26
المحبّة تمام العمل بالشريعة
13: 8- 10
تتضمّن الفصول الأخيرة من الرسالة إلى رومة، عدداً من الارشادات والتوصيات إلى الكنيسة (12: 1- 15: 13)، وهي تعني الحياة المسيحيّة بشكل عام، وواجبات المحبّة الأخويّة بشكل خاص (12: 1- 13 : 14). يذكر بولس هنا المعنى العباديّ للحياة المسيحيّة (12: 1- 2)، والاستعمال الصالح للمواهب الروحيّة (12: 3- 8)، وواجبات المسيحيّ الخاصة تجاه الذين يريدون له السوء (12: 9- 21)، والخضوع للسلطات الذين تأتي سلطتهم من الله (13: 1- 5)، وواجب دفع الجزية (13: 6- 7). وفي النهاية، السهر الذي يعطي الحياة المسيحيّة بُعدها الاسكاتولوجيّ (13: 11- 14). أما المقطع الذي نقرأ فيتحدّد موقعه قبل النداء إلى السهر، فيبيّن أن على المحبّة تجاه القريب، أن تكون في قلب الحياة الخلقيّة لدى المسيحيّ. ويأتي التوسّع بشكل بسيط: إعلان أول: لا يكن لأحد عليكم دين. ثم امتداد في الكتاب المقدّس. والخاتمة: المحبّة تمام العمل بالشريعة. ونقرأ النصّ:
(8) لا يكن عليكم لأحد دَين إلاّ محبّة بعضكم لبعض، فمن أحبّ غيره أتمّ العمل بالشريعة. (9) فالوصايا التي تقول: «لا تزنِ، لا تقتلْ، لا تسرقْ، لا تشتهِ» وسواها من الوصايا، تتلخّص في هذه الوصيّة: «أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك». (10) فمن أحبّ قريبه لا يسيء إلى أحد، فالمحبّة تمامُ العمل بالشريعة.
1- دَين لا نهاية له (13: 8)
ترتبط التوصية في آ 8 بإرشاد سابق يشير إلى الواجبات تجاه السلطة. لا يكن لأحد دين علينا: نحن هنا على مستوى العدالة. أما بالنسبة إلى المسيحيّ، فالعدالة بحسب الله (12: 1- 2) تتمّ في المحبّة. فالحبّ هو سرّ التدبير الذي به يبرّرنا الله: فالاقتداء بالله في عمل النعمة المجاني تجاه البشر، يكون الموقفَ الوحيد الذي يليق بالمسيحيّ (6: 2: اغفر لنا كما غفرنا؛ أف 5: 1: اقتدوا بالله كأبناء أحبّاء).
وإذ أراد بولس أن يتحدّث عن هذا الموضوع، انطلق من إعلان يقول: لا يكن لأحد دين علينا. ولكنه حدَّد حالاً فكرته: هناك دين لا يمكن أن نتخلّص منه مهما فعلنا، هو المحبّة المتبادلة. هذا الوضع غير العاديّ، يجعلنا نتجاوز، في شكل من الأشكال، مفهوم العدالة: فمراعاة العدالة تتطلّب أن لا نكون مدينين لأحد. ولكن كمال العدالة يعتبر نفسه مديناً دين الحبّ تجاه القريب.
بعد الآن، لم نعد فقط أمام العدالة. بل صرنا أمام المحبّة: نحبّ بعضنا بعضاً. فالوصيّة الجديدة التي أعطاها الربّ نقرأها هنا قبل أن تدوّن في الأناجيل. فساعة منح يسوع لجميع البشر الغفران العظيم، في فصحه الذي سيفي بجميع الديون، ترك لأخصّائه قاعدة الحياة الجديدة: «أجل، كما أحببتكم، أحبّوا أنتم أيضاً بعضكم بعضاً» (يو 13: 34- 35). وقال في يو 15: 12: «هذه هي وصيّتي: أحبّوا بعضكم بعضاً مثلما أنا أحببتكم».
