دخول يسوع الى اورشليم ليتمَّ فدائنا
هوشعنا في الأعالي، مُبارَكٌ الآتي باسمِ الرَّبّ
أحد الشعانين: مزار بيت فاجي ودخول يسوع الى اورشليم ليتمَّ فدائنا (مرقس 11: 1-11)
النص الإنجيلي (مرقس 11: 1-11)
ولمَّا قَرُبوا مِن أُورَشَليم ووَصَلوا إِلى بَيتَ فاجي وبَيتَ عَنْيا، عِندَ جَبَلِ الزَّيتون، أَرسَلَ اثنَينِ مِن تَلاميذِه 2 وقالَ لَهما: ((إِذهَبا إِلى القَريَةِ الَّتي تُجاهَكُما، فَما إِن تَدخُلانِها حتَّى تَجِدا جَحْشاً مَربوطاً ما رَكِبَه أَحَد، فحُلاَّ رِباطَه وأتِيا بِه. 3 فإِن قالَ لكُما قائِل: لِمَ تَفعَلانِ هذا؟ فقولا: الرَّبُّ مُحْتاجٌ إِلَيه، ثُمَّ يُعيدُه إِلى هُنا بعدَ قليل)). 4 فذَهَبا، فوَجَدا جَحْشاً مَربوطاً عندَ بابٍ على الطَّريق، فحَلاَّ رِباطَه. 5 فقالَ لَهما بَعضُ الَّذينَ كانوا هُناك: ((ما بالُكُما تَحُلاَّنِ رِباطَ الجَحْش؟)) 6 فقالا لَهم: كما أَمَرَهما يسوعُ فتَركوهما. 7 فجاءا بِالجَحْشِ إِلى يسوع، ووَضَعا رِدائَيهِما علَيه فَرَكِبَه. 8 وبَسَطَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أَردِيَتَهم على الطَّريق، وفَرَشَ آخَرونَ أَغصاناً قطَعوها مِنَ الحُقول. 9 وكانَ الَّذينَ يَتَقَدَّمونَه والَّذينَ يَتبَعونَه يَهتِفون: ((هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ؛ 10 تَبارَكَتِ المَملَكَةُ الآتِيَة، مَملَكةُ أَبينا داود! هوشَعْنا في العُلى!)) 11 ودخَلَ أُورَشَليمَ فالهَيكَل، وأَجالَ طَرْفَه في كُلِّ شَيءٍ فيه. وكانَ المَساءُ قد أَقبَل، فخَرَجَ إِل بَيتَ عَنْيا ومعَه الاثْنا عَشَر.
مقدمة
يصف مرقس البشير في إنجيل أحد الشعانين دخول يسوع الاحتفالي الأخير، إلى مدينته المحبوبة أورشليم القدس ملكا متواضعا ومخلصا (مرقس 11: 1-11). وبُعد هذه الدخول ذروة حياة يسوع العلنيّة السائر إلى آلامه وموته. ودخوله حدثٌ يهمّ جميع الناس، لأنه دخل ليتمجَّد على الصليب ليغلب الموت ويبذل حياته فدية عن الكثيرين ويمنحنا الحياة. فمركز الثقل في الانجيل لم يكن بيت لحم، بل أورشليم، ولم يكن حياة يسوع بل موته، ولم يكن المثل الذي تركه لنا بل كفَّارته، ولم تكن تعاليمه بل فداءه. ويعلق القدّيس ابيفانوس، أسقف سلامين " ظهر يسوع، قيامةً للساقطين، وتحريرًا للأسرى، ونورًا للعُميان، وتعزيةً للحزانى، وراحةً للضعفاء، ونبعًا للعطشى، ومنتقِمًا للمضطَهَدين، وفداءً للمفقودين، ووَحدةً للمنقسمين، وطبيبًا للمرضى وخلاصًا للتائهين"(العظة الأولى لعيد الشّعانين). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولاً: وقائع النص الإنجيلي (مرقس 11: 1-11)
1 مَّا قَرُبوا مِن أُورَشَليم ووَصَلوا إِلى بَيتَ فاجي وبَيتَ عَنْيا، عِندَ جَبَلِ الزَّيتون، أَرسَلَ اثنَينِ مِن تَلاميذِه"
تشير عبارة "قَرُبوا مِن أُورَشَليم" الى دخول يسوع مدينته اورشليم في اليوم الأول، ثم دخوله وخروجه اليها في اليوم الثاني (مرقس 11: 12) وعودته اليها في اليوم الثالث (مرقس 11: 23). ومن هنا نرى يسوع يتنقل من خارج اورشليم (بيت عنيا وبيت فاجي وجبل الزيتون) الى داخلها (خاصة الهيكل). وفي كل ليلة من ليالي اسبوع الآلام، كان يسوع يذهب خارجا الى جبل الزيتون ويلتجئ الى بيت عنيا. وكان الاحتفال بعيد الفصح على وشك ان يبدأ. أمَّا عبارة "قَرُبوا " فتُذكرنا بكلمات السيد يسوع الأولى في كرازته: " تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة (مرقس 1: 15)؛ وهي ذات الكلمات التي وضعها السيد المسيح في أفواه تلاميذه حينما أرسلهم للكرازة (متى 10: 7). أمَّا عبارة " بَيتَ فاجي " فتشير الى اسم آرامي בֵּית־פַּגֵּי (ومعناه بيت التين)، وهي قرية صغيرة بالقرب من بيت عنيا تبعد نحو كيلو متر واحد عن أورشليم في الجهة الجنوبية الشرقية من جبل الزيتون، وتتصل ببيت عنيا من الجهة الغربية وهي منخفضة عنها قليلاً نحو الجهة الشمالية (لوقا 19: 29). وقد دخلها يسوع المسيح قبل دخوله بيت عنيا، إذ كان آتياً من أريحا إلى أورشليم. وجاء في كتابات أحد الرحالة أنه وجد أطلالها على بعد 500م إلى الجهة الشمالية من بيت عنيا. وأمَّا في انجيل متى فذُكرت بيت فاجي وحدها بدون اسم بيت عنيا (متى 21: 1). وقد ورد اسمها في الأناجيل الثلاثة: متى ومرقس ولوقا فقط في هذه المناسبة مع أنها ذكرت كثير في كتابات الربيّين. أمَّا " بَيتَ عَنْيا " فتشير الى اسم آرامي בֵית־הִינִי (معناه بيت البؤس أو العناء)، وهي قرية تقع إلى الجنوب الشرقي من جبل الزيتون على بعد نحو 3 كم من أورشليم تقريباً على الطريق الممتدة من اريحا الى اورشليم (متى 6: 26) والمعروفة اليوم بـ "العيزرية" نسبة الى لعازر الذي أحياه يسوع من بين الاموات (يوحنا 11). ولهذه القرية علاقة بحياة يسوع المسيح لمّا كان على هذه الأرض، إذ إنه كان يتردَّد إليها مراراً عديد (مرقس 11: 11) ولاسيما في أيامه الأخيرة. وفيها جرت حوادث هامة: دهْن يسوع بالطيب في بيت سمعان الابرص (متى 26: 6)، ولعن يسوع التينة (مرقس 11: 12-14) وإحياء لعازر (يوحنا 11: 1 -45). أمَّا عبارة " بَيتَ فاجي وبَيتَ عَنْيا " فتشير الى طريق مشترك واحد إلى أورشليم: بيت عنيا تقع على السفح الشرقي، شمال جبل الزيتون، وبيت فاجي على السفح الشرقي، جنوب جبل الزيتون. وأمَّا عدد قريتين (2) فيدل كما يقول القديس اوغسطينوس على المحبة لله والناس، بفلسين اللذين كانا بحوزتها قدمت الأرملة كل حب قلبها في خزانة الرب، وبالدينارين أعلن السامري الصالح أعماق محبته للجريح. ونحن لا يمكننا البدء في موكب الصليب، ولن يكون لنا موضع في جسد السيد المسيح المتألم والممجد ما لم نبدأ بالقريتين، ونلتقي