رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القديس يوحنا ذهبي الفم رؤية الله وإدراكه منذ بداية العصور أثيرت بعض الأسئلة الخاصة برؤية الله وإدراكه خاصة عند دراسة مقالات القديس يوحنا الذهبي الفم عن عدم إدراك طبيعة الله Incomprehensibility of the Nature of God وعظته الخامسة عشر على إنجيل القديس يوحنا. لقد واجه القديس بدعة أونوميوس القائل بأن الله يمكن التعرف عليه بالعقل، وإدراك جوهره بالذهن البشري. لذا اهتم القديس بالرد على أتباع أونوميوس في كثير من مقالاته وكتاباته خاصة الاثني عشر السابق الإشارة إليها. نستطيع أن نلخص آراءه في النقاط التالية: 1. رأى الأنبياء الله، لكنهم لم يروا جوهره، إنما بدا لهم ذلك قدر ما يستطيعون. وقد أعلن ذلك النبي "كثرت الرؤى وبيد الأنبياء مثلت تشبيهات" (هو 12: 10)، كان الله يقول: [لا أعلن جوهري ذاته، إنما أتنازل (في رؤى) بسبب ضعف هؤلاء الذين يرونني(21).] وما هو هذا التنازل؟ إنه إعلان الله الذي يجعل نفسه منظورًا: [ليس كما هو، بل بالقدر الذي به يقدر الناظر أن يرى، أي حسب ضعف الناظرين في الرؤية(22).] 2. هذه الحقيقة لا تخص البشر وحدهم إنما تخص حتى الخليقة السماوية الروحية. هؤلاء يرون الله وجهًا لوجه، لكنهم أيضًا -في رأي القديس- لا يرون جوهره غير المُدرَك، بل يتمتعون حسب قدرة إدراكهم... إنهم يغطون أعينهم بسبب عجزهم عن احتمال حتى هذا التنازل للإعلان عنه(23) . يليق بنا أن نتشبه بالسمائيين فهم -ليس كأونوميوس- يطلبون أن يتعرفوا على جوهر الله، بل في غير انقطاع نمجده ونسجد له(24). "يصيح السيرافيم قائلين: قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت... إن القوات العلوية يأخذ منها الرعب كل مأخذ بغير انقطاع، فهي تدير وجهها، وتبسط أجنحتها كحائطٍ، يقيها من الإشعاع غير المحتمل الصادر من قبل الله، ومع ذلك فما تراه إنما هو صورة مصغرة للحقيقة... بينما لا يقوى السيرافيم حتى على مشاهدة الله الذي لا يتجلى لهم إلا كتنازلٍ منه حسب ضعفهم، نرى أناسًا يتجاسرون متصورين في عقلهم الطبيعة عينها التي يعجز السيرافيم عن إدراكها. إنهم يزعمون أنهم قادرون على التطلع إليها بوضوح وبغير حدود، ارتعدي أيتها السماوات واندهشي أيتها الأرض(25)". "حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يمكن الدنو منه. لهذا فهو يتنازل ليظهر بالطريقة التي وردت في الرؤيا. الله الذي لا يحده مكان، ولا يجلس على عرش... من قبيل محبته لنا يظهر جالسًا على عرش وتحيط به القوات السمائية. إذ ظهر على العرش وأحاطت به هذه القوات، لم تقدر هذه القوات على معاينته، ولا احتملت التطلع إلى بهاء نوره، فغطت أعينها بأجنحتها، ولم يعد لها إلا أن تسبح وترنم بتسابيح مملوءة مجدًا ورِعدة مقدسة، وأناشيد تشهد لقداسة الجالس على العرش(26)". 