صلاة من أجل المؤمنين
17: 20- 26
أصلّي لأجل الذين قبلوا كلامهم فآمنوا بي. إجعلهم كلّهم واحداً.
إنّ ف 17 هو خاتمة الوداع (ف 13- 17): فربّ العائلة أو المسؤول عن الجماعة يحسّ أن ساعة "الذهاب" قد حلّت، فيرفع للمرّة الأخيرة صلاة من أجل أبنائه أو من أجل شعبه. هذا ما فعله موسى حين رفع صلاته إلى الله (تث 32) وبارك القبائل (تث 33) قبل أن يموت على جبل موآب ويُدفن في الوادي (تث 34: 5- 6).
يتوازى ف 17 مع ف 13 ويستعيد بعض مواضيعه، مثل الساعة (13: 1؛ 17: 1). تمجيد الإبن بالآب (13: 31- 32؛ 17: 1، 4- 5). الغاية (13: 1؛ 17: 4). دور يهوذا كأداة في يد إبليس (13: 2؛ 17: 12)، وحسب ما قالت الكتب (13: 18؛ 17: 12).
في الأناجيل الإزائية، رفع يسوع أيضاً صلاته إلى الله أبيه في ليلته الأخيرة (مر 14: 34- 36). ولكنها كانت صلاة في الألم والدموع فدلّت على بشريته. أما هنا في إنجيل يوحنا، فبدأ يسوع في كل كرامته كابن يحادث أباه حديثاً حميماً. فكأنه منذ الآن قد دخل في أبديّة الله.
بدأت صلاة يسوع بشكل دعاء بنوي. أباً، يا أبتاه. وركّز صلاته على تلاميذه. ولكن صلاته لم تقتصر على تلاميذه الذين أمامه، بل وصلت إلى جميع الذين سيؤمنون به. إذن إلينا نحن العائشين في هذه الأيام.
"لا أصلّي لأجلهم فقط، بل أصلّي أيضاً لأجل الذين يؤمنون بي بفضل كلامهم". هي صلاة تنفتح على المستقبل، تنفتح على الزمن التاريخي للكنيسة السائرة نحو الوحدة (آ 20- 23)، للكنيسة التي هي جماعة نالت وعداً بالسعادة في نهاية الأزمنة (آ 24، 26). إن صلاة يسوع تشمل المؤمنينْ الذين يقرّون بعلاقة حميمة مع الآب (1 يو 4: 2- 3. هذا هو المعيار الذي يميّز المؤمنين الحقيقيين عن الآخرين) بفضل الذين يعظون بالكلمة. والمشاركة مع الجماعة تقوم لا على معايير أخلاقية، بل على خيارات كرستولوجية، على موقف المؤمنين من يسوع المسيح.
إن الوحدة (آ 21) التي لأجلها يصلّي يسوع هي أولاً عطية الله الذي يمنح الجماعة أن تكون على صورة الآب والابن: "ليكونوا واحداً كما نحن واحد". وترتبط هذه الوحدة بحياة الله التي يشارك فيها المؤمنون. ومن هذه الحياة التي ننالها تنبع شراكة قوية بين البشر يربطهم الإيمان الواحد والممارسات الواحدة. هذه الوحدة هي حاضرة منذ الآن هنا، ولكنها أيضاً وعد اسكاتولوجي، وعد يتحقّق في آخر الأزمنة، وعد ينفتح على جماعة الأزمنة الأخيرة.
وهذا الإنفتاح يبدو بوضوح في الآيات الأخيرة (آ 24- 26). فشهود يسوع أكّدوا أنهم رأوا مجده (1: 14). والموت (مع القيامة) هو الموضع الذي فيه ظهر هذا المجد (17: 2). وفي الأزمنة الأخيرة سيكون ملء هذا المجد منظوراً، "سنعاينه كما هو" (1 يو 3: 2).
"أريد" (آ 24). نأخذ هذا الفعل في معناه القوي. إنه يدلّ على الإرادة الأخيرة لذلك الذاهب إلى الموت. فيسوع الذي تخضع إرادته لإرادة الآب (4: 34؛ 5: 30؛ 6: 38) يمتلك إرادة خاصة متناسقة كل التناسق مع إرادة الآب (5: 30؛ 6: 38). وهذه الإرادة تبرز السبب الأخير لمجيئه: "ليكونوا معي، وليعاينوا مجدي". نلاحظ أن المجيء الأخير ليسوع الذي يجمع المؤمنين ويشركهم في سعادته، يعبّر عنه بشكل روحي، فيستغني النصّ عن الصور المعروفة في الأخبار الجليانية (كما في سفر الرؤيا). فالاسكاتولوجيا التي تحققت والاسكاتولوجيا الأخيرة لا تتعارضان، بل تتكاملان: "عرّفتهم إسمك... وسوف أعرّفهم به": فالمعرفة الأخيرِة ليست ممكنة إلاّ لأنها قد تدشّنت منذ الآن في حياة المؤمن.