به في موكبه خلال الحب". أمَّا عبارة " جَبَلِ الزَّيتون " فتشير الى الجبل الذي يُشرف على أورشليم من الجهة الشرقية حيث تشاهد من قمته كل المدينة وهيكلها. واسم هذا الجبل مأخوذ من شجر الزيتون الذي كان موجوداً فيه بكثرة. ولا تزال توجد فيه بعض أشجاره الكبيرة الحجم والقديمة العهد إلى الآن. ويُكثر ذكر هذا الجبل في العهد القديم تحت أسماء مختلفة، "جبل الزيتون" (2 صموئيل 15: 30) و"الجبل" (نحوم 8: 15) و"الجبل الذي تجاه أورشليم" (1 ملوك 11: 7) و"الجبل الذي على شرقي المدينة" (حزقيال 11: 23) و"جبل الهلاك" (2 ملوك 23: 13). كما يُذكر في العهد الجديد في علاقته بحياة المسيح لا سيما نزاعه في بستان جَتْسمَانِيَّة (مرقس 14: 32). ويفصل وادي قدرون هذا الجبل عن أورشليم (2 صموئيل 15: 14). وقد حسبت المسافة بين أقصى قِمَمه الشمالية وبين أورشليم بسفر سبت ما يعادل نحو من كيلومتر واحد (اعمال الرسل 1: 12). وطالما صعد المسيح إليه، وفي وقت نزوله منه قبل الصلب بأيام قليلة حيث استقبلته الجموع بالهتاف والترحيب، وكان هو يبكي على المدينة ومصيرها القريب (لوقا 19: 37-44)، وقد تحدَّث من سفح ذلك الجبل عن خراب الهيكل وتدمير المدينة (متى 24: 3)، ومن قمة هذا الجبل صعد المسيح إلى السماء (لوقا 24: 50 -51). ويُسّمي العرب جبل الزيتون في الوقت الحاضر جبل الطور. أمَّا عبارة "أَرسَلَ اثنَينِ مِن تَلاميذِه " فتشير الى ارسال يسوع تلميذين يسبقانه كما سيفعل وقت العشاء الأخير (متى 26: 17). وهذا الامر يذكرنا عند خروج الشعب من مصر الذي قاده اثنان (موسى وهرون)، وأيضًا عندما أرسل يشوع ليتجسس أرض الموعد أرسل اثنين، وفي إرسالية يسوع لتلاميذه " أَرسَلَهمُ اثنَينِ اثنَينِ يتَقَدَّمونَه إِلى كُلِّ مَدينَةٍ أَو مَكانٍ أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه" (لوقا 10: 1). ومن هذا المنطلق، إن طريق آلامه وصلبه وبالتالي آلامنا وصلبنا معه ليس خطة بشرية، إنما هو طريق يَعدُّ له الرب نفسه، ويسمح به لننال يه قوة القيامة وبهجتها خلال الصليب.
2 وقالَ لَهما: إِذهَبا إِلى القَريَةِ الَّتي تُجاهَكُما، فَما إِن تَدخُلانِها حتَّى تَجِدا جَحْشاً مَربوطاً ما رَكِبَه أَحَد، فحُلاَّ رِباطَه وأتِيا بِه"
تشير عبارة "إِذهَبا إِلى القَريَةِ الَّتي تُجاهَكُما" الى مبادرة يسوع نفسه بإرسال تلميذيه لإحضار الجحش الذي أعطاهما وصفًا لموضعه ولحالته. إذ أراد يسوع ان يدخل أورشليم بشكل رمزي تتميما لما جاء في نبوءة زكريا (زكريا 9: 9-10). وهذا الإنباء الوحيد الذي نجد فيه المشيح متواضعا. أمَّا عبارة" جَحْشاً " فتشير الى حمار صغير ويُذكِّر بنبوءة زكريا النبي "هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان" (زكريا 9: 9-10). وتُبيِّن هذه الآية المسيح المتواضع الذي دخل الى المدينة المقدسة، لا كملك حربي، بل كملكٍ متواضع ومسالم حيث أُرْسل لخلاص الشعب وسلامه. دخل يسوع على صورة ملك متواضع أعزل لا يتكل إلاَّ على الله لإنجاح رسالته، لان الخلاص الذي يحمله، والملكوت الذي يعلنه، يتعارضان مع السلطات الاقتصادية والسياسية والدينية التي سيواجهها من خلال محاكمته لدى اليهود والرومان. وأمَّا عبارة "ما رَكِبَه أَحَد" فيشير الى أحد الشروط العامة للتكريس للرب، كما هو الحال مع تابوت العهد" كما هو الحال مع تابوت العهد" فاصنَعوا مركَبَةً جَديدة، وخُذوا بَقَرَتَينِ مُرضِعَينِ لم يَعْلُهما نير، وشُدُّوا البَقَرَتَينِ إِلى المَركَبَة، وُردُّوا عِجلَيهِما مِن وَرائِهما إِلى البَيت (1 صموئيل 6: 7). وفي هذا رمز ديني (عدد 19: 2)، ويدل هذا الامر على إعلان عن طبيعة الموكب أنه ديني سماوي روحي إلهي " فجَعَلوا تابوتَ اللهِ على عَجَلَةٍ جَديدة" (2 صموئيل 6: 3). ويُعلق أحد شرّاح الكتاب المقدس " ان الميلاد من العذراء والدفن في قبر لم يدفن فيه أحد من قبل هما حقيقتان من نفس النمط. أمَّا عبارة "فحُلاَّ رِباطَه" فتشير الى صورة رمزية للتمتع بالحل من الخطايا من خلال السلطان الرسولي (يوحنا 20: 22-23) كما يعلق القديس أثناسيوس. نجد يسوع لأول مرة يعطي اهتمامًا للإعداد دخوله الى أورشليم كما فعل لإعداد عيد الفصح (مرقس 14: 13-16).
3 فإِن قالَ لكُما قائِل: لِمَ تَفعَلانِ هذا؟ فقولا: الرَّبُّ مُحْتاجٌ إِلَيه، ثُمَّ يُعيدُه إِلى هُنا بعدَ قليل"
تشير عبارة " الرَّبُّ " في الاصل اليوناني κύριος الى النص الوحيد الذي يستعمل مرقس الإنجيلي فيه هذا اللقب لتسمية يسوع. ان لقب يسوع كرب يرجع الى مبادرة يسوع. وفي هذا المشهد، تتعرف الجماعة المسيحية الأولى الى ربها الذي هيّأ ونظّم بالتفصيل دخوله الى اورشليم كملك متواضع، وبهذا اللقب دعا الجماعة المسيحية الأولى المسيح القائم من بين الاموات. وبعد القيامة حلّ اسم "الرب" محل اسم يسوع. أمَّا العهد القديم فاحتفظ بهذا اللقب الى الله كذلك اسفار العهد الجديد حيث استعمل هذا اللقب لله وللمسيح الملك (متى 21: 3-4). أمَّا عبارة " مُحْتاجٌ إِلَيه " فتشير الى المسيح الذي هو سيد الكائنات، ويستطيع ان يتصرّف بها كما يشاء. وبما انه الرب، فله ملء السلطة. ويليق بصاحب الحمار أن يقدمه للرب ما دام الرب محتاج إليه. فهو رب البشرية كلها، وأتى من أجل كل البشرية. وهو محتاج إلى الجميع، يطلب قلوبنا مسكنًا له. وتبين هذه العبارة ايضاً انه هناك رجال ونساء في اورشليم وضواحيها اعترفوا بيسوع رباً. أمَّا عبارة "بعدَ قليل" في الأصلاليوناني εὐθὺς(معناها في الحال او للوقت) فتشير الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة، وتدل هنا على "ان يُرسله الى هنا في الحال".
