الراهب القمص بطرس البراموسي
عظة للقديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين عن الصليب
بالصليب دان الخطية
1- الصليب والدينونة.
+ كل الذين يعيشون في البشر لا يرغبون العيش ضعافًا وهم في الشيخوخة وهكذا أيضًا المؤمنون فإنهم لا يرغبون في الحياة إلا في الحق وفي كل بر إلي اليوم الذي يشخصون فيه أمام الله الذي يجازي كل واحد حسب أعماله في العدل والحق. لأن سيدنا يسوع المسيح مات لأجلنا لكي نقوم. ليس فقط بالجسد من الأموات في اليوم الأخير ولكن لكي نقوم أيضًا الآن من موت الخطية.
إن الذين ماتوا في الخطية فإنهم بعدما عاشوا طويلًا في الشر أضاعوا حياتهم في كل نجاسة قد يحدث أن يقوموا من موت الخطية بأمر الذي مات لأجلنا وقام.
لكن البعض يستمر في التوبة ممجدًا الله من أجل خلاصه ومن اجل البركة بينما يمسى البعض الأخر جاهلًا لا يعرف من الذي أحسن إليه.
يا للشرف الذي يمنحه الرب يسوع للذين أكرموه في آلامهم الحقيقية،... إذ يمنحهم الحياة الأبدية ولا يموتون في الخطية فيما بعد بل يحيون أيضًا في العدل ويقومون بالجسد ليحيوا إلي الأبد.
وكم يكون الازدراء الذي يعاقب به الآخرون إذ يسلمون مرة أخري إلي نجاستهم ويسلمون إلي الجحيم بسبب خطاياهم إلي يوم القيامة؟!
الصليب وحياة النصرة
2- صراع بين الله والشيطان.
إبليس لم يعرف الابن المتجسد.
رأي إبليس وجنوده في يسوع إنسانًا غريبًا لم يروا مثله قط من قبل... فاق الرسل والأنبياء وكل الآباء الأولين.
شخصًا هادئًا ووديعًا... يجذب بوداعته نفوس الكثيرين دون أن يقلل من خطورة الخطية أو ينكر مرارة آثارها!...
لطيف مع الجميع لكن في حزم وصرامة! يوبخ وينتهر ولكن في حب ورقة بغير تدليل ولا تمويه للحق!
يحب الخطاة والعشارين، لا يخجل من الجلوس معهم أفرادًا، أو جماعات... دون أن يتدنس بخطاياهم، بل ينير أذهانهم بنور المعرفة الحقيقية، ويصطادهم بروح الحب في شباك الحق.
يشارك الفرحين فرحهم، والحزانى حزنهم... دون أن تنسيه المجاملات رسالته أو تنحرف به ولو قليلًا عن عمله! يحب بغير حدود، يخدم بغير ملل، يعمل بسلطان شخصي!
رأوه قادرًا على طردهم من مساكنهم البشرية... بل وحتى تلاميذه ورسله جاءوا إليه فرحين يقولون له "يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك" (لو17:9). "فقال لهم رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء" (لو19،18:10).
إهتزت مملكة الشيطان وإضطرب كل جنوده... وتشككوا في أمره من يكون هذا؟!
ألعلة إبن الله القدوس!... لكن ابن الله يأكل ويشرب ويجوع ويتعب ويتألم؟!
هل ابن الله يهرب من أمام هيرودس؟ هل ابن الله يخضع ليوسف ومريم ليربياه ويعلماه؟!
وهنا بدأ الشيطان بكل طاقاته وحيله يعمل محاولًا أن يكتشف من يكون هذا... ففي التجربة (مت4) بدأ إبليس يسأله أكثر من مرة إن كنت أنت ابن الله أفعل كذا؟! مت6:4.
لم يكن يتوقع أن يجيب عليه إجابة صريحة، قائلًا أنا ابن الله... لكن كان يتوقع أن يحول الحجارة خبزًا أو يرمي بنفسه من جناح الهيكل... فإن صنع هذا يكون فعلًا ابن الله، فيهرب من أمامه ولا يقاومه، حتى لا يخسر الجولة ويباد وينفضح أمام الخليقة.
لكن -كما يقول القديس كيرلس الكبير- إستطاع يسوع، الحكمة الحقيقية أن يزيد من ريبة الشيطان، فهو وإن كان لم يحول الحجارة خبزًا ولا ألقي بنفسه من جناح الهيكل، لكنه قدم إجابة أفحمت الشيطان... ولم يعد يدري من هو هذا؟!
عاد الشيطان مستخدمًا جنوده -الأرواح الشريرة- في محاولة معرفة شخص الرب يسوع. فقد قال الروح الشريرة (ما لنا ولك يا يسوع الناصري. أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت قدوس الله"مر24:1") أما يسوع فلم يجبه (نعم أنا هو) بل أفحمه (قائلًا اخرس واخرج منه)...
حرب مع الشيطان
أخفي ابن الله المتجسد شخصه عن العدو حتى لا يهرب من ميدان المصارعة... وتقدم يسوع نائبًا عن البشرية كلها.