فعلاقة الأخوّة في الجماعة المسيحيّة تكمن في الحبّ المتبادل بين الأعضاء، بحيث يُحبّ كلُّ واحد قريبه بالحبّ الشخصيّ الذي أحبّه الله: «ونحن عرفنا المحبّة حين ضحّى المسيح بنفسه لأجلنا، فعلينا أن نضحّي بنفوسنا لأجل إخوتنا» (1 يو 3: 16). غير أن المحبّة المسيحيّة ليست محبّة منعزلة، منغلقة على ذاتها، وهي لا تنحصر في القريب القريب، أي الأخ المسيحيّ. هذا ما نفهمه من بولس: لا دين لنا لأحد سوى المحبّة. إذن، يصل دَين المحبّة إلى كل انسان، لأن كل انسان قد أحبّه الله.
يعرف كل مسيحيّ أنه مدين بحبّ أُمر به، أنه مدين بدين المحبّة الذي لا يمكن أن يُلغى. هو مديون لجميع البشر، إخوته، وهكذا يكون «صديق» الربّ: «فمن أحبّ غيره (الآخر، قريبه) أتمّ الشريعة». وهو حبّ فاعل، يتجاوز مستوى العاطفة والكلام. وممارسته تقود إلى كمال الشريعة. هنا نعود إلى 1يو 3: 18: «لا تكن محبّتنا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحقّ».
بدأ بولس فتكلّم كما يتكلّم المؤمن اليهوديّ. عرف أن حبّ الله لشعبه صار أمراً ملموساً في عطيّة الشريعة. تلك هي ميزة أساسيّة في شعب اسرائيل (9: 4)، وهي بداية حوار الحبّ الذي أراد الله أن يقيمه مع شعب لم يتعلّم بعدُ كيف يعيش الحريّة. فالذي يحبّ حقاً، تكفيه التعليمة التي قالها القديس أوغسطينس: «أحبب وافعل ما تشاء». مثلُ هذا الانسان هو حرّ حقاً. ولكن الله لا يقدر أن يستند حالاً إلى طوعيّة وجدان شعبٍ ما زال مراهقاً على المستوى الروحيّ: فرأى أن على الشريعة أن تربّي المحبّة والحرية، فتعرضُ على المؤمن سلسلة من الفرائض التي يمارسها تجاه الله وتجاه القريب (رج خر 22: 20- 26؛ 23: 1- 9).
في أيام يسوع، كان جدال طويل يتساءلون فيه عن «أعظم وصيّة». ولكن يسوع وضع حداً لهذا الجدال حين أعلن أن «كل الشريعة والأنبياء ترتبط» بمحبّة الله ومحبّة القريب (مت 22: 34- 40). وفي خطبة الجبل (مت 5- 7) اكتفى يسوع بأن يقدم القاعدة الذهبيّة: «كل ما تريدون أن يفعله الناس لكم، إفعلوه أنتم لهم، هذا هو كلام الشريعة والأنبياء» (مت 7: 12). تلك هي سلطة الذي جاء يكمّل الشريعة (مت 5: 17)، فيعيد كلَّ مضمونها إلى حبّ فاعل للاخوة.
واستعاد يوحنا هذه الفكرة، فرأى في المحبّة الأخويّة الامتداد الطبيعيّ لحبّ الله لنا، والمعيار الحاسم الذي يدلّ على حبّنا له. «فلنحبّ بعضنا بعضاً، أيها الأحبّاء، لأن المحبّة من الله. من لا يحبّ لا يعرف الله لأن الله محبّة» (1 يو 4: 7- 8). وتتابع الرسالة في آ 20- 21: «إذا قال أحد: ''أنا أحب الله'' وهو يكره أخاه، كان كاذباً. لأن الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه، لا يقدر أن يحبّ الله وهو لا يراه. وصيّة المسيح لنا هي: من أحبّ الله أحبّ أخاه أيضاً».
وفكرُ بولس لا يفترق عن فكر يوحنا. فالمحبّة التي هي أسمى من الإيمان والرجاء، تبدو له كروح كل قاعدة حياة. قال في غل 5: 14: «فالشريعة كلها تكتمل في وصيّة واحدة: أحبب قريبك مثلما تحبّ نفسك» (رج 1 كور 13: 13). فبدون هذه المحبّة، لا نستفيد من ممارسة الأعمال الصالحة (1 كور 13: 3). هذا يعني أن جميع الوصايا تلتقي في المحبّة. والوحدة التي يسعى المسيحيّون إلى تحقيقها في المسيح، هي العلامة المنظورة لمحبّة تكمن في الله (أف 4: 12- 13؛ فل 2: 1- 9؛ كو 3: 12- 15). وهكذا تتركّز الشريعة في وصيّة جديدة أعطاها المسيح: المحبّة الأخويّة هي شريعة المسيح (غل 6: 2).
