رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
قيامة السيد المسيح
الأختام و التوثيق إن محاولة اليهود مقاومة تحقيق قول السيد المسيح عن قيامته فى اليوم الثالث قد أدت إلى توثيق القيامة بأختام الدولة الرومانية. لأن الوالى بيلاطس قال لليهود عندكم أختام وحراس فافعلوا ما تريدون. فذهبوا وختموا القبر بالأختام الخاصة بالدولة، ووضعوا الحراس. وبهذا تم عمل محضر بالأختام وبوضع الحراس وتم توثيق القيامة.. لأن القبر الفارغ فى بداية اليوم الثالث كان برهاناً قوياً على قيامة الرب بالرغم من الحجر والأختام والحراس. لقد ختم اليهود على جسد الرب فى يوم السبت، وتصوّروا بذلك أنهم قد تخلّصوا منه معطين إياه راحة إجبارية (على النظام اليهودى) !!.. ولكن الرب قد ختم على كنيسته فى يوم أحد العنصرة (فى يوم الخمسين) بختم الروح القدس. مثلما قام فى أحد السبوت أى فى يوم الأحد معلناً أن الحياة الجديدة والراحة الحقيقية هى فى أول الأسبوع الجديد أى فى يوم الأحد. إن أول الأسبوع الجديد هو اليوم الثامن الذى يقع خارج الأسبوع القديم وهو إشارة إلى الحياة الجديدة وإلى الحياة الأبدية التى تقع خارج هذا الزمان الحاضر. لقد تم توثيق ميلاد السيد المسيح فى بيت لحم بالاكتتاب الأول الذى صدر به أمر من أوغسطس قيصر وجرى إذ كان كيرينيوس والى سوريا (انظر لو2: 2). وتم توثيق موت السيد المسيح بحكم الإعدام صلباً الذى أصدره الوالى الرومانى بيلاطس ممثل قيصر روما فى أورشليم فى ذلك الحين. ولابد أن توثق أحكام الإعدام عند الوالى. وتم توثيق قيامة السيد المسيح بمحضر ختم القبر الذى طلبه اليهود وأصدر الوالى الرومانى أمراً بتنفيذه وبوضع الحراس إلى اليوم الثالث وذلك بعد أن تأكد من جنوده عن موت السيد المسيح بعد أن طعنه جندى بالحربة. حقاً لقد ولد السيد المسيح وصلب ومات وقبر وقام من الأموات فى اليوم الثالث. لقد أخبر السيد المسيح تلاميذه أنه سوف يقوم من الأموات فى اليوم الثالث. وقد وصلت هذه الأخبار إلى اليهود قبل الصلب بفترة من الوقت. ولذلك فبعد موت السيد المسيح على الصليب ووضعه فى القبر، ذهبوا إلى بيلاطس وقالوا له: “قد تذكّرنا أن ذلك المضل قال وهو حى: إنى بعد ثلاثة أيام أقوم، فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتى تلاميذه ليلاً ويسرقوه.. فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى” (مت27: 63، 64). لذلك حرص السيد المسيح أن يقوم باكراً جداً فى يوم الأحد أى فى أول الأسبوع حتى تحدث القيامة قبل انصراف الحراس بوقت كافٍ. ولكى ينصرف الحراس بعد مجيء الملاك ودحرجته الحجر عن باب القبر مع الزلزلة التى حدثت، وبعد أن يكتشفوا على أثر ظهورات ملائكة القيامة أن القبر فارغاً، ولم يبصروا جسداً ميتاً بداخله بعد اختفاء الملائكة لأن السيد المسيح قام قبل دحرجة الحجر عن باب القبر. وفى انصراف الحراس فى بداية اليوم دليل على قيامة السيد المسيح. لأنه كان من المفروض أن يستمروا فى الحراسة إلى غروب يوم الأحد. ولكن أخبار القيامة بدأت تنتشر من فجر الأحد واستمرت فى الانتشار طوال اليوم. وبعد أن أصبح بقاؤهم شيئاً مخجلاً أمام النسوة وكل من يحضر لمشاهدة القبر الفارغ، جاء الحراس إلى المدينة فى أول اليوم وأخبروا اليهود بكل ما كان فأعطوهم فضة كثيرة لكى لا يتحدثوا مع أحد بأخبار القيامة، بل يقولوا إن تلاميذه قد أتوا ليلاً وسرقوه وهم نيام، ووعدوهم بأنهم يستعطفون الوالى من أجلهم لكى لا يؤذيهم لسبب نومهم أثناء الحراسة. وهنا نتساءل: كيف أبصر الحراس تلاميذه وهم يسرقونه إن كانوا نياماً؟! لأن النائم لا يستطيع أن يبصر شيئاً!!.. وكيف تنازل اليهود عن نوم الحراس وسرقة جسد السيد المسيح؟ ولماذا لم يطالبوا بإعدام الحراس حسب القانون الرومانى؟!! وكيف يستعطف اليهود الوالى من أجل الحراس فى الوقت الذى كانوا فيه حريصين جداً أن لا يُترَك القبر بلا حراسة لئلا يأتى تلاميذه ويسرقوه ويقولون إنه قد قام فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى حسب قولهم؟! أى أن أخبار القيامة بالنسبة لهم تعتبر أفظع من إقرار السيد المسيح عن نفسه أنه هو “المسيح ابن المبارك” (مر14: 61) أمام مجمع السنهدريم عندما سأله رئيس الكهنة عن ذلك!!. قام السيد المسيح من الأموات باكراً جداً فى أول الأسبوع أى فى يوم الأحد وترك القبر فارغاً والحجر موضوعاً ومختوماً والحراس الرومان يحرسون حراسات الليل والنهار. “وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن باب القبر وجلس عليه. وكان منظره كالبرق، ولباسه أبيض كالثلج. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات” (مت28: 2-4) ولكنهم لم يبصروا الرب القائم من الأموات. وجاءت المريمات إلى القبر حاملات الطيب “وكن يقلن فيما بينهن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر. فتطلعن ورأين أن الحجر قد دُحرج لأنه كان عظيماً جداً. ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حُلة بيضاء فاندهشن. فقال لهن لا تندهشن، أنتن تطلبن يسوع الناصرى المصلوب، قد قام، ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذى وضعوه فيه. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل” (مر16: 3-7) بعد ذلك تأكد الحراس من خلو القبر الفارغ سوى من الأكفان، فذهبوا بسرعة إلى المدينة وأخبروا رؤساء اليهود بما حدث، وأنه لم يكن بمقدورهم أن يمنعوا القيامة الفائقة للطبيعة. وأنه قد أسقط فى أيديهم، فليس من الممكن حراسة من هو فوق الزمان والمكان. تآمر اليهود شعر رؤساء اليهود بالورطة التى أدخلوا أنفسهم فيها حينما طلبوا من الوالى الرومانى أن يختم القبر بأختام الدولة الرومانية ويضع له الحراسات اللازمة لضبط القبر إلى اليوم الثالث. وها هى القيامة التى حاربوها وقد أصبحت موثقة رسمياً بأختام الدولة وفى سجلاتها فى محضر الأختام وتعيين الحراسة. وفكروا فى الخروج من هذا المأزق فقالوا للحراس قولوا إن تلاميذه قد أتوا ليلاً وسرقوا جسده ونحن نيام ونحن نستعطف الوالى لكى لا يعاقبكم وأعطوهم فضة كثيرة لترديد هذا القول. وهل من الممكن أن ينام الحراس أثناء دحرجة الحجر العظيم وما ينتج عن ذلك من ضوضاء شديدة؟! كيف يُقال أن الجسد قد سُرق؟ ألا يستطيع اليهود أن يبحثوا عن جسد الرب يسوع فى كل بيوت أورشليم؟ ألا يستطيع اليهود أن يبحثوا عنه فى كل جبال اليهودية؟ ألا يستطيع اليهود أن ينقبوا الأرض فى كل مكان باحثين عن الجسد؟ ألا يمكنهم مطالبة الوالى الرومانى بإرسال الجنود فى كل مكان موضع للبحث عن جسد يسوع؟ ألم يكن التلاميذ فى يوم أحد القيامة موجودين فى أورشليم فى العلية والأبواب مغلقة لسبب الخوف من اليهود؟ لماذا لم يفتشوا منازلهم؟ لماذا لم يحققوا معهم فرداً فرداً لتقصى الحقائق عن جسد يسوع وأين هو؟ هل من السهل إخفاء جثمان بأكمله مميز بآثار الجراحات مثل الحربة فى جنبه والمسامير فى يديه ورجليه وإكليل الشوك على رأسه؟ إن أول شئ تبحث عنه قوات الشرطة عند ارتكاب أى جريمة هو البحث عن جثمان القتيل. ولا يمكن أن يختفى الجثمان لو دفن فى الأرض لأن رائحته تدل عليه لو كان جثماناً لإنسان عادى (أما الرب يسوع فإن جسده لم يرَ فسادًا كعربون للقيامة وذلك حسب نبوة المزمور). كما أن الجثمان لا يمكن أن يختفى لو ألقى فى بحر أو فى نهر أو فى بحيرة لأن المياه تدفعه إلى الشاطئ ولابد أن يطفو على سطح المياه، ولابد أن يظهر ولو بعد أيام. ولو كان قول اليهود صحيحاً بأن السيد المسيح هو المضل كما ذكروا للوالى ولغيره؛ لماذا لم يرَ جسده فسادًا بدليل عدم وجود أية رائحة تدل على ذلك لا فى القبر الفارغ ولا فى أيدى وملابس التلاميذ الذين أدّعى اليهود أنهم سرقوه قبل فجر الأحد مباشرة القيامة قوة لا يمكن مقاومتها استمر السيد المسيح يظهر بعد قيامته لمدة أربعين يوماً لتلاميذه وأحبائه القديسين فقط، أما اليهود فكانوا فى حيرة وارتباك، لا يملكون أن يفعلوا شيئاً ضد عظمة القيامة المجيدة وروعتها سوى ترديد الأكاذيب المكشوفة التى لا يقبلها العقل. وبعد أن ظهر السيد المسيح لأكثر من خمسمائة شخص من المؤمنين به صعد إلى السماء أمام أعين أحبائه بعدما باركهم وأوصاهم أن يكونوا له شهوداً فى العالم كله بأنه قد قام حقاً من الأموات. وبعدما مكثوا عشرة أيام فى أورشليم حل عليهم الروح القدس وهم مجتمعون للصلاة، وبدأوا يبشرون بقيامة السيد المسيح الذى قدّم نفسه ذبيحة وقرباناً للآب من أجل خلاص البشرية. وانزعج اليهود جداً من تبشير الرسل بالقيامة وقالوا لهم أتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان؟ ولكن قوة القيامة وبشرى القيامة كانت أقوى من كل تهديدات اليهود. وهكذا خرجت البشارة بالإنجيل إلى كل العالم لأن الحق هو الذى ينتصر فى النهاية. بعد قيامة السيد المسيح، خرج كثير من أجساد القديسين الراقدين من القبور، ودخلوا المدينة المقدسة (أورشليم) وظهروا لكثيرين (انظر مت27: 50-53). كان هؤلاء القديسون قد دفنوا خارج المدينة المقدسة. لأن الموت فى العهد القديم كان يعتبر نوعاً من النجاسة، والقبور كانت تعتبر نجاسة بما تحويه من عظام الأموات. وكان الموت هو أجرة الخطية، وقد لحق بالإنسان بسبب المعصية الأولى. ولهذا لم يكن الدفن يتم داخل المحلة.. أى داخل المدينة المقدسة، التى هى مدينة الأحياء فقط. كانت منطقة المقابر خارج أورشليم، تشير إلى وادى ظل الموت، أو إلى وادى الموت. وتشير رمزياً إلى الجحيم. وقد صُلب السيد المسيح فى الموضع الذى يقال له بالعبرانية جلجثة أى جمجمة-إشارة إلى الموت. صُلب خارج مدينة الأحياء.. صُلب فى وسط منطقة المقابر والموتى، لأنه حمل عار خطايانا. وهكذا باتضاعه العجيب قَبِل أن يُحسب مع الأموات، ومع الخطاة والأثمة. مع أنه قدوس بلا شر وبلا خطية. كما تألّم يسوع خارج الباب فى وسط الأموات، فإنه أيضاً قد نزل إلى الجحيم من قبل الصليب. ولكنه فى نزوله إلى الجحيم “سبى سبياً، وأعطى الناس عطايا” ( أف4: 8). أى أنه نزل منتصراً إلى الجحيم ليحرر الذين رقدوا على رجاء الخلاص من سجن الشيطان .. من أسر إبليس .. من ظلمة الجحيم. ونقلهم معه إلى الفردوس، إلى موضع الراحة والنعيم.. من القبور إلى أورشليم ولكى يكون ظاهراً للجميع تأثير ما فعله السيد المسيح حينما نقل أرواح القديسين الراقدين من الجحيم إلى الفردوس، فإنه أيضاً بقوته الإلهية قد أقام أجساد كثير منهم فى القبور، وجعلهم يخرجون منها ويدخلون إلى المدينة المقدسة أورشليم، فى نفس يوم قيامته وظهوره للتلاميذ داخل مدينة أورشليم.. وكما صُلب فى وسط القبور إشارةً إلى نزوله إلى الجحيم لكى يبيد سلطان الموت؛ هكذا ظهر بعد قيامته فى وسط أورشليم لكى يعلن أنه قد فتح الفردوس تمهيداً لاستعلان الملكوت الأبدى وبهذا أنار الخلود والحياة الجديدة التى كانت عند الآب وأظهرت لنا فى شخصه القائم من الأموات. وكما صُلب فى وسط الأموات، هكذا قام ودخل المدينة ومعه جوقة من الأحياء، الذين قاموا من الأموات ليعلنوا فرحة الحياة الجديدة فى المسيح، وليبشروا بالقيامة القادمة فى الأبدية وهى التى صارت حقاً لجميع القديسين الذين يرقدون فى الرب. هؤلاء الأنبياء والقديسون الذين فتشوا عن الخلاص وانتظروه، قد قاموا ليفرحوا مع السيد المسيح فى قيامته. هذا الخلاص الذى كلّمنا عنه القديس بطرس الرسول فقال: “الخلاص الذى فتش وبحث عنه أنبياء. الذين تنبأوا عن النعمة التى لأجلكم. باحثين أى وقت أو ما الوقت الذى كان يدل عليه روح المسيح الذى فيهم إذ سبق فشهد بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدها” (1بط1: 10، 11). لم يعودوا يتكلمون مع من قابلوهم فى أورشليم بنبوات عن الخلاص. لأن النبوات كانت قد تمت.. بل جاءوا ليشاركوا كنيسة العهد الجديد فرحة القيامة، وليعلنوا صدق أقوال الله ومواعيده التى شهدوا هم بها منذ أجيال سحيقة. وهكذا اجتمع قديسو العهد القديم مع قديسى العهد الجديد حول واقعة القيامة، كعربون رمزى للقيامة العامة حينما تتلاشى فوارق الزمن بين الأجيال. لقد سجّل معلمنا متى هذه الواقعة العجيبة فى إنجيله بعد حديثه مباشرة عن آلام السيد المسيح، ليظهر ما فى موت السيد المسيح من قوة.. لأن الألم كان هو الطريق إلى المجد. قال: “فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين، من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت. وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين” (مت27: 50-53). ما أسعد سكان أورشليم، الذين أبصروا جوقة الأنبياء والقديسين الذين قاموا ودخلوا المدينة المقدسة بعد أن نقل السيد المسيح أرواحهم من الجحيم إلى الفردوس. أليس هذا هو إعلان مبكر لاجتماع القديسين، وعربون لدخولهم بأجساد القيامة النورانية إلى ملكوت الله فى اليوم الأخير..؟ لم يقتصر اتضاع السيد المسيح فى خدمته قبل الصلب وأثناء آلامه وموته على الصليب، بل امتد بصورة عجيبة إلى خدمته بعد القيامة أثناء وجوده على الأرض. وكما ذكر قداسة البابا شنودة الثالث- أطال الرب حياته؛ فإن السيد المسيح قد اختار أن يُصلب علانية، وعلى مرأى من العالم كله فى عيد الفصح بجوار أورشليم. ولكنه حينما قام من الأموات ظهر فقط لتلاميذه، ولبعض المؤمنين به وعددهم حوالى خمسمائة أخ، وجعلهم شهوداً لقيامته المجيدة. وكان هذا منتهى الاتضاع أن يحمل العار علانية، وأن يعلن مجده خفية.. عجيب أنت يا مخلصنا فى تواضعك! ولكن هذا التواضع لم ينقص من أمجاد خلاصك شيئاً. ولهذا رفعك الآب وأعطاك “اسماً فوق كل اسم، لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (فى2: 9-11). أراد السيد المسيح أن يعلمنا المجد الروحانى الذى ينبع من الداخل.. وفى ظهوراته بعد القيامة ظهر بصورة بسيطة متواضعة. كما شرح لنا قداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياة قداسته، فإن مريم المجدلية قد زارت القبر خمس مرات فى فجر أحد القيامة.. وقد استغرقت أحداث هذه الزيارات -وبأكثر تحديد الزيارات الأربعة الأولى- الفترة ما بين ظهور أول ضوء فى الفجر “إذ طلعت الشمس” (مر16: 2)، وتلاشى آخر بقايا ظلمة الليل “والظلام باق” (يو20: 1). وهى مدة لا تقل عن نصف ساعة فى المعتاد يومياً. وكانت مريم المجدلية تذهب لزيارة القبر، ثم تعود إلى مدينة أورشليم بمنتهى السرعة، ثم تأتى إلى القبر مسرعة فى زيارة تالية وهى تجرى. ولأن موضع القبر كان قريباً من أورشليم (انظر يو19: 20، 41)، لهذا لم تكن المسافة تستغرق وقتاً طويلاً. وبالرغم من أن مريم المجدلية قد قطعت هذه المسافة عشر مرات فى زياراتها الخمسة، إلا أنها فى الزيارات الأربعة الأولى، ومنذ وجودها عند القبر لأول مرة فى فجر الأحد فإنها قطعت هذه المسافة ست مرات فقط. أى أنها استغرقت حوالى خمس دقائق فى كل مرة ما بين القبر وأورشليم وبالعكس. ونظراً لأهمية ترتيب أحداث القيامة، نورد فيما يلى بياناً بالزيارات الخمسة لمريم المجدلية عند القبر حسبما أوردها الإنجيليون الأربع بترتيب حدوثها: الزيارة الأولى أوردها القديس مرقس فى إنجيله كما يلى: “وبعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه. وباكراً جداً فى أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس. وكن يقلن فيما بينهن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر. فتطلعن ورأين أن الحجر قد دُحرج. لأنه كان عظيماً جداً. ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فاندهشن. فقال لهن: لا تندهشن. أنتن تطلبن يسوع الناصرى المصلوب. قد قام ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذى وضعوه فيه. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات” (مر16: 1-8). والدليل على أن هذه الزيارة كانت الأولى أن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب كن يقلن فيما بينهن: “من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر” (مر16: 3) إذ لم تكن مريم قد رأت الحجر مدحرجاً بعد. الزيارة الثانية بعد عودة مريم المجدلية من الزيارة الأولى إذ لم تخبر أحداً بما قاله الملاك فى الزيارة الأولى لأنها كانت خائفة، ذهبت مرة أخرى فى صُحبة القديسة مريم العذراء لتنظرا القبر. وقد أورد القديس متى فى إنجيله هذه الواقعة دون أن يذكر القديسة العذراء مريم بالتحديد مسمياً إياها “مريم الأخرى”. “وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. وإذا زلزلة عظيمة حدثت. لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه. وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات. فأجاب الملاك وقال للمرأتين: لا تخافا أنتما. فإنى أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا لأنه قام كما قال. هلما انظرا الموضع الذى كان الرب مضطجعاً فيه. واذهبا سريعاً قولا لتلاميذه إنه قد قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه. ها أنا قد قلت لكما. فخرجتا سريعاً من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه. وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه إذا يسوع لاقاهما وقال سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما يسوع لا تخافا، اذهبا قولا لإخوتى أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يروننى” (مت28: 1-10). فى قول القديس متى: “إذا زلزلة عظيمة قد حدثت” لا يعنى أن الزلزلة قد حدثت وقت تلك الزيارة، بل سبقتها وسبقت الزيارة الأولى أيضاً. وقد أورد القديس مرقس هذه الزيارة باختصار فى إنجيله، وهى التى رأت فيها مريم المجدلية السيد المسيح وهى فى صحبة القديسة مريم العذراء. وذكر هذه الواقعة بعد أن ذكر الزيارة الأولى: “وبعدما قام باكراً فى أول الأسبوع، ظهر أولاً لمريم المجدلية التى كان قد أخرج منها سبعة شياطين. فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون. فلما سمع أولئك أنه حى وقد نظرته لم يصدقوا” (مر16: 9-11). وبهذا نرى كيف أكرم السيد المسيح أمه العذراء والدة الإله: إذ لم يظهر لمريم المجدلية فى زيارتها الأولى مع مريم أم يعقوب وسالومة. بل ظهر لها حينما حضرت مع أمه. وفى تلك الزيارة تم تنفيذ رغبة السيد المسيح بسرعة فى إبلاغ تلاميذه كما ذكر القديس متى إذ خرجتا من القبر “راكضتين لتخبرا تلاميذه” (مت28: 8). ليتنا نطلب صُحبة القديسة مريم العذراء فى حياتنا الروحية، لنرى