4 فذَهَبا، فوَجَدا جَحْشاً مَربوطاً عندَ بابٍ على الطَّريق، فحَلاَّ رِباطَه.
تشير عبارة "مَربوطاً عندَ بابٍ على الطَّريق" الى الجش الذي كان مربوطا خارج بيت صاحبه عند الباب تجاه الطريق. ونستدل من هذا التدقيق ان بطرس كان أحد الاثنين اللذين أتيا بالحمار، وانه أخبر مرقس بذلك. صورة الجَحْشً المَربوط عندَ بابٍ على الطَّريق هو صورة من هو على قارعة الطريق، ليس من يضمه إليه ولا من يهتم به. ويُعلق القديس أمبروسيوس: "وجداه مربوطًا عند الباب لأن من هو ليس في المسيح يكون خارجًا في الطريق، أمَّا من كان في المسيح فلا يكون خارجًا".
5 فقالَ لَهما بَعضُ الَّذينَ كانوا هُناك: ما بالُكُما تَحُلاَّنِ رِباطَ الجَحْش؟
تشير عبارة "بَعضُ الَّذينَ كانوا هُناك "الى اصحاب الجحش" (لوقا 19: 23). اما عبارة "ما بالُكُما تَحُلاَّنِ رِباطَ الجَحْش؟" فتشير الى سؤال كان لا بدَّ منه، وهوما توقعه يسوع.
6 فقالا لَهم: كما أَمَرَهما يسوعُ فتَركوهما
تشير الآية الى إجابة التلميذين بما امرهما المسيح به.
7 جاءا بِالجَحْشِ إِلى يسوع، ووَضَعا رِدائَيهِما علَيه فَرَكِبَه:
تشير عبارة "جاءا بِالجَحْشِ إِلى يسوع" الى دخول يسوع من جبل الزيتون إلى اورشليم بالطريقة التي يجيء بها المسيح المنتظر كما أعلنها زكريا النبي (زكريا 14: 4)؛ وهذا الدخول لم يتم على جياد الأغنياء والاقوياء، بل على حمار متواضع (تكوين 49: 11 وقضاة 5: 10) وهذا الامر يتوافق مع المجيء المسالم لشخصية ملكية، تتميما لنبوءة زكريا النبي "اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان " (زكريا 9: 9). أمَّا عبارة "وَضَعا رِدائَيهِما علَيه" فتشير الى المعاملة بالإجلال اللائق بالملوك كما حدث مع الملك ياهو بن يهوشفاط " أخَذ َكُلُّ رَجُلٍ رداءَه وجَعَلوه تَحتَه عِندَ أَعلى المِنَصَّة، ونفَخوا في البوقِ وقالوا: قد مَلَكَ ياهو " (2 ملوك 9: 13). أمَّا عبارة "فَرَكِبَه" فتشير الى رمز تتويج الملك كما ورد في رواية تتويج سليمان كما قل داود الملك لصادوقَ الكاهِنَ وناتان النَّبِيَّ وبَنايا بنَ يوياداع " خُذوا معَكم خَدَمَ سَيِّدِكم وأَركِبوا سُلَيمان ابْني على بَغلَتي وانزِلوا بِه إلى جيحون ... وانفُخوا بِالبوق وقولوا: لِيَحْيَ المَلِكُ سُلَيمان. واَصعَدوا وَراءَه، فيَأتِيَ ويَجلِسَ على عَرْشي، وهو يَملِكُ مَكاني" (1ملوك 33: 40). كما مُسح سليمان ملكاً، هكذا دخل يسوع كملك الى اورشليم. ان دخول يسوع الى اورشليم راكبا على جحشاً كان علامة على انه المسيح، ملك السلام كما أنه إثبات لتواضعه. ويضيف متى الإنجيلي انه تم بذلك نيوءة زكريا النبي" اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان."(زكريا 9: 9).
8 وبَسَطَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أَردِيَتَهم على الطَّريق، وفَرَشَ آخَرونَ أَغصاناً قطَعوها مِنَ الحُقول
تشير عبارة "بَسَطَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أَردِيَتَهم على الطَّريق" الى العادة الشرقية التي تدل على احترام الملوك المنتصرين عند دخولهم للمدن من ناحية، وهي علامة للخضوع وتسليم القلب من ناحية أخرى (1ملوك 13: 51). ومن هذا المنطلق، تدل هذه العبارة هنا على تتويج يسوع ملكا " كما حدث مع الملك ياهو "فقال أسرَعوا وأخَذ َكُلُّ رَجُلٍ رداءَه وجَعَلوه تَحتَه عِندَ أَعلى المِنَصَّة، ونفَخوا في البوقِ وقالوا: قد مَلَكَ ياهو (2 ملوك 9: 13). ويعلق القديس أمبروسيوس" فرش التلاميذ ثيابهم الخاصة تحت خطوات المسيح إشارة للإنارة في كرازتهم بالإنجيل، لأنه كثيرًا ما أشارت الملابس في الكتب الإلهية إلى الفضائل". أمَّا عبارة "كثيرٌ مِنَ النَّاسِ" فتشير الى الجمع الغفير الذين جاؤوا الى الحج بمناسبة عيد الفصح. لا شك انهم سمعوا بيسوع في الجليل، وها هم يستعُّدون ليعلنوه مسيحا ملكا. أمَّا عبارة "أَغصان" فتشير غالبا الى أغصان شجر الزيتون مع سعف النخيل. حيث ان الزيتون يشير الى السلام والنخل يشير بسعفه للنصرة والغلبة والبهجة (رؤيا 9:7). ويعلق الاب ثيوفلاكتيوس" ليتنا نفرش أيضًا طريق حياتنا بالأغصان التي نقطفها من الأشجار، أي نتمثل بالقديسين الذين هم أشجار مقدسة. من يمتثل بهم في فضائلهم يكون كمن قطع أغصانًا لنفسه".
