعدالة؛ فَليَختَفِ الكائن القديم ليَقومَ الكائن الجديد" (العظة العشرون عن الآلام). فالله لا يريد موت الخاطئ، بل يريد خلاص جميع الناس، لأنه مات من اجل الجميع. ويوضّح ذلك حزقيال النبي بقوله: " الشِّرَّير إِذا رَجَعَ عن جَميعَ خطاياه الَّتي صَنَعَها وحَفِظَ جَميعَ فرائضي وأَجْرى الحَقَّ والبِرّ. فإِنَّه يَحْيا حَياةً ولا يَموت، وجَميعُ مَعاصيه الَّتي صَنَعَها لا تُذكرٌ لَه، وبِبِرِّه الَّذي صَنَعَه يَحْيا. ألعَلَّ هَوايَ في مَوتِ الشِّرَّير؟ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ. أَلَيسَ في أَن يَتوبَ عن طرقِه فيَحْيا؟" (حزقيال 18: 21-23)؛ وقد ودعا يسوع جميع البشر إلى التوبة، لأنَّهم خاطئين جميعهم كما جاء في تعليم بولس الرسول "سَرى المَوتُ إلى جَميعِ النَّاسِ لأَنَّهُم جَميعاً خَطِئوا" (رومة 5: 12). أمَّا عبارة "تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم" فتشير إلى الهلاك إمَّا بيد الرومان كما جرى بعد ذلك بنحو أربعين سنة حين تمّ خراب اورشليم على يد طيطس سنة 70 م. ومن هذا المنطلق، فحوى المصائب نتيجة لخطايا خاصة وتحذير لامّة اليهود من دينونة الله المعّدة وحثَّها على التوبة. وفي هذا تحذر لكل خطأة الأرض غير التائبين الذي كان قتل الجليلين رمزا لهم. 4 وأُولئِكَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذينَ سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ وقَتَلَهم، أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم؟ تشير عبارة " الثَّمانِيَةَ عَشَرَ" إلى رقم يُعبِّر عن الشرِّ والعجز والنقص، حيث إن الرقم (18) هو حاصل ضرب الرقم 3 × الرقم 6 باعتبار أن الرقم 3 هو رقم التحديد والوضوح، والرقم 6 هو رقم الشرّ والنقص والعجز. وتكرَّر رقم 18 ذكره ست مرات في الكتاب المقدس، ثلاث مرات منها في العهد القديم، وثلاث مرات في العهد الجديد. أمَّا عبارة "سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ وقَتَلَهم" فتشير إلى ثمانية عشر شخصًا ماتوا نتيجة انهيار برج سلوام (يوحنا 9: 7). وقد سُمّي بهذا الاسم إمَّا لقربه من عين سلوم، وإمَّا لبنائه على السور قرب بركة سلوام (نحميا 3: 15). وتمَّت هذه الحادثة بيد إلهية مثل الكوارث الطبيعية كالزلازل، وهي تدل على فكرة القضاء الإلهي دون توقّع. ولكن يُعلمنا بولس الرسول "إِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله" (رومة 8: 28). أمَّا عبارة " سِلْوامَ " اسم عبراني שִׁלּחַ (معناه مُرسَل) فتشير إلى اسم برج لا يعرف مكانه اليوم بالضبط، ولعله في القرية التي تسمى اليوم سلوان عند سفح جبل النجاسة أحد قمم جبال الزيتون حيث بنى فيه سليمان هياكل للإلهة الغربية، عشتاروت وكموش وملكوم، وهي آلهة الفينيقيين والموآبيين والعمونيين (2 ملوك 23: 13). أمَّا عبارة "البُرجُ في سِلْوامَ " فتشير إلى البرج الكائن في قرية سلوان جنوب أورشليم. وفي الواقع كشف فايل (M. Weill) عام 1913 -1914 عند المنحدر الشرقي للتل على مسافة 150م. من نبع العذراء على جهة اليمين من الشارع-أساسات برج دائري الشكل يبلغ طوله أكثر من سبعة أمتار وسمكه 1.20 م. أطلق مكالستر على هذا البرج اسم "برج داود"، إلا أن تنقيبات كاثلين كينيون بيَّنت أن البرج لا يعود إلى زمن داود، وإنما إلى القرن الثاني ق. م. لعهد المكابيين، بناه سمعان (143-135) أو هرقان بن سمعان (135-105) وهو بناء أضيف إلى سور نحميا لأنه مقام على بيوت من القرن السابع ق. م. هدمها البابليون عام 586ق. م. التي لا تزال أنقاضها ظاهرة للعيان حول البرج. أمَّا عبارة "أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم؟" فتشير إلى تحذير يسوع لسامعيه من "تحميل الضحايا مسؤولية المحن" ويعلق البابا بندكتس "لأن الجواب الأكثر فعالية بوجه الشر يقوم على الاتعاظ الشخصي من النوائب للارتداد والتوبة". أمَّا عبارة " ذَنْباً " في الأصل اليوناني ὀφειλέται (معناها مذنبون) فتشير إلى هؤلاء الذين يُكرِّرون السيّئات عن عمدا. هل نفكر كيف أنّ الموت ممكن أن يُصيب أيّ إنسان في أيّ وقت كان؟ الموت أو الحياة ليسا مقياسا للبر. فكل إنسان لا بدَّ أَّن يموت، وقد وعدنا يسوع "لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). هل نضع نفوسنا في المكان ونطلب نعمة التوبة؟ وأن كل كارثة ما هي إلاّ إنذار بالهلاك للآخرين إن لم يتفادوه بالتوبة. إذاً هذه الحادثة يجب اعتبارها كإنذار، فالموت يأتي كالسارق "وأَنتُم تعلَمونَ أَنَّه لْو عَرَفَ رَبُّ البَيتِ في أَيَّةِ ساعَةٍ يأتي السَّارِق لَم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب. فكونوا أَنتُم أَيضاَ مُستَعِدِّين"(لوقا 12: 39-40). 