البابا شنوده الثالث
القديس الأنبا أنطونيوس جاَهَد وانتصر
لم يمتلئ بالروح القدس وهو في بطن أمه، كالقديس يوحنا المعمدان. ولكنه ولد كشاب عادى، من أسرة غنية. وكان المنتظر لمثله أن يرث أباه في غناه وسلطته، وأن يتزوج، ويعيش سعيدًا في ظل الغنى والعظمة، ويكون ناجحًا في حياته وكل الإمكانيات متوفرة.
ولكن الأنبا أنطونيوس جاهد لا لكي يستفيد من هذه الإمكانيات، وإنما لكي ينحل منها جميعًا. وكيف كان هذا؟
1- نجح في اختبار "ما أعسر أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (مت19: 23). قال السيد المسيح هذا، أما الأنبا أنطونيوس، فأجابه: لا تحسبني يا رب من هؤلاء الأغنياء. أنني حسب وصيتك سأبيع كل مالي وأعطيه للفقراء وأتبعك فقيرًا.
والشاب الغنى أنطونيوس دخل الملكوت، وأدخل الآلاف معه....
حقًا كان يملك المال، ولكن المال لم يكن يملكه..
كان هو السيد على المال، يصرفه كيفما شاء. ولم يسمح للمال أن يكون سيدًا، يقوده في مسالك أخرى.
ولأن المال لم يملك قلبه، استطاع أن يتركه ويوزعه، ويمضي إلى الملكوت بدونه. وحينما كان الشياطين ينثرون الذهب أمامه على الرمل، ما كان يهتم به. كان كالحصى في نظره. وفقد المال قيمته في قلب الأنبا أنطونيوس، لأن قلبه كان منشغلا بما هو أثمن وأهم.
إذن المال في حد ذاته ليس هو الخطورة، وإنما الخطورة تكمن في محبة المال، والتعلق به والسعي وراءه، والاتكال عليه، والافتخار به.
2- وكما انتصر الأنبا أنطونيوس على محبة المال، أنتصر أيضًا على محبة الجاه والسلطة، فلم يهتم بأن يكون له مركز أبيه.
3- بل انتصر على محبة العالم كله. ونفذ وصية: "لا تحبوا العالم والأشياء التي في العالم، لأن العالم يبيد وشهوته معه".
وصار الأنبا أنطونيوس قلبًا نقيًا خالصًا، وليس فيه شيء من شهوة المادة والجسد والملاذ الدنيوية المتنوعة.
كان قلبًا مات تمامًا عن العالم وكل ما فيه.
4- وكما انتصر في كل هذه الميادين، أنتصر على محبته لأخته أيضًا، ونجح في تدبير مسئوليته من جهتها..
كان يمكنه أن يقول: ماذا أفعل؟ أنا أريد الرب، ولكن ظروفي العائلية لا تساعدني، وأنا مسئول عنها..؟
كان يحب أخته، ولكن كان يحب الرب أكثر من أخته، لذلك أمكنه أن ينتصر. وأودع أخته في أحد بيوت العذارى، وشق طريقة نحو الله، منتصرًا على هذه العقبة.
5- وفي أول جهاده، حاربه الشياطين بشكوك عديدة، فانتصر عليها.
شكوك من جهة صحة الطريق ذاته، وإمكان استخدام المال في أعمال الخير تحت إدارته وتصرفه.. وهكذا يوقعونه في التردد. ويحولونه من حياة الصلاة والتأمل إلى حياة الخدمة..
شكوك أخرى من جهة أخته ومدى اطمئنانه عليها.
شكوك ثالثة من جهة نجاحه في هذا الطريق، وقدرته على الاستمرار فيه... وشكوك عديدة أخرى لا حصر لها.
ولكن قلبه كان راسخًا، لم يتزعزع إطلاقًا أمام الشكوك.
6- صادفت الأنبا أنطونيوس عقبة أخرى هي الإرشاد، فانتصر عليها:
عاش وحيدًا، بلا مرشد، بلا أب اعتراف، بلا كنيسة، بلا معونة من أحد. ولكنه انتصر على هذا كله أيضًا..