9 وكانَ الَّذينَ يَتَقَدَّمونَه والَّذينَ يَتبَعونَه يَهتِفون: هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ
تشير عبارة "كانَ الَّذينَ يَتَقَدَّمونَه والَّذينَ يَتبَعونَه" الى موكب عيد الاكواخ او المظال حيث كان الشعب في إثنائه يدخلون في موكب ساحة الهيكل ملوِّحين بأغصان الشجر، طالبين من الرب خلاصه وعونه، قائلين: "هوشعنا"(المزمور 118)؛ ويعلق القديس أمبروسيوس "الذين تقدموا موكب يسوع هم آباء العهد القديم وأنبياؤه، والذين تبعوه هم رجال العهد الجديد ورسله وتلاميذه، فالكل -رجال العهدين-التفوا حول الرب يطلبون خلاصه". أمَّا عبارة "يَهتِفون" فتشير الى هتاف الجموع تعبيرا عن حماسهم او عن إيمانهم؛ والكنيسة تحيي ملكها الذي يدخل اورشليم ليقوم بخدمته ويبذل حياته فدية عن الكثيرين. أمَّا عبارة "هُوشَعْنا" عبرية أراميه הוֹשַׁע־נָא (معناها "امنح الخلاص الآن") فتشير الى ما ورد في ترنيم صاحب المزامير "إِمنَحِ الخَلاصَ הוֹשִׁיעָה נָּא يا رَبُّ اْمنَحْ امنح النَّصرَ يا رَبُّ اْمنَحْ" (مزمور 118: 25)، والجدير بالذكر ان مرقس الانجيلي لم يترجم الكلمة "هُوشَعْنا"، ولعلها أصبحت تعبيراً عن الحمد والتحية، وشاعت في الاجتماعات العامة. وصارت "هُوشَعْنا" في الجماعة المسيحية الأولى جزء من الاناشيد المسيحية تمجيداً للرب الذي خلّصنا في الماضي ويُخلصنا اليوم. اما لوقا الإنجيلي استبدل عبارة "هُوشَعْنا" بعبارة "السَّلامُ في السَّماء! والمَجدُ في العُلى!" (لوقا 19: 38)، وقد تقلبت الكنيسة هذا السلام (لوقا 1: 79) في الايمان، أمَّا اورشليم فرفضته (متى 23: 37). أمَّا عبارة " تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ " فتشير الى هتاف الناس بيسوع الذي أتى من السماء (يوحنا 13:3) وهذا دلالة على لاهوته. وهذا الهتاف مأخوذ من مزمور التهليل " تَبارَكَ الآتي باْسمِ الرَّبِّ" (مزمور 118: 26)، وكثيرا ما يُذكِّر هذا المزمور في الكلام على آلام المسيح (متى 21: 42). فالمسيح أتى بقوة إلهية لخلاص الإنسان وتجديده، فهو ابن الله الذي أتى ليخلقنا خلقة جديدة وليفتتح العصر المسيحاني (العبرانيين 10: 37)؛ وهذا الهتاف هو في الأصل نداء موجّه الى الملك (2 صموئيل 14: 4) يُطلق خاصة في اليوم السابع من عيد الاكواخ، يرافقه هز الأغصان (2 ملوك 10: 6-7).
10 تَبارَكَتِ المَملَكَةُ الآتِيَة، مَملَكةُ أَبينا داود! هوشَعْنا في العُلى!":
تشير عبارة "تَبارَكَتِ المَملَكَةُ الآتِيَة" الى الهتاف الطقسي الذي يُردّده الشعب في يوم الشعانين (مزمور 118: 25-26). أمَّا عبارة "مَملَكةُ أَبينا داود" فتشير الىهتاف الجموع عن عودة مملكة داود بسبب وعد الله لداود الملك " وإذا تَمَّت أيَّامُكَ وآضطَجَعتَ مع آبائِكَ، اقيمُ مَن يَخلُفُكَ مِن نَسلِكَ الَّذي يَخرُجُ مِن صُلبكَ، واثبِّتُ ملكَه. فهو يَبْني بَيتًا لآِسْمي، وأَنَّا اثبِّتُ عَرشَ مُلكِه لِلأَبَد" (2 صموئيل 7: 12-14). فمملكة أبينا داود هي مملكة المسيح الذي كان اليهود يتوقعون مجيئه، وكان داود أوصل تلك المملكة الى أعظم مجدها، فرجا الشعب ان المسيح يردُّ اليها ذلك المجد. فكان داود رمزا الى المسيح، ومملكته رمزا الى ملكوته. بارك المحتفلون الملك والمملكة. ولهذا الهتاف إذا معنى مسيحاني ومَلكي كما يوضَّحه إنجيل لوقا "تبارك الملك" (لوقا 19: 38)، وهي إشارة لناسوت المسيح وتجسِّده. وقد اشارت صفحات الانجيل موضوع الملك المسيحاني، ولا سيما في رواية الالام وموضوع الحوار بين يسوع وبيلاطس (يوحنا 19: 3-21). ومناسبة دخول يسوع احتفاليا الى اورشليم هي المناسبة يحتفل بذكراها المسيحيون في يوم أحد الشعانين.
11 ودخَلَ أُورَشَليمَ فالهَيكَل، وأَجالَ طَرْفَه في كُلِّ شَيءٍ فيه. وكانَ المَساءُ قد أَقبَل، فخَرَجَ إِلى بَيتَ عَنْيا ومعَه الاثْنا عَشَر
تشير عبارة "دخَلَ أُورَشَليمَ فالهَيكَل" الى توجّه يسوع تواً الى الهيكل حيث نراه يتفقده بسلطان. فلم يكن شغله الشاغل سياسة اليهود وحروبهم بل ديانتهم. فالخلاص الذي يحمله، والملكوت الذي يعلنه، يتعارضان مع السلطات الاقتصادية والسياسية والدينية التي سيواجهها من خلال محكمته لدى اليهود والرومان. أمَّا عبارة "أَجالَ طَرْفَه في كُلِّ شَيءٍ فيه" فتشير الى تفقد يسوع كل مرافق الهيكل بما فيه فناء الوثنيين وفناء النساء وفناء الرجال، لا فناء الكهنة المقتصر عليهم وحدهم (مرقس 14: 58). وقد انفرد إنجيل مرقس في ذكرها الوصف. فالسميح لم يعمل في ذلك اليوم سوى انه دخل المدينة والهيكل وشاهد كل مدنَسات ذلك الموضع التي طرحها في الغد. وبهذا أشار يسوع انه رب الهيكل. وسيأتي وقت يطرد منه الباعة، لأنه بيت صلاة لليهود والامم ليس بَيتَ تِجارَة (يوحنا 2: 16). وهنا نجد الفرق بين أهل اورشليم الذين يجهلون حقيقة هوية يسوع والجموع من أهل الجليل الذين كانوا قد صعدوا الى العيد والذين كانوا قد عرفوا يسوع عن طرق كرازته ومعجزاته في الجليل. أمَّا عبارة "فخَرَجَ إِلى بَيتَ عَنْيا ومعَه الاثْنا عَشَر" فتشير الى لجوء يسوع الى بيت عنيا ليقضي ليلته طلبا للأمن وانهاز ا فرص الصلاة وتعليم تلاميذه. وفي كل ليلة من ليالي اسبوع الآلام، كان يسوع يذهب خارجا الى جبل الزيتون ويلتجأ الى بيت عنيا.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 11: 1-11)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي(مرقس 11: 1-11)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول ثلاث نقاط: أهداف أحد الشعانين، ومزار الشعانين في بيت فاجي ودورة الشعانين السنوية التقليدية.
1) هدف أحد الشعانين
كلمة "شعانين" في الأصل اليوناني ὡσαννά (اوصانا) مشتقة من كلمة عبرية "هوشعنا" הוֹשַׁע־נָא، وهي من جذر سرياني ومعناها "امنح الخلاص" كما ورد في المزمور " הוֹשִׁיעָה נָּא" (مزمور 118: 25). ويقول التلمود أن هذا المزمور الذي يشمل هذه الكلمة كان ينطلق من أفواه الشعب ضمن هتافهم وهم يهزون الأغصان في أيديهم أثناء عيد المظال. وهي دعوة شعب متضايق يطلب من ملكه أو إلهه أن يهرع إلى خلاصه.
وأحد الشعانين هو الاحد الذي يسبق الفصح عندما دخل المسيح مدينة القدس. وهو أول يوم من الأسبوع المقدس وآخر أسبوع في حياة المسيح على الأرض. إذ دخل يسوع في موكب عظيم ارتجت له المدينة كلها، ولم يكن هذا العمل بقصد طلب مجد عالمي أو نوال كرامة أو سلطة، إنما هو موكب روحي يمس حياتنا الداخلية وخلاصنا الأبدي كما اكّد ذلك القديس بطرس الرسول: "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص". (اعمال الرسل 4: 12). ومن هنا تأتي اهمية دخول يسوع الى القدس منتصراً ليدشِّن اسبوع الالام، ويتمم وعد الانبياء، ويؤكد انه المسيح المنتظر.