وهكذا انطلق بولس من تذكير بمتطلّبة ماديّة من متطلّبات العدالة، فوصل بطريقته إلى قلب الخلقيّة المسيحيّة. هي خلقيّة ديناميكيّة، لأن ما من أحد، خارجاً عن المسيح، أتمّ الشريعة كلّها. إذن، يبقى المسيحيّ مديناً دين الحبّ تجاه القريب، فيُطلب منه دوماً أن يتجاوز نفسه لكي يتماهى مع ينبوع حبّه: عليه أن «يرتدي الربّ يسوع» (13: 14).
2- ملخّص الوصايا كلها (13: 9)
هنا (آ 9) يبيّن بولس أن كل فرائض الشريعة تتضمّن في النهاية محبّة القريب. إذا كانت هذه الفضيلة المميّزة، فضيلة المحبّة، تُلهم جميع الوصايا، فكل وصيّة من الوصايا تتسلّم بدورها قوامها ونموذجها من المحبّة. هذا ما يؤكّده بولس حين يوجز في قاعدة رئيسيّة قرأها في لا 19: 18 (أحبب قريبك كنفسك)، لائحة بأربع وصايا نقرأها في الوصايا العشر. اتخذ أربعة امثلة وطلب منّا أن نتابع اللائحة، فقال: «وسواها من الوصايا».
فالوصايا التي تشكّل هنا أمثلة، تنتمي إلى أعمق ما في الشريعة اليهويّة. فطابعها مقدّس، وهي تعبّر عن إرادة الله ومشيئته الشخصيّة. والعبارة القاطعة، تدلّ على أن هذه الوصايا تستند إلى سلطة الله ذاته، وتتوجّه توجّهاً مباشراً إلى شعب الله. فحيث لا وصيّة أولى تقول: أنا هو الربّ إلهك، تضيع سائرُ الوصايا التي تستند حينذاك إلى عادات البشر وشرائعهم.
لهذا، كان للبرهان الكتابيّ وزنه: ما أراد بولس أن يورد فريضة من فرائض الشريعة لا طابع لها، بل فريضة تعبّر أفضل تعبير عن حبّ الله وشعبه وعن متطلّبات القداسة التي يطلبها. أما تقديم هذه الوصايا في صيغة النفي (لا تزنِ...)، فهو لا يخفّف من قيمتها كتعبير عن مشيئة الله. فهذه الفرائض تنطبق على البشرية كلها، لا على فئة من الفئات. كما تشدّد على الدين المستمرّ تجاه القريب: إن لم يكن بالإمكان أن نُحسن إليه، فيجب أقلّه أن نتجنب الاساءة له. هذا ما يقوله بولس في خاتمة هذا المقطع: «المحبّة لا تسيء إلى القريب» (آ 10).
نلاحظ، في الانجيل، كيف أن «القاعدة الذهبيّة»، قاعدة المحبّة، تقوم في أن نريد بشكل إيجابيّ، الخير للقريب: هكذا نترجم بشكل ملموس، على مستوى الحياة اليوميّة، التتمّة التي جاء بها المسيح (مت 7: 12). ولا نكتفي بأن نطلب خير القريب، بل يجب أن يصبح كلّ انسان «قريبي» (لو 25: 37). فإذا كان بولس لا يستبعد أحداً من المحبّة، فهو مع ذلك يحتفظ بنظرة نفي قريبة من النظرة اليهوديّة التقليديّة، كما يعبّر عنها هذا القول المنسوب إلى رابي هلال: «ما لا يسرّك، لا تفعله للقريب. هذا الكلام يوجز الشريعة كلها، والباقي شرح».