5 أَقولُ لكم: لا ولكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ)) أمَّا عبارة "إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ" فتشير إلى تكرار هذه الآية كدعوة ملحة للتوبة مادام الوقت يتسع لها. فالله صبور لان التوبة قضية حياة أو موت. وهنا يُنبِّهنا يسوع ألاّ نحكم على أحد، بل ننظر إلى خطايانا تائبين. أمَّا عبارة " بِأَجمَعِكُم كذلِكَ " فتشير هنا إلى اليهود وسائر الناس على سواء. وقصد يسوع من هذا المثل أن نحسب كل المجاعات والأوبئة والزلازل والطوفان والحروب والمصائب إنذاراً للناس للتوبة. ويُعلق البابا بندكتس "دعوة يسوع إلى الإجابة على الشر تقوم عبر فحص ضمير جَدِّي، ومن خلال الالتزام بتطهير السيرة الذاتية". وبهذا الأمر يصدق المثل القائل"إشعال عود ثقاب خيرٌ من لعن الظلام" بمعنى أن التوبة هو السبيل الأفضل للقضاء على الشر ولمحاربته. 6 وضَرَبَ هذا المَثَل: ((كانَ لِرَجُلٍ تينَةٌ مَغروسَةٌ في كَرمِه، فجاءَ يَطلُبُ ثَمَراً علَيها فلَم يَجِدْ. تشير عبارة "المَثَل" في الأصل اليوناني παραβολή (معناها المقارنة في الكلام والتعليم) إلى عرض تمثيلي لرموز، أي لصور مقتبسة من الحقائق الأرضية التي تعبِّر عن الحقائق الروحية التي أوحى بها الله (التاريخ المقدس، الملكوت...) وهي تحتاج في الغالب إلى المزيد من الشرح العميق. وللمثل قصة رمزية، حيث يكون لكل عنصر فيه معنى رمزي خاص به. أمَّا عبارة " كانَ لِرَجُلٍ تينَةٌ مَغروسَةٌ في كَرمِه، فجاءَ يَطلُبُ ثَمَراً علَيها فلَم يَجِدْ" فتشير إلى شجر التين الذي لا يثمر ما لم يفلح. وهنا تدل العبارة على الإنذار التقليدي للشجرة التي لا تخرج ثمراً "ها هيَ ذي الفَأسُ على أُصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمَراً طَيِّباً تُقطَعُ وتُلقى في النَّار" (لوقا 3: 9). وضرب يسوع هذا المثل بعد أن دعا الناس إلى التوبة مبُيناً أنَّ إبطاء الله في إجراء الدينونة على الخطأة إنما هو لإعطائهم فرصة للتوبة، وإذ لا يتوبوا ينالون العقاب لا محالة. أمَّا عبارة " كانَ لِرَجُلٍ " في الأصل اليوناني εἶχέν τις (كانت لواحد) فتشير الواحد إلى الله. أمَّا عبارة "تينَةٌ" فتشير إلى الشعب اليهود لأنه جعل الله لها أفضل الوسائط لكي تأتي بإثمار البِّر لمجده تعالى. وشجر التين مشهور في فلسطين وثمره أجاصي الشكل. وكان القدماء يعتبرون جلوس كل إنسان تحت تينته من دلائل السلام والفلاح (1 ملوك 4: 25 و2 ويوحنا 1: 48) ومن خواص التين الغريبة ظهور ثمره من البداية قبل أوراقه. فاذا ظهرت الأوراق ولم يظهر الثمر لا يؤمل أثمارها في تلك السنة (متى 21: 19). في الأشجار الأخرى تسقط الزهرة بتولد الثمرة مكانها، أمَّا في هذه الشجرة فتسقط الثمرة الأولى ليحل محلَّها ثمرة أخرى. وأوراق التين في فلسطين من أكبر الأدلة على اقتراب الصيف (لوقا 21: 29 -30). وفي بعض الظروف قد ينضج قليل من الثمر في الوقت الذي طلب فيه المسيح ثمراً ولم يجده، ويقصد السيد المسيح بشجرة التين الأمَّة اليهودية. وفي أيامنا ترمز التينة لأي كنيسة من كنائسنا التي يتعهدها الله بمواهبه ونعمته، ويطلب الثمر منها، والكنيسة التي بلا ثمر سيقطعها الله (رؤية 2: 5)؛ أمِّا عبارة "كَرمِه" فتشير إلى صورة لشعب إسرائيل، كما يقول هوشع النبي "إِنَّ إِسْرائيلَ كَرمَةٌ " هوشع 10: 1) وكما ورد في مواضيع كثيرة في الكتاب المقد س (مزمور 80: 9، 15؛ أشعيا 27: 2، 23؛ حزقيال 17: 6). أمَّا عبارة "جاءَ يَطلُبُ ثَمَراً علَيها فلَم يَجِدْ " فتشير إلى الله الذي طلب من الشعب اليهودي في كل العصور أثمار المحبة والإيمان والطاعة الذي له حق أن ينتظرها، ولكن كان عقم شجرة التين إشارة إلى إثم الشعب اليهودي وكنه ان يؤنِّبهم على ذلك بفم أنبيائه على مرِّ الأزمنة (أشعيا 5: 2، وارميا 15، وهوشع 10: 1). فهناك ارتباط التوبة بالثمر الروحي حيث أنَّ الثمر يدلُّ على أعمال الخير والنعمة (غلاطية 5: 1-6). 