نحو عالم جديد
المزمور الخامس والستون
1. المزمور الخامس والستون هو مزمور شكر ترفعه الجماعة إلى الله الذي سيستجيب دعاء شعبه فيغدق عليهم بركاته: يغفر لهم خطاياهم، يمنحهم خيراته وخاصّة الشتاء الذي هو أعظم خيرات الله في بلاد تعرف الجفاف مرارًا. ينشد هذا المزمور في عيد رأس السنة (آ 12: تكلّل السنة بخيراتك): يدخل المؤمنون إلى الهيكل ملتمسين غفران الخطايا، طالبين من الرب أن يعيد الخلق من جديد، ويثبت الجبال ويروّض المياه لتهيِّيء شتاء يبهج الغنم في مراعيه والإنسان بحنطته.
2. الله يعطي خيراته بغزارة فيتجدّد الكون.
آ 3- 5: فعل شكر يرفعه المرتّل إلى اله العهد الغني بنعمه والساكن في صهيون. وأول نعم الرب غفرانه للبشر خطاياهم فيمتلئ قلب الصدّيقين سعادة.
آ 6- 9: تظهر قدرة الله حين عمل فخلق الكون، وحين يتابع هذا العمل اليوم من أجل سعادة البشر.
آ 10- 14: ويشكر المرتّل لله كل عطاياه، وبالأخص الشتاء الغزير والغلال الوفيرة.
الآثام والمعاصي تثقل على الإنسان كما في زمن الطوفان (تك 6: 12)، فلا يستطيع أحد إلاّ الله أن يزيلها عنه. وعندما يستريح المؤمنون من خطاياهم، يمكنهم أن يكونوا فرحين سعداء بما يحتفظ به الله لهم من خيرات في هيكله. يذكر المرتّل الهيكل فيذكر معه الكون لأن الهيكل صورة مصغرة عنه. خطايا سكان الأرض تجعل الكون يتزعزع (أش 24: 19- 20) واسسه تهتز (75: 40) وتجعل رب الهيكل ينتصب غضبًا على شعبه، فيسمح بخراب الهيكل وهدم المدينة التي جعلها عاصمة لملكه. ولكن عندما ينقّى الإنسان، يمكنه الدخول إلى الهيكل ترافقه قوة الله الخلاصية التي تصل إلى أقاصي الأرض. يُبنى الهيكل من جديد، والكون يُولد من جديد، والجبال تتثبَّت. تنطَّق الرب بالقوّة، كما في بداية الكون، ليتغلب على قوّة الشر التي تعارض عمل الخلق، وليتغلب على الشعوب المعادية التي تعارض عمل الخلاص. ويشارك المؤمن الطبيعة بالترنيم لله على عمل الخلق والخلاص. وينتظر الشعب، بعد هذا الانتصار على قوى الشر المتمثِّلة بالمياه، أن يعطيه الرب المياه المخصبة، لأن الرب يهتم بالإنسان (85: 2: يرضى الرب عن الأرض، يبتسم لها). حينئذ تسيل المياه أنهارًا فتبلل الأرض وتسقيها، تغمرها فتجعل القمح ينمو والمروج تزهو، فينشد المرتّل جمال الطبيعة التي عادت إلى الاخضرار بعد اليباس معلنة بداية السنة الجديدة المباركة ببركة الله.
3. هذا المزمور هو نشيد يشكر فيه المرتّل لله عونه في الضيق. إن غفران الخطايا هو وجه من وجوه عون الرب لنا، وهو يجعلنا نقترب من الله ونشاركه الجلوس إلى مائدته في ذبيحة الشكر. يتطلع المرتّل بأمل إلى رجوع الشعب من سبي بابل (أش 41: 1- 2)، كما يتطلع إلى رجوع كل الشعوب وارتداد كل الأمم إلى الرب لتبدأ مسيرتها إلى جبل صهيون. وعندما يرجع الناس إلى الرب، يعمل الرب في الكون فيحمل عمله الغلال الوفيرة (الدسم هو كل طعام لذيذ) إلى كل الأرض وبالأخص إلى أرض الميعاد. حينئذ يتوِّجون الله ملكًا على الفصول وعلى الطبيعة.
نلاحظ في هذا المزمور، وهو نشيد لله المالك في صهيون، ارتباطًا بين صهيون وكل الأرض (كل بشر في آ 3). ليتورجية اسرائيل في صهيون تتوسّع لتصبح ليتورجيّة الكون بكل مخلوقاته. وصهيون هي عاصمة الكون كله، وفيها يصلي اسرائيل عن الكون بانتظار أن تأتي جميع الأمم إلى الهيكل فتؤدي فعل العبادة لله. دور اسرائيل أن يكون الكاهن الذي يحمل صلاة الكون، وأن يكون الوسيط الذي يحمل إلى الله توسّلات البشر الذين يعبدون مؤقتًا الآلهة الوثنية.