ا) دخل يسوع احتفاليا الى اورشليم لكي يدشّن "اسبوع الآلام"
يكرس الانجيل الفصول الاخيرة لسرد الحوادث التي حصلت في مدة الايام الثمانية الاخيرة من حياة يسوع بدايةً من دخوله الاحتفالي الى اورشليم في أحد الشعانين. وحدث هذا الدخول في يوم الاحد في بداية الاسبوع الذي صُلب فيه يسوع، وكان الاحتفال بعيد الفصح اليهودي على وشك ان يبدأ، وكان اليهود يأتون من جميع جهات العالم الروماني طيلة أيام هذا الاسبوع للاحتفال بذكرى الخروج من مصر (خروج 13).
في مثل هذا اليوم دخل يسوع الى أورشليم احتفاليا في موكب مهيب الوحيدة متوجها إلى مصيره محققا ما سبق وأعلنه مرة ومرات أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم. "َابنُ الإِنسانِ يُسلَمُ إِلى عُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، فيَحكُمونَ علَيه بِالمَوت، ويُسلِمونَه إِلى الوَثَنِيِّين، فَيسخَرونَ مِنه، ويَبصُقونَ علَيه ويَجلِدونَه ويَقتُلونَه، وبَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم." (مرقس10: 32-34).
وفي هذا اليوم نبدأ مسيرة آلام سيدنا يسوع المسيح التي قِمَّتُها يوم الجمعة العظيمة على الجلجلة، ولكن نهايتها يوم أحد الفصح والقيامة. جاء السيد المسيح ليقود موكب الصليب بنفسه، ويملك على خشبة الصليب، مقدمًا حياته عن شعبه. ويعلق البابا فرنسيس "مات المسيح وهو يصرخ محبّته لكلّ واحد منّا: للشبّان والشيوخ، للقدّيسين والخطأة؛ محبّته لمن عاش في زمنه ولمن يعيش في زمننا هذا".
ب) دخل يسوع نبيا الى اورشليم لكي يُتمِّم نبوءات الانبياء: أشعيا وزكريا.
وصَل يسوع إِلى بَيتَ فاجي. ودخل اورشليم نبيّا حقيقيا مصغيا الى صوت الاب لكي يُعرّف مشيئته تعالى. دخل المدينة نبيا راكبا على أتان تأكيداً على انه المسيح الملك الوديع تحقيقا لنبوءة أشعيا "قولوا لِآبنَةِ صِهْيون: هُوَذا خَلاصُكِ آتٍ هُوَذا جَزاؤُه معَه وأُجرَتُه أَمامَه" (أشعيا 62: 11)، ولتحقيق نبوءة زكريا أيضا القائل "اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان" (زكريا 9 :9).
والجموع الذين يتقدمون يسوع ويتبعونه كانوا يتمِّمون نبوءة زكريا، ويتكلمون عن عودة مملكة داود (2 صموئيل 7: 12-14) بهتافهم: "تَبارَكَتِ المَملَكَةُ الآتِيَة، مَملَكةُ أَبينا داود! "(مرقس 11: 10). إنّه ليس ملكاً متعجرفاً، بل ملك وديع ومتواضع، يأتي فقط كي يُخلّص شعبه ويمنحه السلام، وذلك ببذل ذاته فدية لشعبه. ودخول يسوع الى اورشليم هي أيضا تتمّة لنبوءات سفر صموئيل الثاني وأشعيا وملاخي: "يَأتي فَجأَةً إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه" (ملاخي 3: 1). ويُعلق البابا فرنسيس "يسوع يدخل المدينة محاطًا بشعبه، محاطًا بتسابيح وبهتافات صاخبة: أصوات الابن الذي غُفر له، والأبرص الذي شُفي، والعشار وصراخ الذي كان يعيش على هامش المدينة. إنه صراخ رجال ونساء تبعوه لأنّهم اختبروا تعاطفه إزاء معاناتهم وبؤسهم، الخطأة الذين غُفر لهم واستعادوا الثقة والرجاء وكيف لا يهتفون للذي أعاد إليهم كرامتهم ورجاءهم؟ أصوات تتردد صداها بقوّة في هذا الموكب، كلّ الأصوات معًا".
ج) دخل يسوع كاهنا الى اورشليم ليؤكِّد انه المسيح المنتظر.
كانت ساعة الصليب تقترب. دخل يسوع الى اورشليم كاهنا ليُدشّن العبادة الجديدة، عبادة العهد الجديد الأبدي، لا يُقدّم ذبائح حيوانيّة، بل ذاته على مذبح الصليب. ولذلك يتوجب على يسوع ان يوضِّح الامر جليا الآن: إمَّا انه المسيح، وإمَّا ان تكون حياته قائمة على الخطأ. لكن طريقة دخوله وضَحت انه المسيح المنتظر. وهناك ثلاثة أمور دلَّت على هذا الامر: ارتباط المشهد بجبل الزيتون، وإحضار جحش، والإشارة إلى مملكة داود. وهذه الأمور الثلاثة كشفت عن طبيعة الموكب أنه ليس موكب رجل حرب وإنما موكب المسيح المنتظر المخلص. أمَّا عن جبل الزيتون فقد أنبأ زكريا النبي: تَقِفُ قَدَماه في ذلك اليَومِ على جَبَلِ الزَّيتونِ الَّذي قُبالَةَ أُورَشَليمَ إِلى الشَّرق، فيَنشَقُّ جَبَلُ الزَّيتونِ مِن نِصفِه نَحوَ الشَّرْقِ ونَحوَ الغَرْبِ وادِياً عَظيماً جِدّاً، ويَنفَصِلُ نِصفُ الجَبَلِ إِلى الشَّمالِ ونِصفُه إِلى الجَنوب... ويأتي الرَّبُّ إِلهي وجَميعُ القِديسينَ معَه" (زكريا 14: 4-5). لهذا كانت توقعات اليهود أن مجيء المسيح مرتبط بجبل الزيتون كما أكّد على ذلك المؤرّخ يوسيفوس فلافيوس.
أمَّا فيما يتعلق بالجحش، فهذا الامر يتوافق مع المجيء المسالم لشخصية ملكية، وكان ذلك تتميما لنبوءة زكريا النبي "اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان " (زكريا 9: 9). ويُعلق القديس يوحنا الإنجيلي على دخول السيد المسيح راكبًا على جحش بقوله: " هذهِ الأَشياءُ لم يَفهَمْها تَلاميذُه أَوَّلَ الأَمرِ، ولَكِنَّهم تَذَكَّروا، بَعدَما مُجِّدَ يسوع، أَنَّها فيهِ كُتِبَت، وأَنَّها هي نَفسُها لَه صُنِعَت" (يوحنا 12: 16).
وأخيرا فيما يتعلق بالإشارة الى مملكة داود، ذهب الكثير من الناس لمقابلة يسوع وأُقرّوا بأنه المسيح المنتظر كما جاء في الانجيل " بَسَطَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أَردِيَتَهم على الطَّريق، وفَرَشَ آخَرونَ أَغصاناً قطَعوها مِنَ الحُقول. وكانَ الَّذينَ يَتَقَدَّمونَه والَّذينَ يَتبَعونَه يَهتِفون: هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ": تَبارَكَتِ المَملَكَةُ الآتِيَة، مَملَكةُ أَبينا داود! هوشَعْنا في العُلى!" (مرقس 11، 8-10). فيسوع هو المسيح الذي تنبأ عنه الأنبياء وأنه سيأتي من نسل داود ليُعيد لهم المُلك (صفنا 15:3-17).