7 فقالَ لِلكَرَّام: ((ِإنِّي آتي مُنذُ ثَلاثِ سَنَواتٍ إلى التِّينَةِ هذه أَطُلبُ ثَمَراً علَيها فلا أَجِد، فَاقطَعْها! لِماذا تُعَطِّلُ الأَرض؟)) تشير عبارة "لِلكَرَّام" إلى يسوع المسيح الكرَّام الحقيقي كما جاء في الإنجيل الطاهر: "كُلُّ غُصنٍ فِيَّ لا يُثمِر يَفصِلُه. وكُلُّ غُصنٍ يثُمِر يُقَضِّبُه لِيَكثُرَ ثَمَرُه" (يوحنا 15: 1)؛ أمَّا عبارة ِ"إنِّي آتي مُنذُ ثَلاثِ سَنَواتٍ إلى التِّينَةِ" فتشير إلى تبشير يسوع لمدة ثلاث سنوات للشعب اليهودي (مرقس 11: 14). أمَّا عبارة" ثَلاثِ "فتشير إلى وقت طويل بالنسبة إلى عمر شجرة التين، وهو كاف لامتحان الشجرة ليتبيَّن أمثمرة هي أم لا. والقصد منذ لك أنَّ الله أعطى شعبه فرصة كافية لكي يرى يطيعون وصاياه أو لا. وفي الواقع مجي ربَّنا لشجرة التين ثلاث مرات: فإنه بحث عن طبيعة الإنسان قبل الشريعة مع إبراهيم، وتحت الشريعة مع موسى، وتحت النعمة الإلهية مع يسوع. ومن ناحية أخرى فإن رقم (3) من الأرقام الكاملة وبركز إلى الكمال، وهو أيضاً رقم القيامة من الأموات (2 ملوك 20: 5، قورنتس 15)، والمسيح قام في اليوم الثالث، ويونان خرج من جوف الحوت بعد ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث للخليقة ظهرت الحياة والثمر والبذور. وترمز رقم ثلاث هنا إلى إعطاء الله وقتا كافيا للتينة لتثمر. أمَّا عبارة "َطُلبُ ثَمَراً علَيها فلا أَجِد، فَاقطَعْها!" فتشير هذه المثل إلى الإنذار التقليدي للشجرة التي لا تخرج ثمراً "ها هيَ ذي الفَأسُ على أُصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمَراً طَيِّباً تُقطَعُ وتُلقى في النَّار" (لوقا 3: 9)، قد سبق واكَّد ذلك ارميا النبي "سأُبيدُهم إِبادةً، يَقولُ الرَّبّ لا عِنَبَ في الكَرمَةِ ولا تينَ في التِّينة. والوَرَق قد ذَوى وأَجعَلُ علَيهم مَن يَدوسُهم" (ارميا 8: 13). ويُعلق القديس أمبروسيوس " لم يستطع الشعب اليهودي أن يتطهر مع إبراهيم، لأنه أخذ ختان الجسد لا الروح. ولا استطاع أن يتقدس مع الشريعة، لأنه جهل قيمة الشريعة بتمسكه بما هو جسدي لا بما هو روحي، ولا استطاع أن يتبرَّر مع يسوع، إذ لم يتبْ عن خطاياه فكان جاهلًا بالنعمة". هكذا يقدَّم لنا القديس أمبروسيوس في هذا المثل صورة حيَّة للشعب اليهودي الذي بقي ثلاث سنوات بلا ثمر، إذ لم ينتفع بالختان قبل الشريعة (من إبراهيم إلي موسى) ولا بالشريعة (من موسى إلي مجيء المسيح)، ولا حتى بالنعمة التي جاء السيِّد المسيح يقدَّمها لنا. ومع هذا فلا يكفَّ الله عن العمل لخلاص كل العالم. أمَّا عبارة " َاقطَعْها!" فتشير إلى صيغة الأمر حيث يأمر صاحب الكرم الكرّام بالقضاء الإلهي والدينونة الإلهية، ومن الحق والعدل أن يجري الله رب الشريعة الديان مثل هذا القضاء عل شعب غير طائع لوصاياه. ويرد الفعل "قطع" مرتين في هذا المثل لأهمته. ويُذكرنا ما ورد على لسان يوحنا المعمدان وهو يعظ الجموع عن ضرورة التوبة "ها هيَ ذي الفَأسُ على أُصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمَراً طَيِّباً تُقطَعُ وتُلقى في النَّار" (لوقا 3: 9)، وإذا لم يتب الإنسان ويبقى في خطاياه فلا لا مناص له من الهلاك. أما عبارة " لِماذا تُعَطِّلُ الأَرض؟" فتشير إلى عِلة قطعها، فإنها لا تنفع شيئا وتشغل محل شجرة أخرى مثمرة وتأخذ قوة الأرض عبثًا كذلك كانت الآمَّة اليهودية أنها كانت غير نافعة بل مضرة، لأنها أغاضت الله وعصت أوامرها وكانت عثرة لغيرها فصدق عليها قول بولس الرسول "جَدَّفُ بِاسمِ اللهِ بَينَ الوَثَنِيِّينَ وأَنتُمُ السَّبَب" (رومة 2: 24) كذلك كل إنسان لا يأتي بثمر البر، لأنه على عدم نفعه مضر بكون عثرة لغيره في سبيل الخلاص. 8 فأَجابَه: ((سيِّدي، دَعْها هذِه السَّنَةَ أَيضاً، حتَّى أَقلِبَ الأَرضَ مِن حَولِها وأُلْقِيَ سَماداً. تشير عبارة "فأَجابَه: سيِّدي" إلى الكرام ويُراد به هنا جواب السيد المسيح الذي هو " شَفيعٌ لَنا عِندَ الآب وهو يسوعُ المَسيحُ البارّ" (1 يوحنا 2: 1)، كما يضيف صاحب الرسالة إلى العبرانيين " أَنَّه حَيٌّ دائمًا أَبَدًا لِيَشفَعَ لَهم" (العبرانيين 7: 25). وهو "كفارة عنا" (2 قورنتس 5: 19)؛ وهنا نكشف عن عطية الآب (صاحب الشجرة التينة والكرّام عمل الابن يسوع الذي يعتني بالتينة بصبر. أمَّا عبارة "دَعْها هذِه السَّنَةَ أَيضاً" فتشير إلى صيغة الأمر به يأمر الكرّام صاحب الكرم طالبا منه مُهلة أخيرة، التغيير مازال ممكناً ومتاحاً. لم يردْ الكرام أن يترك الشجرة في عقم دائم بل أن تُمهل ليسعَ في إصلاحها. أجل! يعطي الله فرصة للخطأة لتوبتهم قبل أن ينفِّذ حُكمه العادل فيهم كما يقول الملاك إلى الكَنيسَةِ في يِتياطيرة "قد أَمهَلتُها مُدَّةً لِتَتوب" (رؤية 2: 21). ومفاد الآية أنَّ الله طويل الأناة يبطئ في الدينونة على الخطأة ليمنحهم فرصة أخيرة للتوبة، وهذا هو جوهر اهتداء الإنسان. رغبة الله هي أن تُزهر حياتنا وتصير خصبة، فعلينا أن نتعاون مع عمل الآب والابن لنثمر. أمَّا عبارة "هذِه السَّنَةَ أَيضاً" فتشير إلى السنةالتي فيها صار الابن الوحيد كلمة الله إنسانًا، جاء ككرامٍ يحثَّ الشعب اليهودي إلى التوبة، إذ طلب السيد المسيح تركها سنة أخرى، هي "عهد النعمة وهو الوقت الذي بدأ فيه الأزمنة الأخيرة. والأزمنة الأخيرة هي أزمنتنا حتى يتمكن الإنسان أن يعرف علامة محبّة الربّ ويتوب. ويُعلق القديس