الظهور للمجدلية
20: 11- 20
قال لها يسوع: "مريم"! فالتفتت وقالت له بالعبرية: "رابوني، أي يا معلّم".
نجد في حياتنا أماكن ما زالت تكلّمنا، وهي ترتبط بذكريات وأحداث هامة بالنسبة إلينا. هذا ما نراه في تاريخ شعب الله، هذا ما نراه في إنجيل يوحنا.
إن يوحنا الذي يكرّس مكانة هامة للكلمات حول سرّ شخص يسوع العميق، يقدّم لنا أيضاً عدداً من الإشارات المكانية. وهكذا يُبرز الإطار الجغرافي وواقعية التجسّد.
هو يحبّ أن يذكر أماكن محبّبة إلى أناس يعرفون التاريخ البيبلي: بئر يعقوب، بركة سلوام، البستان... كل هذا يلقي ضوءاً على أقوال وأعمال يسوع في هذا الموضع. أو هو يسوع يعطي هذه الأماكن مدلولاً جديداً.
فأسماء الأماكن لا تهمّنا فقط من جهة الوثائق. بل هي تحمل شحنة من الذكريات. فالجليل والناصرة يشيران إلى أصل يسوع الوضيع، إلى منطقة غير مجيدة لا يخرج منها شيء فيه صلاح (1: 45؛ 7: 41، 52). هذه هي الوجهة الواقعية التي تصدمنا في سرّ التجسّد: "ذاك الذي جاء حقاً من عند الله" هو إنسان خرج من محيط لا أهميّة له. وضفّة الأردن في شرقي الأردن هي موضع الشهادة الحاسمة التي قام بها يوحنا حيث عمّد واجتذب الجموع إليه (1: 28؛ 10: 41- 42). والسامرة هي المنطقة التي أعلن فيها يسوع أن أطر العالم اليهودي قد تكسّرت من أجل عبادة في الروح والحقّ. وفي السامرة أيضاً إرتسم مجيء الوثنيين إلى يسوع. واليهودية هي الأرض التي تكون فيها حياة يسوع مهدّدة. وأورشليم والهيكل هما في قلب نشاط يسوع في نظر يوحنا. ففيهما قال يسوع معظم خطبه. فالهيكل هو بيت أبيه، والموضع الذي فيه عرّف الله بذاته وجعل الناس يلاقونه في العهد القديم. هناك رأى أشعيا مجد الله، مجد يسوع (12: 41). والهيكل هو أخيراً موضع وحي يسوع إلى العالم جهاراً (18: 20)، حيث كان يهود العالم كله يتزاحمون خلال أعيادهم الكبيرة.
وإطار رسالة يسوع، وإطار سامعيه، هو العالم (7: 4؛ 12: 46؛ 16: 28؛ 17: 18، 23؛ 18: 20، 37). فالمدى التقليدي لشعب التوراة سيتوسّع فيتخذ أبعاد العالم كما وعد الله بذلك.
غير أن الله أرسل ابنه في زمان البشر ومكانهم ليحطّم الحدود ويُدخل البشر في زمان ومكان يتجاوزانهم. لقد جاء يسوع من عند الآب "إلى هذا العالم". وهو يدعو البشر "لكي يأتوا إليه". ثم انتقل إلى الآب لكي يستطيع البشر أن يكونوا معه. هذه الحركة هي تعبير عن مسيرة حيوية وداخلية وروحيّة. هي محدّدة في مكان ما، ونستطيع أن نعيشها في كل مكان.
هناك مدى جديد يهمّ لقاءنا بالله. هو غير محدّد جغرافياً. ولكنه في متناولنا أينما كان. هو يسوع نفسه، الهيكل الجديد: نقيم فيه حين نقيم في كلمته، في حبّه، حين نأكل جسده المُعطى لحياة العالم. وهو أيضاً جماعة التلاميذ المجتمعين فيه باسم إيمانهم.
البُشرى هي مجيء الله إلى الإنسان في يسوع الابن والمرسل. لقد عبر المساحات اللامحدودة التي تفصل البشر عن الله. واجتذبهم بروحه ليعبروا هذه المسافة على طرفات الحبّ والإيمان، لكي يأتوا إلى الآب من أجل حياة مدعوّة منذ الآن لتنتصر على الموت والخطيئة.
المسيح هو ابن الإنسان الذي يصل بين عالمين (1: 51). مجيئه إلى العالم حمل حضوراً يتيح للبشر أن ينتقلوا إلى الآب منذ الآن، وأن يقيموا في العالم. ففي الأمكنة التي يسكنها البشر، فُتح باب وجرى ينبوع لكي تكون لنا الحياة الأبدية، وتكون وافرة.