السيد المسيح بأعين قلوبنا ونبشر بقيامته بغير تردد. لأن العذراء هى مثال الطاعة والتسليم بين جميع القديسين. الزيارة الثالثة بعد أن أخبرت مريم المجدلية التلاميذ بقيامة السيد المسيح، أرادت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب أن تذهبا مرة أخرى إلى القبر مع مجموعة من نساء عديدات. وقد أورد القديس لوقا فى إنجيله هذه الزيارة بعد أن سرد أحداث الدفن يوم الجمعة. وراحة يوم السبت: “وتبعته نساء كن قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وُضع جسده. فرجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً. وفى السبت استرحن حسب الوصية. ثم فى أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذى أعددنه ومعهن أناس فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر. فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما هن محتارات فى ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة. وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض. قالا لهنَّ: لماذا تطلبن الحى بين الأموات. ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن وهو بعد فى الجليل قائلاً: إنه ينبغى أن يُسلّم ابن الإنسان فى أيدى أناس خطاة ويصلب وفى اليوم الثالث يقوم. فتذكّرن كلامه. ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله. وكانت مريم المجدلية، ويونا، ومريم أم يعقوب، والباقيات معهن اللواتى قلن هذا للرسل. فتراءى كلامهن لهم كالهذيان. ولم يصدقوهن” (لو23: 55 -24: 11). بعد هذه الزيارة إذ لم يصدِّق الآباء الرسل كلام النسوة بدأ الشك يساور مريم المجدلية فقررت أن تذهب إلى القبر بمفردها. هذه هى الزيارة التالية. الزيارة الرابعة ذهبت إلى القبر بمفردها قبل نهاية بقايا ظلمة الليل. وقد أورد القديس يوحنا الإنجيلى هذه الزيارة كما يلى: “وفى أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً والظلام باق. فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر. فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذى كان يسوع يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر. وكان الاثنان يركضان معاً. فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء أولاً إلى القبر. وانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل. ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة والمنديل الذى كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان، بل ملفوفاً فى موضع وحده. فحينئذ دخل أيضاً التلميذ الآخر الذى جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن. لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغى أن يقوم من الأموات. فمضى التلميذان أيضاً إلى موضعهما” (يو20: 1-10). والعجيب أن مريم المجدلية بعد هذه الزيارة، بدأت تردد كلاماً مغايراً تماماً لما سبق أن قالته بعد الزيارتين الثانية والثالثة حينما أخبرت التلاميذ أنها رأت الرب وبكلامه ثم بكلام الملاكين عن قيامته. بعد الزيارة الرابعة بدأت تردد عبارة تحمل معنى الشك فى قيامة السيد المسيح بالرغم من ظهوره السابق لها وظهورات الملائكة المتعددة. قالت للقديسين بطرس ويوحنا الرسولين: “أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه؟!” (يو20: 2). بعد هذا الكلام وبعد أن علم الرسل أن الحراس قد انصرفوا من أمام القبر. ذهب بطرس ويوحنا الرسولان إلى القبر وتبعتهما مريم المجدلية. وكانت هذه هى زيارتها الخامسة والأخيرة للقبر فى أحد القيامة. وحفلت هذه الزيارة بأحداث هامة غيرّت مجرى حياتها وتفكيرها تماماً. الزيارة الخامسة أورد القديس يوحنا فى إنجيله أحداث هذه الزيارة بعد كلامه السابق مباشرة كما يلى: “أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجاً تبكى. وفيما هى تبكى انحنت إلى القبر، فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين، حيث كان جسد يسوع موضوعاً. فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين. قالت لهما إنهم أخذوا سيدى ولست أعلم أين وضعوه. ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع. قال لها يسوع: يا امرأة لماذا تبكين. من تطلبين؟ فظنت تلك أنه البستانى فقالت له: يا سيد إن كنت أنت قد حملته فقل لى أين وضعته وأنا آخذه. قال لها يسوع: يا مريم. فالتفتت تلك وقالت له: ربونى؛ الذى تفسيره يا معلم. قال لها يسوع: لا تلمسينى لأنى لم أصعد بعد إلى أبى. ولكن اذهبى إلى إخوتى وقولى لهم إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم، فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب وأنه قال لها هذا” (يو20: 11- 18). فى هذه الزيارة الخامسة والأخيرة للقبر، نرى مريم المجدلية وهى فى اضطراب وشك وبكاء، تردد قولها السابق الذى قالته للرسولين بطرس ويوحنا. فقالت نفس العبارة للملاكين الجالسين داخل القبر “أخذوا سيدى ولست أعلم أين وضعوه” (يو20: 13). ثم وصل بها الحال أن قالتها للسيد المسيح نفسه عند ظهوره لها للمرة الثانية: “يا سيد إن كنت أنت قد حملته فقل لى أين وضعته وأنا آخذه” (يو20: 15). وكانت قد ظنت أنه البستانى ولم تعلم أنه يسوع (انظر يو20: 14، 15). وحينما ناداها السيد المسيح باسمها قائلاً: “يا مريم” (يو20 : 16)، كان يريد أن يعاتبها على كل هذه البلبلة والشكوك التى أثارتها حول قيامته، وعلى ما هى فيه من شك فى هذه القيامة المجيدة، ثم رغبتها فى الإمساك به لئلا يفلت منها مرة أخرى بعد أن أمسكت سابقاً بقدميه وسجدت له فى ظهوره الأول لها مع العذراء مريم ( انظر مت 28: 9). فى هذه المرة قال لها مؤنباً: “لا تلمسينى لأنى لم أصعد بعد إلى أبى” (يو20: 17). كان هذا تأنيباً شديداً لها لأنها شكّت فى قيامته، وتريد أن تمسكه لئلا يختفى مرة أخرى.. إنها بشكها فى قيامته؛ تكون قد شكت فى قدرته الإلهية فى أن يقوم من الأموات. وكأنه ليس هو رب الحياة المساوى لأبيه السماوى فى القدرة والعظمة والسلطان. وبهذا يكون لم يرتفع فى نظرها إلى