كيرلس الكبير" قد سبق توعد الله الشعب اليهودي مرارًا بالخراب والدمار والحروب والقتل والحرق والسبي والسخط، ومن جانب آخر قدَّم له المواعيد إن آمنوا به، فيصيروا أشجارًا مثمرة. إذ يهبهم الحياة والمجد ونعمة التبني والروح وملكوت السماوات". أمَّا عبارة "حتَّى أَقلِبَ الأَرضَ مِن حَولِها وأُلْقِيَ سَماداً" فتشير إلى استعمال كل الوسائل المناسبة لتغذية الأرض وتنشيطها: قلع الحشائش الضارة؛ وهذه إشارة للتجارب التي يسمح بها الله لتنقية أولاده ومساعدتهم على الانسحاق كما حدث مع مجاعة الابن الضال (لوقا 15: 11-32). وتبدو هنا الدعوة إلى التوبة واضحة وماسة. يعمل يسوع دون يأس، ويهتم بالكرمة بكونها غرسة الإلهي حتى تأتي بالثمر الحقيقي اللائق. فضرورة التوبة مُلّحة للغاية، والله يمنح فرصة واحدة أخيرة. هكذا المسيح لم يطلب من الآب أن يترك الشعب اليهودي في عصيانهم وإثمهم، بل أن يُمهلهم مدَّة قبل إجراء القضاء، وهو يستعمل كل النعمة لعلَّهم يتوبون ويأتون بإثمار بالتوبة. فهو لا يحرث الأرض ويخصبها فقط حتى تثمر شجرة التين، بل يصبح بذرة تُلقى في باطن الأرض كما صرّح يسوع "إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَراً كثيراً"(يوحنا 12: 24) وهي صورة عن موته للفداء وقيامته. في يسوع، الله هو أول من "اهتدى" إلينا فيأتي للقائنا حتى نهتدي إليه بقلب جديد. أنه إله "يضيع علينا الوقت" حسب تعبير اللاهوتي الكبير كارل بارت. أمَّا عبارة " سَماداً" فتشير إلى الزبل الذي ينتج في فاعليته الصالحة ثمرًا. ويرمز هنا للطعام الروحي الذي يعطيه الله لأبنائه ليساعدهم على الإثمار. فهدف المثل الأساسي ومحوره ضرورة التوبة. ويُعلق البابا بندكتس "لا يقوم يسوع بعرض ضرورة التوبة بأسلوب أخلاقي متزمت، بل بأسلوب واقعي هو بمثابة الجواب الوحيد بوجه محنٍ تُضعضع يقين الإنسان". 9 فَلُرَّبما تُثمِرُ في العامِ المُقبِل وإِلاَّ فتَقطَعُها)). تشير عبارة "تُثمِرُ" إلى ثمرة الشجرة وهذا هو المطلوب من صاحب الكرم والكَّرام والثمر هو التوبة استجابة لدعوة يسوع "تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات" (متى 4: 17)؛ أمَّا عبارة "العامِ المُقبِل" فتشير إلى كرازة يسوع، حيث يُعلن سنة نعمة ورحمة (لوقا 4، 19). بالفعل يعطينا الرب زمنا جديدا وينتظر منا ثمرا. وهذا يعلمنا أنَّ طول أناة الله إنما هو إعطاء فرصة للتوبة واكتساب الخلاص كما جاء في رسالة بطرس الرسول "عُدُّوا طولَ أَناةِ رَبِّنا وَسيلةً لِخَلاصِكم"(2 بطرس 3: 15). أمَّا عبارة "فتَقطَعُها" فتشير إلى قول الرب أعلاه " إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم. (لوقا 13: 3). الشجرة بلا ثمر تمتص فوائد الأرض فتعطلها، أو هي تأخذ مكانًا كان يمكن أن تزرع فيه شجرة مثمرة، وهكذا إن هلاك بني إسرائيل لا ريب فيه إن بقي في عصيانه، وما صدق في هذا المثل على الأمَّة اليهودية يصدق على كل الناس. فكل من يسمع الإنجيل ولا يسير بمقتضاه فهو شجرة تين بلا ثمر في كرم الله. هذا الزمن هو بعد زمن رحمة، ويمتد زمن الرحمة ليتيح فرصة للتوبة لا لتأجيل العقاب. ولكن بعد الموت فهو زمن العدل. فلا يستطيع أحد أن يستغل صبر الله. سيكون العقاب شديداً جداً. هل نرى أن الربّ الكرّام، يعمل فيّنا دون يأس؟ هل نرى أنَّ حلم الله وشفاعة المسيح لولاهما هلك العالم باسره منذ زمان؟ ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 13: 1-9) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 13: 1-9) نستنتج انه يتمحور حول توجيهات يسوع للناس من خلال الإنذار والتوبة والعقاب. 1) الإنذار وجّه يسوع للشعب اليهودي ثلاثة إنذارات كي يميّزوا المغزى من أحداث زمانهم. وهذه الإنذارات هي: الإنذار الأول: هو مذبحة الجَليليِّينَ على يد بيلاطُس، (لوقا 13: 1-3)، وهي نتيجة لإرادة بشرية: إذ قمع بيلاطُس، الوالي الروماني، تمرُّد الغيُّورين" الذين كانوا يريدون زعزعة النظام الروماني القائم. وقد اتخذوا الجليل مقراً لهم. الإنذار الثاني: هو إنذار سقوط برج سلوام، وهي نتيجة عوارض طبيعية غير بشرية (لوقا 13: 4). لا يوجد كوارث عبثية في الحياة، كل كارثة تحدث هي إمَّا للتوبة، أو عقوبة أو هدية من السماء. الإنذار الثالث هو شجرة التين (لوقا 13: 5-9). كانت الشجرة في العهد القديم رمزا للحياة الصالحة كما جاء في أقوال صاحب المزامير "يَكونُ كالشَّجَرَةِ المَغْروسةِ على مَجاري المِياه تُؤْتي ثَمَرَها في أَوانِه ووَرَقُها لا يَذبُلُ أَبدًا"(مزمور 1: 3)؛ وقد أشار يسوع إلى ما يحدث للشجرة غير المثمرة، والتي استهلكت وقتاً ومكانا وعملا ولم تعط ثمرا. وقد حذّر يسوع سامعيه من أن الله لن يحتمل