رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تعليم يسوع عن الغنى
الأحد الثامن والعشرون للسنة: تعليم يسوع عن الغنى (مرقس 10: 17-30) النص الإنجيلي (مرقس 10: 17-30) 17 وبَينَما هو خارِجٌ إِلى الطَّريق، أَسرَعَ إِليه رَجُلٌ فجَثا له وسأَلَه: ((أَيُّها المُعَلِّمُ الصَّالح، ماذا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة ؟)) 18 فقالَ له يسوع: ((لِمَ تَدْعوني صالِحاً ؟ لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه. 19 أَنتَ تَعرِفُ الوَصايا: ((لا تَقتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بِالزُّور، لا تَظْلِمْ، أَكْرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ)). 20 فقالَ له: ((يا مُعلِّم هذا كُلُّه حَفِظْتُه مُنذُ صِباي)). 21 فحَدَّقَ إِليهِ يسوع فأَحبَّه فقالَ له: ((واحِدَةٌ تَنقُصُكَ: اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فَاتَبعْني)). 22 فاغتَمَّ لِهذا الكَلامِ وانصَرَفَ حَزيناً، لأَنَّه كانَ ذا مالٍ كثير. 23 فأَجالَ يسوعُ طَرْفَه وقالَ لِتَلاميذِه: ((ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ عَلى ذَوي المال)). 24 فدَهِشَ تَلاميذُه لِكَلامِه فأَعادَ يسوعُ لَهمُ الكَلامَ قال: ((يا بَنِيَّ، ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله ! 25 لأَن يَمُرَّ الجَمَلُ مِن ثَقْبِ الإِبرَة أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيُّ مَلكوتَ الله)). 26 فاشتَدَّ دَهَشُهُم وقالَ بَعضُهم لِبَعض: ((فَمَن يَقدِرُ أَن يَخلُص؟)) 27 فحَدَّقَ إِلَيهِم يسوعُ وقال: ((هذا شَيءٌ يُعجِزُ النَّاسَ وَلا يُعجِزُ الله، فإِنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير)). 28 وأَخَذَ بُطرُسُ يقولُ له: ((ها قد تَركْنا نَحنُ كُلَّ شَيءٍ وتَبِعناكَ)). 29 فقالَ يسوع: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أُمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة 30 إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة. مقدمة يصف المقطع من إنجيل مرقس (مرقس 10: 17-30) يسوع الذي يذكّر الرجل الغني بالوصايا العشر (مرقس 10/7-21) مضيفا إليها المشورات الإنجيلية كخاتم الكمال للحصول على الحياة الأبدية. فيعالج يسوع موضوع الغنى (مرقس 10: 17-27) ثم زُهد التلاميذ (مرقس 10: 28-31) كوسيلة لدخول "الحياة الأبدية" مبينا أن الشرط الأساسي لدخول ملكوت الله هو عدم الاعتماد على أي شيء أو على أي أحد سوى الله وحده. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 10: 17-30) 17 وبَينَما هو خارِجٌ إلى الطَّريق، أَسرَعَ إِليه رَجُلٌ فجَثا له وسأَلَه: ((أَيُّها المُعَلِّمُ الصَّالح، ماذا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟ تشير عبارة "خارِجٌ إلى الطَّريق" إلى يسوع الذي كان في طريقه إلى أورشليم سائراً في طريق الحكم عليه بالموت. ومن أجل أن يكون الفرد من بين تلاميذه، ينبغي أن يتبعه على طريق الآلام حيث لا قيامة دون جلجلة ولا إكليل بدون صليب. من يريد أن يكون تلميذ المسيح يتوجب عليه أن يقبل الصليب. أمَّا عبارة " رَجُلٌ " فتشير إلى إنسان بدون اسم، إذ لم يُحدَّد مرقس الإنجيلي هويته، سوى انه رجل ثريّ (مرقس 10: 22) ومحبوب من يسوع (مرقس 10: 21)؛ ويلقِّبه لوقا الإنجيلي "وجيهاً" أو رئيسمجمع لليهود (لوقا 18: 18)؛ وأمَّا متى فيصفه "شابا" (متى19: 20). إنه شاب وجيه غنيٌ يبحث عن طرق الله؛ يريد أن يتاجر كي يربح الحياة الأبدية. وهو إنسان حافظ للناموس ولكنه للأسف محب للمال بكثره أكثر من محبة الله. لدى هذا الرجل كلّ شيء، مال وأخلاق وحماس روحيّ. ماذا يريد أكثر. أمَّا عبارة "أَسرَعَ إِليه فجَثا" فتشير إلى الرغبة الأكيدة والاهتمام والاحترام تجاه السيد المسيح. أمَّا عبارة "أَيُّها المُعَلِّمُ الصَّالح" فتشير إلى طريقة الخطاب لأحد الرابيين غير مألوفة بين اليهود. ولذلك فإنها تُعبِّر عن احترام فوق العادة للمسيح. ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " كَانَ في الجَمْعِ تَهَامُسٌ كَثِيرٌ في شَأْنِه يسوعِ" هذا التهامس كان نتيجة الآراء المختلفة: فَبَعضُهم يقولُ: "إنّه رجلٌ صالحٌ"، وبَعضُهم الآخرُ يقولُ: "كلاّ، بل يُضلِّلُ الشعب. إنّ الشعب هو الذي كان يدعوه رجلاً صالحًا، فيما كان الرأي السلبيّ هو للزعماء المسؤولين عن الشعب وللكهنة، والدليل على ذلك كان أسلوبهم في التعبير حيث لم يقولوا "هو يضلِّلُنا"، بل "هو يضلِّل الشعب. أكانوا يعتَبِرونَه رجلاً صالحًا أو مُضلِّلاً للشعب، فقد كانوا يميلون تلقائيًّا إلى إظهار اهتمام أكبر بتَعليمِه: البعض لتَأمُّلِه وللاستفادة منه، والبعض الآخر لمُفاجَأتِه وللنيلِ من شخصِه "(العظة 49). أمَّا عبارة "ماذا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟" فتشير إلى سؤال الرجل الذي يبحث عن طرق الله المؤدِّية إلى الحياة الأبدية.وهو نفس السؤال الذي طرحه "أَحَدُ عُلماءِ الشَّريعَةِ قَد قامَ فقالَ لِيُحرِجَه: يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟ " (لوقا 10: 25). ظنَّ كلا الرجلين أن الحياة الأبدية يمكن أن تُربح بفعل أعمالهما واستحقاقهما. نحن أسوة بهذا الرجل في الإنجيل، نعيش حالات عدم استقرار، وقلق وألم تحملنا إلى التوق لحياة لا يطبعها الفتور وإلى السؤال: ماذا يجب أن أفعل؟ ما هو مشروع حياتي؟ "ماذا يجب أن أفعل لكي يكون لحياتي قيمة كاملة ومعنى كامل؟ أمَّا عبارة "الحَياةَ الأَبَدِيَّة " فتشير إلى معرفة الرجل هدف حياته، وهي الحياة الأبدية. ويعلق بندكتس السادس عشر " يبين لنا يسوع الحياة الأبدية عندما يتوجه إلى تلاميذه قائلاً: " سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 22). إنها كلمات تشير إلى اقتراح فرح كامل ولامتناه، فرح أن نكون ممتلئين بالحب الإلهي إلى الأبد" (رسالة البابا بمناسبة يوم الشبيبة العالمي 25). والحياة الأبدية تدل على معنى مستقبلي للحياة التي يرثها الإنسان في الدهر الآتي (مرقس 10: 30)؛ والمقصود هنا الخلاص من العذاب الأبدي (مرقس 10: 26-27)؛ أو الدخول إلى ملكوت السماوات (مرقس 10: 23). وهذه العبارة لا يتكرَّر ذكرها في إنجيل مرقس إلاَّ مرتين: في هذه الآية وفي آية 30 من الفصل العاشر، لكن هذه العبارة كثيرا ما تَرد في إنجيل يوحنا. تدفعتا الحياة الأبدية إلى ترديد كلمات القديس أوغسطينوس: "نتوق إلى الوطن السماوي، نتلهف إلى الوطن السماوي، ونشعر بأننا حجاج في الدنيا" (تعليق على إنجيل القديس يوحنا، العظة 35، 9). نحن مدعوون إلى الأبدية. لقد خلقنا الله لكي نكون معه، إلى الأبد. هذه الدعوة تهب لنا المعنى الكامل لخياراتنا وتعطي قيمة لوجودنا. 18 فقالَ له يسوع: ((لِمَ تَدْعوني صالِحاً؟ لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه تشير عبارة "صالِحاً "في الأصل اليوناني ἀγαθόν (معناها صالح من حيث الطبيعة) إلى صفة الصلاح التي هي من صفات الله ألاب وحده كما ترنم صاحب المزامير "لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (مزمور 14: 3). الله هو المصدر الوحيد لكل صلاح. وحتى صلاح المسيح رهن باتحاده بالآب " لا يَستَطيعُ الابنُ أَن يَفعَلَ شيئاً مِن عندِه بل لا يَفعَلُ إِلاَّ ما يَرى الآبَ يَفعَلُه. فما فَعَلَه الآب يَفعَلُه الابْنُ على مِثالِه " (يوحنا 5: 19). فكان واجب كل يهودي مؤمناً أن يعلم بان لا وجود للصلاح في حد ذاته، فالله وحده يقضي في الصلاح ويكشفه للناس بشريعته. لقد خاطب الرجل يسوع على انه المعلم الصالح، وكان هذا حقاً، ولكن لعلَّه لم يكن يدري تماما ما يقول. أمَّا عبارة " لِمَ " في الأصل اليوناني Τί (معناها لماذا) فتشير إلى أداة استفهام وليس استنكار فهي إشارة استفهاميه للتعليل ولا تحمل معني النفي أو الاستنكار. فالمسيح يقصد من كلامه أن يقول للرجل أنت سجدت لي والسجود لله وأيضا لقبتني بلقب الصالح وهذا أيضا لقب الله، حسنا فعلت ولكن هل بالفعل تعترف بي باني الله الظاهر في الجسد؟ أمَّا عبارة "لِمَ تَدْعوني صالِحاً؟" فتشير إلى رفض يسوع أن يقبل ذاك اللقب من الرجل بناء على اعتقاد ذلك الرجل أن يسوع ليس سوى إنسان لكنه أفضل من سائر الناس حكمة وطهارة. ويُعلق القدّيس يوحنا فم الذهب "أنّ ما قصده يسوع هو "لا أحد من البشر صالح" كجواب مباشر على الرجل الذي لا يرى في يسوع إلاّ الطبيعة البشرية. وبهذا المعنى، يكتب الأب كالميه البندكتاني": "يسوع ينسب الجودة والطيبة والبِرّ إلى الطبيعة الإلهيّة" (التي لا يراها الرجل). فيسوع صالح وهو والآب واحد. فعاتب يسوع الرجل الذي لم يُدرك بعد أن يسوع هو المسيح ابن الله. إذ إنه غير مؤمن بان يسوع هو الله بل أنه مجرد معلم. فكأنّ يسوع يقول له: أتعي هذا المعنى للكلمة، وتقصده، وتؤمن هكذا؟ فإن كان هذا حالك، فأنت في الحقّ؛ وإلاّ، فعليك أن تعي ذلك، إمّا لتؤمن به، وإمّا لتعدل عن وصفي به! فيسوع هنا لا يُنكر انه صالح، بل سمَّى نفسه الراعي الصالح (يوحنا 10: 12)،أي انه بلا خطيئة واكد ذلك بطرس الرسول "إنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ أَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ" (1 بطرس 2: 3) لكنه هنا يريد يسوع أن يلفت انتباه الرجل أنَّ رجاءه مرتبط بالله الذي يعطي وحده الحياة الأبدية. لا ننسى أن يسوع هو الله. ويعلق القديس أمبروسيوس "أجابه الرب: لماذا تدعوني صالحًا، وأنت تنكر إني أنا الله؟ لماذا تدعونني صالحًا والله وحده هو الصالح؟ لم ينكر يسوع أنه صالح، بل يشير إلى أنه هو الله... إن كان الآب صالحًا فذاك أيضًا صالح، لأن كل ما للآب فهو له (يوحنا 17: 10). أليس صالحًا من قال "أنا هو الراعي الصالح"؟ (يوحنا 10: 11). إذا كان يسوع صالحا فهو الله. وان كان هو ليس الله فهو ليس صالحا. ونحن نعلم أن يسوع صالح، لأنه هو والآب واحد (يوحنا 10: 30). أمَّا عبارة "لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه" فتشير إلى الله الذي هو الخير والصلاح ومرجع يسوع الثابت والدائم. يعلمنا يسوع هنا أن نحوِّل لله كل ما يعطى لنا من مدح أو كرامة، لأنَّ كل صلاح مستمد من الله، هو ينبوع الصلاح، هو المثل الأعلى في الصلاح وهو المقياس لكل صلاح. إن المسيح لم ينكر لاهوته في هذه الآية بل العكس هو المسيح أعلن لاهوته بطريقه غير مباشره ويريد أن الرجل يسجد له ويقول له صالح عن وعي وإدراك أن المسيح هو الله الظاهر في الجسد. 19 "أَنتَ تَعرِفُ الوَصايا: ((لا تَقتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بِالزُّور، لا تَظْلِمْ، أَكْرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ)) تشير عبارة "الوَصايا" إلى الوصايا العشر أو الكلمات العشر التي حُفظت في سفرين: سفر الخروج (20: 12-16) وسفر تثنية الاشتراع (5: 16-20) علما أنَّ هناك 613 وصية في المشنا اليهودية. وتتناول الوصايا العشر جميع ميادين الحياة الدينية والأخلاقية؛ وهي قلب الشريعة الموسوية ولها قيمتها في شريعة العهد الجديد. أمَّا عبارة "لا تَقتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بِالزُّور، لا تَظْلِمْ، أَكْرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ" فتشير ستة من الوصاياالمرتبطة بعلاقات الإنسان مع قريبه. ولا يذكر يسوع الوصايا الثلاث الأولى من الوصايا العشر، تلك التي تتعلق بواجباتنا نحو الله. يسوع لا ينسى الله تعالى ابدأ، لانَّ الله يُحَب ويُطاع عندما نحب إخوتنا كما قال يوحنا الرسول " لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20). ويوضح ذلك بولس الرسول بقوله "((لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ)) وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ". فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13: 9). وهذه المحبّة "أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5). وإنه لمِن الواضح أن ذلك هو ببالغِ الأهمية بالنسبة إلى البشر الذين يزدادُ ارتباطهم بعضهم ببعض في عالمٍ لا ينفك يتوحَّد. أما عبارة " لا تَقتُلْ" فلا تشير مجرد سفك الدم، بل إلى من يقتل بلسانه كقول الكتاب: "لسانهم سيف قتّال" (ارميا 9: 8). وهناك قتل بالنيَّة: "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس"(1 يوحنا 3: 15). وهناك قتل بالمسئولية كمن يترك إنسان ثوره النطَّاح ينطح آخر فيقتله (خروج 21: 28-29). أمّا عبارة " لا تَزْنِ" فتشير إلى عدم نشكيك الغلمان وعدم ارتكاب الفحشاء (خروج 20: 13–14، متى 19: 18) وهي أساءة إلى أجسادنا التي هي أعضاء المسيح (1 قورنتس 6: 15)، والتي هي هيكل الروح القدس (1 قورنتس 6: 19). وليست خطيئة بشعة يكرهها الله مثل الزنى، حتى دُعيت في الكتاب "نجاسة" (2 بطرس 2: 10)، بها تتنجس النساء (خروج 18: 11)، وينجس الرجل جسده (2 بطرس 2: 10). وتتنجس ثيابه (رؤيا 3: 4)، ومن فرط بشاعتها دُعيت عبادة الأوثان زنًا (إرميا 3: 6-9)، وبسببها عاقب الرب الأرض بالطوفان (تكوين 6: 1-2)، وحرق سدوم وعمورة (تكوين 19: 24-25)، وكاد يفنى سبط بنيامين كله (قضاة 20). أمَّا عبارة " لا تَسرِقْ " فتشير إلى اقتباس من سفر الأحبار " لا تَظلِمْ قَريبَكَ ولا تَسلِبْه، ولا تُبِتْ أُجرَةَ الأَجيرِ عِندَكَ إِلى الغَد " (الأحبار 19: 13)؛ وهي اختصار الوصية التاسعة والعاشرة من الوصايا العشر لان اشتهاء مال الغير يقود لبذل الجهد في نواله بواسطة الكذب والغش. أمَّا عبارة "لا تَشهَدْ بِالزُّور"، فتشير إلى تغيير الحقيقة عمداً تغييراً من شأنه تضليل العدالة لصالح أحد الخصوم أو ضده (متى 19: 18). ويُعلق كتاب الديداكيه عليه بقوله " لا تكنْ صاحب نميمة. لا تسلكْ طريقين متعارضين في وقت واحد، طريقًا في التفكير وطريقًا في الكلام: إنّ النفاق شراك الموت (أمثال 2: 6) لا يكنْ كلامك كذبًا أو باطلاً، بل ليكن كلامًا جادًّا مستقيمًا " (الفقرات 1 إلى 6). أمَّا عبارة " لا تَظْلِمْ" في الأصل اليوناني Μὴ ἀποστερήσῃς (معناها لا تخدع) فتشير إلى عدم السلب وهي وصية لم تُذكر بين الوصايا العشر في سفر الخروج (خروج 20: 12-16) ولا نجدها في إنجيل متى وإنجيل لوقا، إنما هي اقتباس من سفر الأحبار "لا تَظلِمْ قَريبَكَ ولا تَسلِبْه، ولا تُبِتْ أُجرَةَ الأَجيرِ عِندَكَ إلى الغَد " (الأحبار 19: 13). وهي مختصر الوصية التاسعة والعاشرة، لان اشتهاء مال الغير يقود لبذل الجهد في نواله بواسطة الكذب والغش. والواقع أن الوصية العاشرة تتكلم عن لا تشته بيت قريبك ولا امرأته ولا عبده. والأغنياء والحكام والرؤساء ومنهم هذا الرجل معرضون بحكم قوتهم ومركزهم أنهم إذا اشتهوا ما لقريبهم أو لجارهم فأخذوه منه عنوة أي سلبوه، كما حدث مع الملك أخاب ونابوت اليزرعيلي (1 ملوك 21: 1-19)، وهم أيضًا ينْهبون أجر العَمَلة وفي هذا الصدد يقول يعقوب الرسول "ها إِنَّ الأُجْرةَ الَّتي حَرَمتُموها العَمَلَةَ الَّذينَ حَصَدوا حُقولَكم قدِ ارتَفَعَ صِياحُها، وإِنَّ صُراخَ الحَصَّادينَ قد بَلَغَ أُذُنَي رَبِّ القُوَّات" (يعقوب 5: 4). أمَّا عبارة " أَكْرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ " فتشير إلى نص الوصية: "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ"(خروج 20: 12). وهي الوصية الوحيدة المقترنة بمكافأة أو وعد كما يصرح بولس الرسول " أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّك"، تِلكَ أُولى وَصِيَّةٍ يَرتَبِطُ بِها وَعْدٌ (أفسس 6: 2). ويعلق لقديس ايرونيموس "لا تفسر التكريم في كلمات مجردة. بل مدهم باحتياجاتهم الضرورية للحياة. لقد أمر الرب بإعالة الوالدين المحتاجين بواسطة أولادهم، وفاءً لأعمالهم الحسنة التي قدمت للأولاد في طفولتهم". وكانت الشريعة صارمة على من يكسر هذه الوصية: "من ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلًا... ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلًا" (خروج 21: 15-17). ومن يعاند ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه يرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت (تثنية الاشتراع 21: 18-21). ومن يستخف بأبيه أو أمه يصير تحت اللعنة (تثنية الاشتراع 27: 16). ولذلك يمكن تفسير عبارة "لكي تعيش طويلاً" على أنها "حتى لا تُقتل". في التلمود تُقارن الوصية إكرام الوالدين بإكرام الرب (المشنا 6: 1). 20 فقالَ له: يا مُعلِّم هذا كُلُّه حَفِظْتُه مُنذُ صِباي تشير عبارة "حفظ الوصايا" إلى العمل بموجبها؛ بمعنى انه كان أمينا للوصايا على الصعيد الخارجي للشريعة كما عمل بولس الرسول بالشريعة قبل اهتدائه (غلاطية 6: 3)، ولكن هناك أيضا الطاعة الداخلية والاستعداد للتجاوب مع ما يدعونا الله إليه، وهذا ما ينقص هذا الرجل. حفظ الوصايا هو التعبير عن صدق الإيمان الذي هو موهبة من الله كما جاء في تصريح بولس الرسول "فبِالنِّعمَةِ نِلتُمُ الخَلاصَ بِفَضلِ الإِيمان. فلَيسَ ذلِك مِنكُم، بل هو هِبَةٌ مِنَ الله" (أفسس 2: 8). ويوضِّح الإنجيل انه ما من إنسان يقدر أن يحفظ الوصايا بدون نعمة الله وعونه كما صرَّح يسوع المسيح "لأَنَّكُم بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنا 15 :5). أمَّا عبارة "هذا كُلُّه حَفِظْتُه" فتشير إلى حفظ الشريعة قد يكون خارجيًّا، كوضع بولس قبل اهتدائه (فليب ي3: 6)؛ ولكن، هناك أيضًا الطاعة الداخليّة للشّريعة، والاستعداد للتجاوب مع ما يدعونا الله إليه؛ وقد يكون هذا ما ينقص الرجل الغنيّ. إنه رجلٌ مستقيمٌ ونزيهٌ وصاحب ضمير حي يراعي الشريعة حسب الأصول. ولكن لا يكفي مراعاة الشريعة كي يصبح الإنسان تلميذا حقيقيا ليسوع، ينقصه التخلي والزهد في الذات وترك كل شيء في سبيله. أما عبارة "مُنذُ صِباي" فتشير إلى عمر 12 سنة حين صار الإنسان مسؤولا عن الوصايا وحفظها. 21 "فحَدَّقَ إِليهِ يسوع فأَحبَّه فقالَ له: واحِدَةٌ تَنقُصُكَ: اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فَاتَبعْني تشير عبارة "فحَدَّقَ" إلى نظرة حب يسوع حيث يمكن للإنسان أن يرجع إليها، فتُغيّر مجرى حياته. ويُعلق بندكتس السادس عشر " في نظرة الرب نجد قلب هذا اللقاء المميز جدًا وقلب كل خبرة مسيحية. بالواقع، إن المسيحية ليست في المقام الأول شرعة أخلاقية، بل هي اختبار يسوع المسيح، الذي يحبنا شخصيًا، شبابًا ومسنين، فقراء وأغنياء؛ يحبنا حتى عندما ندير له ظهورنا" (رسالة البابا بمناسبة يوم الشبيبة العالمي 25). لنحاول أن نختبر نظرة كهذه! أن نختبر حقيقةً كيف أن يسوع ينظر إلينا بحبٍ. أمَّا عبارة “أَحبَّه" فتشير إلى حب يسوع لهذا الرجل على ما هو عليه كما يحب كل إنسان. تميّز الحدث الإنجيلي هنا لأنه هذه المرة الوحيدة في الإنجيل التي بها نقرأ أن يسوع يحدّق ويُحب. ولا نجد في إنجيل مرقس أي لقاء آخر تستخدم فيه عبارة قوية كهذه تتكلم عن نظرة يسوع ومحبته. وأراد بهذه المحبة أنَّ يرسله في مهمة جديدة. ويُعلق العلامة أوريجانوس" لقد أحبه مُظهرًا تثبيت الحق في عمله بقول الرجل أنه حفظها كلها... إذ رآه قد أجاب بضمير صالح". أحبَّ فيه ما استحق أن يُحب بهدف دفعه لما هو أعظم. لقد أحبه وقدَّم له الوصية التي تبلغ به إلى الكمال". امر واحديبقى على هذا الرجل، وهو أنَّ يتجاوب مع هذا الحب ويتجرد عن كل شيء يكون له كَنزٌ في السَّماء. ويعلق البابا يوحنا بولس الثاني: "إن إدراكنا أن المسيح يحب كل منا شخصيًا ودائمًا، يضحي ركيزة ثابتة لكل وجودنا البشري" (رسالة إلى الشباب، 7). أمَّا عبارة "واحِدَةٌ تَنقُصُكَ" في الأصلاليوناني Εν σε ὑστερεῖ (معناها واحدة تعوزك)فتشير إلى جواب يسوع للرجل على سؤاله "هذا كُلُّه قد حَفِظْتُه، فماذا يَنقُصُني؟" (متى 19: 20). وما ينقصه هو المحبة، أن يحب الله أكثر من المال، وان تكون طاعته لله ليست خارجية طقسية بل داخلية حقيقية. إن هذا النقص بالتحديد هو ما يجعله غير راضٍ وفي حالة اضطراب، ويبحث عن الحياة. وظهر الرجل على حقيقته من خلال امتحان يسوع له انه معبوده المال لا الله. وهذا الأمر جعله غير راضٍ، وفي حالة اضطراب، ويبحث عن الحياة. وبما أنَّ الرجل طلب الكمال (متى 5: 48)، جاء طلب يسوع في خط الوصايا التي عمل بها الرجل وحفظها حيث يُتمِّم المؤمن الشريعة، ويُكملها حين يتبع يسوع بالأعمال الصالحة المؤسَّسة على محبة الله والقريب. لهذا يتوجب على المرء أن يتعلم كيف يحُب، وكيف يبني علاقته بالآخرين على أساس من الحب والعطاء لكي يعيش الإنسان الحياة الأبدية ويصل إليها. هل تنقصك هذه الأمور؟ أمَّا عبارة " اِذْهَبْ فَبعْ وأَعطِهِ لِلفُقَراء" فتشير إلى دعوة يسوع إلى هذا الرجل كي يتخذ خطوة أكيدة لخلاصه كما دعا سابقا رسله: بطرس اندراوس ويعقوب ويوحنا (مرقس 1: 18-19). قدَّم يسوع له تحديات الحياة. من أراد أن يتبع يسوع، عليه أولا أن يترك كل شيء، ثم يعطي أو يوزّع ماله على الآخرين، وعندئذ يتبع يسوع. دعاه يسوع أن يتخلّ عن كنزه في الدنيا مقابل كنزٍ بديل يعطى له في السماء. إنَّها مغامرة هائلة ومجازفة. لا يكتفي يسوع لبعض الناس بحفظهم الوصايا العشر بل يطلب منهم أكثر، أي طريق الكمال عن طريق المشورات "الإنجيليّة" أي الفقر الاختياري والعفّة الكاملة والطاعة الطوعيّة. هذا الكلام موجّه لنا أيضاً: "من أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24). أمَّا عبارة " اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك " فتشير إلى فقدان الإنسان الاهتمام بما يملك وعدم الاعتماد عليه أو وضع فيه ثقته. لا يريد يسوع تجزئة في كيان الرجل، هو الكامل في كيانه. إذا أبقي لنفسه جزءاً من نفسه، فهو لنفسه، وليس للرب. هل ترغب إذاً بامتلاك كل شيء؟ أعطه ما أنت، فيعطيك ما هو. لن يكون لك شيء منك؛ لكن سيكون لك كلّه مع كلّك أيضاً. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول لتلميذه طيموتاوس "وَصِّ أَغنِياءَ هذِه الدُّنْيا بِألاَّ يَتعَجرَفوا ولا يَجعَلوا رَجاءَهم في الغِنى الزَّائِل، بل في اللهِ الَّذي يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه، وأَن يَصنَعوا الخَيرَ فيَغتَنُوا بِالأَعمالِ الصَّالِحة، ويُعطوا بِسَخاء ويُشرِكوا غَيرَهُم في خَيراتِهم لِيَكنِزوا لأَنفُسِهِم لِلمُستَقبَلِ ذُخرًا ثابِتا لِيَنالوا الحَياةَ الحَقيقِيَّة. ويُعلق القدّيس باسيليوس، أسقف قيصريّة قبّدوقية على من يعترضون على كلام المسيح "كيف سنعيش عندما نتجرّد من كلّ شيء؟ أي حياة سنعيش عندما نبيع كلّ شيء ولا يعود لنا من ممتلكات؟ لا تسألوني ما هو المخطّط العميق وراء وصايا الله لأنّ من وضع شرائعنا يتقن أيضًا فنّ الجمع بين المستحيل والشريعة"(العظة رقم 7، عن الغِنى). أمَّا عبارة "أَعطِهِ لِلفُقَراء فتشير إلى دعوة يسوع إلى هذا الرجل لاتخاذ الفقر كمحك أكيد لخلاصه. حيث أنه لا معنى للفقر دون بلوغه لهدفه المُتمثل في الغنى الحقيقي. المقصود بالفقر ليس مشورة صالحة للحياة الرهبانية فقط، بل هو أمر لنيل الحياة الأبدية. قد يصبح الفقر وسيلة لازمة إن كان امتلاك الأموال عائق في طريق الخلاص. فالرب يطلب منا أن نتخلص من أي شيء يصبح أكثر أهمية لنا من الله. يسوع افهم الرجل أن ملكوت الله ليس موضوع عمل وتجارة بل عطية مجانية نتقبلها من يد الله، إذ طلب منه الكثير لأنّه أراد أن يعطيه كلّ شيء، بقدر محبّته له. ويقول القدّيس أثناسيوس، بطريرك الإسكندريّة "شعر أنطونيوس بأنّ هذه القراءة موجّهة له. فخرج حالاً وأعطى أهل القرية أملاكه العائليّة. وبعد أن باع كلّ ممتلكاته، وزّع على الفقراء كلّ المال الذي حصل عليه "(حياة القدّيس أنطونيوس، أبي الرهبان، ويعلق القدّيس أنطونيوس البادوانيّ" هل ترغب إذاً بامتلاك كل شيء؟ أعطه ما أنت، فيعطيك ما هو. لن يكون لك شيء منك؛ لكن سيكون لك كلّه مع كلّك أيضاً"(عظات لأيّام الآحاد وأعياد القدّيسين). أما عبارة " فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء" فتشير القديسة وكلارا إلى هذا الكنز من خلال سيرتها الذاتية " خاطبت كلارا نفسها وقالت: "اذهبي يا نفسي بسلام لأنّك برفقة مرشد يعرف الطريق جيّدًا. اذهبي، لأنّ مَن خلقك قد برّرك أيضًا؛ لقد حفظك وغمرك بحبّهالعطوف، كما تحبّ الأم ابنها. تباركت يا ربّ، أنت من خلقتني" (سيرة القدّيسة كلارا 25-28). أمَّا عبارة "كَنز" فتشير إلى الخلاص، أو عطية الحياة الأبدية. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “حسنًا قال "يكون لك كنز" ولم يقل "حياة أبدية"، أنه يتحدث في أمر الغنى وترْكه، مظهرًا أنه يتمتع بما هو أعظم مما ترك بقدر ما السماء أعظم من الأرض". ويعلق البابا فرنسيس "يدعونا يسوع إلى التفكير في أن الثراء يمكنه أن يقيِّد القلوب ويلهيها عن الكنز الحقيقي الذي هو في السماوات، وهذا ما يذكِّرنا به القديس بولس "فأَمَّا وقد قُمتُم مع المسيح، فاسعَوا إلى الأُمورِ الَّتي في العُلى حَيثُ المسيحُ قد جَلَسَ عن يَمينِ الله. ارغَبوا في الأُمورِ الَّتي في العُلى، لا في الأُمورِ الَّتي في الأَرض" (قولسي 3: 1-2). أمَّا عبارة "وتَعالَ فَاتَبعْني" فتشير إلى السير في طرق الله، تلك الطرق التي يخطُّها ابن الله، يسوع المسيح ليأتي بجميع البشر إلى الخلاص. ولم يذكر هذه العبارة في هذه الوصايا سوى مرقس الإنجيلي. وهذه الكلمات هي نفسها التي قالها يسوع للتلاميذ الأربعة، بطرس واندراوس وبعقوب ويوحنا (مرقس 1: 17)، وللاوي ابن حلفى (مرقس 2: 14). يعلق بندكتس السادس عشر "يدعو يسوع تلاميذه لهبة الذات الكاملة، دون حساب ودون منفعة، في ثقة مطلقة بالله " (رسالة البابا بمناسبة يوم الشبيبة العالمي 25). ولا يعني إتباع يسوع اعتناق تعليم أدبي وروحي فحسب، وإنما مشاركته في مصيره في الصليب (متى 16: 24) والمجد (عبرانيين 6: 20). في نظر بولس، إتّباع المسيح يعني تطابق الإنسان مع سر موته وقيامته، وهذا التطابق المقدّر لنا في قضاء الله منذ الأزل كما جاء في تعليم بولس الرسول " ذلك بأَنَّه عَرَفَهم بِسابِقِ عِلمِه وسَبَقَ أَن قَضى بِأَن يَكونوا على مِثالِ صُورَةِ ابنِه لِيَكونَ هذا بِكْراً لإِخَوةٍ كَثيرين" (رومة 8: 29). وأمَّا عند يوحنا، فإتّباع المسيح يعني الإيمان به إيماناً كاملاً، مؤسسا على آيات خارجية كما كان اليمان السامريين بيسوع "لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقَد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقاً))."(يوحنا 4: 42)، إيماناً يتغلب على كل تردُّد من جانب الحكمة البشرية "فتَبِعَه جَمعٌ كثير، لِما رَأوا مِنَ الآياتِ الَّتي أَجْراها على المَرْضى" (يوحنا 6: 2)، ويعني إتّباع نور العالم واتخاذه رائداً (يوحنا 8: 12)، ويفيد الانتظام في صف الخراف التي يجمعها الراعي الواحد في قطيع واحد (يوحنا 10: 1-16). فطريق الحياة هو إن نطرح كل ما يعوقنا ونتبع يسوع. فمن الممكن إن يُضحي الإنسان بممتلكاته في سبيل قضية عادلة بدون إن يصبح من أتباع يسوع "لَو فَرَّقتُ جَميعَ أَموالي لإِطعامِ المَساكين، ولَو أَسلَمتُ جَسَدي لِيُحرَق، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما يُجْديني ذلكَ نَفْعًا" (1 قورنتس 13: 3). لا شك في أنَّ يسوع يطلب من المسيحي أن يتخلى عن الغنى. ولكن هذا التخلي هو موقف قبول وشرط أساسي لولادة جديدة، لنتقبل الخلاص الآتي من عند الله وحده. لا يكفي إن نحفظ الوصايا من اجل إن نكون تلاميذ حقيقيين للمسيح، فالمسيح يطالبنا أن نكون كاملين. ومن اجل ذلك مطلوب منا إن نبيع ما لنا ونتصدَّق به على الفقراء ونذّخر به لذواتنا كنزا في السماء. وبكلمة أخرى، مطلوب منا تحويل مدخراتنا من بنك هذه الحياة الأرضية إلى بنك الأرصدة المرصودة لحساب الحياة الأبدية، ومقرّه السماء، حيث لا ينقب سارقٌ ولا يفسد سوس (متى 6: 20) بأرباح عالية جدا. 22 فاغتَمَّ لِهذا الكَلامِ وانصَرَفَ حَزيناً، لأَنَّه كانَ ذا مالٍ كثير تشير عبارة "فاغتَمَّ " إلى علامات وجه الرجل عندما سمع من يسوع جوابا لم يتوقعه ولم يكن مستعدا أن يقبله، لأنه كان متعلقابماله أكثر من تعلقه بيسوع. ومحبته للمال حرمته من الدخول، ففضّل ممتلكات العالم على الحياة الأبدية التي جاء يطلبها. فكانت ثروته هي نقطة ضعفه، إذ لم يكن يريد أن يتخلى عنها، لأنها كانت بمثابة إلهه، وبالتالي لم يكن هذا الرجل كاملا (متى 19: 21) بل ناقصا لان قلبه منقسم ومتعلق بأملاكه التي تصدَّه عن الله. كان سيده المال لا الله. وبالتالي لم يكن على استعداد أن يتخلى عن كل ما يريده الله أن يتخلى عنه. فالخطر الحقيقي لهذا الرجل الغني يتمثل في عدم رؤية يسوع وعدم تقبل حبه لأن قلبه لا يملك حيزا للحب بل متعلق بالخيرات التي منها يأمل الحصول على الحياة. إنه مشغول، وهذا الانشغال هو مرضه، مرض يصعب الشفاء مه كما قال يسوع "ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ عَلى ذَوي المال " (مرقس 10: 23). هذا الرجل الغني لا يتقبل الحب لأن قلبه لا يملك حيزا للحب، ولأنه يفتقر إلى القدرة لعمل مساحة له في داخله. قلبه متعلق بالخيرات التي يأمل الحصول منها على الحياة. إنه يحب ولكنه منشغل بأمر آخر. إن هذا الانشغال هو مرضه، وهو مرض يصعب الشفاء أمَّا عبارة " انصَرَفَ " فتشير إلى الرجل الغني الذي التقى بيسوع ونظرة حبِّه ولكنه لم يبصر ولم يُغيّر مساره ويأخذ منعطفا جديدا تجاه يسوع بل ابتعد عن يسوع وعاد إلى الطريق التي جاء منها. أمَّا عبارة "حَزيناً" فتشير إلى فشله في إنجاز ما طلب المسيح منه في عبادة الله الحقيقية. في حين أن عبادة المال تبعث على الحزن، لأنها تعوق وتستعبد بدل أن تخدم، والنتيجة هي الحزن. ويعلق بندكتس السادس عشر "إن حزن الشاب الغني هو ذلك الحزن الذي يتولد في قلب كل منا عندما لا نجد الشجاعة لاتباع المسيح" (رسالة البابا بمناسبة يوم الشبيبة العالمي 25). أما عبادة الله فتبعث على الفرح، فإذا أردنا أن نتبع يسوع، علينا أن نتحرر من المال فنختبر الفرح الحقيقي. قد وردت كلمة "حزن" في إنجيل مرقس مرتين؛ هنا، والمرة الثانية لما علم التلاميذ أن واحداً منهم سيُسلم يسوع (مرقس 14: 19). فالحزن يُقيس عجزنا في اتباع المسيح. ويعلق بندكتس السادس عشر " إن الرجل الغني لم يقبل دعوة يسوع، بل مضى حزينًا. لم يجد الشجاعة الكافية للتجرد عن الخيرات المادية ليجد الخير الأسمى الذي يقدمه يسوع" (رسالة البابا بمناسبة يوم الشبيبة العالمي 25). أمَّا عبارة "أَنَّه كانَ ذا مالٍ كثير" فتشير إلى الرجل الغني الذي ارتبط قلبه بثروة هذا العالم، فحرمه هذا الثقل من العبور مع السيد المسيح خلال باب الحب للدخول إلى الطريق الضيق. ولم يتقبل الحب لأن قلبه لا يملك حيزا للحب، قلبه متعلق بالمال الذي منه يأمل الحصول على الحياة. فلم لا يستطيع أن يُحبَّ الله من كل قلبه ويحتفظ بأمواله لنفسه. هذا الرجل الغني لا يتقبل الحب لأن قلبه لا يملك حيزا للحب، فضَّل الرجل أن يحتفظ بماله على أن يتخلى عنه في سبيل الله. ولم يستطع أن يتغيّر ويصبح مثل الطفل. إنّ الحياة الأبدية عطيّة. كيف يمكن أن بقبل هديّة ما إن كانت يديه ممتلئة غير فارغة، ولا يريد أن يتخلّى عن أيّ شيء. إن الغِنى منع الرجل الذي أحبَّه المسيح وطلب منه أن يتبعه فتعثَّر في غناه وخسر المحبة والحياة. ويُعلق يوحنا الصليب "لا يمنح الربّ النعمة والمحبّة إلاّ بحسب رغبة النفس وحبّها. فكلّما زادت رغبة النفس ومحبّتها، كلّما زاد ما يعطيه الربّ". كانت أموال الغني هي التي تمتلكه وليس هو الذي يمتلكها. والمحير هنا أن هذا اللقاء بين يسوع والشاب الغني هو واحد من اللقاءات الفاشلة بعكس اللقاءات مع زَكَّا الغني، رئيسٌ للعَشَّارينَ (لوقا 19: 2-8)، وابنُ طيماوُس (بَرطيماوُس) الأعمى الذي يلقاه يسوع وهو خارج من أريحا (مرقس 10: 46-52). والله خلق العالم والمادة والأموال لنستعملها لا لتستعبدنا. نحن مدعوّون إلى أن نأتي بأيد فارغة ونتلقّى الربّ يسوع نفسه لكي نتبعه وننال الحياة الأبدية. 