وجاءت هتافات الجماهير متناغمة مع كلمات الملاك جبرائيل لمريم العذراء يوم بشارتها: "يُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية " (لوقا 1: 32-33). ويعلق الأب ثيؤفلاكتيوس" دعوا مملكة المسيح مملكة داود، لأن المسيح جاء من نسل داود، كما أن داود يُشير إلى صاحب اليدّ القوية، إذ مَن يده قوية كيَد الرب الصانعة عجائب هذا مقدارها". ويجدر بنا ان نردِّد مع القديس اندراوس أسقف كريتا "لنُسرِعْ إذًا ولْنُقبِلْ معًا إلى الُمقبِلِ إلى الآلام، ولْنقتَدِ بالجموعِ التي أسرعَتْ لملاقاتِه، لا بحملِ أغصانِ الزيتونِ أو سَعَفِ النخلِ، ولا بفرشِ الثيابِ أمامَه على الطريق، بل نسجدُ له بأنفسِنا، بكلِّ قِوانا وإرادتِنا".
وعلق كتاب الاقتداء بالمسيح:" إن ليسوع تبّاعاً كثيرين يرغبون في ملكوته السماوي، أما حاملو صليبه فقليلون. كثيرون يكرّمون معجزاته، أما الذين يتبعونه في عار الصليب فقليلون. كثيرون يحبّون يسوع ما دامت المحن لا تنتابهم. كثيرون يسبّحونه ويباركونه، ما داموا يحصلون على تعزيته. فإن توارى يسوع وتركهم قليلاً، سقطوا في التذمّر أو في فشلٍ مُفرط".
د) دخل يسوع ملكا الى اورشليم ليملك بتواضعه على شعبه
دخل يسوع الى اورشليم ملكا كي يضمن الأمن والسلام والازدهار والعدل ويمنح ذاته لشعبه. لكن الشعب الّذي كان ينتظره هناك، رفض السّلام الذي قدَّمه، لأنه كان ينتظر قائداً حربيًا، يقود جيشا بالسّلاح، لطرد المُستعمِر الرّوماني من هذه البلاد. اما يسوع فدخل أورشليم، ولا أي مدينة أخرى بهذه الصورة سوى هذه المرة لإعلان نفسه ملكا بالصليب؛ فقد تخلى عن مظاهر أبهة الملوك (ارميا 17: 25) ودخلَ اورشليم لا كمُحتَلٍّ مظفَّرٍ مكلَّلٍ بالمجدِ وبالأُبّهة، بل وديعًا متواضعًا كي يكون انتصاره بالتواضع والبساطة " رابطٌ بِالجَفْنَةِ جَحشَه وبَأَفضَلِ كَرمةٍ آبنَ حِمارتِه" (تكوين 49: 11). وصفة التواضع يمتاز بها المسيح الملك (أشعيا19: 1)، ان يسوع لم يقبل في هذه الأرض تاجا الاّ تاج الشوك (مرقس 15: 17-18). وقال فيه الكتاب المقدس "لَن يُخَاصِمَ وَلَن يَصِيحَ، وَلَن يَسمَعَ أحَدٌ صَوتَهُ فِي السَّاحَاتِ" (متى 12: 19). لم يدخل يسوع الى اورشليم لكي يحقّق انتصارا بسلطة السلاح أو القوى البشرية كما ظنّ بيلاطس وأعيان اليهود إنما ليتمّ انتصاره على العدو، إنه سقوط مملكة إبليس واندحار الخوف.
دخل يسوع اورشليم راكبا على أتان، مطية الآباء (تكوين 49: 11) ليس كالفاتح العسكري الذي يمتطي جواد حربي، ولا كثائر سياسي كما كان اليهود يتوقعونه وكانت حال لسانهم قول تلميذي عمواس: "كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل" (لوقا 24: 21)، إنما دخل اورشليم وديعًا متواضعًا، وزينتُه عندَ دخولِه ثيابٌ مُهَلهلَةٌ متواضعة. فمجده لا يشبه مجد أقوياء الأرض. إن مجده هو مجد ملك يمنح الحياة، ويُحبّ خاصّته حتّى النهاية.
دخل يسوع اورشليم ليؤسس مملكة باسم الرب التي لم تكن من إرادة إنسان كمملكة الرومان، لان مملكته ليست من هذا العالم بحسب ما صرَّح به امام الحاكم بيلاطس البنطي "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا " (يوحنا 18: 36). ومجده هو مجد الملك يمنح الحياة، ويُحبّ خاصّته حتّى النهاية. إنّه الملك الّذي يقبل الموت من أجل خاصّته، وهو مقتنع بأنّ تلك هي العظمة الحقّيقيّة، وهي القوّة الحقيقيّة الّتي تُغيّر الحياة، وتجلب السلام.
ه) دخل يسوع احتفاليا الى اورشليم ليفتتح العهد المسيحاني
دخل يسوع ظافرا الى اورشليم كي يُدشّن زمناً جديداً، يسوده عدل الربّ وسلامه في الأرض كلّها، وذلك بتقريب جسده ذبيحة على الصليب على جبل الجلجلة في اورشليم (عبرانيين10: 37) وليقرّب ذَبيحَة كَفَّارةٍ لِلخَطايا (عبرانيين 10: 12)، ويصالحنا مع الله كما صرّح بولس الرسول " فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه! " (رومة 5: 10). لقد جاء حاملاً معه سلام الأزمنة المشيحيّة: كما وَرَدَ في الكِتاب: "لا تَخافي يا بِنتَ صِهْيون هُوَذا مَلِكُكِ " (يوحنا 12: 15) متمما نبوءة زكريا: "ابتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان"(زكريا 9: 9).
نستنتج مما سبق أنّ عيد الشّعانين، هو استباق للنّصر الأخير الذي سيتمّمه الرّب في مجيئه الثّاني الأخير، حيث سيفتح سفر الحياة، ويظهر جليّا لكلّ بني بشر، وتتجدّد الخليقة الّتي تئنّ شوقا إليه. بالمسيح وحده يتمّ الخلاص الحقيقيّ والكامل لنا ولكلّ إنسان. كما تنبا يوحنا "رَأَيتُ بَعدَ ذلِكَ جَمعًا كَثيرًا لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يُحصِيَه، مِن كُلِّ أُمَّةٍ وقَبيلَةٍ وشَعبٍ ولِسان، وكانوا قائمينَ أَمامَ العَرشِ وأَمامَ الحَمَل، لابِسينَ حُلَلاً بَيضاء، بِأَيديهم سَعَفُ النَّخلِ، وهم يَصيحونَ بِأَعلى أَصْواتِهم فيَقولون: الخَلاصُ لإِلهِنا الجالِسِ على العَرشِ ولِلحَمَل!" (رؤيا 7، 9-10). إنها دعوة الشعب الجديد الذي يولد عند قدم الصليب، حيث يجذب المسيح المرفوع على الصليب الجميع إليه (يوحنّا 12، 32). وبكلمة وجيزة، جاء يسوع الى اورشليم ليحمل الخلاص والسلام المسيحاني لها للبشرية جمعاء.
وينبغي ان لا نتردَّد ان نهتف معًا ليسوع المسيح الملك والمخلّص، ليس بالأقوال فقط، إنّما بالأعمال الصالحة، وأن نعلن إيماننا به وانتماءنا لملكوتهَ، ونبحث عن خلاصنا، فيُنعِمَ الربّ المخلّص، بالبركة والنعمة والفرح والأمان على عالمنا الذي يريد حقًّا الخلاص. ولنهتف بكلّ قوّة وإيمان وتقوى "هوشعنا هوشعنا"، خلّصنا يا ربّ من الرذائل والآلام ومن الكآبة والقلق والخوف والتشاؤم من الغد، بإعطائنا الأمان والطمأنينة والعمق الروحيّ والارتياح النفسيّ، لكيّ نحقّق خلاصنا وسلامنا بمخلصنا يسوع المسيح الملك؛ نعم، هوشعنا، خلّصنا يا رب!