كل هذا يقودنا إلى الحديث عن يسوع الذي قام من بين الأموات، وعن ظهوراته.
يورد ف 20- 21 أربعة ظهورات ليسوع بعد قيامته: ظهور لمريم المجدلية (آ 14- 18)، ظهور للتلاميذ من دون توما (آ 19- 23)، ظهور للتلاميذ مع توما في الأسبوع التالي (آ 26- 29)، ظهور للتلاميذ على شاطىء البحيرة (ف 21، وقد رُوي فيما بعد وزيدَ على الإنجيل). هناك جزء من هذا الأساس الاخباري مشترك بين الأناجيل الأربعة (القبر الفارغ، الظهور للنسوة). ولكن يوحنا قد أعاد كتابة المراجع التي استقى منها الإزائيون أيضاً. فأعطى طابعاً شخصياً لخبرات الإيمان بعد القيامة، وربطها بأشخاص محدّدين يشكّل كل منهم مثالاً عن الإيمان يختلف عن الآخر: فالتلميذ الذي كان يسوع يحبّه آمن دون أن يرى (20: 8). ومريم المجدلية لم تعرفه إلاّ بعد أن تلفّظ باسمها (20: 16). والتلاميذ رأوه وآمنوا به (20: 20). وتوما لم يؤمن إلاّ بعد أن رآه ولمسه.
تشكّل الآلام والموت في نظر يوحنا ساعة التمجيد. فقيامة يسوع وظهوراته في المجد مهمة، لأنها تكرّس مجمل مسيرة يسوع التي فسرّت منذ البداية انطلاقاً من القيامة: "حين قام من بين الأموات، تذكّر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب، وبالكلام الذي فاه به يسوع" (2: 22).
وإذا توقفنا عند 20: 1- 18، نرى أن هذه المتتالية مبنيّة حول أربعة أشخاص: مريم المجدلية، بطرس، التلميذ الآخر، يسوع. وهي تجري عند القبر، في اليوم الأول من الأسبوع (يوم الأحد)، في الصباح الباكر. إفتتحت مريم المجدلية الخبر وأغلقته في بلاغين حملتهما إلى التلاميذ: في بلاغ أول دفعتهما إلى التحرّك نحو القبر (آ 2). في بلاغ ثانٍ أعلنت لهم القيامة (آ 18). واختلف المشهدان. فالحدث المخصّص لمريم المجدلية قطعَته زيارةُ التلميذين. ومع ذلك، نرى صعوداً دراماتيكياً في هذا الجري إلى القبر: مريم "رأت الحجر مرفوعاً عن القبر" (آ 2). التلميذ الآخر "رأى اللفائف مطروحة هناك" (آ 7). بطرس "رأى المنديل واللفائف" (آ 6). أخيراً، التلميذ الآخر "رأى وآمن" (آ 8). عبر هذه الإشارات التي تتوضّح شيئاً فشيئاً، إستعدّ القارىء للعبور من العلامات إلى الوحي عن قيامة يسوع.
وجد يوحنا تقليداً يتحدث عن نسوة عديدات (لا نعلم نحن، "الجمع" أين وُضع، آ 2). ذكر مت 28: 1 إمرأتين: مريم المجدلية ومريم الأخرى. ومر 16: 1 ثلاث نسوة: مريم المجدلية، مريم أم يعقوب، سالومة. ولو 24: 10: مريم المجدلية، حنّة، مريم أم يعقوب، وسائر النساء. أما يوحنا فبنى إنجيله حول شخص مريم المجدلية وحدها. لم يكن لزيارتها إلى القبر وظيفة محدّدة، لأن المسح بالطيب قد تمّ يوم الجمعة على يد يوسف الرامي ونيقوديمس. مسيرتهُا هي مسيرة الحنان والتقوى. إنها لا تريد أن تنفصل عن يسوع، فيطول زمن الحداد (كما في 11: 31). ويشير النصّ إلى الليل (ليل الموت) وإلى بداية (اليوم الأول). لقد رُفع الحجر عن القبر. وهكذا فعل يوحنا مثل سائر الإنجيليين، فحافظ على سرّ تدخل الله الذي تمّ بدون شهود وقبل وصول مريم إلى القبر. وتأخّر اللقاء بين يسوع ومريم المجدلية بإدخال تحرّك المرأة إلى التلميذين (آ 3- 10).