عدم إثمار الناس إلى الأبد. وفي هذه الصدد قال يوحنا المعمدان "ها هيَ ذي الفَأسُ على أُصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمَراً طَيِّباً تُقطَعُ وتُلقى في النَّار"(لوقا 3: 9). فالتينة التي لا تحمل ثمراً، وتُعطل الأرض عبثاً، لا بدَّ من قطعها؛ فاقتلاعها خير من وجودها في الأرض بدون ثمرٍ. صوّر يسوع في هذا المثل فشل إسرائيل في الاستجابة لمعاملة الله وطول أناته مع هذه الأمَّة، ثم لمَّح إلى دينونتها (لوقا 13: 6-9)؛ حيث كانت شجرة التين تُمثل بني إسرائيل في العهد القديم (ارميا 24: 3، هوشع 9: 10)، وصاحب الشجرة يرمز إلى لله باعتباره إلهاً لإسرائيل، والكرَّام يرمز إلى يسوع المسيح. تصور حكاية التينة مع صاحبها هي حكاية كل إنسان مع ربِّه. ولا شكّ في أنّ مثل التينة يهدف إلى الحثّ على التوبة. فصاحب الكرم يُمهل التينة سنة واحدة، امتثالاً لطلب الكرّام الّذي يحاول مرّة نهائيّة أن ينقذ التينة، وكأنّ يسوع يدعونا إلى أن نعتبر الزمن الحاضر مثل هذه السنة، فرصة أخيرة، كما لو كانت السنة الأخيرة. نستنتج مما سبق أنَّ المهم في الأمر هو أن نعيش الزمن الحاضر موجّهين اهتمامنا إلى ما يقوم به الكرّام لتحسين ثمرنا، حيث أن الله في انتظار دائم لنا، ولا يفقد الأمل فينا أبداً لأنّه يثق بنا ونحن لا نثق به. هذا هو معنى مثل التينة اليابسة. التينة لا تعطي ثمرا، لكن الكرّام يستمرّ بالاهتمام بها واثقـًا أنّها ستقوم وتعطي ثمارًا من جديد. فإذا كان اهتمام الكرّام هو الذي يسمح لها بأن تعطي الثمار، فحضور الله، في حياتنا، في داخلنا هو الذي يسمح لنا بالعودة إلى حقيقتنا، إلى التوبة، إلى الحياة وأن نعطي ثمارًا؛ لأنّ الله هو إله الحياة، كما يقول لنا الإنجيليّ لوقا: «فما كانَ إلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء، فهُم جَميعاً عِندَه أَحْياء» (لوقا 20، 38). ومن هنا نتناول ضرورة التوبة والعقاب في حالة رفضنا الدعوة إلى التوبة. 2) التوبة استخدمت أسفار العهد القديم في الكتاب المقدس للتعبير عن التوبة فعل שׁוּב "شوب" (معناه ارجع)، وخاصة الأنبياء مثل ارميا (25: 5) وحزقيال (14: 6) ويوئيل (2: 12) وحجاي (1: 3)، وبغيره من ألفاظ: رماد، اعتراف، كفارة، إيمان، مغفرة، توبة، اهتداء وفداء. والفعل שׁוּב يُعبِّر عن فكرة تغيير الطريق، والعودة، والرجوع. وبعبارة أخرى، التوبة تعني أننا نحيد عما هو شرير ونتَّجه نحو الله. فهذا تعريف جوهر الاهتداء، الذي يقتضي تغييراً في السلوك، واتجاهاً جديداً في أسلوب التصرف بالحياة كلها. استخدمت أسفار العهد الجديد فعل اليونانية، μετανοέω ومعناه التوبة الباطنية، أي تغيير العقلية والرجوع الذاتي في الباطن. ومن هنا ينبغي أن نقيم اعتباراً لهذين الوجهين المتميزين المتكاملين. فلا بد من التركيز على التوبة الباطنية أي تغيير العقلية مصحوبا بالتوبة الخارجية أي تغيير السلوك الخارجي. ويُعلق البابا لاون الكبير "إنّ عيش التوبة، هو الانتقال من حالةٍ إلى أخرى، يعني نهاية شيء أي ألاّ نعود كما كنّا، وبداية شيء آخر أي أن نصبح ما لم نكن عليه"(العظة العشرون عن الآلام). فالتوبة تعني الوعي بأنّنا ابتعدنا عن مركز ومحور حياتنا، وعن حقيقتنا، ولم نعد موّحدين مع ذاتنا، منقسمين على ذاتنا، وبالتالي نحن بحاجة إلى محاولة الوحدة مع الذات بالعودة إلى الله. ولا نستطيع أن نلتقي معه ونقبل حبَّه فينا بطريق آخر غير التوبة. هذا ما يؤكده السيِّد المسيح، قائلًا " إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم" (لوقا 13: 3). ويُعلق البابا بندكتس "التوبة رغم أنها لا تقي من المشاكل والمضايق، لكن تسمح لنا بمواجهتها بشكل مختلف، إذ تساعدنا على تحاشي الشر من خلال تعطيل تهديداته، وتسمح بالانتصار على الشر بالخير، إذ تقضي التوبة على جذور الشر التي هي الخطيئة، حتى ولو لم تستطع تحاشي عواقبه بالكلية". يُعد المزمور "ارحمني..."، خيرُ تعبيرٍ عن التوبة؛ إذ يتحول التعليم عن التوبة إلى صلاة، في إطار حوار مع الله. يقوم هذه الحوار على الاعتراف بالآثام، "إِلَيكَ وَحدَكَ خَطِئتُ والشَرّ أَمامَ عَينَيكَ صَنعتُ"(مزمور 51: 6)؛ ثم التماس التطهّر باطنياً "إِرحَمْني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ وبِكَثرَةِ رأفَتِكَ اَمْحُ مَعاصِيَّ." (مزمور 51: 3)؛ ثم استدعاء النعمة التي تستطيع وحدها أن تغيّر القلب "قَلبًا طاهِرًا اْخلُقْ فيَّ يا ألله ورُوحًا ثابِتًا جَدِّد في باطِني" (مزمور 51: 12)، لأنه صاحب المزمور هو على يقين بأن التبرير من الخطيئة يتطلب فعلاً إلهياً محضاً، شبيهاً بفعل الخلق. وأخيرا تقوم التوبة على اتجاه أو صلاة حارّة "أيّها