مستوى الآب.. كما إنها تريد أن تمنع اختفاءه من أمام عينيها لكى لا تشك فى القيامة.. وبهذا تكون كمن يريد أن يمنع صعوده إلى السماء.. وماذا يكون حالها بعد صعوده فعلاً ليجلس عن يمين الآب. لهذا أمرها بصريح العبارة: “اذهبى إلى إخوتى وقولى لهم إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم” (يو20: 17). فى هذه المرة فهمت مريم المجدلية أنها ينبغى أن تقبل فكرة صعود السيد المسيح الذى لم يكن قد صعد بعد بالرغم من اختفائه عن عينيها بعد قيامته، كما أنه بقى على الأرض أربعين يوماً كاملين بعد القيامة لحين صعوده إلى السماء أمام أعين تلاميذه وقديسيه. لهذا “جاءت مريم المجدلية، وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب، وأنه قال لها هذا” (يو20: 18). وكما عالج السيد المسيح شك توما فى يوم الأحد التالى لأحد القيامة، هكذا عالج شكوك المجدلية بظهوره لها مرة أخرى فى أحد القيامة، فى البستان.. كانت السيدة العذراء مريم عجيبة ومتفوقة فى إيمانها- فقد آمنت قبل أن ترى السيد المسيح قائماً من الأموات، وآمنت حينما أبصرته، وآمنت حينما أمسكت بقدميه وسجدت له.. وقبلت صعوده فى تسليم كامل، لأنها كانت تعرف أنه ينبغى أن يجلس عن يمين أبيه السماوى، ولا يكون لملكه نهاية، حسبما بشرها الملاك قبل حلول الكلمة فى أحشائها متجسداً.. لهذا حقاً قالت لها أليصابات بالروح القدس: “طوبى للتى آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب” (لو1: 45). والظلام با قٍ “وفى أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً، والظلام باقٍ” (يو20: 1). كان النهار قد بدأ منذ حوالى نصف الساعة، ولكن بقايا الظلام كانت ما تزال موجودة ناحية الغرب لأن النور يأتى من الشرق ويتدرج حتى ينسحب الظلام تماماً فى ناحية الغرب. ولكن هناك معنى آخر وراء كلمة “الظلام باقٍ”.. لأن مريم المجدلية بالرغم من رؤيتها للسيد المسيح القائم هى ومريم الأخرى إذ “أمسكتا بقدميه وسجدتا له” (مت 28: 9) وكان ذلك بعد زيارتها الأولى للقبر بعد قيامته مباشرة، إلا أنها فى هذه المرة قبل وأثناء زيارتها الأخيرة بدأت تردد قولها للتلاميذ، وبعد ذلك للملائكة وللسيد المسيح نفسه: “أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه” (يو20: 2). فمعنى هذه العبارة هو أنها لم تفهم بعد بوضوح حقيقة القيامة، أو لم يكتمل إيمانها بقيامة السيد المسيح -لذلك قيل أنها جاءت إلى القبر باكراً، والظلام باقٍ. أى أن ظلمة عدم المعرفة كانت ما تزال باقية تحتاج إلى من يجليها عن عقلها وإيمانها. ولنفس السبب لم تعرف السيد المسيح عندما ظهر لها ثانية وظنته أنه هو البستانى الذى يهتم بالبستان، حيث كان القبر الذى وضع فيه جسد السيد المسيح (انظر يو20: 15). كان الظلام باقٍ ولذلك لم تعرفه فى تلك المرة. فناداها باسمها حتى تفيق من غفلتها الروحية وتستنير بالإيمان. انحنى “فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر. وكان الاثنان يركضان معاً. فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء أولاً إلى القبر. وانحنى فنظر الأكفان موضوعة، ولكنه لم يدخل” (يو 20: 3-5) لماذا انحنى التلميذ لكى ينظر داخل القبر. معنى ذلك أن باب القبر كان منخفضاً بصورة تحتم الانحناء. وتكرر نفس الكلام بالنسبة لمريم المجدلية “أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجاً تبكى. وفيما هى تبكى انحنت إلى القبر” (يو20: 11). من أراد أن يؤمن بالرب القائم من الأموات.. يؤمن بالفداء وبموت الرب وقيامته، ينبغى أن ينحنى أمام هذه الحقيقة الفائقة للوصف. لا يستطيع أن يقبل الإيمان إلا القلب المنكسر والمتواضع، لأن “يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة” (يع4: 6). إن من يزور الأديرة القديمة يلاحظ أن باب الدير الخارجى وباب الكنيسة دائماً يكون منخفضاً، ويُلزِم الداخل بالانحناء.. أليس هذا هو بداية الطريق الروحى: المسكنة بالروح؟! واحد عند الرأس والآخر عند الرجلين “فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين، واحداً عند الرأس، والآخر عند الرجلين، حيث كان جسد يسوع موضوعاً” (يو 20: 12). جسد الرب يسوع هو السلم الموصل من الأرض إلى السماء. هكذا رآه الأب يعقوب بروح النبوة والملائكة صاعدة ونازلة عليه. وقيل أيضاً إن “السماء هى كرسى الله والأرض هى موطئ قدميه” (انظر مت 5: 34، 35). فالملاك عند موضع الرأس يشير إلى السماء حيث كرسى الله. والملاك عند موضع القدمين يشير إلى الأرض حيث تجسد السيد المسيح وصنع الفداء. كان من الممكن أن تملأ الملائكة قبر السيد المسيح ولكن وجود الملاكين بهذه الصورة يرفع عقولنا نحو هذه الحقيقة: إن جسد يسوع هو الطريق المؤدى من الأرض إلى السماء.. هكذا أظهرت لنا ملائكة القيامة. وقد اعتادت الكنيسة أن تضع شمعدانين منيرين فوق المذبح أثناء الخدمة الطاهرة، وهذان الشمعدانان يرمزان إلى ملائكة القيامة. نفس الأمر تمارسه الكنيسة عند قراءة الإنجيل المقدس. حقاً لقد جمع السيد المسيح ما فى السماوات وما على الأرض بخلاصه العجيب. بعد الصلب أخذ يوسف الرامى جسد يسوع، وجاء نيقوديموس، ووضعا الجسد المقدس فى القبر الذى كان قريباً جداً من الجلجثة. وذلك حسبما ذكر معلمنا يوحنا فى إنجيله “وكان فى الموضع الذى صُلب فيه بستان، وفى البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط، فهناك وضعا يسوع لسبب استعداد اليهود لأن القبر كان قريباً” (يو19: 41، 42). وفى اتضاع عجيب ظهر السيد المسيح بعد قيامته فى هيئة بستانى لمريم المجدلية التى كانت عند القبر ثم “التفتت إلى الوراء، فنظرت يسوع واقفاً. ولم تعلم أنه يسوع. قال لها يسوع يا امرأة لماذا تبكين من تطلبين؟ فظنت تلك أنه البستانى فقالت له يا سيد إن كنت أنت قد حملته، فقل لى أين وضعته وأنا آخذه” (يو20: 14، 15). وهكذا لم يظهر السيد المسيح على الأرض بعد قيامته فى صورة ملك متوج بالذهب والماس والثياب الملوكية، بل فى صورة بستانى بسيط! بدأت القصة الأولى للبشرية فى بستان، حيث وضع الرب الإله آدم فى الجنة ليعملها (انظر تك2: 15). فكان آدم هو البستانى فى الفردوس الأول.. ولكن آدم الأول لم يتمكن من البقاء فى الفردوس أى فى الجنة ليعملها، بل طُرد خارجاً. وصارت الأرض تنبت له شوكاً وحسكاً. وجاء آدم الأخير، أو آدم الثانى، وحمل الأشواك على جبينه، ثم فتح الفردوس السماوى، وأدخل آدم وبنيه إلى هناك. ثم قام من الأموات، وجاء إلى الفردوس المجاور للقبر، وظهر فى هيئة بستانى لمريم المجدلية. لكى يعيد إلى الأذهان قصة الخروج من الفردوس. ويؤكد أن الإنسان قد عاد مرة أخرى فى شخصه المبارك ليعمل الجنة الجديدة، وهى كنيسته المقدسة، التى قال عنها: “أختى العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم. أغراسك فردوس رمان مع أثمار نفيسة فاغية وناردين” (نش4: 12، 13). وقال سفر نشيد الأناشيد بروح النبوة عن قيامة السيد المسيح ودخوله إلى البستان بعد أن تألم، وقُبر، ووضعوا المر والعود حول جسده فى القبر، ثم أكل شهد عسل مع تلاميذه بعد القيامة “قد دخلت جنتى يا أختى العروس. قطفت مرى مع طيبى، أكلت شهدى مع عسلى” (نش5: 1). وكتب فى نفس السفر أيضاً عن السيد المسيح “حبيبى نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب ليرعى فى الجنات ويجمع السوسن. أنا لحبيبى وحبيبى لى. الراعى بين السوسن” (نش6: 2، 3) وقالت عروس النشيد “استيقظى يا ريح الشمال وتعالى يا ريح الجنوب. هبى على جنتى فتقطر أطيابها. ليأت حبيبى إلى جنته ويأكل ثمره النفيس” (نش4: 16). ما أجمل هذا المشهد العجيب: آدم الجديد فى البستان مع إشراقة فجر جديد فى حياة البشرية.. إنه مشهد القيامة والحياة الجديدة تراه الكنيسة، فتنادى طالبة هبوب ريح الروح القدس من الشمال حاملة مياه النعمة الغزيرة، ومن الجنوب حاملة حرارة الحب الذى تنضج معه ثمار الروح فى حياتها. بعد قيامة السيد المسيح ظهر لمريم المجدلية فى البستان الذى كان به قبره المقدس وسألها عن سبب بكائها “قال لها يسوع: يا مريم. فالتفتت تلك وقالت له ربُّونى الذى تفسيره يا معلم. قال لها يسوع: لا تلمسينى لأنى لم أصعد بعد إلى أبى. ولكن اذهبى إلى إخوتى وقولى لهم: إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم” (يو20: 16، 17). إن هذا اللقاء فى البستان يذكّرنا بلقاء آخر فى بستان (أى فى الجنة) حينما أخفى الشيطان نفسه داخل الحية وخدع حواء. وها هى مريم المجدلية وهى تمثل البشرية مثل حواء. تلتقى بالرب القائم من الأموات وهو يتمشى داخل البستان وقد جاء كمعلم للصلاح وليقوم بإصلاح ما أفسدته الحية فى القديم. فى هذا اللقاء اختارت مريم المجدلية هذا اللقب “ربُّونى” الذى تفسيره يا معلّم. لم تعد الحية هى مصدر التعليم، بل كلمة الله المتجسد هو المعلم، لهذا قالت له: “يا معلّم”. لم تعد البشرية تنصت إلى الحية، بل أصبحت تهفو نحو السيد المسيح كمصدر للمعرفة. لم تعد البشرية تأكل من شجرة معرفة الخير والشر، بل تأكل فقط من جسد الرب المصلوب القائم من الأموات لتعرف الخير وتثبت فيه، أى أنها تأكل من شجرة الحياة التى لا يموت آكلوها. كما أنها تتغذى بكلام الله وتتلذذ بوصاياه. لم تعد البشرية تبحث عن المعرفة بعيداً عن السيد المسيح، لهذا قال بطرس الرسول: “يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك” (يو6: 68). لم تعد البشرية تستمع إلى صوت الغريب، بل صارت تهرب منه لتستمع إلى صوت الراعى الصالح الذى يدعو خرافه الخاصة بأسمائها والخراف تتبعه لأنها تعرف صوته. لم تعد البشرية تشتاق إلى أحاديث العالم أو الخطية، بل تشتاق إلى حديث المعلم الصالح. وتجلس عند قدميه لتتعلم وتختار النصيب الصالح الذى لا ينزع منها. صارت كلمات مرثا لأختها مريم ترن فى أذنى كل نفس محبة للمسيح: “المعلّم قد حضر وهو يدعوك” (يو11: 28). وتكون أحلى الساعات هى بين يديه وفى حضرته. النداء واللقاء “نادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك فى الجنة فخشيت لأنى عريان فاختبأت” (تك3: 9، 10) لقد نادى الرب الإله قائلاً: يا آدم أين أنت؟ وها هو الآن فى بستان القيامة ينادى مريم المجدلية قائلاً: يا مريم. وهنا تمثل مريم البشرية المفتداه. لم تهرب مريم ولم تختبئ بل كانت تبحث فى كل موضع عن السيد المسيح.. عن جسده المصلوب.. إن جسد يسوع هو شجرة الحياة المفقودة وهى تبحث عنها. لم تدرك مريم أن الذى كان يتمشى فى فردوس القيامة هو السيد المسيح لأن إعلان القيامة لم يكن واضحاً بعد فى ذهنها. ولكنه حينما ناداها باسمها عرفته وهرعت نحوه. إن المسيح الذبيح فى سر الإفخارستيا يدعونا أن ندرك قوة قيامته وينادينا لكى نتمتع ببركات وأمجاد القيامة من خلال السر. ولكن يلزمنا أن نسمع صوته لكى ندرك حقيقة القيامة. كان فى الفردوس القديم آدم مع حواء وقد سمعا صوت الرب الإله ماشياً فى الجنة عند هبوب ريح النهار فهربا منه. ولكن فى فردوس القيامة كان آدم الجديد هو نفسه الرب الذى يتمشى فى الفردوس فلا آدم الجديد يختبئ من الرب لأنه هو نفسه الرب؛ ولا البشرية تختبئ لأن الرب قد صالحها ولم تعد ترتعب منه. لا تلمسينى كانت مريم المجدلية تريد أن تمسك بالسيد المسيح لئلا يختفى مرة أخرى. تريده أن يبقى على الأرض وتتمسك به. ولكنه منعها هذه المرة ليؤكد لها أنها لا تستطيع أن تحقق بقاء الفردوس على الأرض؛ وأن الفردوس عموماً هو مكان مؤقّت، ولكن الملكوت السماوى هو المكان الدائم للوجود مع الرب. فكأنه يقول لها: إذا أردت أن تمسكى بى فليكن ذلك فى السماء. إنى هنا لم أصعد بعد إلى أبى. ومن أراد أن يمسكنى فليهرع إلى السماء. إنى لم أرتفع إلى مستوى الآب فى نظرك فلا تلمسينى، ولا يمكن أن أبقى هنا على الأرض بل ينبغى أن أعود إلى الآب فلا تمسكينى. ارتضى السيد المسيح فى اتضاعه أن يحسب نفسه ضمن إخوته من البشر. لأنه كان ينبغى أن يشبه إخوته فى كل شئ ما خلا الخطية وحدها. لهذا قال لمريم المجدلية: “اذهبى إلى إخوتى وقولى لهم إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم” (يو20: 17). فى قوله هذا كان يقصد أن يقول لتلاميذه أن إلهكم (أى الآب) قد صار إلهاً لى حينما أخليت نفسى متجسداً