4. كانت صلوات الحمد والشكر أحبَّ الصلوات إلى قلب يسوع. فعمل الخلاص يجعله يقول للآب: "أحمدك يا رب السماء والأرض" (لو 10: 21). والمعجزات تدفعه إلى شكر الآب الذي يستجيب له (يو 11: 41). كان يشكر الآب خاصّة عندما يأخذ الخبز بيديه مثل كل اليهود الاتقياء (مر 6: 41؛ 8: 6؛ يو 6: 23). وقد اتخذ هذا الشكر طابعًا خاصًا ليلة العشاء السري (مر 14: 22) بانتظار نشيد الشكر الأبدي الذي يرفعه إلى الآب فيقول فيه: "عظيمة عجيبة أعمالك أيها الرب القدير" (رؤ 10: 3). وهو ينتظر منا أن نمجّد الله ونشكره (لو 17: 18)، فنرتل له المزامير والتسابيح والأناشيد الروحية (كو 3: 16) خاصّة من أجل أعظم عطاياه لنا، ألا وهو سر الافخارستيا، نشيد الشكر الدائم الذي ترفعه الكنيسة مع المسيح إلى الله.
5. الله في صهيون
نحن أمام دعاء جماعي لله المالك في صهيون. وما يلفت انتباهنا لأول وهلة هو الطابع الشمولي من جهة والطابع الاورشليمي من جهة ثانية (نقرأ في آ 3: كل بشر). نحن أمام ليتورجية بني اسرائيل في صهيون وأمام ليتورجية كل خلائق الكون. فصهيون ليست عاصمة الكون وحسب، ولكن شعب اسرائيل يقدّم الصلاة باسم الكون بانتظار اليوم الذي تأتي فيه كل الأمم إلى الهيكل. شعب اسرائيل هو الكاهن والامّة المقدسة التي توصل إلى الله صلاة العالم اللامسموعة. وهكذا حين يعترف اسرائيل بربِّه يليق مديحه باله صهيون وبه وحده. وهذا لسببين. أولهما لأن اله صهيون هو السامع، والمستجيب للصلوات. وهذا ما يجب أن يقبل به الوثنيون. وثانيهما لأن الله هو الذي يغفر للأفراد كما يغفر للجماعات. وهكذا نرى أن كل شيء يعود إلى رحمة الله الذي يستجيب والذي يغفر. لهذا نستطيع أن نصلي وننشد للاله الخالق الذي يكمل غفرانه بعطايا ملموسة.
ولكن بانتظار ذلك اليوم الذي يأتي فيه كل بشر إلى صهيون، جعل الله شعبه على حدة وسمح لكل فرد منهم أن يدخل إلى الهيكل. وهكذا فكل الذين يقدرون أن يأتوا إلى صهيون هم سعداء وإن لم يعوا ذلك. فهم في ضيافة الله المالك هنا وبركته، ويستطيعون أن يكتشفوا أن هذا الاله الذي يبحث الآخرون عنه ملتمسين، هو الاله الذي يستجيب ويغفر. وهو يُشبع من خيراته كلَّ الذين يعرفونه. وقداسة الهيكل نفسها ستنصبّ على هؤلاء الخطأة الذين جاؤوا يطلبون الرب، وهو سيجيب إلى انتظارهم.
وتنصبّ القداسة أيضًا على كل التقدّمات التي يحملها بنو اسرائيل شاكرين للرب فيض الغلّة التي حصدوها. فيأكلون بالفرح ويشبعون من جزء مما جاؤوا به إلى الرب. ولكن اله حب واحد هو في اليقين اله لكل الشعوب. فهم من خلال تعبدهم لآلهة كاذبة يبحثون وإن متعثرين عن الخالق الحقيقي، عن يهوه. لا شكّ في أنهم على ضلال ولكن لضلالهم وجهة إيجابية: البحث عن الله. لهذا يعلن المزمور للبشر أن الخالق الحقيقي هو الذي يملك في صهيون ويستجيب ويغفر. وهو أيضًا من يحفظ خليقته في الوجود ويمنع عنها الفوضى الأولية. يضع حدًا لغضب البحر كما يضع حدًا للشعوب.
يبدو الله مخيفًا للبشر ولكنه يبدو رحيمًا خاصّة عندما يرسل مطره على الأبرار والأشرار (مت 5: 45؛ أع 14: 17)، على شعب الله وعلى الشعوب الوثنية. وحيث يسقط المطر يعطي الحياة والفرح. أجل إن المطر يدلّ على حضور الله وسط البشر