إن بطرس والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه هما حاضران منذ بداية آلام يسوع، الواحد قرب الآخر. حضور بطرس حضور معذّب بعد خيانته للربّ. وحضور التلميذ الآخر هو حضور الأمانة. كانا نشيطين خلال الآلام، وهما كذلك في اكتشافهما لسرّ القيامة. هناك مسافة بينهما، والتلميذ الآخر يتفوّق على بطرس بإيمانه واستعداده. وصل قبل بطرس إلى القبر فدلّ على همّته واستعداداته. ثم إنه "رأى وآمن": إن العبارة الموجزة تشير إلى العبور من "رأى" إلى تعلّق تام بيسوع القائم من بين الأموات. ومشهد الثياب الموضوعة بترتيب يشهد على أنّ جثمان يسوع لم يُسرق، بل على أن يسوع ذهب إلى مكان آخر تاركاً ثيابه حيث كان يلبسها. إختلف يسوع عن لعازر الذي خرج ملفوفاً بالقماطات، فما احتاج إلى ثيابه لأنه ترك عالم البشر.
لم يقل يوحنا شيئاً عن إيمان بطرس (إن لو 24: 12 يقول إن بطرس تعجّب حين رأى الأكفان). إن الكتب التي لم تكن بعد مقنعة بما فيه الكفاية، قد أثبتتها إشارات تجمّعت على طريق التلميذين. عادا إلى "بيتهما" حيث ستحمل إليهما مريم المجدلية البُشرى. لا جدال ولا مزاحمة، بل وُضع كل تلميذ في مكانه: دخل بطرس أولاً فصار بالنسبة إلى الكنيسة شاهداً لا نقاش في شهادته. وامتاز التلميذ الآخر بتعلّقه بالربّ تعلّقاً تاماً. وهذه العلاقة المتشعّبة بين التلميذين ستتوضّح في ف 21.
ونصل إلى الظهور لمريم المجدلية (آ 11- 18).
خصّص القسم الأكبر من القطعة للبحث عن جسد يسوع. بحثت مريم ولكن بدون جدوى. سيطر عليها بحثها، ودفعها حبّها فتحدّثت عن يسوع على أنه "ربيّ". وترنّ الكلمة في أذن القارىء وكأنها لقب القائم من الموت، فتستبق بالنسبة إليه إعلان القيامة. أعمى الحزن والحبّ مريم، فلم ترَ الأشياء التي تقف أمام ناظريها فتشكّل حاجزاً بينها وبين ما تبحث عنه. شدّد بكاؤها على حزن الخسارة وعلى ألم يمنعها من أن تعيش ملء حدادها قبل الإنفصال الكامل عن جسد يسوع. إنتقلت من "وسيط" إلى "وسيط" بدون جدوى: فالتلميذان اللذان سألتهما لم يقدّما لها عوناً كبيراً. ورؤية الملاكين (اللذين هما في نظر الإزائيين علامة عن اجتياح الله في دنيا البشر) تركتها لا مبالية: ظنّت أنها ترى البستاني. لقد بُني الخبر بطريقة تبرز التحوّل الذي صنعته القيامة في كائن يسوع والطريقة الجديدة التي بها نتمسّك به، نتعلّق به.
إن رؤية يسوع بحسب الجسد سائرة في طريق الزوال، وقد بدأت معه علاقة جديدة مؤسّسة على سماع الكلمة (مع توما يحلّ الإيمان بدل الرؤية). فكما أن كسر الخبز في لو 24 فتح أعين تلمذَي عمّاوس، فقد حرّك نداء يسوع لمريم باسمها قلب هذه المرأة فعرفته. فالخراف تسمع صوت الراعي وهو يناديها بأسمائها (10: 3). بدأ الحوار بشكل نداء وجّه إليها: "مريم"! دُعيت باسمها فأجابت في اللغة الأرامية إلى ذاك الذي عرفته من صوته. إنه "المعلّم"، رابوني. ثم جاء أمر يسوع فأعلن نهاية اللقاء "الجسدي": لا تلمسيني. حلّي ذراعيك اللتين تريدان أن تحتفظا بي، أن تمسكاني. منذ الآن لم يعد يسوع بحسب الجسد في متناولها كما كان خلال حياته على الأرض. فبعد القيامة، صارت عيون الجسد عاجزة عن رؤيته والتعرّف إليه: وهكذا مثّلت مريمُ النفسَ المؤمنة المدعوّة إلى سماع المعلّم الذي ينادي كل واحد باسمه لكي يتبعه. إن بحثها المغرم يشير إلى بحث عروس نشيد الأناشيد التي "طلبت من تحبّه فلم تجده" (نش 3: 1). إن حبّ يسوع وطلبه لا يزولان أبداً. بل نحن نعيشهما بطريقة مغايرة.
وسلّم يسوع إلى مريم مهمة: أن تذهب إلى إخوته. فتلاميذ يسوع صاروا إخوته لأنهم أبناء أب واحد. إختلف يوحنا عن سفر الأعمال الذي جعل الصعود بعد القيامة بأربعين يوماً، فجعل يسوع يصعد إلى أبيه في يوم القيامة بالذات. ما أعلنه في 14: 1- 4 يتمّ الآن. والتمييز بين "أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" يشدّد على اختلاف في الطبيعة بين الابن الوحيد والأبناء الذين تبنّاهم الله. إنه الأولى في يعود سيتبعه فيه جميعُ إخوته إلى أبيهم السماوي.