أخذ أولًا من النُّسَّاك الذين إلى حافة القرية. ولما دخل إلى الجبل، بدأ يأخذ من الله مباشرة. وأعطانا درسًا أنه حيثما لا توجد معونات بشرية، فإن المعونة الإلهية لا تتخلى.
ومنح الله لهذا القديس إفرازًا وفهمًا روحيًا وحكمة لم تكن للذين تمتعوا بإرشاد من البشر.
7- ثم دخل الأنبا أنطونيوس في حرب أخرى وانتصر فيها، وهى حرب الرعب والخوف، في البرية القفرة المنعزلة..
لما وجد الشياطين أن المال والعظمة لا تهمه، وأن الأفكار والشكوك لا تزعزعه، وأن الشهوات لا تغلبه بدأوا معه حربًا عنيفة لإخافته. فكانوا يظهرون له في هيئة وحوش كثيرة، لها أصوات مخيفة عالية، تهجم عليه بقصد افتراسه. ولكن قلبه ما كان يخاف..
بل انتصر على هذه المخاوف بوسائل ثلاث: الاتضاع، والفهم، والصلاة:
بالاتضاع كان يقول لهم: [أيها الأقوياء، ماذا تريدون منى أنا الضعيف أنا أضعف من أن أقاتل أصغركم]. وكان يصلى قائلا: [أنقذني يا رب من هؤلاء الذين يظنون أنني شيء، وأنا تراب ورماد]. فلما كانوا يسمعون هذه الصلاة المملوءة اتضاعًا، كنوا ينقشعون كالدخان.
ومن جهة الفهم، كان يقول: [أنني أعجب لتجمهركم على بهذه الكثرة. ولو كنتم أقوياء حقا. لكان واحد منكم يكفى] وهكذا بالإيمان أيقن من ضعف الشياطين، وكان هذا الإيمان يخزيهم فيمشون..
وقد استعملوا معه طرق الإيذاء والضرب، وبخاصة حينما كان ساكِنًا في مقبرة، ولكنه صمد وكان يصلي مزمور "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب عاضد حياتي ممن أرتعب؟! إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي. وإن قام على القتال، ففي هذا أنا مطمئن".
وكان في أيمان عميق يقول لمهاجميه: [إن كان الله قد أعطاكم سلطانًا علي، فَمَنْ أنا حتى أقاوم الله؟! وإن كان الله لم يعطكم سلطانًا علي، فلن يستطيع واحد منكم أن يؤذيني].
وهكذا عاش الأنبا أنطونيوس في حياة الإيمان، لا يخاف.
وفي كل مرة ينتصر، كان يزداد أيمانه، وينتزع منه الخوف بالأكثر، إلى أن زال منه الخوف تماما، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وقال أيضًا: [أنا لا أخاف الله،لآني أحب الله].
هذا هو رجل الجبال، جبار البرية الذي لا يخاف، حتى من الوحوش المفترسة، وحتى من الشياطين.
وبخبرته الروحية، استطاع فيما بعد أن يجمع تلاميذه، ويلقى عليهم كلمة عميقة عن ضعف الشياطين وعدم الخوف منهم. وقد سجل لنا القديس أثناسيوس الرسولي هذه الكلمة في كتابه عن حياة الأنبا أنطونيوس.
وفي انتصار الأنبا أنطونيوس وعدم خوفه، ظل محتفظًا بتواضعه.
يشعر بضعفه، يصرخ إلى الله، فينقذه الله بقوته الإلهية.
قال الأنبا أنطونيوس: [في إحدى المرات أبصرت فخاخ الشيطان مبسوطة على الأرض كلها. فقلت يا رب من يفلت منها؟ فأجابني الصوت قائلًا: "المتواضعون يفلتون منها"].
8- ولعل من مظاهر التواضع العملي في حياة الأنبا أنطونيوس، وعدم التشبث بفكره، أنه كان يخضع لِفِكْر الآخرين أحيانًا.
ولا شك أن في انتصار من الإنسان على نفسه..