3. إن كان الله بإرادته الطيبة يتنازل من أجل خليقته السماوية والأرضية كخلائقٍ ضعيفة لمعاينته قدر ما تستطيع أعينهم الضعيفة، فإن هذا الحنو بلغ كماله في تجسد الابن. الابن هو صورة الله الآب غير المنظور، وهو نفسه غير منظور، بتجسده صار منظورًا، لا للناس بل وللملائكة أيضًا، مفسرًا ذلك بقول الرسول: "الله ظهر في الجسد... تراءى لملائكة" (1 تي 3: 16). قبل التجسد كانت الملائكة تراه في أفكارهم، تتأمل بطبيعتهم النقية الساهرة. هذا يحمل القديس جانبًا سلوكيًا وليس لاهوتيًا، إذ يقول إن الابن له وحده المعرفة الكاملة للجوهر الإلهي، بكونه مساويًا للآب، في حضنه. أما إعلانه لنا فحمل مجرد تفسيرًا أو توضيحًا أو إخبار عن طريق أعماله المملوءة حبًا ومعجزاته وحياته وتعاليمه. لقد بقي الابن الغير منظور مختفيًا في لاهوته، فإنه حتى في تجليه سمح بظهور النور بالقدر الذي يمكن لطبيعتنا القابلة للموت أن تقبله. إنه مرة أخرى يتجلى لنا لكن في صورة غامضة عن البركات المقبلة... في مرآة في لغز(27). لقد فسر القديس قول السيد: "من رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9) هكذا: [هذا القول يعني: ليس ممكنًا أن تراني، ولا أن ترى الآب. فقد قصد فيلبس معرفته للمسيح خلال النظر، وإذ ظن أنه رأى المسيح أراد أن يرى الآب على نفس المستوى، لكن يسوع أوضح له أنه في الواقع لم يره(28).] 4. يعتبر القديس يوحنا الذهبي الفم البحث في جوهر الله خدعة شيطانية تفسد حياة الإنسان الروحية وتحرمه من نعمة الله، إذ يقول: [هذا هو مكر الشيطان: أنه يقود الذين يطيعونه إلى خارج الحدود التي وضعها الله إلى أمور أعظم. ولكن بينما يغوينا بهذه الأمنيات إذ به يحرمنا من نعمة الله. ليس فقط لا يعطينا شيئًا إضافيًا، بل ولا يسمح لنا أن نعود إلى حالنا السابق حيث كنا في أمان وضمان، أنه يضللنا في كل الاتجاهات ولا يترك لنا أساسًا ثابتًا. هكذا سبب طرد الإنسان الأول من الفردوس إذ نفخه بتوقيع معرفة أعظم وكرامة أكبر فكان أن حرم حتى مما كان فيه في ضمان(29).] 5. يود القديس أن ينصب اهتمام المؤمن لا على التعرف على طبيعة الله، إنما على التمتع بوجوده معه وإعلان رائحة معرفته في حياته الروحية السماوية. [إننا نعرف الله أنه كائن، أما طبيعته فلسنا نعرفها بعد. إننا نشبه مجمرة ملوكية، أينما وُجدنا تنبعث فينا الرائحة السماوية، الرائحة الروحية الزكية(30).] 6. أعلن القديس أنه ليس طبيعة الله فقط غير مدركة، وإنما حتى أحكام عنايته بنا وتدابيره من نحونا فوق إدراكنا، ففي حديثه عن مرض "العثرة"، قاصدًا تشكك الإنسان في عناية الله بسبب ما يحل به من ضيقات، يقول: [ما هي علة هذا الخطر العظيم: تجاهل عناية الله...؟ ترى من فاق بولس في حكمته؟ أخبرني ألم يكن إناءًا مختارًا؟ ألم يأخذ نعمة الروح الفائقة غير المنطوق بها؟ ألم يتكلم المسيح فيه؟ ألم يسمع ما لا يحق لإنسان أن ينطق به؟ ألم يختطف إلى الفردوس وارتفع إلى السماء الثالثة؟ ألم يجوب البحار والبرّ يجذب الوثنيين إلى المسيحية...؟ ومع هذا كله، فإن هذا الرجل بعظمته وحكمته وقوته وامتلائه بالروح إذ خصه الله بهذه الامتيازات، عندما يتطلع إلى عناية الله، لا في كل جوانبها، بل في جانب واحد منها، تأخذه الرعدة منسحقًا، ويتراجع سريعًا خاضعا لله غير المدرك... اكتشف الرسول أنه أمام محيط واسع، وإذ حاول فحص أعماق هذه العناية ارتجف متحققًا استحالة تفسير عللها، وارتعب قدام عنايته اللانهائية غير المحدودة ولا موصوفة ولا مفحوصة ولا مدركة. تراجع في مهابة متعجبًا، وهو يقول: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه" (رو 11: 33). لقد أوضح بعد ذلك كيف تلامس مع أعماقها دون أن يفلح في استقصائها، قائلًا: ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء...؟ أنهى حديثه وقد امتلأ عجبًا ورعدة بأنشودة شكر، قائلًا: "لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا؟ أو من سبق فأعطاه فيكافأ؟ لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى أبد الأبد. آمين"(31).] 7. يرى أيضًا أن معرفتنا للأمور الإلهية هنا محدودة وغاية في الضآلة، لكننا سنعرف الكثير في الحياة الأبدية، معتمدًا على قول الرسول "لأننا نعلم بعض العلم... ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض" (1 كو 13: 9-10).... ومقارنة الرسول المعرفة الحالية والمعرفة في الحياة الأخرى بمعرفة الطفل ومعرفة الرجل الناضج، أو التطلع في مرآة في لغز والنظر وجهًا لوجه (1 كو 12: 11-12)، ومع هذا فإن المعرفة الكاملة التي في الحياة الأخرى تقدم لنا قدر ما نستطيع أن ندرك هناك. فيما يلي ترجمة للعظة الخامسة عشر على إنجيل القديس يوحنا التي تحمل ذات الأفكار الواردة في مقالاته الاثنى عشر عن عدم إدراك طبيعة الله: ["الله لم يره أحد قط" (يو 1: 18). بماذا تجيب على الصوت القدير لإشعياء القائل: رأيت الرب جالسًا على عرش عال ومرتفع" (إش 6: 1)؟ وعن يوحنا الذي يشهد له: "قال إشعياء هذا حين رأى مجده" (يو 12: 41). وماذا نجيب عن حزقيال القائل إنه رآه أيضًا جالسًا فوق الشاروبيم (حز 21: 1)؟ وماذا عن موسى نفسه القائل: "اكشف لي عن مجدك لكي أراك لأعرفك" (خر 33: 13 LXX)؟ وماذا عن دانيال القائل: "جلس القديم الأيام" (دا 7: 9)؟ ويعقوب أخذ اسمه عنه نفس الأمر، فقد دُعيَ "إسرائيل" إذ تعني الكلمة "يرى الله"(32). إذن كيف يقول يوحنا: "الله لم يره أحد قط"؟ هذه إعلانات، كلها أمثلة عن تنازله، وليست رؤى لجوهره بالكشف عنه. لأنهم لو نظروا جوهره ذاته لما رأوه تحت أشكال مختلفة، إذ هو بسيط، بغير شكل ولا أعضاء ولا أساليب محددة، طبيعته لا تجلس ولا تقف ولا تمشي، فإن هذه الأمور كلها تخص الأجساد، أما كيف هو... هو وحده الذي يعلم، هذا ما أعلنه بواسطة نبي قائلًا: "كثرت الرؤى، وبيد الأنبياء مثلت أمثالًا تشبيهات" (هو 12: 10)، بمعنى: أني أتنازل ولست أظهر كما أنا حقيقة. فإذ كان ظهور ابنه في الجسد قد اقترب هيأهم منذ القديم لرؤية الله قدر ما يستطيعون. أما ما هو الله حقًا، فإنه ليس فقط لا يراه المؤمنون، بل ولا يراه الملائكة ولا رؤساء الملائكة. إذ سألتهم تسمعهم لا يجيبون بشيء عن جوهره، بل