2) مزار أحد الشعانين: بيت فاجي: تاريخها وآثارها
التسمية:
بيت فاجي اسم آرامي בֵּית־פַּגֵּי (معناه "بيت التين")، وهي قرية صغيرة تقع إلى الجنوب الشرقي من جبل الزيتون وتتصل ببيت عنيا من الجهة الغربية على مسافة 800م. مرَّ بها السيد المسيح بعد دخوله بيت عنيا، إذ كان قادما من أريحا إلى القدس. ومن هذه القرية أرسل السيد المسيح اثنين من تلاميذه ليأتياه بجحش، فركبه في دخوله القدس منتصرا. فمن بيت فاجي يبدأ أحد الشعانين التقليدي متجها نحو القدس. وقد ربط التقليد بهذه القرية أيضا ذكرى لقاء مرثا مع يسوع قبل إحياء اليعازر من القبر (يوحنا 11:20-34).
التاريخ:
ارتبط تاريخ بيت فاجي بالحوادث التي وردت في الأناجيل (يوحنا 11،20-34، متى 21،1-11، مرقس 11،1 -11، لوقا 19،28-40) التي تروي لنا دخول يسوع الى أورشليم من بيت فاجي. وفي القرن الثاني والثالث الميلادي يشير التلمود إلى إن بيت فاجي كانت إحدى ضواحي القدس وقد اثبتت الحفريات من آبار مياه ومعاصر زيت وقبور شهادة التلمود. وفي كتابات المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري (265-340م) جاء ذكر "بيت فاجي كضيعة صغيرة تقع على جبل الزيتون. دخلها السيد المسيح في طريقة إلى أورشليم." ويصفها ايرونيموس (385-419) كمكان كان يقضي فيه كهنة اليهود عطلتهم؛ ومنها أتى التلاميذ بجحش للمسيح. وفيها بسط كثيرون ثيابهم على الطريق".
وفي العصر البيزنطي أشارت السائحة الاسبانية إيجاريه في مذكراتها في القرن الرابع إلى وجود كنيسة في بيت فاجي تُحيي ذكراها لقاء يسوع مع مرتا عندما جاء من الأردن لإحياء اليعازر. وفي عام 530 لمَّح ثيوذسيوس ان بيت فاجي هو المكان الذي اخذ السيد المسيح منه جحشا ليركبه في دخوله منتصرا إلى أورشليم من خلال باب بنيامين. وفي عام 870 نوّه برناردو الناسك إلى الصخرة التي استعان بها السيد المسيح في ركوبه جحش بن أتان لدى دخوله القدس.
ولم يكتفِ الحجاج في العصور الوسطى بتحديد موضع بيت فاجي بين بيت عنيا وجبل الزيتون بل أشاروا إلى الكنيسة ووجود حجر في داخلها الذي استعان به يسوع لركوب الجحش. وفي عام 1165 وصف الحاج يوحنا فيرسبورك المكان بقوله: يوجد برجان من حجر كان أحدهما كنيسة. وفي عام 1172 اضاف الحاج تيودوريكو ان المسيح جاء من بيت عنيا إلى بيت فاجي حيث أُقيم معبد إكراما له، لأنه كان قد أرسل اثنين من تلاميذه ليأتيا بجحش وأتان. واستعان بصخرة كانت موجودة هناك لركوب الجحش. في هذا الصدد قال الراهب الفرنسيسكاني نقولا يوجيبونسي: "في بيت فاجي لا توجد جدران ولا بيوت بل حجارة. وفيها حجر كبير عليه وقف المسيح"؛ وفي عام 1345 أهملت الكنيسة وتحوَّلت إلى خربة. وما جاء القرن السابع عشر حتى انطمست آثار الكنيسة. وفي عام 1883 بنى الآباء الفرنسيسكان الكنيسة الحالية على أنقاض الكنيسة الصليبية. وفي عام 1954 تمَّ ترميم الكنيسة بشكلها الحالي تحت إشراف المهندس انطونيو برلوتسي، بإضافة برج مجاور للكنيسة بناء على مواصفات السائح يوحنا فيرسبورك.
المعالم الأثرية:
أجري المعهد الآثار الفرنسيسكاني في القدس حفريات عام 1961 اسفرت عن اكتشاف ما يلي:
(1) الكنيسة الصليبية:
بنى الآباء الفرنسيسكان الكنيسة الحالية عام 1883 على أنقاض الكنيسة الصليبية، وهي مبنية من حجارة ضخمة مزينة بالرسومات. ولم يبق من هذه الرسومات إلا القليل. وتحوي الكنيسة على ممر يؤدي إلى غرفة ربما تكون السكرستيا، وهي غرفة ملحقة بالكنيسة لحفظ الزي الكهنوتي والاواني المقدسة. وفي داخل الكنيسة من جهة الشمال نجد "مسلة".
(2) المسلَّة:
المسلة عبارة عن قطعة صخرية يروي التقليد أنها استخدمت لموطئ قدمي يسوع لدى ركوبه على الجحش في دخوله منتصرا إلى اورشليم. وقد وجدها صدفة فلاح فلسطيني من جبل الطور عام 1877 بينما كان يبحث عن حجارة للبناء. واشتراها الآباء الفرنسيسكان عام 1880. وتُزين المسلة لوحات من العهد الصليبي لمشاهد إنجيلية على النمط البيزنطي. ولقد تمكن الفنان فكاريني من ترميم الرسومات التي كادت أن تختفي وهي:
من جهة الشمال: لوحة تمثل التلاميذ يأتون بالجحش والأتان من بيت فاجي.
ومن جهة الشرق: لوحة تمثل دخول السيد المسيح منتصرا إلى أورشليم، وتحتها كتابة لاتينية غير واضحة. وتعني: هنا تطواف النخل في أيام.
ومن جهة الجنوب: لوحة تمثل إحياء اليعازر من القبر. ويظهر يسوع ويتبعه بطرس من جهة الشمال واليعازر وامرأة تغطي أنفها للتدليل على أن الميت قد أنتن، ومريم ومرتا ساجدتين، ورجل يحمل غطاء القبر من الجهة اليمنى.
ومن جهة الغرب: تمثل اللوحة السيد المسيح يبارك بيده اليمنى ويحمل كتابا بيده اليسرى وبجانبه مريم ومرتا اختا اليعازر. وتتوسط هذه اللوحة كوة مغلقة. وتحت اللوحة كتابة باللغة اللاتينية تشير إلى بيت فاجي. وفي الطرف الآخر من اللوحة نقش اسم الفنان Bernardi Witardi de Borda Fok o For.
(3) الكنيسة الحالية:
قام الآباء الفرنسيسكان ببناء الكنيسة الحالية عام 1883 وتمَّ ترميمها عام 1954. يتوسط الكنيسة مذبح من رخام "الصليبي" وبيت القربان من صنع النحات مورته A. Mortet . وزيّن الرسام فكاريني (Cesare Vagarini) الكنيسة بلوحات جدارية فنية زيتية. وفي صدر الكنيسة نجد لوحة زيتية بألوان مختلفة تُمثل دخول المسيح منتصرا إلى القدس يتقدَّمه الشعب حاملين أغصان الزيتون وسعف النخل ويتبعه الرسل والنسوة التقيات. وأمَّا جداران الكنيسة فهي مزينة بلوحات بلون واحد تمثل تطواف الشعانين. ويشعر الزائر في الكنيسة كأنه واحد من هؤلاء السائرين وراء المسيح في دخوله إلى أورشليم.