ووحي يسوع الإلهي يجمع المعرفة والحبّ: فحضور يسوع وسط تلاميذه هو نتيجة حبّه لهم، وهو أيضاً التعبير عن هذا الحبّ. ويختتم يسوع وحيه بنظرة سريعة إلى تاريخ العهد: فبعد وحي سيناء، حلّ مجد الله على خيمة العهد وسط شعبة (خر 40: 34). وكان يسوع في حياته مجدَ الله كما تجلّى للبشر (1: 14). أما الآن فهذا المجد يقيم في جماعة المؤمنين (17: 22).
هذه صلاة يسوع من أجل تجمّع شعب الله الجديد.
فمشروع الله هو أن يجمع كل البشر في المحبة، في المسيح، فيحطّم كل حواجز البغض والتفرقة.
وموضوع التجمّع نجده بارزاً عند الأنبياء. ففي زمن المنفى في بابل، وساعة اقتلع شعب الله من أرضه وتشتّت في كل مكان، أحسّ هذا الشعب برغبة جامحة بأن يجتمع ويتوحّد. وصارت هذه الرغبة رجاء لأن الشعب تقبّل الوعد من الله. وهذا التجمّع سيكون عمل الله نفسه، إمّا بشخصه وإمّا بواسطة مرسليه (أش 2: 2- 5؛ إر 31: 10؛ حز 34). هو يعني الشعب المختار، ويعني أيضاً كل شعوب الأرض. ويقدّم لنا يسوع في الإنجيل على أنه الراعي الصالح الذي وعد به حز 34 (يو 10: 2- 4، 11- 19). هو لا يكتفي بأن يؤمّن الطعام لينال كل واحد الحياة، ولكنه يأتي من أجل ولادة شعب الله الجديد مع كل أبعاده المنتظرة. مثل هذا الشعب لا حدود له، وهو لا ينحصر في الذين سبق لهم وآمنوا به (10: 16).
إن الرباط بين موت يسوع وتجمّع أبناء الله المشتّتين في الوحدة، واضح كل الوضوح في إعلان قيافا على المجلس الأعلى (11: 49- 52: يموت رجل واحد عن الشعب... ليجمع) وساعة ارتفع عن الأرض حتى الصليب جذب إليه جميع البشر (12: 32). حينئذٍ سيعطي تلاميذه الروح الذي يكوّنهم جماعة وكنيسة. للوهلة الأولى لا نجد عند الصليب جمعاً كبيراً. ولكن يوحنا يرى في الحاضرين هناك نواة الكنيسة المقبلة. وحضور مريم والتلميذ الحبيب والقميص غير المخيط، كل هذا يرمز منذ الآن إلى العنصرة وولادة الكنيسة.
إن الكتاب المقدّس يجعل في نهاية الأزمنة تجمّع كل البشر في محبّة الله ومعرفته. ويرى يوحنا هذا التجمّع حاضراً حين كان يسوع على الصليب ويداه تمتدّان فترسمان بين السماء والأرض علامة العهد التي لا تمُحى. وجماعة التلاميذ والكنيسة التي تولد في ذلك الوقت ستكون علامة هذا العهد ومحرّكه وسرّه. لهذا فهي تستند دوماً إلى الافخارستيا التي تذكّرنا بآلام يسوع وقيامته.
* لمن يصلّي يسوع (آ 20)؟ يصلّي أولاً من أجل تلاميذه الذين هم حوله. وتتوسّع صلاته فتتجاوز الذين هم هنا لتنفتح على الذين يتقبّلون كلامهم فيؤمنون به. لا بدّ للرسالة من أن تحمل الثمار. والراعي الصالح يعرف أنه لم يزل هناك بعض الخراف. "فهذه يجب أن آتي بها فتسمع صوتي وتكون الرعية واحدة لراعٍ واحد" (10: 16).
* ماذا يطلب لهم (آ 21- 24)؟
يطلب أولاً: "أن يكونوا واحداً".
إن صلاة يسوع تطلب الوحدة. ويتحدّد موقع الوحدة على مستويين. فهي أولاً تجذّر التلاميذ الجدد في حياة الآب والابن، في علاقة الحبّ الجاهزة دوماً لتنفتح وتتقبّل وجوهاً جديدة.
إنّ العالم يحتاج إلى شهود لكي يؤمن. إلى شهود خبروا اللقاء مع شخص حيّ. إلى شهود لا يكتفون بتقديم تعليم مجرّد، مهما كان هذا التعليم جميلاً وعميقاً. فالحبّ الذي يحرق قلب الله (أحببتهم كما أحببتني) لا يعلنه إلاّ الذين احترقوا بهذا الحبّ وانطبعوا به.
والوحدة بين المؤمن والله هي على صورة الوحدة القائمة بين يسوع والآب: وحدة بين شخصين. وهي قوية لأن كل شخص هو في ذاته احترام عميق للآخر. يجب أن نلاقي الله دون أن نلغي ذاتنا. أو بالأحرى يجب أن نصير "أكبر" بفضل هذا اللقاء مع الله. يجب أن يطبع كل واحد بطابعه وضع ابن الله الذي أعطي له لكي يشارك فيه.