السَّيِّدُ اْفتَحْ شَفَتَيَّ فيُخبِرَ فَمي بِتَسبِحَتِكَ" (مزمور 51: 17). ومركز طقوس التوبة هي ذبيحة القلب المنكسر "إِنًّما الذَّبيحةُ للهِ روحٌ مُنكَسِر القَلبُ المُنكَسِرُ المُنسَحِقُ لا تَزْدَريه يا أَلله" (مزمور 51: 19). فيؤكد مزمور "أرحمني" انه لا يمكن أن تغفر الخطيئة بفعل من الله دون شرط تغيير روح الإنسان وقلبه. فأُسوة بالأنبياء ويوحنا المعمدان (مرقس 4: 1)، يكرز يسوع بالتوبة، بالاهتداء بتغيير جذري للروح، يجعل الإنسان في حالة من الاستعداد لتقبل الخطوة الإلهية والتسليم بعمل الله فينا من خلال الإنجيل الطاهر "تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة" (مرقس 1: 15). يُلخص لوقا الإنجيلي رسالة يوحنا المعمدان بقوله: يَرُدُّ كَثيراً مِن بَني إِسرائيلَ إلى الرَّبِّ إلهِهِم" (لوقا 1: 16). وإن جملة واحدة كافية لتلخِّص رسالته بكاملها: " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (متى 3: 2). فجميع البشر ينبغي أن يعترفوا بأنهم خطأة، وأن يثمروا ثمراً يليق بالتوبة (متى 3: 8)، ويتبنّوا سلوكاً جديداً ملائماً لحياتهم الجديدة (لوقا 3: 10-14). ويقوم هذا السلوك على التواضع وثقة على خطى العشار التائب الذي "وَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: ((الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!)) (لوقا 18: 13). فالإنسان الذي تعرَّف على حالته كخاطئ، يُمكنه أن يدير وجهه نحو يسوع بثقة، لأن " ابنَ الإِنسانِ لَه في الأَرضِ سُلطانٌ يَغْفِرُ بِه الخَطايا" (متى 9: 6). حياتنا هي عبور مستمرّ وتأرجح دائم بين الوحدة مع ذاتنا والابتعاد عنها. والخطيئة هي التي تبعدنا عن ذاتنا وبهذا المعنى تقودنا إلى الموت، فالموت ليس عقاباً على الخطيئة، بل نتيجة لها. إن كان الله يسمح بالضيقة أحيانًا إنما لأجل التوبة، من اجل مراجعة كل إنسان نفسه حتى لا يهلك أبديًا كما قال يسوع " إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم" (لوقا 13: 3). هل نطلب نعمة التنبّه إلى أهميّة التوبة؟ 3) العقاب: تواجه رسالة التوبة بعض العراقيل ابتداء من التعلق بالمال (مرقس 10: 21-25)؛ والكبرياء (تثنية 12:8-14) واللامبالاة (لوقا 17: 26 -29) والاكتفاء بالذات (تثنية 32: 15)، واحتقار الآخرين (لوقا 18: 9)، وخاصة انغماس الإنسان في الشر الباطني. وإن لم يغيّر المرء سلوكه سيهلك "إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم " (لوقا 13: 5)، مثل التينة العقيمة (لوقا 13: 6-9). وإن لم يُقدم السامعون على التوبة سيهلكون. وهذا ما حدث لسكان اورشليم في سنة 70 م. على يد القائد الروماني طيطس. ويعُلق القديس يوحنا الذهبي الفم " ربما تقول: أيُعاقب إنسان لكي يُصلح حالي أنا؟ بلى، أنه يعاقب من أجل جرائمه، وهذا يهب فرصة لخلاص ناظريه". إن تصلّب الإنسان المتواصل في انفصاله عن الله يُسمى قساوة وعمى. فالقساوة صفة مميزة لحالة الخاطئ الذي، يرفض أن يتوب، ويلبث منفصلاً عن الله؛ كلما زاد عدم الإيمان زادت قساوة القلب؛ وكلما زادت قساوة القلب زاد رفض التوبة كما هو الحال أهل رومة لدى سماعهم كلام بولس الرسول (أعمال 28: 24-27). فإن هذه القساوة تُظهر صبر الله الذي لا يُبيد الخاطئ، بل يواصل دون انقطاع معربا عن رحمتهِ بمدَّ يديه نحو شعب متمرّد كما جاء في تعليم بولس الرسول " يقول الرب: بَسَطتُ يَدَيَّ طَوالَ النَّهارِ لِشَعبٍ عاصٍ مُتَمرِّد "(رومة 10: 21). وبما أنهم خاطئون لا يفهمون أن الله إنما يبدي الصبر نحوهم، لدفعهم إلى التوبة كما جاء في تعليم بولس الرسول " أَم تَزدَري جَزيلَ لُطفِه وحِلمِه وطُولِ أَناتِه، ولا تَعلَمُ أَنَّ لُطْفَ اللهِ يَحمِلُكَ على التَّوبَة؟ "(رومة 2: 4). ولذلك فانهم يُصرّون على عدم فهم مدلول الكوارث التي تتخلل صفحات تاريخهم، ويكابرون في عدم التوبة كما جاء ذكرهم في سفر الرؤية "أَمَّا أُولئِكَ الَّذينَ لم يَموتوا مِن هذه النَّكَبات، فلَم يَتوبوا مِن أَعْمالِ أَيديهِم فيَكُفُّوا عنِ السُّجودِ لِلشَّياطينِ، ولم يَتوبوا مِن أَعمْالِ قَتلِهم ولا سِحرِهم ولا زِناهم ولا سَرِقاتِهم" (رؤيا 9: 20-21) مجدِّفين على اسم الله بدلا من أن يتوبوا ويمجّدوه (رؤيا 16: 9). وهذا الرفض يؤدي إلى العقاب. فهناك عقاب في حالة رفض التوبة. العقاب ثمرة الخطيئة وعلامة لها كما قال بولس الرسول " فكَما أَنَّ الخَطيئَةَ دَخَلَت في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَةِ دَخَلَ المَوت، وهكذا سَرى المَوتُ إلى جَميعِ النَّاسِ لأَنَّهُم جَميعاً خَطِئوا" (رومة 5: 12)، وهكذا بسبب إنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبواسطة الخطيئة الموت والعذاب والعمل الشاق. نستطيع أن نميّز ثلاث مراحل في كيفية نشأة العقاب. المرحلة الأولى هي هبة الله (الخلق، الاختيار)، والمرحلة الثانية هي الخطيئة، والمرحلة الثالثة هي رفض الخاطئ نداء الله بالاهتداء كما جاء في تعليم صاحب الرسالة إلى العبرانيين " فاحذَروا أَن تُعرِضوا عن سَماعِ ذاكَ الَّذي يُكَلِّمُكم. فإِذا كانَ الَّذينَ أَعرَضوا عنِ الَّذي أَنذَرَهُم في الأرضِ لم يُفلِتوا مِنَ العِقاب، فكَم بِالأَحْرى لا نُفلِتُ نَحنُ إِذا تَوَلَّينا عنِ الَّذي يُكلِّمُنا مِنَ السَّماء؟" (عبرانيين 12: 25). تكون نتيجة العقاب مزدوجة بحسب انفتاح القلب أو انغلاقه. فاذا كان القلب مغلقا قاسياً يكون العقاب دينونة كما هو الحال بالشيطان (رؤيا 20: 10)، وبابل (رؤيا 18)، وحنانيا وسفيرة (أعمال 5: 7-11). ونظراً لهذه القساوة في الرفض، يُقرر إنزال العقاب كما جاء في تعليم يسوع عن اورشليم "أُورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبياءِ وراجِمةَ المُرسَلينَ إِليها! كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَن أَجمَعَ أَبناءَكِ كَما تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها! فلَم تُريدوا. ها هُوَذا بَيتُكُم يُترَكُ لكُم"(لوقا 13: 34-35). ومن هذا المنطلق يكون العقاب دينونة عن الماضي، إن لم يتحوّل القلب إلى الله. فليس العقاب هو الذي يفصل عن الله، وإنما الخطيئة هي التي يترتّب العقاب جزاء لها. فالعقاب يشير إلى أن الخطيئة لا تسير مع القداسة الإلهية (عبرانيين 10: 29-30). أمَّا إذا كان القلب مفتوحا فيكون العقاب دعوة إلى التوبة. يدعونا المسيح اليوم للتوبة، فالأحداث التي تمَّت في إنجيل اليوم هي بمثابة فُرص للإنسان للتوبة ولفهم معنى الحياة والوجود البشري. 4) ما العلاقة بين الحوادث التي تصيب الإنسان وخطاياه؟ كان اليهود في زمن المسيح يعتقدون أنَّ ضحايا الشر إنما حصدوا ما قد زرعوا، لان الألم هو عقاب للخطيئة الشخصية. وكان يقولون لدى سقوط البرج، من وقع عليه اعتبر خاطئاً، ومن نجا كان بارً. أمَّا تفسير يسوع فيختلف عن تفسير اليهود. يرفض يسوع تعليما يربط بين خطيئة اقترفناها وحادث حصل لنا في حياتنا. وجاء الجواب في الأصل كلنا خطأة كما جاء في تعليم بولس الرسول:" ما مِن أَحَدٍ بارّ، لا أَحَد" (رومة 3: 10). فبمعصية أبيهم الأول، دخلت الخطيئة العالم (رومة 5: 12)، وهم خطأة بذنب شخصي، لأن كل واحد منهم، "وهو مبيع لسلطان الخطيئة" (رومة 7: 14)، وقد قبل برضاه نير الشهوات الخاطئة (رومة 7: 5). لذلك، علينا جميعا أن نتوب. من هذا المنطلق، الكوارث والمآسي ليست عقاباً إلهيا، ولكنها نداء ودعوة موجّهة إلى الجميع كي يرتدوا. لذا ينبغي قراءة كل ما يحدث على مستوى الإيمان. فيصبح الحدث رسالة وعلامة إيمانية. إن الشرور التي تُصيبنا أو تُصيب الآخرين، إنَّما هي علامة تقودنا إلى الارتداد الشخصي وإلى التوبة. فلا يجب إدانة النفس أو الآخرين أو التنكيل بهم دون تفكير. يسوع عاجز تجاه القلب المغلق القاسي الذي يرفض النور "أمَّا مَن جَدَّفَ على الرُّوحِ القُدُس، فلا غُفرانَ له أبداً، بل هو مُذنِبٌ بِخَطيئةٍ لِلأَبَد" (مرقس 3: 29)، وتجاه من يتصور أنه في غير حاجة إلى صفح، كالفريسي في مثل الفريسي والعشّار (لوقا 18: 9 -11). أمَّا إذا كان القلب مفتوحا فالعقاب يدعو إلى الاهتداء (2 قورنتس 2: 6). وهكذا يكون العقاب دعوة "للرجوع " إلى الله كما هو الحال في مثل الابن الضال (لوقا 15: 14-20). وبفضل العقاب يسجد صاحب القلب المفتوح لسر محبة الله الذي بصبره ورحمته يصل الخاطئ إلى التوبة والاهتداء. إن القساوة في الخطيئة، لا يمكن أن تزول إلا بالتوبة. "إِذا سَمِعتُم صَوتَه فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم (مزمور 95: 7-8)، ولكن كيف يستطيع الخاطئ بعد أن تقسى أن يتوب؟ إن المؤمن يعرف أن الله يقدر أن يُحطِّم حتمية الشر، وأن يكشف طريق القلب كما قال أشعيا النبي "لِمَ ضَلَّلتَنا يا رَبُّ عن طُرُقِكَ وقَسَّيتَ قُلوبَنا عن خَشيَتِكَ؟ إِرجِعْ إِلَينا مِن أَجْلِ عَبيدِكَ أَسْباطِ ميراثِكَ" (أشعيا 63: 17). الكلمة الأخيرة هي لله وحده. لذلك فإن النبي حزقيال قد تنبأ بأن القلب القاسي يُستبدل به إلى قلب من لحم، وأن روح الله يجعل مستطاعاً ما هو محال عند الناس "أُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا. جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم، وأَجعَلُ روحي في أَحْشائِكم وأَجعَلُكمِ تَسيرونَ على فَرائِضي وتَحفَظونَ أَحْكامي وتَعمَلون بِها" (حزقيال 36: 26-27). نستنتج مما سبق أنَّ الأنبياء لا يشجبون الخطيئة ولا يُبيّنون جسامتها إلا لأجل أن يدعوا الناس دعوة أعمق إلى التوبة والاهتداء. ذلك أنه إن كان الإنسان غير أمين، فالله يبقى على الدوام أميناً، فيرفض الإنسان حب الله، ولكن الله لا يكفَّ عن عرض هذا الحب عليه، وطالما يظل الإنسان قابلا للرجوع إليه، فالله يحثّه على أن يرجع، ويرتّب كل شيء لهذ ا الرجوع كما تنبأ هوشع النبي "هاءَنذا أَسُدُّ طَريقَكِ بِالشَّوك وأُسَيِّجُه بِسِياج، فلا تَجِدُ سُبُلَها فتَجْري وَراءَ عُشَّاقِها فلا تُدرِكُهم وتَطلُبُهم فلا تَجِدُهم فتقول: أَنطَلِقُ وأَرجِعُ إلى زَوجِيَ الأَوَّل لِأَنِّي كُنتُ حينَئذٍ خَيراً مِن الآن" (هوشع 2: 8-9). الرجوع إلى الله تتطلب معونته تعالى كما وضّح النبي ارميا "أرجِعْنا يا رَبُّ إليكَ فَنرجع" (مراتي5: 21). فالله نفسه يسعى في البحث عن الخراف الضالة (حزقيال 34)، وهو الذي يُعطي الإنسان " قلباً جديداً "، وروحاً جديداً، يُعطي روحه هو تعالى كما يقول النبي "أَجعَلُ روحي في أَحْشائِكم" (حزقيال 36: 26-27). حينئذ سيكون العهد الجديد، حيث لا تعود الشريعة مكتوبة بعد على ألواح من حجر، بل في قلب الناس (2 قورنتس 3: 3) ليحبُّوا الرب بكل قلوبهم وبكل نفوسهم فيحيوا" (تثنية 30: 6). وأخيراً فإن المسيح قد أتى وأعطى الروح القدس الذي يَهب الطاعة لتعليم الله. لذلك فإن الكنيسة، تبتهل إلى الله كي يضغط، بحسب رحمته، حتى على إرادتنا المتمردة. الخلاصة يدعو يسوع في إنجيله الناس إلى ضرورة التوبة. ويربط بين التوبة والإنذار والعقاب، مستشهدا بهلاك بعض الجليليين على يد بيلاطُس ـ وبهلاك بعض سكان أهل سلوم (سلوان) تحت البرج الذي انهار عليهم. ينبّهنا يسوع أن نتوب إذ لا نعلم في أي وقت سيقع البرج علينا أو سيبطش بنا عظماء هذا الدهر، عالم الظلم والظلمات. إن النتيجة التي يودُّ يسوع أن يحمل سامعيه إليها هي ضرورة التوبة. توبوا "لأنكم لا تعلمون لا اليوم ولا الساعة"! لم ينْفِ سيدنا يسوع المسيح إمكان تعرضنا لبعض العقاب على خطايانا هنا، ولكن ليست الكوارث هي الوسيلة الوحيدة لذلك، فالعقاب الحقيقي للخطية هو الهلاك الأبدي، ولا نجاة من هذا الهلاك إلا بالتوبة. وأعطانا مثلًا بالتينة التي تشبه الأمة اليهودية التي غرسها الله في العالم، وجاء يطلب منها ثمرًا فلم يجد. ثم جاء يسوع الكرام ينقب حولها، ويذكرها بخطاياها، ويُعلمها إرادة الآب، ويشفع فيها، ويموت عنها، حتى تستطيع أن تأتي بثمر. إن مركز المثل لا يقوم في البحث عن الثمار (ينتظر كل كرّام ثماراً من أشجاره) ولا في الرغبة في قطع التينة بعد أن عطلت الأرض ثلاث سنوات (هذا ما كان يفعله أي كرّأم)، ولا في القرار النهائي بقطعها بعد سنة من المُهلة، إن لم تثمر. تقوم الجدة في أن تمنح الفرصة لتينة كهذه استمر عقمها ثلاث سنوات، بطلب أو صلاة الكرَّام! فنحن مدعوون في زمن الصوم هذا، زمن التوبة الصادقة والندامة، لتجديد حياتنا وتغيير جذريّ بصلاتنا والتجائنا إلى الآب السماوي. دعاء ساعدنا يا رب كي نُحسن معرفة علامات الأزمنة وضرورة التوبة. ساعدنا يا رب كي نُغيّر أفكارنا من أفكار البشر إلى أفكار الله، من أفكار الخطيئة إلى أفكار التوبة، من أفكار الامتلاك إلى أفكار المشاركة، ومن التذمّر إلى الثقة بالله. ساعدنا يا رب أن نتوب فنُقبل إليك قبل فوات الأوان لننال رحمة في سر الاعتراف وغذاء في سر القربان لكيلا يكون مصيرنا هو مصير التينة التي لم تُثمر. ساعدنا يا رب أن نرجع إلى المسيح راعي نفوسنا وحارسها" (1 بطرس 2: 25). ساعدنا أن ننتقلَ من الموت إلى الحياة في حين لا نزال في هذا الجسد. ساعدنا أن أعرفَ من أجل مَن أموتُ ومن أجل مَن أحيا، لأنّ هنالك ميتة تُحيي وهنالك حياة تُميت. فَلنَمُتْ عن الخطيئة وَلنَحيا لله. ساعدنا أن أنبذُلْ جهدًا كبيرًا كي نكونَ شركاء في قيامتك المجيدة. ساعدنا يا رب كي تكون عيوننا رحيمة حتى لا تنتابنا الشبهات ولا نحكم استنادا إلى المظاهر الخارجية، وان يكون سمعنا رحوما، كي ننحني على احتياجات قريبنا وكي لا تكون أذاننا غير مُبالية بآلام قريبنا وأنينه. يكون لساننا رحوما لا يتكلم بالسوء عن القريب، بل يحمل كلمة مواساة ومسامحة لكل شخص. تكون يدانا رحومة ومفعمة بالأعمال الصالحة. تكون رجلانا رحومة كي نهبَّ دائما لمساعدة القريب، متغلبة على قنوطنا وتعبنا. يكون قلوبنا رحوما كي يشارك في معاناة القريب كلها" (يوميات الراهبة فأوستينا، 163). الأب لويس حزبون - فلسطين |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
العصاية مش للعقاب |
يكون علامة عن عدم استحقاقه للعقاب بعد |
مات المسيح كبديل للعقاب الذي كان من نصيبنا |
5 نصائح للعقاب من غير ضرب |
طرق بسيطة للعقاب السلبى للسرقة عند الاطفال |