وسنضرب لهذا الآمر في حياة قديسنا عدة أمثلة:
أ- إنه اقتنع بحياة الوحدة ومارسها، وعاش 30 سنة مغلقًا على نفسه لا يرى وجه إنسان.. وأخيرًا ازدحم الناس على بابه، مُصِرِّين أن يفتح لهم، وأن يصير لهم مرشدًا. وكان ممكنًا لهذا القديس أن يهرب من هؤلاء، حتى لو فتح لهم، وأن يتمسك بحياة الوحدة الكاملة التي أرادها لنفسه. ولكنه خضع لهم وَتَحَوَّل من متوحد بالمعنى الكامل إلى متوحد وَمُعَلِّم للوحدة. واضطر أيضًا أن يفتح بابه لكثير من الزائرين. وَغَيَّر شيئًا من أسلوب حياته، لأجل الناس. وقبل الوضع الذي أراده له، وتنازل عما أراده لنفسه.
ب- في اعتقاده أن الرهبنة موت عن العالم، وبعد عن العالم، وحياة وحدة في البرية. ولكن لما طلب إليه الآباء الأساقفة أن ينزل ليعلن رأيه في الأريوسية، خضع لهم، ونزل إلى الإسكندرية، وسط جماهير الشعب، وقضى هناك ثلاثة أيام، أكمل فيها الرسالة المطلوبة منه، ثم عاد ملتمسا ديره...
كان من النوع المطيع (المهاود)،على الرغم من نزوله وقتذاك كان من حوالي المائة من عمره..
ج- ونزل قبل ذلك أيام الاستشهاد، وكان يذهب إلى حيث محاكمة الشهداء وتعذيبهم، ويشجعهم ويقويهم.
في تواضعه، انتصر على التطرف، وعلى التحجر والجمود عند فكر معين. أعطاه التواضع مرونة وسهولة في التعامل..
9- وانتصاره على التطرف، جعله معتدلًا في حياته، يسير بإفراز وحكمة، سواء مع الناس، أو مع نفسه أيضًا.
أ- قال عنه القديس الأنبا أثناسيوس، إنه لما خرج من وحدته وحبسه لمقابلة الناس، ما كان نحيفًا جدًا بسبب النسك، ولا كان بديلًا مترهلًا بسبب قلة الحركة في حبسه. إنما كان معتدلًا في قامته، لأنه كان يسلك في وحدته باعتدال وعدم تطرف.
ب- وظل الإفراز من أولى الفضائل التي يحبها، حتى أنهم حينما سألوه عن أهم الفضائل، قال لهم الإفراز، أي الفهم والتميز والحكمة في التصرف.. وقال أنه هناك من صاموا وصلوا وسكنوا البرية، وهلكوا، لأنهم تصرفوا بغير إفراز.
أما هذا القديس فقد كان يسلك بفهم واتزان وحكمة وتمييز، بعكس الرهبان الذين يتطرفون في أي قانون من قوانين الرهبنة، حتى يخرجهم تطرفهم ليس فقط عن مبادئ الحياة الرهبانية، إنما أيضا عن مبادئ السلوك الروحي عمومًا..
ج- وفي انتصاره على التطرف، انتصر على التزمت أيضًا:
ولذلك كان بشوشًا باستمرار، وجهه يفيض بالسلام على الآخرين، فاشتهى تلاميذه مجرد النظر إلى وجهه. وكان كل من ينظر إلى وجهه يمتلئ بالسلام.
وهكذا انتصر القديس أنطونيوس على حرب الكآبة التي يقع فيها رهبان كثيرون، ولا يوجدون أمامهم في الكتاب المقدس سوى عبارة: "بكآبة الوجه يصلح القلب" ناسين الآيات التي تقول: "أفرحوا في الرب كل حين"،"فرحين في الرجاء".. فحياتهم في الرهبنة كلها عبوسة..!
أما الأنبا أنطونيوس، فلم يكن هكذا. كان بشوشًا ولطيفًا. ومع ذلك فيه كل فضائل الرهبنة. يحيا في وحدة وفي صمت. وإذا ألتقي بالناس، يلتقي بهم في سلام وحب، يعطى فكرة عن المتدين السعيد بتدينه، الذي تنظر إلى وجهه فتتعلم الهدوء والسلام والبشاشة والطمأنينة واللطف.
كان صاحب وجه مُريح..