3) لمحة تاريخية حول تطواف الشعانين التقليدي:
بدا التطواف التقليدي في أحد الشعانين في القدس في العصر البيزنطي. تروي لنا السائحة إيجاريه الاسبانية أن المسيحيين كانوا يقيمون منذ القرن الرابع التطواف بأحد الشعانين في تمام الساعة الواحدة بعد الظهر مبتدئين من كنيسة "أبانا الذي"؛ ثم يتوجَّهون إلى كنيسة الصعود ومن ثمة ينحدرون من جبل الزيتون وهم حاملون أغصان الزيتون أو سعف النخل. وينتهي التطواف بهم في كنيسة القيامة. ويبدو أن نشأة هذا التطواف تعود إلى البطريرك كيرلس الاورشليمي (348-3879).
وأشار كتاب القراءات الاورشليمية إلى بعض التعديلات في القرن الخامس حتى القرن الثامن، إذ كان التطواف يبدأ صباحا وكان يتوقف موكب الشعانين في الجسمانية وفي كنيسة حنة (الصلاحية) حيث تُتلى الأناجيل التالية: يوحنا 12،12 ولوقا 19،29-28 ومرقس 11،1-10.
وفي القرن التاسع، كان بطريرك القدس يبارك سعف النخل وأغصان الزيتون في بيت عنيا ويسير الموكب نحو القدس مع التوقف في كنيسة الصعود والجسمانية وكنيسة القديسة حنة (الصلاحية) وينتهي في كنيسة القيامة.
وفي عام 1007 منع الخليفة الحاكم بأمر الله هذا التطواف إلى أن جاء الصليبيون عام 1099. وكان البطريرك يسير من بيت عنيا حاملا ذخيرة الصليب المقدس يواكبه الرهبان والمؤمنون حاملين سعف النخل وأغصان الزيتون، ويتوجَّهون نحو القدس من خلال الباب الذهبي وينتهي التطواف بهم في ساحة الحرم.
وفي القرن الرابع عشر انحصر تطواف الشعانين داخل الأسوار مبتدئا من كنيسة مار يعقوب في حارة الأرمن حتى كنيسة القيامة تحت إشراف الأرمن. وأما في القرن الخامس عشر شرع الآباء الفرنسيسكان بالتطواف من بيت فاجي يترأسه حارس الأراضي المقدسة وهو راكب حمارا وينتهي التطواف عند وادي قدرون وبعد بضع سنوات أصبح التطواف ينتهي عند جبل صهيون.
وفي عام 1560 كان حارس الأراضي المقدسة يترأس التطواف؛ تبدا مسيرة الموكب من بيت فاجي مرورا مكان بكاء الرب على أورشليم (Dominus flevit )، ثم يدخل القدس من باب صهيون إلى أن يصل دير المخلص في جبل صهيون وكان يتخلل التطواف عظة باللغة العربية. ثم توقف التطواف عام 1648 بأمر السلطات.وفي عام 1933 عاد التطواف من جديد بحيث بدأ الموكب من بيت فاجي باتجاه جبل الزيتون وكان ينتهي بكنيسة القديسة حنّة (الصلاحية) المجاورة لساحة الحرم وهو الموضع القديم للتطواف ولا يزال تطواف أحد الشعانين قائما حتى أيامنا الحاضر حيث تنطلق المسيرة من بيت فاجي، مروراً بجبل الزيتون وحتى كنيسة القديسة حنة في البلدة القديمة.
ويتم ترتيب دورة أحد الشعانين بالنظام التالي: حامل الصليب والقواسة ثم حملة الاعلام الكشفية، ثم كاهن رعية القدس للاتين (الفرنسيسكان) يصحبه مختار دير اللاتين ثم يسر وراءهم الاشبال والزهرات والكشاف المبتدئ وقادة الكشاف ويتبعونهم أبناء الرعايا من فلسطين والجليل ويرافقونهم الزوار الاجانب من جميع أنحاء العالم. وأخير يسير الرهبان الفرنسيسكان ثم طلبة الاكليريكيين في البطريركية اللاتينية، ثم يأتي أخير موكب بطريرك اللاتين البطريرك والمرافقون له من أساقفة وحارس الأراضي المقدسة يحيطه لكشاف المتقدم على جانبي المسيرة. وينتهي الاحتفال بزياح القربان المقدّس ومباركة الجموع المواطنين المحلّيين والحجّاج من شتّى أنحاء العالم. وهي مناسبة مركزية تجمع المسيحيين من أنحاء العالم لذكرى دخول يسوع ظافرا الى اورشليم ليبدأ درب الالام والقيامة.
الخلاصة
في بداية الاسبوع الاخير من حياة يسوع على الارض دخل أورشليم، مدينة السّلام، في أبهى حُلَلِها وقمّة مجدها. نشر يسوع المَلِكْ، بدخوله أورشليم، روح السّلام والطمأنينة والفرح والبهجة وحبّ الحريّة. هذا الدخول الملوكي، الذي تفاعل معه الناس، أعطاهم قوّة التحرّر والأمان والحلم بالخلاص.
وإنّ هذا العيد هو الفرصة لْنصعَدْ معًا جبلَ الزيتونِ لملاقاةِ المسيحِ العائدِ اليومَ من بيتَ فاجي متقدّمًا إلى القدس يومِ آلامِه ليُتمِّمَ سرَّ خلاصِنا. لنُسرِعْ ولْنقتَدِ بالجموعِ التي أسرعَتْ لملاقاتِه، لا بحملِ أغصانِ الزيتونِ أو سَعَفِ النخلِ، ولا بفرشِ الثيابِ أمامَه على الطريق، بل أن نسجدُ له بأنفسِنا، بكلِّ قِوانا وإرادتِنا، ونستقبلُه بروحٍ منسحقةٍ وبنِيَّةٍ مستقيمةٍ وبعزمٍ ثابت. وبدَلَ بسط الثيابِ أمامَه، لِنُلقِ بأنفسِنا أمامَ قدمَيْه ساجدِين. ولْنردِّدْ مع الأطفال هتافهم، تعبيرا عن إيماننا فيما تهتزُّ أغصانُ أنفسِنا وأرواحِنا: "مُبَارَكٌ الآتِي بِاسمِ الرَّبِّ". تمجيدا للمسيح الملك الذي خلصنا في الماضي ويخلصنا اليوم. فملكنا الوديع حاضر فيما بيننا، هو خلاصنا وقوتنا وحياتنا. فالحياة اقوى من الموت. و"قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات هي تذكير دائم بأن قوى الشر والموت لن تتغلب على الحياة، بل أن الحياة ستنتصر على الموت وظلامه" كما جاء في رسالة الفصح المجيد لبطاركة ورؤساء الكنائس في القدس 2018).
هلمّوا ولْنصعَدْ معًا جبلَ الزيتونِ لملاقاةِ المسيحِ العائدِ اليومَ من بيت فاجي متقدّمًا إلى يومِ آلامِه المكرَّمة، وقد جاءَ طوعًا كما قال "حياتي، ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ" (يوحنا 10: 18) ليُتمِّمَ سرَّ خلاصِنا. ولندخل مع المسيح في موكبه الى اورشليم قائلين مع الرسول "الشُّكرُ للهِ الَّذي يَسْتَصْحِبُنا دائِمًا أَبَدًا في نَصرِه بِالمَسيح. ويَنشُرُ بِأَيدينا في كُلِّ مَكانٍ شذا مَعرِفَتِه (2 قورنتس 2: 14).
دعاء
أيها الآب السماوي، إذ نذكر في إيمان وخشوع دخول ابنك يسوع المسيح الى اورشليم ليتمَّ آلامه وقيامته من اجل خلاصنا، دعنا ان نرافقه في طريقه، صارِخِينَ: أوصَنَّا في الأعالي، مُبارَكٌ الآتي باسمِ الرَّبّ كي ننال نعمة فداء صليبه ونفوز بالقيامة والحياة الأبدية. آمين
الأب لويس حزبون - فلسطين