يرسلون: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" (لو 2: 14). إن أردت أن تعرف شيئًا عن الشاروبيم والسيرافيم اسمع التسبحة السرية التي تخص قداسته: "السماء والأرض مملوءتان من مجده" (إش 6: 3)، إذ يقول داود: "سبحوه يا كل جنوده" (مز 148: 2). إن سألتم عن القوات العلوية تجدون عملهم الوحيد هو تسبيح الله، لكن الآب وحده هو الذي يراه، والروح القدس. كيف تقدر طبيعة مخلوقة أن تعاين الطبيعة غير المخلوقة؟ إن كنا لا نقدر مطلقًا أن نشاهد أية قوة روحية حتى المخلوقة مثل الملائكة، فكم بالأحرى لا نقدر أن نرى الجوهر الروحي غير المخلوق، لذلك يقول بولس: "الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه" (1 تي 6: 16). هل هذه الخاصية تخص الآب وحده دون الابن؟ حاشا لنا أن نفكر هكذا! إنما تخص الابن أيضًا. لكي تعرف هذا، اسمع بولس الذي يقول عنه ذات الأمر: "صورة الله غير المنظور" (كو 1: 15). فإن كان هو صورة غير المنظور يلزم أن يكون غير منظور، وإلا فلا يكون صورته. لا تعجب من بولس حين يقول في موضع آخر: "الله ظهر في الجسد" (1 تي 3: 16)، فقد تحقق الظهور خلال الجسد، لكن ليس ظهورًا للجوهر. أضف إلى هذا أن بولس يتحدث عنه كغير منظور، ليس فقط بين البشر، بل وأيضًا بين القوات العلوية، إذ بعد قوله "ظهر في الجسد" يقول "تراءى لملائكة". عندما لبس الجسد صار منظورًا حتى بالنسبة للملائكة. أما قبلًا فلم تره الملائكة، إذ جوهره غير منظور حتى بالنسبة لهم. ربما يسأل البعض: إذ كيف يقول المسيح: "لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات" (مت 18: 10)؟ هل لله وجه؟ وهل يحد بالسماوات؟ يا له من جنون أن نزعم هذا. إذن ما هو معنى هذه الكلمات؟ إنها كقوله: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 18). أنه يقصد الرؤية العقلية الممكنة لنا، حيث يكون لنا الله في فكرنا. هكذا أيضًا بالنسبة للملائكة فإننا نفهم أنه بسبب نقاوة طبيعتهم الساهرة لا يفعلون شيئًا سوى أن يتصوَّروا الله على الدوام أمامهم. لهذا يقول المسيح "لا أحد يعرف الآب إلا الابن" (مت 11: 27). ماذا إذن، هل جميعنا نجهل الآب؟ حاشا، لكن ليس أحد يعرفه كمعرفة الابن له. كثيرون رأوه في شكل رؤى يسمح لهم بها، لكن ليس من يرى جوهره. كثيرون منا يعرفون الله، أما جوهره فلا يعرفه أحد، غير المولود منه. إذ يقصد بكلمة "يعرف" أن تكون له فكرة دقيقة وإدراك كما للآب نحو الابن. "كما أن الآب يعرفني أنا أعرف الآب" (يو 10: 15). لاحظ بأي كمال يتحدث الإنجيلي، فإنه إذ يقول "الله لم يره أحد قط"، لا يكمل القول: "الابن الذي يرى هو خبر" إنما يتحدث عن الرؤية بأكثر من هذا يقول، "الذي هو في حضن الآب هو خبر". فمن يكون في الحضن تعني أكثر من الرؤية. فمن يرى فقط لا تكون له معرفة دقيقة في كل شيء، أما الذي في الحضن فلن يجهل شيئًا عنه... إنه يشير إلى الابن الحقيقي، الواحد، الذي له ثقة عظيمة نحو أبيه، والذي ليس بأقل منه |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|