حينئذٍ تكون الوحدةُ وحدة المؤمنين فيما بينهم. فيدلّون أنهم اجتمعوا لا على أساس دستور أو فرائض، بل بفضل كلمة حيّة اجتذبتهم فقبلوا وجودهم منها.
ستكون وحدة مجموعة من المجموعات من جهة، وستكون مبعثرة. فالجميع لا يسيرون الخطوة الواحدة. ولا يقومون بالخيار الواحد. ولا يشعرون الشعور الواحد. ولا يملكون الطريقة عينها لعيش إيمانهم. ولكنهم يريدون جميعاً أن يتعاونوا ليسمعوا للآب. ويحاولون جميعاً أن يعرفوا أن النداء الموجّه إليهم يأتي من البعيد وهو يفلت من قبضتهم. ويسعون جميعاً لكي يقوموا بمسؤوليتهم أمام هذا العالم المدعوّ إلى الإيمان.
ويطلب ثانياً: "حيث أكون أنا أريدهم أن يكونوا أيضاً". وهكذا تتبدّل اللهجة. لم نعد فقط أمام لغة الصلاة، بل أمام تأكيد يعرف ماذا يطلب: أريد. إن يسوع يلتزم كلياً في ما يطلب، ويؤكّد أن ما يطلبه سوف يتحقّق.
يتكلّم يسوع عن مكان، ولكن عن أي مكان يتكلّم؟ فكّر بعضهم بحضور يسوع لدى الآب. حينئذٍ يشير النصّ إلى نهاية طريق التلاميذ: يكتشفون، عبر الموت، وبطريقة جديدة، هذه الحياة الحميمة بين الابن والآب. وفكّر آخرون بوضع التلاميذ الجديد. تركهم يسوع، عليهم أن يكونوا حيث هو الآن. ولكن لا ننسَ أنه إن كان يسوع غائباً بشكل ظاهر، فعليهم أن يأخذوا "محلّه" معه. فيسوع لا يتركهم ولا يتخلّى عنهم.
وإذ يمارسون هذه المسؤولية الجديدة، فهم سيختبرون منذ الآن ثقل هذا المجد، أي كل ما يحرّك هذا الحبّ ويحقّقه في حياة البشر. نحن هنا كما في آ 5 (مجّدني بالمجد الذي كان لي لديك من قبل كون العالم). فالمنظار انفتح واسعاً وامتدّ إلى ما وراء تاريخ العالم والخليقة.
وفي هذه النقطة من الصلاة، وصلت طريقة عرض العلاقات بين يسوع وأبيه، وبين يسوع والتلاميذ، وصلت إلى أكثر ما يكون من الواقعية: "أيها الآب، أنت فيّ وأنا فيك... أنا فيهم وأنت فيّ". كيف نعبّر عن هذه الحياة الحميمة وهذه المعرفة العميقة؟
* عرّفتهم إسمك (آ 25- 26). وتنتهي صلاة يسوع بدعاء إلى الآب العادل. حين تتحدّث التوراة عن عدالة الله فهي تعني أمانته. الله عادل لأنه أمين لذاته، أمين لعهده الذي بتّه مع البشر. وهو يعطيهم القوة لكي يكونوا معه، وليكيّفوا أمانتهم مع أمانته.
إستعملت هذه اللفظة ساعة ذُكرت المسافة بين العالم وبين الذين تبعوا يسوع فعرفوا الآب حقاً وعرفوا عدالته وأمانته وحبّه. وعرفوا أن يسوع هو مرسله حقاً.
ولا يتوقّف نشاط يسوع مع ذهابه. فهو ما زال يلعب دوره كمخبر عن الآب. هنا نلاحظ فرقاً بين ما نقول الآن وما سبق. كان يسوع قد قال: "أعطيتهم كلمتك، أعطيتهم مجدك". وهو لا يقول: "أعطيتهم إسمك". بل "عرّفتهم إسمك". فيسوع وحده هو الابن. وعلاقتها مع الآب علاقة فريدة، ونوعية هذه العلاقة لا يمكن أن تنتقل إلينا. ومع ذلك، ففيه يصبح البشر بدورهم أبناء الله.
والآن؟ من صلاة يسوع إلى صلاتنا.
لقد وصلنا إلى نهاية هذه الصلاة التي جعلها يوحنا في فم يسوع في وقت حاسم هو ساعة وداع التلاميذ والدخول في الآلام. صلاة تحمل مضموناً عميقاً والتزاماً خاصاً. يا ليتنا نستلهمها لندوّن بكلماتنا الخاصة ما نحسّ به، ما يجعلنا نحيا ونقف ثابتين، ما يحرّكنا في ضعفنا لكي نواجه المستقبل.
أيها الآب مجد ابنك. عرّفنا إسمك. إحفظنا في الوحدة. حينئذ لا تصبح كلمتك (ورسالتك) حملاً ثقيلاً، بل عطية وينبوع فرح