ونعود إلى أخبار الظهور.
تشهد الأناجيل إجمالاً على إيمان التلاميذ الأوّلين: فيسوع الذي رأوه ميتاً، هو حيّ الآن. ولكن لا يروى لنا شيء في أي مكان عن قيامة يسوع في ذاتها. وهكذا اختلفت الأناجيل عن أخبار متأخرة تريد أن ترضي فضول المؤمنين، فتصوّر لهم كيف جرت الأمور. لقد رفضت الكنيسة أن تدخل هذه النصوص بين الأسفار القانونية. فالمخيّلة والعنصر العجائبي يلعبان دوراً مسيطراً بحيث لا تستطيع أن تجعل هذه الكتب المنحولة (إنتحلت صفة الإلهام وهي ليست ملهمة) قاعدة لإيمانها وحياتها. فالقيامة لا تقع تحت الخبرة البشرية. إنها موضوع إيمان لا موضوع خبرة حسّية.
ولكن عدة أخبار إنجيلية تروي لنا كيف وجدت النسوة أو التلاميذ القبر الفارغ، وكيف تراءى لهم يسوع بعد موته. حين نقرأ هذه الأخبار نجد النقاط المشتركة التالية:
- المبادرة تأتي من القائم من الموت. إنه هنا فجأة، دون أن نعرف كيف حضر، وبشكل يفاجئنا ويبلبلنا. وإذ أراد الكتّاب أن يصوّروا هذا اللقاء، إستعادوا مراراً ألفاظاً تقليدية في العهد القديم تتحدّث عن ظهور الله: رؤي، ظهر، تراءى.
- تقول هذه الأخبار إن يسوع حيّ حقاً.
- إنه قام، نهض. ذاك الذي هو حيّ الآن هو ذاك الذي كان مائتاً. ذاك الذي كان راقداً قد استيقظ ونهض. الرب القائم من الموت هو نفسه يسوع الناصري الذي عاش بيننا، حُكم عليه بالإعدام ووُضع في القبر.
- إنه ارتفع (مجّد) إلى السماء، أخذ إلى أعلى السماوات. هذه الكلمات الملوّنة التي تستلهم طرق الكلام في ذلك العصر، تشدّد على أننا لسنا أمام عودة بسيطة إلى الحياة كما مع لعازر الذي قام ثم مات فيما بعد. بل هي حياة جديدة بقرب الآب، حياة لا سلطان للموت عليها فيما بعد.
ومن جهة التلاميذ، ليس التعرّف إلى الربّ بالأمر السهل. فلا يكفي أن نرى. بل يجب أن نؤمن. يجب على الرسل أن يتجاوزوا قلّة إيمانهم، عدم إيمانهم.
وسلّمت مهمّة إلى التلاميذ، وهي بأن يكونوا شهوداً، بأن يكمّلوا الطريق التي بدأوها مع يسوع.
حين نحاول أن نفهم معنى هذه الأخبار، يجب أن نأخذ بعين الإعتبار مجمل هذه المعطيات: هناك حدث حقيقي، ولكن الإيمان وحده يتيح لنا أن نعيشه. هناك نمط من اللقاء يتجاوز معطيات خبرتنا العادية. إذن، لا جدوى من محاولة نتخيّل فيها كيف كانت الأمور. فليس لنا في ذاتنا خبرة من هذا النوع من اللقاء مع إنسان قام من الموت.
ليست هذه النصوص صورة "فوتوغرافية" عن الحدث. فالمؤمنون قالوا لنا بالكلمات والصور التي في متناولهم، واقعَ الخبرة الخارقة التي أُعطي لهم أن يعيشوها. أما قوّة شهادتهم فتأتي من تأسيس الكنيسة بقوّة الله الفاعلة في كلمة التلاميذ. فبدون هذه الرسالة والثمار التي حملت، تخسر أخبار الظهور الكثير من مدلولها.
وفي الوقت عينه، إن ظهورات يسوع القائم من الموت والخبرة التي عاشها التلاميذ، هي انطلاقة كل إيمان الكنيسة وحياتها. فما حصل في هذه "الظهورات" لن يتكرّر. والذين عاشوها اختبروا اختباراً فريداً هو أساس إيمان الكنيسة الذي لا يُستغنى عنه. إن كان المسيح لم يقم، فإيماننا باطل (1 كور 15: 14). فإيمان الكنيسة يرتكز على شهود قيامة الرب