تلك هي فكرة بولس الذي يصوّر الشريعة في مديحه لها في 1 كور 13: 4- 6، بسلسلة من عبارات النفي (لا تسيء، لا تطلب منفعتها). فالقطعة الأولى من هذا المديح تلقي الضوء أيضاً على المقطع الذي نتأمّل فيه. إن نلتُ المواهب الكثيرة، وقمتُ بعدد من أعمال التضحية «فإن لم يكن عندي محبّة، فهذا لا ينفعني في شيء» (1 كور 13: 3)! إذن، المحبّة هي الفريضة الجوهريّة، وبدونها لا قيمة لشيء، ولا لعمل على المستوى الخلقيّ.
عندئذ نفهم الملء الذي تحمله فريضة الحبّ المتبادل إلى الحياة الخلقيّة: فبين أقوال الربّ العديدة، هذا القول يوجزها كلّها. المحبّة هي حقاً الوصيّة «الجديدة»، وهي التي تعطي سائر الفضائل وجهها الحقيقيّ.
3- روحانيّة الحبّ المتبادل (13: 10)
إن القسم الأول من آ 10 يوجز ما سبق وقلناه: «فمن أحبّ قريبه لا يسيء إلى أحد». فحين نحب القريب كما نحبّ أنفسنا، يفرض علينا هذا الحبّ أولاً أن نراعي حقوقه، أن لا نسيء إليه في شيء. أترى بولس ندّد، بشكل ضمنيّ، بأنانيّة مسيطرة، ونادى بمحبّة تُؤثر خير الآخر على خيري الخاص؟ ربّما. ولكن عبر هذا الاهتمام الممكن، نرى بولس يتطلّع إلى وجه شخص أحبّه ورأى فيه حياته، هو وجه المسيح نفسه الذي علّمنا «الصبر» في الحبّ، فما رفض الصليب الذي به يخلّصنا.
حين يطلب الله الحبّ، فمواقف الامتناع عن الشرّ يمكن هي أيضاً أن تصدر عن إرادة خير، تعطيها طابعاً إيجابياً، لأنها تحرّك فينا الحبّ الذي به أحبّنا يسوع. لهذا استطاع بولس بحقّ أن يختم كلامه: «المحبّة تمام الشريعة». فالذي يحبّ قريبه يمارس الحبّ الذي به أحبّنا المسيح، الذي قاد الشريعة إلى غايتها حين مات من أجل خلاصنا (10: 4؛ 1 يو 3: 16). واختتام الكلام بأن الشريعة تمام الناموس بشكل ديناميكي، يقود بولس إلى أن يحضّ المسيحيّ، بشكل ضمنيّ، أن «يحيا في المسيح». ففيه وحده تكمن وفرة المحبّة التي تتيح للمسيحيّ أن يدفع لاخوته دَين الحبّ الذي هو مدين به لهم (غل 2: 20؛ أف 5: 1- 2).
وبما أن المسيحيّ يحمل في ذاته المسيح كشريعة (1 كور 9: 21)، يتجاوز تصرّفُه تجاوزاً كبيراً ممارسة وصايا الله، كما في الشريعة القديمة. تُنعشه ديناميّة حبّ المسيح الشخصيّ الذي أفيض في قلبه بواسطة الروح، فيندفع بكل قواه في طريق القداسة (روم 5: 5). وحين يحبّ إخوته، فهو لا يتوافق فقط مع فريضة خارجيّة، بل يقتدي بشخص هو يسوع المسيح. فمحبّة المسيح تجاه البشر تلهم مسيرته الخاصة من الداخل، فتجعله يُثمر ثمار الروح التي لا تقف في وجهها شريعة (غل 5: 23).
خاتمة
وهكذا يتحوّل دَين الحبّ للقريب إلى حياة في سرّ المسيح. هذا الدَين هو فينا «محبّة المسيح التي تأسرنا» (2 كور 5: 14)، وتدفعنا نحو إخوتنا البشر. هذا لا يعني أننا نحاول التخلّص من متطلّبات الشريعة. بل إن المحبّة الأخويّة تدفعنا إلى تتميم جميع واجباتنا تجاه البشر. وهي تشكّل، في نظرنا، الواجبَ الأول والدَين الذي لا نستطيع أن نفيه كله، مهما طالت حياتُنا