23 فأَجالَ يسوعُ طَرْفَه وقالَ لِتَلاميذِه: ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ عَلى ذَوي المال تشير عبارة "ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ عَلى ذَوي المال" إلى تحذير يسوع لمن يريد دخول الحياة الأبدية من عاقبة الأموال، لانَّ الأغنياء عندهم معظم حاجاتهم المادية، ويُمكنهم أن يعتمدوا على أنفسهم. لكن يعوزهم أهم شيء وهو الخلاص لدخول الحياة الأبدية، والخلاص نعمة من الله (مرقس 10: 27)، ولذلك هو صعب على الأغنياء. لكن لم يقل يسوع أن الأغنياء لن يدخلوا إلى ملكوت السنوات بل سيدخلون إن هم قبلوا الدخول من الباب الضيق. ولم يجعل يسوع التجرد من الأموال قاعدة تُلزم جميع الذين يتبعونه، خلافا لجماعة الاسِّينيين في قمران، الذين كانوا يفرضونه على اتباعهم لفائدة الجماعة. إنما من يريد أن يدخل الملكوت، عليه أن يحب الله فوق كل الاعتبارات المادية من ثروة ومجد ذاتي وحب اللذة. وقد أحب يسوع أناسا أغنياء كانت لهم مكانة اجتماعية رفيعة دون أن يُلزمهم بالتخلي عن مقامهم، لأنهم استخدموا ممتلكاتهم لبركة الآخرين. المهم ألا يعطلهم الغنى عن اتباع المسيح وخدمته، لان تكديس الأموال والمتقنات لا يتوافق مع منطق الملكوت. 24 فدَهِشَ تَلاميذُه لِكَلامِه فأَعادَ يسوعُ لَهمُ الكَلامَ قال: ((يا بَنِيَّ، ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله))! تشير عبارة "دَهِشَ تَلاميذُه" إلى حيرة التلاميذ في صعوبة دخول الرجل الغني إلى الملكوت بعكس الرأي السائد في الديانة اليهودية أن الغنى دليل على الرضا الإلهي كما كان سائدا في أسفار العهد القديم. وأدرك التلاميذ صعوبة الطريق بسبب إغراءات المال، وهم يعلمون أن الناس مُنكبِّين على المال لا يستطيعون أن يتخلوا عنه. أما عبارة "يا بَنِيَّ" فتشير إلى مودَّة يسوع تجاه حيرة تلاميذه وتلطيفا من الكلام الصعب الذي يريد أن يصرِّح به. أما عبارة "ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله" فتشير إلى المال الذي يُشكّل عائقا لمن يريد أن يدخل الحياة الأبدية. يدخل الملكوت من أحب الله فوق الاعتبارات المادية من ثروة ومجد ذاتي وحب اللذة. ليس الإثم الحصول على المال، بل الاتكال عليه كسيد له. 25 "لأَن يَمُرَّ الجَمَلُ مِن ثَقْبِ الإِبرَة أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيُّ مَلكوتَ الله" تشير عبارة "الجَمَلُ" هنا إلى "الحبال السميكة التي يستخدمها البحارة في السفن، هذه التي لا يمكن أن تدخل في ثقب إبرة" كما جاء في تفسير القديس كيرلس الكبير. أمَّا عبارة "ثَقْبِ الإِبرَة" فتشير إلى اسم بوابة صغيرة (الخَوْخةُ) وسط البوابة الرئيسية لأورشليم التي لا يستطيع جَمَل أن يمَّر فيها ألاّ بعد أن يناخ على ركبتيه وتُنْزَلْ كل حمولته ويُجَّرْ ويُدْفَعْ للداخل، لان أبواب أورشليم كانت تُغلق قبل الغروب، وحينما تأتى قافلة متأخرة لا يفتحون الباب الرئيسي، بل على الجَمَل أن يمرَّ من الباب الصغير (ثَقْبِ الإِبرَة). وهكذا الغنى لا يدخل ملكوت السماوات إلاّ لو تواضع وشعر أن كل أمواله هي بلا قيمة. تدل هذه الآية على مبالغة بيانية، تقابل بين الكبير والضيق، بين الجمل وثقب الإبرة. فخرم الإبرة صغير جدا، والجمل أكبر حيوان عرفه الشرق الأوسط. فكما أنه مستحيل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة كذلك صعب دخول الأغنياء في باب السماء الضيق. فلا يمكن الغني أن يدخل ملكوت بدون عون الله. أما عبارة "الغَنِيُّ" فتشير هنا إلى كل إنسان يؤمن بالغنى والأموال والممتلكات بحيث أصبح حجم ما يمتلك يعيق دخوله باب الملكوت، لان باب الملكوت ضيق. 26 "فاشتَدَّ دَهَشُهُم وقالَ بَعضُهم لِبَعض: فَمَن يَقدِرُ أَن يَخلُص؟ تشير عبارة "فاشتَدَّ دَهَشُهُم" إلى دهشة التلاميذ لمفهومهم الخاطئ الشائع بان الغنى دليل على الإيمان ورضى الله على الإنسان. أمَّا عبارة "فَمَن يَقدِرُ أَن يَخلُص؟" فتشير إلى سؤال التلاميذ لدى سماعهم أن دخول ملكوت السماوات يعسر على أي أحد، غنيا كان أو فقيرا. وليس هذا السؤال مجرد مفارقة، بين الفقير والغني، لكن هذا الخلاص أعسر على الغني منه على الفقير. فنحن لا نستطيع دخول ملكوت الله. الله وحده يُدخلنا والشيء الوحيد الذي نستطيع عمله هو أن نتقبل كطفل عطية الآب. 27 فحَدَّقَ إِلَيهِم يسوعُ وقال: "هذا شَيءٌ يُعجِزُ النَّاسَ وَلا يُعجِزُ الله، فإِنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير تشير عبارة "فحَدَّقَ إِلَيهِم يسوعُ" إلى نظرة يسوع الثالثة في هذا النص. وهي نظرة تعزية وتقوية أمال التلاميذ مُبيّنا لهم أنهم بإمكانهم الانتصار بقدرة الله نفسه على كل الموانع من دخول الملكوت السماوي. نظرة حب يسوع تمكّنهم من الحياة في الدنيا والآخرة. أمَّا النظرة الأولى فكانت نظرة حب للرجل الغني، والنظرة الثانية نظرة حزن عندما انصرف الرجل عن يسوع. أما عبارة "هذا شَيءٌ يُعجِزُ النَّاسَ وَلا يُعجِزُ الله" فتشير إلى قول الله لإبراهيم: " هَل مِن أَمْرٍ يُعجِزُ الرَّبّ؟" (التكوين 18: 14). لقد أدرك التلاميذ صعوبة الطريق بسبب إغراءات المال، لكن السيد المسيح كشف لتلاميذه أنه ليس شيء غير مستطاع لدى الله. فالخلاص، ودخول الملكوت عطيّة مجّانيّة للإنسان من الله. الخلاص مستحيل بالمجهود البشري بدون عمل إلهي (تكوين 18: 1 زكريا 8: 6). ولا يمكن اكتساب الخلاص لأنه عطيّة مجّانيّة للإنسان من الله كما يؤكد ذلك بولس الرسول "بِالنِّعمَةِ نِلتُمُ الخَلاصَ بِفَضلِ الإِيمان. فلَيسَ ذلِك مِنكُم، بل هو هِبَةٌ مِنَ الله، ولَيسَ مِنَ الأَعمال لِئَلاَّ يَفتَخِرَ أَحَد " (أفسس 2: 8-10). فما هو مستحيل على البشر سهل على الله. لا يستطيع الإنسان أن يدخل إلى الملكوت بقواه الخاصة، ولكن الله هو الذي يرحمه مجاناً بنعمته، ويطلب منه أن يتجاوب مع هذه النعمة. فالمهم هو الإيمان بالله وليس بالذات أو الثروات. فالمبدأ الأساسي للإنجيل هو أن الخلاص مستحيل لدى الناس خاصة الأغنياء، ولكن ليس غير مستحيل لدى الله. فلا خلاص للغني والفقير إلاّ بنعمة الله. فالخلاص هو عطية الله التي يعجز المال عن شرائه. أمَّا عبارة "قَدير" فتشير إلى صفة ذاتية في الألوهية ويعبّر الإيمان المسيحي عن أول حقيقة يقدّمها الكتاب المقدس: "أؤمن بإله، آب ضابط الكل، خالق السماوات والأر ". فالله يستطيع أن يحمي مختاريه، ويحقق لصالحهم ما يريد (تكوين 12: 2 -3، 28: 13-15). وإن كان الله قادراً على كل شيء في السماء وعلى الأرض، فإنما ذلك لأنه هو صنعها (تكوين 2: 4)، و"ليس عليه أَمرٌ عَسير" (إرميا 32: 17)، وهو يتصرف كما يحسن لديه، في عمله (إرميا 27: 5). فعطاء الذات يتجاوز قوى البشر، وهو موهبة من عند الله، كما جاء في تعليم بولس الرسول " وَصِّ أَغنِياءَ هذِه الدُّنْيا بِألاَّ يَتعَجرَفوا ولا يَجعَلوا رَجاءَهم في الغِنى الزَّائِل، بل في اللهِ الَّذي يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه" (1 طيموتاوس 6: 17). 28 "وأَخَذَ بُطرُسُ يقولُ له: "ها قد تَركْنا نَحنُ كُلَّ شَيءٍ وتَبِعناكَ تشير عبارة "ها قد تَركْنا نَحنُ كُلَّ شَيءٍ وتَبِعناكَ" إلى مقارنةبطرس بين نفسه وتلاميذه مع الرجل الغني الذي أبى أن يترك أي شيء. فبطرس والتلاميذ تركوا كل شيء لا احتقارا وازدراء بل ليتبعوا يسوع (متى 4: 20) بعكس الرجل الذي بقي متمسكا بأمواله. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " لقد تخلّى بطرس وأندراوس عن الكثير، لأنّ كلاًّ منهما تخلّى حتّى عن رغبة التملّك "(العظة 5 عن الإنجيل). فإن التلاميذ يتبعون يسوع لا كسامعين فقط، بل كمعاونين وشهود لملكوت الله وعمّال في حصاده (متى 10: 1-27)، وهم لا يتمسكون بتعليم المعلم فقط، بل يُلازمون شخصه. ثم يطلب يسوع من أتباعه في مرحلة ثانية حمل الصليب (متى16: 24). والجدير بالذكر أن يسوع المعلم يختار التلميذ، وليس التلميذ يختار معلمه كما كانت العادة في الدين اليهودي في القرن أول عند تلاميذ الرابيين. وقد أكد ذلك السيد المسيح بقوله لتلاميذه "لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم" (يوحنا 15: 16). لقد ترك ملايين الرجال والنساء كل شيء، منذ الفي سنة، من أجل المسيح وإنجيله. فلنتعود منذ الآن وندرِّب أنفسنا على الانفصال عن الدنيا بطيبة خاطر، لكيلا نستصعب وقع الموت الذي يُجبرنا على ترك هذه الحياة الفانية. 29 "فقالَ يسوع: الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة تشير عبارة "الحَقَّ أَقولُ لَكم" إلى وعد أكّده يسوع بقسم، بقوله كلمة "الحق" قبل إعلانه عن الوعد. وأمَّا عبارة "تَرَكَ" فتشير إلى التخلي عن كل العائلة والممتلكات لأجل المسيح ولأجلخدمة كلمة الإنجيل. أمَّا عبارة "مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة" فتشير إلى معنى واحد: أنَّ ما يُترك من أجل إنجيل المسيح كالذي يُترك لأجل المسيح، لأن المسيح هو غاية الإنجيل كله. وأمَّا عبارة "البشارة " فتشير خاصة إلى إنجيل مرقس. 30 إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة تشير عبارة "نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ" إلى وعد يسوع لتلاميذه أنه ما من أحد يترك شيئا ذا قيمة لأجله إلاَّ وسيكافأ بمئة ضعف في هذه الحياة والحياة الأبدية في الآخرة. وهذا ما حدث مع بطرس وباقي التلاميذ، الذين تركوا شباكًا ومهنة صيد فحصلوا على محبة الناس في كل مكان وزمان في الأرض وعلى أمجاد أبدية في السماء. لقد وعد يسوع للذين يتبعونه بان يُعطيهم، في هذه الدنيا، مائة ضعف أكثر مما تركوه إنهم ينالون مئة ضعف من بيوت ضيافة، وأخوة وأخوات... انهم يعيشون في كل مكان وكأنهم في بيوتهم. يتخلون عن رباط صلة الرحم، غير أنهم يعيشون رباط الحب والحنان مع جمهور غفير من الأخوة والخوات. انهم ينالون ضعف مما تركوا.ويُعلق القديس كيرلس الكبير "كل واحد منا نحن الذين نؤمن بالمسيح ونحب اسمه إن ترك بيتًا ينال منزلا في السماء. وإن ترك آبًا يقتني الآب السماوي. وإن ترك إخوته يجد المسيح يضمَّه إليه في أخوة له. إن ترك زوجة يجد له بيت الحكمة (أمثال 7: 4). وإذ ترك أمأ، يجد أمًا لا تقارن، أكثر سموًا، "أورشليم العليا التي هي أمنا (جميعًا) فهي حرة" (غلاطية 4: 26). ويضيف القديس ايرونيموس ناسك بيت لحم "لقد تلقيّنا أكثر مّما أعطينا؛ نترك أشياء صغيرة ونجد خيرات ضخمة. يعيد الرّب يسوع المسيح لنا أضعاف ما نفعله من أجله". أمَّا عبارة "نالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة" فتشير إلى نيل السماء. لا يمكن لله أن يكون مدينا لأحد لا في هذا العالم ولا في الأبدية. لا يطلب من الإنسان أن يعمل شيئا لنيل الحياة الأبدية، بل عليه أن يتخلى لكي ينال الحياة الأبدية. أمَّا عبارة "الاضطِهادات" فتشير إلى من يتبع يسوع يتعرّض للاضطهادات شانه شأن معلمه يسوع كما تنبأ لهم يسوع "اذكُروا الكَلامَ الَّذي قُلتُه لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً" (يوحنا 15: 20). لكن الرب يُجازي في هذه الدنيا بالفرح حتى في قلب الاضطهاد، وفي الآخرة بالحياة الأبدية. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" يبدو لي أنه بهذه الكلمات أراد يسوع أن يحدثه تلاميذه عن الاضطهادات بطريقة غير مكشوفة، إذ يحدث أن يحاول كثير من الآباء أن يغروا أولادهم على الشر، وتغري النساء رجالهن". والله يسمح بهذه الاضطِهادات حتى لا يتعلق تلاميذه بالماديات ويفقدوا رغبتهم بالسماويات، لكن من يشترك مع المسيح في الصليب على الأرض سيكون شريكه في المجد. أمَّا عبارة "الحَياةَ الأَبَدِيَّة" فتشير إلى جواب عن سؤال الرجل الغني "ماذا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟" ولقد ترك ملايين الرجال والنساء كل شيء منذ الفي سنة من أجل المسيح. انهم لم يتركوا هذا الأشياء احتقارا وازدراء بالغنى بل للحصول على أشياء أثمن منها، وهي الحياة الأبدية. عندما نزهد في أشياء كثيرة من أجل المسيح لا نزهد على حساب سعادتنا، لان المسيح يَعد الذين يتبعونه بان يعطيهم في هذه الدنيا مائة ضعف أكثر مما تركوه لكن مع اضطهادات، وفي الآخرة الحياة الأبدية. لا شك أن الرسل تركوا كل شيء، لكنهم ربحوا أكثر بكثير مما تركوا. لنكن على استعداد أن نضحي الآن من أجل مكافآت أعظم في المستقبل. علينا أن نفكر فيما ربحناه في هذه الدنيا وما سنربحه في الدنيا الآخرة. فهل نقبل أن نترك شيء لنحصل على المجد المعدَّ لنا. لا خسارة لأجل المسيح فالخسارة من اجل المسيح هي ربح. 31 "وكثيرٌ مِنَ الأَوَّلينَ يَصيرونَ آخِرين، والآخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين تشير عبارة "وكثيرٌ مِنَ الأَوَّلينَ يَصيرونَ آخِرين" إلى توضيح يسوع أنَّ قيم هذا العالم ستنعكس في العالم الآتي، فالذين يسعون وراء المركز والشهرة والمال هنا، لن يكون لهم شيء في السماء. يعتبر العالم الأغنياء في المراكز الأولى فيصبحوا في العالم الآتي من الآخرين لأنهم يخسرون في الآخرة فيما ربحوا في دنياهم. وقد تشير عبارة أيضا إلى اليهود والفريسيين فهؤلاء كانوا شعب الله الذين آمنوا أولًا ثم ارتَدُّوا ورفضوا المسيح فهم هنا أولون وفي الآخِرة آخِرون. أمَّا عبارة "الآخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين" فتشير إلى احتقار العالم الفقراء الذين حسبوهم الآخرين فهم سيكنون عظماء في السماء. فالرسل والتلاميذ كانوا فقراء مُعدمين محتقرين في الدنيا فجعلهم المسيح أوَّلون. إن الفقراء ربحوا في السماء فيما خسروا من دنياهم. وقد تشير العبارة أيضا إلى هؤلاء الأمم الذين كانوا في وثنيتهم آخِرون وآمنوا بعد ذلك فصاروا أولون. ينظر مرقس نظرة انقلاب في القيم. والنظام الحالي لن يحافظ عليه في العالم الآتي، فالدينونة سوف تعيد بناء سُلم القيم. وبالتالي هذه الآية تحذير للجميع. فلا تمييز بين فئة وفئة؛ فالدينونة تحكم على أعمالنا وأقوالنا وحياتنا منذ الآن بحسب تجاوبنا مع نعمة الله. وبعبارة أخرى، إن مغزى الكلام أن الثواب في العالم الآتي يتوقف على تجاوبنا مع نعمة الله والإيمان بالمسيح وليس على من آمن أولا أو على نوعية الخدمة أو مقدارها (متى 20: 2). الدينونة تحكم على أعمالنا وأقوالنا وحياتنا منذ الآن. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 10: 17-30) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 10: 17-30) يمكننا أن نستنتج انه يتمحور حول الغنى وموقف يسوع منه. ومن هنا نتساءل: ما هو مفهوم الرجل الشاب للغنى؟ ثم ما هو تعليم يسوع عن الغنى؟ 1) ما هو مفهوم الرجل الشاب للغنى؟ مفهوم الشاب للغنى هو مفهوم الغنى في العهد القديم. جاء إلى يسوع رجل غني يبحث عن طرق الله للحصول على الحياة الأبدية. وكان الرجل الغني حافظا للوصايا ومطلعا على الكتاب المقدس. فهو يعرف أن الغنى هو أحد عناصر الحياة الوافرة التي لا يفتأ الله أن يعدّ بها مختاريه. وقد عد الله أن يُغني أحباءه؛ مثل إبراهيم (تكوين 13: 2) وإسحق (26: 12-13) ويعقوب (30: 43). وأشاد الكتاب المقدس بغنى الأشخاص الأتقياء، كرضى الله عنهم مثل أيوب، والملوك القديسين أمثال داود ويوشافاط وحزقيا (2 أخبار 32: 27-29). فالغنى هو رمز إلى سخاء الله ورضاه على الإنسان. ويبدو الغنى أيضا مجداً وإكمالا (مزمور 37: 19)، في حين أن البؤس يبدو خزياً وفشلاً (إرميا 12: 13). ومن خلال اطلاع الرجل الغني على الكتاب المقدس يعرف الرجل انه لكي يكسب الغنى يحتاج المرء إلى كثير من الصفات الإنسانية الحميدة مثل: الجدّ (أمثال 10: 4، 20: 13)، والحكمة (أمثال 24: 3)، والروح الواقعية (أمثال 12: 11)، والقوة (أمثال 11: 16)، والاعتدال (أمثال 21: 17). ونستنتج مما سبق أن الغنى خير، ولكنه ليس أسمى الخيرات حيث يفضّل المؤمن في العهد القديم سلام النفس (أمثال 15: 16)، والصيت الحسن (22: 1)، والصحة (سيراخ 30: 14-16)، والعدل (أمثال 16: 8) والحياة الأبدية. والرجل الغني يريد أن يحصل على الحياة الأبدية علما أن الغنى هو علامة رضى الله عنه كما جاء في سفر التثنية (تثنية الاشتراع 28). ومن هنا جاء سؤاله ليسوع "ماذا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟" (مرقس 10: 17). 2) ما هو تعليم يسوع عن الغنى؟ علم يسوع أن الغنى ليس شرا بحد ذاته، لكن له مخاطر مبينا الغنى الحقيقي. أولا: الغنى ليس شرا أشار يسوع للرجل الغني أن الغنى في ذاته ليس شرًا، لكنه يمثل ثقلًا للنفس المتعلقة به، يُفقدها حياتها وينزعها عن الالتصاق بمخلصه، "فالمال عبد جيد ولكنه سيد سيء". ويعلق يوحنا الذهبي الفم "لقد كشف يسوع أن العيب لا في الغنى إنما في القلب المتكل على الغنى"! ومن حيث أن الغنى ليس شرا بحد ذاته، فان المسيح لم يجعل من التجرد من الأموال قاعدة تُلزم جميع الذين يتبعوه، بل أحبَّ يسوع ودعا أغنياء كانت لهم مكانة اجتماعية رفيعة، ولم يُلزمهم بالتخلي عن مقامهم. الله ليس ضد الأغنياء حيث أن إبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب كانوا من الأغنياء. والله جعل سليمان الملك غنيًا جدًا؛ وكثيرون من الأغنياء تبعوا يسوع مثل نيقوديمس ويوسف الرامي وزكّا العشار ولم يطلب منهم أن يبيعوا ما لهم. المهم عند الرب هو ألاَّ يتكل أحد أو يضع ثقته في أمواله كسيد له. ولم يطلب المسيح منا أن نبيع كل شيء بالمعنى الحرفي ولكن يطلب ألاَّ يكون هناك ما نحبه ونتعلق به في هذا العالم أكثر منه كما صرح علنياً: "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37). فما نحبه أكثر من المسيح يعطلنا عن الكمال. فكيف إذا يصير الإنسان الغني كاملًا؟ الخطوة هي التخلي عن الثقة فيما يملكه وأن يضع كل ثقته في المسيح. هذا هو المعنى المطلوب لقول المسيح "اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك" (مرقس 10: 27). وطالما كانت هناك في نظرنا أشياء نتعلق بها ونحبها أكثر من المسيح فنحن ما زلنا بعد لم نكتشف من هو المسيح وما هي متطلبات اتباعه. ثانيا: مخاطر الغنى أشار يسوع إلى مخاطر الغنى، فحذّر الناس من عقبة الأموال لمن أراد دخول الحياة الأبدية: "ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ عَلى ذَوي المال" (مرقس 10: 24). من العسير أن يظلَّ الإنسان أميناً في الشبع، ذلك لأنّ الدّهن يُغلق القلب كما يقول الرب لأبناء بني إسرائيل "فيأكُلُ ويَشبَعُ ويَسمَن ويَتَحَوَّلُ إلى آِلهَةٍ أُخْرى ويَعبُدونَها ويَستهينونَ بي ويَنقُضُ عَهْدي" (تثنية 31: 20، 32). وفي هذا الصدد تقول القديسة تريزا دي كالكوتا "يعتقد الكثيرون، خاصّة في الغرب، أنّ العيش برفاهية يمنح السعادة. لكنّني أظنّ أنّه من الأصعب تحقيق السعادة مع الثراء حيث أنّ هموم كسب المال والحفاظ عليه يخفي الله عن أنظارنا" (خواطر في طريق البسيط). ويُحذِّر الكتاب المقدس الإنسان من الذهب والفضة "فلا يُبالِغْ في الإِكْثارِ مِنَ الفِضَّةِ والذَّهَب" (ثنية الاشتراع 17: 17). ولكن محبة المال هي عداوة لله وأصل لكل الشرور كما أوضح ذلك بولس الرسول "أَمَّا الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنى فإِنَّهم يَقَعونَ في التَّجرِبَةِ والفَخِّ وفي كَثيرٍ مِنَ الشَّهَواتِ العَمِيَّةِ المَشؤُومَةِ الَّتي تُغرِقُ النَّاسَ في الدَّمارِ والهَلاك، لأَنَّ حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ " (1 طيموتاوس 6: 9-10). الغنيّ الذي له "خيراته" في هذا العالم لا يمكنه أن يدخل الملكوت كما جاء في قول المسيح " ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ عَلى ذَوي المال "لأَن يَمُرَّ الجَمَلُ مِن ثَقْبِ الإِبرَة أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيُّ مَلكوتَ الله" (مرقس 10: 24-25). فمحبة المال يمثل للغني كبرياء الإنجاز والجهد الذاتي. وكشف يسوع هذه الدوافع عندما طلب من الشاب الغني "اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء " (مرقس 10: 21). وما يدعو للدهشة إن الغني لم يستطع أن ينفِّذ مطلب يسوع ويحوّل كل قلبه وحياته إلى الله. إن موقفه هذا جعله عاجزا عن تنفيذ الوصية الأول، حيث جعل الغنى أهم من الله (خروج 20: 3). فالمال كان سببا في انجذاب القلب بعيدا عن التقوى الحقيقية. وفي هذه الحالة فإن الغنى بدلاً من أن يُدعم العهد مع الله، أعطي فرصة التنكّر له كما صرح هوشع النبي: "شَبعوا فطَمَحَت قُلوبُهم ولِذلك نَسوني" (هوشع 13: 6). ومن هنا جاء الصلاة آجور، الرجل الحكيم "لا تُعطِني الفَقرَ ولا الغِنى بلِ اْرُزقْني مِنَ الطَّعام ما يَكْفيني لِئَلاَّ أَشبعً فأَجحَدَ وأَقوَلَ: مَنِ الرَّبّ؟ أَو أَفتقر فأَسرِق وأَعتدي على اسم إِلهي" (أمثال 30: 8-9)؛ ويتبنّى يعقوب الرسول استنكارات الأنبياء عن الغنى والثراء. فيوجِّه بعض الإنذارات ضد الأغنياء المتخمين وثرواتهم العفنة بقوله "يا أَيُّها الأَغنِياء، اِبكوا وأَعوِلوا على ما يَنزِلُ بِكُم مِنَ الشَّقاء. ثَروَتُكم فَسُدَت وثِيابُكم أَكَلَها العُثّ. ذَهَبُكم وفِضَّتُكم صَدِئا، وسَيَشهَدُ الصَّدَأْ علَيكم ويأكُلُ أَجسادَكم كأَنَّه نار. جَمَعتُم كُنوزًا في الأَيَّامِ الأَخيرة" (يعقوب 5: 1-3). ولم يتردَّد القديس بولس بان يوصي أغنياء هذه الدنيا بأن لا يتعجرفوا ولا يجعلوا اتّكالهم على الغنى الزائل، بل على الله الذي يمنحنا كل شيء لنتمتع به وفي هذا الصدد يقول إلى تلميذه طيموتاوس: "وَصِّ أَغنِياءَ هذِه الدُّنْيا بِألاَّ يَتعَجرَفوا ولا يَجعَلوا رَجاءَهم في الغِنى الزَّائِل، بل في اللهِ الَّذي يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه، وأَن يَصنَعوا الخَيرَ فيَغتَنُوا بِالأَعمالِ الصَّالِحة، ويُعطوا بِسَخاء ويُشرِكوا غَيرَهُم في خَيراتِهم لِيَكنِزوا لأَنفُسِهِم لِلمُستَقبَلِ ذُخرًا ثابِتا لِيَنالوا الحَياةَ الحَقيقِيَّة" (1 طيموتاوس 6: 17). إن "كبرياء الغنى" هو العالم، ولا يمكننا أن نوفّق بين حبّ الله وحب العالم "كُلَّ ما في العالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآب، بل مِنَ العالَم. العالَمُ يَزولُ هو وشَهَواتُه. أَمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد" (1 يوحنا 2: 15-16). الفقراء هم وحدهم القادرون على تقبّل البشرى السارّة كما أوضح ذلك السيد المسيح: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء" (لوقا 4: 18). وقد صار الربّ فقيراً من أجلنا لكي يغمرنا (2 قورنتس 8: 9) بغناه الذي لا يستقصى (أفسس 3: 8). وهذا ما اكتشفه القديس بولس الرسول الذي وجد كل شيء في العالم نفاية حينما عرف الرب يسوع " أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ" (فيلبي 3: 8). ثالثا: الغنى الحقيقي أشار يسوع للشاب "لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه " (مرقس 10: 18)، وهو الذي أصبح غنانا الحقيقي. وقد صار الربّ فقيراً من أجلنا لكي يغمرنا بغناه الذي "لا يُسبَرُ غَورُه" (أفسس 3: 8)."فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8: 9). الله هو الكنز الحقيقي لان الارتباط به تعالى هو الذي يعطي وحده الحياة الأبدية. فالويل للشخص الفاتر الذي يظنّ أنه غني، بينما ينقصه الكنز الوحيد، كما جاء في رؤية يوحنا "أَنا غَنِيٌّ وقدِ اغتَنَيتُ فما أَحْتاجُ إلى شَيء، ولأَنَّكَ لا تَعلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بائِسٌ فَقيرٌ أَعْمى عُرْيان" (رؤيا 3: 16-18). أعلن يسوع أن ملكوت السماوات هو الكنز الذي لا يقدّر بثمن، والذي يستحق أن نضحّي من أجله بكلّ شيء كما صرّح للرجل الغني: "واحِدَةٌ تَنقُصُكَ: اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فَاتَبعْني (مرقس 10: 21). فإذا كان الغنى المادي محفوفاً بالمخاطر، وإذا كان الكمال الإنجيلي يقتضي التضحية بها، فليس معنى ذلك أن الغنى شر، بل أن الله وحده هو "الصالح"، وهو الذي صار غنانا الحقيقي؛ وبهذا المعنى جاء قول يسوع جوابا على الغني "لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه" (مرقس 10: 18). من هذا المنطلق، أحدث السيد المسيح انقلاباً إزاء الغنى، إذ أعلن أن الملكوت هو هبة الله والشركة الكاملة معه في الحياة الأبدية. ولأنه لا بدّ من إعطاء كل شيء حتى ننال الحياة الأبدية. فالحصول على اللؤلؤة الثمينة والكنز الفريد، لا بدّ من بيع كل شيء كما قال يسوع للرجل الغني " اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء" (مرقس 10: 20)، لأنه لا يمكن أن نخدم سيّدين "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متى 6: 24). وفي الواقع ينتصب المال سيّداً بلا رحمة: إنه يخنق عند الرجل الجشع الطمّاع كلمة الإنجيل كما جاء في قول المسيح "يكونُ له مِن هَمِّ الحَياةِ الدُّنيا وفِتنَةِ الغِنى ما يَخنُقُ الكَلِمة فلا تُخرِجُ ثَمَراً" (متى 13: 22)، وينسيه الأمر الجوهري ألا وهو سيادة الله علينا "تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ " (لوقا 12: 15-21). كذلك يعطّل الغنى أحسن القلوب استعداداً عن طريق الكمال (مرقس 10: 21). وهكذا فان القاعدة المطلقة التي لا تحتمل استثناء أو تلطيفا هي قول يسوع: " كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً" (لوقا 14: 33). لا يعني التجرد عن الغنى حتما التنازل عن أي تمَلُّك، فنرى فيمن كانوا المقرّبين ليسوع كانوا من المقتدرين الأغنياء، مثلا يوسف الرامي الذي استقبل جسد الرب في قبره (متى 27: 57). لا يطلب الإنجيل أن يتخلى الأغنياء عن ثروتهم، بل إن يوزّعوها على الفقراء "واحِدَةٌ تَنقُصُكَ: اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فَاتَبعْني (متى 19: 21)؛ وباكتسابهم أصدقاء بالمال الباطل يستطيع الأغنياء أن يأملوا من الله أن يفتح لهم طريق الخلاص (لوقا 16: 9). ليس الشر إن يكون هناك غني وفقير، بل إن يكون الفقير كعازر الذي كان يشتهي إن يشبع من فتات مائدة الغني (لوقا 16: 21) وانه لم ينال شيئا منها. إن الغني مسؤول عن الفقير. فإن من يخدم الله يعطي ماله للفقراء، أمَّا الذي يعبد المال فأنه يحتفظ به لنفسه كسيد له. نستنتج مما سبق أن الغنى الحقيقي لا يقوم فيما نملك بل فيما نعطي، لان العطاء يستمطر سخاء الله. فالغني الحقيقي يجمع في الشكر بين الواهب والآخذ كما جاء في قول بولس الرسول: "إِنَّه وَزَّعَ وأَعْطى المَساكين، فبِرُّه يَدومُ لِلأَبَد. إِنَّ الَّذي يَرزُقُ الزَّارِعَ زَرْعًا وخُبْزاً يَقوتُه سيَرزُقُكُم زَرْعَكُم ويُكَثِّرُه ويُنَمِّي ثِمارَ بِرِّكُم (2 قورنتس 9: 10-11). وهكذا يستطيع الغني نفسه إن يختبر كلام يسوع "السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ" (أعمال الرسل 20: 35). الخلاصة يطرح نص إنجيل مرقس (10: 17-30) مشكلة الغنى. إذ جاء إلى يسوع رجل غني يبحث عن طرق الله. فنظر إليه يسوع وأحبه. ودلَّ على حبه له بان طلب منه " اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء " (مرقس 10: 21). واكتشف الرجل الغني إن اتباع يسوع يفترض إلاَّ تكون الشريعة وحدها هي التي تقوده. حيث انه أتم َّالشريعة ولكن ينقصه إن يتبع يسوع. أحبه يسوع ودعاه، ولكنه وضع شرطاً أساسيا: أن يزهد في نفسه ويتخلى عن خيراته التي تمنعه من ابتاعه. لكن هذه الدعوة لم تصل إلى غايتها. شدَّد يسوع على صعوبة الدخول في الملكوت للذين يملكون الأموال "يا بَنِيَّ، ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله!" (مرقس 10: 24). ثم دلَّ يسوع على منطق الملكوت الذي هو نداء جذري لعطاء تام لا يتوافق مع تكديس الأموال. فعطاء الذات الكامل يتجاوز قوى البشر، وهو موهبة من عند الله (مرقس 10: 23). إن الملكوت عطية مجّانية نتقبلها من يد الله. فمن تشجع وقبلها، كان له الملكوت ينبوع سعادة أعمق من كل ما يقدِّمه له الغنى. المال يشكِّل عائقا لمن يريد أن يدخل الحياة الأبدية، ومع ذلك لم يجعل يسوع من هذا التجرد قاعدة لا مفرّ منها لجميع الذين يتبعونه. أحب يسوع أناسا أغنياء ودعاهم إليه دون إن يفرض عليهم أن يتركوا موقعهم الاجتماعي الرفيع. وهناك أغنياء تبعوا يسوع وما باعوا كل ما يملكون (أعمال الرسل 4: 36-37). دعاء أيها الآب السماوي، أسألك باسم يسوع المسيح، أعطنا روح الفقر كي نتحرَّر من قيود الأرض فلا نحسب الغنى شيئا مقارنة بالملكوت السماوي، ولا نتعلق بمال الدنيا بل نزهد من اجل المسيح بدنيانا في سبيل دخول الملكوت السماوي ونيل الحياة الأبدية مُردِّدين صلاة ذاك الرجل الحكيم: "لا تُعطِني الفَقرَ ولا الغِنى بلِ اْرُزقْني مِنَ الطَّعام ما يَكْفيني لِئَلاَّ أَشبعً فأَجحَدَ وأَقوَلَ: مَنِ الرَّبّ؟أَو أَفتقر فأَسرِق وأَعتدي على اسم إِلهي" (أمثال 30: 8-9). أمين. قصة وعبرة: واحِدَةٌ تَنقُصُكَ حكى أن ثعلباً دخل خلسة من خرم ضيق يكاد لا تدخل فيه قبضة اليد إلى كرم فسيح مملوء بكل ما لذَّ وطاب، فأخذ الثعلب يجول بنظره يميناً ويساراً ويلعن أيام شقائه، وبدأ يأكل كل ما لذَّ وطاب، فامتلأت بطنه حتى لا مزيد، وإذ بصاحب الكرم قد حضر وبدأ يلاحقه فلمَّا حاول الخروج مما دخل منه استعصى عليه الأمر جداً ولكن حياته صارت مرهونة بالخروج، فاختفى في مكان مظلم وصام عن الأكل والشرب حتى كادت تخرج روحه، وذهب إلى الخرم وضغط بطنه حتى الآخِر فعَبَرَ، ففلت الثعلب الذكي من موت محقق. والمسيح هنا في هذه المقابلة مع الرجل الغني يغبط الثعلب الذكي: "يعوزك شيء واحد - لا مفر منه - اذهب بع كل مالك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعالَ اتبعني حاملاً الصليب". ولكن حماقة الثعلب تغلَّب عليها ذكاؤه، أمَّا حماقة الإنسان فيزيدها ذكاؤه!! ذهب الغني حزيناً لأن أمواله كانت كثيرة وفضَّل أن يموت في بستان مباهجه من أن يخرج إلى جنة الله. ويعلق القدّيس باسيليوس، أسقف قيصريّة فبدوقية " يذكّرني وضع هذا الشاب الغني وأمثاله بقصّة مسافرٍ رغب في أن يزور مدينة فوصل إلى أسوارها ووجد هناك فندقًا فنزل فيه؛ غير أنّ الخطوات الأخيرة المتبقّية لدخول المدينة أحبطته فخسر فائدة كلّ عنائه في السفر وامتنع عن مشاهدة جمال المدينة. هكذا هم الذين يلتزمون بالوصايا لكنّهم يثورون على فكرة فقدان خيراتهم. أعرف الكثير من الناس الذين يصومون ويصلّون ويقومون بالإماتات تكفيرًا عن ذنوبهم ويحسنون القيام بكلّ أعمال التقوى غير أنّهم لا يتصدّقون بأي عطيّة للفقراء. فماذا تقيدهم الفضائل الأخرى إذًا؟ لن يدخل هؤلاء إلى ملكوت السماوات حسبما أكّد الربّ يسوع حين قال: "يا بَنِيَّ، ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله! ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ على ذَوِي المال فَلأَن يَدخُلَ الجَمَلُ في ثَقْبِ الإِبرَة أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيُّ مَلَكوتَ الله" (العظة رقم 7، عن الغِنى). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|