صارع مع العدو وهزمه، فصارت لنا النصرة بالمسيح يسوع. في الميدان قاوم العدو في أشخاص البشر كما يقاوم معنا جميعًا... تارة بالتهديد بأن يلقوه من على سفح الجبل... وأخري بالطرد من بعض الأماكن. وثالثة بالسب والتعيير ونسب إختلال العقل له... ورابعة بالمقاومة الفكرية عن طريق الكتبة والفريسيين والصدوقيين والكهنة ورؤساء الكهنة والناموسيين... وخامسة بالوعيد أن يجعلوه ملكًا... وفي هذا كله فشلت قوة الشيطان ولم يعرف كيف ينتصر، لذلك حشد كل قوات اليهود الأشرار وأثارهم ليقدموه للرومان لقتله.
ظن الشيطان أنه بهذا ينتهي ذلك الفصل التاريخي من حياة يسوع في صورة بشعة ممقوتة... يصلب ويعلق على خشبة ويلحقه الخزي والعار... ويصير فيما بعد منسيًا.
حالًا تكاتفت قوي الأشرار ورفع يسوع إلي الصليب... وهنا أدرك العدو أن مملكته قد صارت في خطر...
رفع يسوع، ورفعت معه الخطية ليصلبها وجاء بالحية القديمة ليميتها... وللحال عاد يصرخ الشيطان على فم الأشرار (إن كنت ابن الله فأنزل عن الصليب) وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزؤون مع الكتبة والشيوخ قالوا (خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به) (مت40:27-42). هكذا نطق اليهود الأشرار... وأرادوا أن ينزل عن الصليب وهم مستعدون أن يؤمنوا به... بشرط ألا يموت ويميت الموت ويهزم قوات الشر ويعطي للبشرية حياة النصرة.
لكن لأجل هذه الساعة جاء يسوع... جاء لا لأجل ذاته، إنما لأجلي إذ به قد صار لي بصليبه أن أدوس قوات الخطية والشر وأحيا في قوة ونصرة.
بالصليب نهزم الشيطان!
جاء في بستان الرهبان أن جزارًا كان يأتيه كلبًا يخطف منه اللحم... فلما رأي جسارة ذلك الكلب جاء بعصا وضرب بها الكلب ضربة مبرحة جعلته يهرب صارخًا متأوهًا.
بعد أيام جاع الكلب، واشتاق أن يعود إلي الجزار فلما رآه الجزار من بعيد أخرج العصا وتركها عند الباب. فلما رآها الكلب خاف وهرب!
هذا ما حدث بين ابن الله الذي يحبنا والشيطان عدونا... رأي يسوع أن الشيطان قد إحتل قلبنا ومشاعرنا وغرائزنا وكل عضو من أعضاء جسدنا، هذه التي هي ملك الرب... وقد صارت آلات إثم... وكأنها قد خلقها الشرير للشر... فغار الرب على خليقته وضرب الشيطان بالصليب ضربه قوية... فهرب وجري لكنه بين الحين والحين... يتوق إلي العودة ليدخل ويسكن هناك، فإن وجدوه فارغًا منكوسًا مزينًا يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أشر منه فتدخل وتسكن هناك. وتصير أواخر هذا الإنسان أشر من أوائله (مت45،44:12) لكن إن أشهر الإنسان الصليب في داخل قلبه وعلى أعضائه هرب مرتعبًا!
يا لمحبة الله الفائقة! يا للتعطفات الأبوية! فقد وهبنا عصًا قويه نقتل بها قوات الظلمة والشر.. التي هي صليب ربنا يسوع المسيح.
قوة الصليب
على الصليب أعلن إبن الله إتضاعه... إذ أطاع حتى الموت موت الصليب من أجل العبيد الخطاة العصاة...
ولم يقف الأمر عند مجرد ظهور الإتضاع... إنما أعطانا حياة الإتضاع الحقيقي... كثمرة من ثمار الروح القدس الساكن فينا بالمعمودية ذلك إن تجاوبنا معه بالجهاد والعمل فننال بركاته، إذ يعطينا أن نزداد ثباتًا في المسيح المتضع المصلوب... وهكذا يبيد فينا روح الكبرياء.
وما أقوله عن الإتضاع أقوله عن كل الفضائل من حب ووداعة وطاعة.... إلخ.) أنها قد صارت لنا بعمل الروح القدس الساكن فينا الذي يربطنا ويثبتنا في المسيح المصلوب... كلما قبلنا عمله فينا بالجهاد والعمل ليس بمجرد الإيمان النظري.
وبالصليب تصالحنا مع الله وصار لنا أن نكون مسكنًا للروح القدس (بالمعمودية التي هي موت مع المصلوب وقيامة معه)... وإذا صرنا في مصالحة مع الله، بالتبعية تصير لنا حياة النصرة على الشيطان. لأنه حيثما وجد النور تتبدد الظلمة، وحيثما يعلن الحق يفسد الباطل، وحيثما يعمل البر الحقيقي يموت الإثم والشر.
هذا كله إن أمسكنا بالصليب وحاربنا الشيطان وجاهدنا وصارعنا حتى الدم كقول الرسول.
على الصليب إنفتح جنب يسوع وخرج دم ودماء، ليعتمد قابل الإيمان ويتقدس فيدخل من الجنب المطعون وتصير له شركة حقيقية في المسيح... إذ يصبح عضوًا حيًا في الكنيسة جسد المسيح السري فتصير ما وهبنا هو للمسيح... إذ اشترانا بالكلية ولم يعد لنا شيئًا في نفوسنا أو أجسادنا لهذا صارت لنا الغلبة على الشهوات والإغراءات والضيقات... وصارت لنا قداسة المسيح أو قل صار المسيح هو قداستنا وبرنا... إن قبلنا عمل نعمته مجاهدين إلي النفس الأخير بغير توان.