وصائراً فى صورة عبد، وسوف يصير أبى السماوى (الذى هو أبى بالطبيعة)، أباً لكم (بالتبنى) حينما أصعد إلى السماء، وأرسل الروح القدس الذي يلِدكم من الله فى المعمودية. فبنزولى أخذت الذى لكم، وبصعودى تأخذون الذى لى. فمن المعلوم أن أبوة الآب للسيد المسيح شئ وأبوته للبشر شئ آخر. فالسيد المسيح هو ابن الله بالطبيعة (بحسب لاهوته)، أما نحن فأبناء الله بالتبنى. كذلك هناك فرق بين وضعنا كعبيد لله، ووضع السيد المسيح الذى أخذ صورة عبد. فنحن عبيد بحكم وضعنا كمخلوقين.. أما السيد المسيح فهو الخالق الذى أخلى ذاته وتجسد آخذاً صورة عبد، ووُجِد فى الهيئة كإنسان، وصار ابناً للإنسان. الفرق بين كرامة السيد المسيح وكرامة إنسان مثل موسى النبى، شرحه معلمنا بولس الرسول وقال: “فإن هذا قد حُسِبَ أهلاً لمجد أكثر من موسى بمقدار ما لبانى البيت من كرامة أكثر من البيت. لأن كل بيت يبنيه إنسان ما، ولكن بانى الكل هو الله” (عب3: 3، 4). أى أن الفرق فى الكرامة بين السيد المسيح وموسى النبى، هو الفرق بين كرامة الخالق وكرامة المخلوق. بنوة السيد المسيح للآب السيد المسيح هو ابن الله الوحيد.. هو الوحيد الذى له نفس طبيعة الآب وجوهره بالولادة الأزلية من الآب. وكل ولادة أخرى من الله هى بالتبنى، وليس بحسب الطبيعة والجوهر. ولادة الابن الوحيد من الآب، قبل كل الدهور، هى مثل ولادة الشعاع من النور بنفس طبيعته وجوهره. وكما يقول صاحب القداسة البابا شنودة الثالث إن المسيح هو الكلمة (اللوغوس) بمعنى أنه هو “العقل المنطوق به” فأقنوم الابن الكلمة له ولادتان :
ويقول معلمنا بولس الرسول: “يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8). أى أنه هو هو نفسه فى الماضى والحاضر والمستقبل – قبل التجسد وفى التجسد وإلى أبد الدهور. أى أن الذى ولد من الآب قبل الدهور، هو هو نفسه الذى تجسد من العذراء فى ملء الزمان، وولد منها بحسب الجسد. ونفس كلمات القديس بولس الرسول يرددها الأب الكاهن فى الأرباع الخشوعية وهو يبخر ما بين الخورس الأول والخورس الثانى فى الكنيسة فى دورة بخور عشية وباكر وفى دورة البولس فى القداس الإلهى، إذ يقول: {يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، بأقنوم واحد نسجد له ونمجده} ابن الله الأزلى هو هو نفسه ابن الإنسان. هو كلمة الله الذى أخذ جسداً من العذراء مريم – بفعل الروح القدس- جاعلاً إياه جسده الخاص. وكل ما يُنسب إلى جسد الكلمة الخاص يُنسب إلى الكلمة، مثل الولادة والألم والموت.. مع أن الكلمة بحسب طبيعته الإلهية لا يحتاج إلى ولادة جديدة، ولا يتألم، ولا يموت، ولكن إذ صار له جسد، فقد تألم ومات بحسب هذا الجسد، ناسباً إلى نفسه كل ما يخص جسده الخاص. لهذا دُعيت العذراء مريم “والدة الإله” (ثيئوتوكوس)، إذ أن الذى وُلد منها هو الإله الحقيقى كلمة الله المتجسد. وقد }ولدت لنا الله الكلمة بالحقيقة{ كما نقول فى صلاة المجمع فى القداس الإلهى. أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له لقد أخذ السيد المسيح صورة عبد، لكى نصير نحن على صورة الله ومثاله.. وقَبِلَ السيد المسيح أن يصير ابناً للإنسان، لكى نصير نحن أولادًا لله.. لهذا كان يحلو له أن يدعو الرسل إخوته “اذهبى إلى إخوتى وقولى لهم ..” (يو20: 17). وقد كُتب عنه فى المزمور “أُخبر باسمك إخوتى، فى وسط الجماعة أُسبحك” (مز22: 22). ويقول معلمنا بولس الرسول: “لأنه لاق بذاك الذى من أجله الكل، وبه الكل، وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمّل رئيس خلاصهم بالآلام. لأن المُقدِّس والمُقدَّسين جميعهم من واحد. فلهذا السبب لا يستحى أن يدعوهم إخوة قائلاً أخبر باسمك إخوتى، وفى وسط الكنيسة أسبحك” (عب2: 10-12). أخذ السيد المسيح البنوة للإنسان (التى تخصنا نحن)، وأعطانا البنوة لله (التى تخصه هو). لهذا قال لمريم المجدلية بعد قيامته من الأموات: “إنى أصعد إلى أبى وأبيكم، وإلهى وإلهكم” (يو20: 17). بنزوله من السماء شاركنا فى البنوة للإنسان. وبصعوده إلى السماء أشركنا معه فى البنوة لله، إذ أرسل الروح القدس الذى يلدنا فى المعمودية من الله، ويصيّرنا أولادًا لله بالتبنى على صورة الله ومثاله. يقول إنجيل معلمنا مرقس: “وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى لاثنين منهم وهما يمشيان منطلقين إلى البرية” (مر16: 12). والمقصود بالهيئة الأخرى أى بخلاف الهيئة التى ظهر بها لمريم المجدلية فى البستان وظنته البستانى. وقد ذكر معلمنا لوقا فى إنجيله أن السيد المسيح حينما ظهر لهذين التلميذين “أمسكت أعينهما عن معرفته” (لو24: 16). بمعنى أن عدم معرفتهما له فى البداية كان شيئاً مقصوداً بتدبير إلهى. والقصة بدأت كما يلى: كان اثنان من التلاميذ منطلقين فى يوم أحد القيامة إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلوة اسمها عمواس. وكانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع الحوادث التى واكبت صلب السيد المسيح وما يليها، بما فى ذلك ظهور السيد المسيح للمريمات بعد قيامته. “وفيما هما يتكلمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه، وكان يمشى معهما، ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته” (لو24: 15، 16). لم يشأ الرب أن يظهر بمجده العظيم ويبهر هذين التلميذين، ولكنه ظهر فى هيئة بسيطة ورتب أن لا يعرفاه فى البداية. “فقال لهما ما هذا الكلام الذى تتطارحان به، وأنتما ماشيان عابسين؟” (لو24: 17). وهنا نرى السيد المسيح يسأل فى اتضاع عجيب -وهو العالِم بكل خبايا الأمور- ولكنه أراد أن يتبسط فى الحديث وينزل إلى مستوى هذين التلميذين، حتى يرفعهما فى النهاية إلى مستوى الإيمان اللائق بتلاميذه القديسين. “فأجاب أحدهما الذى اسمه كليوباس وقال له: هل أنت متغرب وحدك فى أورشليم، ولم تعلم الأمور التى حدثت فيها فى هذه الأيام؟ فقال لهما وما هى؟” (لو24: 18، 19). ما أعجب اتضاعك يا رب وأنت تحتمل أن ينسب تلاميذك إليك عدم المعرفة كغريب. ثم تسألهما فى بساطة ومودة، لكى يخبروك كمن لا يعرف، حتى تنتشلهم من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة الحقيقية.. ولكن حقاً يا رب لقد كنت السماوى المتغرب وحدك على الأرض فى أورشليم الأرضية، لكى ترفع مختاريك وأصفياءك للتمتع بمجدك فى أورشليم السمائية. وقد أجاب التلميذان على سؤال السيد المسيح فقالا: “المختصة بيسوع الناصرى الذى كان إنساناً نبياً مقتدراً فى الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدى إسرائيل. ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك. بل بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكراً عند القبر، ولما لم يجدن جسده أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حى. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء وأما هو فلم يروه” (لو24: 19-24). احتمل السيد المسيح أن يتكلم عنه التلميذان كمن لا يعرف أموره الخاصة التى حدثت له.. ثم احتمل أن يقولا عنه إنه كان إنساناً نبياً مقتدراً فى الفعل والقول، دون أن يقولا باقى الحقيقة أنه هو هو نفسه ابن الله الحى الكلمة الأزلى المتجسد. ألم يقل قائد المئة الواقف عند الصليب بعد أن سلّم السيد المسيح روحه فى يدى الآب “حقاً كان هذا الإنسان ابن الله” (مر15: 39). كانت القيامة هى أقوى دليل على ألوهية السيد المسيح ولهذا احتمل ضعف تلاميذه الذى ظهر بعد الصلب. بل سبق فقال لهم: “كلكم تشكون فىّ فى هذه الليلة” (مت26: 31). كانت تجربة الصلب أقوى من احتمالهم.. وظهر ضعفهم البشرى، وأطال الرب أناته عليهم. لم يشك تليمذا عمواس فى ألوهية السيد المسيح فقط، بل أيضاً تطرق الشك بهم إلى عمله باعتباره الفادى والمخلّص بحسب قولهما: “ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدى إسرائيل” (لو24: 21). وإلى جوار ذلك فقد شكَّا فى قيامة السيد المسيح، ولم يصدقا ما سبق فأنبأهم هو نفسه به قبل أن يُصلب عن قيامته، كما أنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام. فى كل ذلك أظهر السيد المسيح اتضاعاً وحباً واحتمالاً عجيباً. وهو الذى كان يسير معهما فى الطريق بعد قيامته.. ولكن لأجل خيرهم، وخير الكنيسة كلها، لم يكشف لهما عن شخصه، بل استمر فى الحوار العجيب..!! الإقناع أم المعجزات أراد السيد المسيح أن يؤسس كنيسته ليس فقط على صنع المعجزات التى أثبتت ألوهيته، بما فى ذلك معجزة القيامة نفسها.. بل أراد أيضاً أن يؤسسها على الإيمان الكتابى، وعلى الحقائق الإلهية المدونة فى الأسفار المقدسة “كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر” (لو70:1). فكثير من المعجزات من الممكن أن يقلدها الشيطان بمعجزات زائفة، كما هو مكتوب عن ضد المسيح: “الذى مجيئه بعمل الشيطان، بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم فى الهالكين” (2تس2: 9، 10). ولكن الخلاص الذى صنعه الرب، قد سبق فتنبأ عنه كثير من الأنبياء قبل مجيء السيد المسيح بآلاف السنين، وتحققت هذه النبوات جميعها بصورة لا يمكن تقليدها على الإطلاق. لأن الله وحده هو الذى يعلم المستقبل بهذه الدقة قبل حدوثه بآلاف السنين. وقد كتب القديس بطرس الرسول عن ذلك الخلاص وما قيل عنه من نبوات فقال: “الخلاص الذى فتش وبحث عنه أنبياء. الذين تنبأوا عن النعمة التى لأجلكم. باحثين أى وقت، أو ما الوقت الذى كان يدل عليه روح المسيح الذى فيهم. إذ سبق فشهد بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدها” (1بط 1: 10، 11). لو كشف السيد المسيح عن شخصيته للتلميذين لجاء إيمانهما مبنياً على رؤية معجزة القيامة.. ولكنه أراد أن يكشف لهما القيامة من خلال الكنوز المخبأة فى كلمات الروح القدس المكتوبة فى الكتب المقدسة. “فقال لهما أيها الغبيان والبطيئا القلوب فى الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به فى جميع الكتب” (لو24: 25-27). كانت هذه الشروحات بمثابة محاضرة قيمة جداً فى اللاهوت العقائدى وفى شرح العهد القديم.. وهنا نرى السيد المسيح المعلم الأعظم وهو يفسر الأمور المختصة بالتجسد والفداء فى جميع الكتب.. كل ذلك دون أن يكشف للتلميذين عن شخصيته وهو يكلمهما. كان هدف السيد المسيح ليس هو الافتخار بما عمله، بل هو اقتياد التلاميذ إلى معرفة الخلاص والتمتع بأمجاد الحياة الجديدة فى المسيح. وهكذا سجّل السيد المسيح فى ذاكرة الكنيسة تفسيراً لاهوتياً عميقاً لعمله الخلاصى المبنى على ألوهيته ومجيئه فى الجسد فادياً ومحرراً للإنسان. “ثم اقتربوا إلى القرية التى كانا منطلقين إليها، وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد. فألزماه قائلين امكث معنا لأنه نحو المساء، وقد مال النهار. فدخل ليمكث معهما. فلما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما” (لو24: 28-31). فى اتضاع عجيب امتثل السيد المسيح لرغبة تلميذيه حينما ألزماه أن يمكث معهما. وبالفعل دخل ليمكث معهما. وعرفاه عند كسر الخبز. وحينما عرفاه اختفى عنهما.. لأنه لم يظهر ليتباهى بقيامته، بل ليقتادهما إلى معرفة حقيقة الخلاص الذى صنعه لأجلهما ولأجل البشرية جمعاء. وقالا بعضهما لبعض: “ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا، إذ كان يكلمنا فى الطريق ويوضح لنا الكتب؟!” (لو24: 32). أشفق السيد المسيح على تلميذى عمواس، لأنهما كانا فى حزن وألم بعد الصلب. وبحكمة عجيبة استطاع من خلال شرح الكتب المقدسة -أنفاس الله- أن يتدرج بهما من الحزن واليأس إلى الفرح والرجاء .. حتى ارتفعت روحاهما إلى المستوى الذى عاينا به الرب القائم من الأموات بأعين منفتحة تستطيع أن تراه وتعرفه وتشهد لقيامته المجيدة. ليتنا يا رب نصغى لكلامك بقلوب ملؤها الاشتياق إلى معرفة الحق، حتى نستطيع أن نراك بأعين قلوبنا. فى ظهور السيد المسيح لتلاميذه بعد القيامة كان يردد قوله المبارك: “سلام لكم” (يو20: 19، 21، لو24: 36، مت28: 9). وهى نفس العبارة التى يرددها الأب الأسقف أو الأب الكاهن فى الصلوات الليتورجية وخاصة صلاة القداس الإلهى. هذا السلام الذى وعد السيد المسيح به تلاميذه حينما قال: “سلاماً أترك لكم، سلامى أعطيكم ليس كما يعطى العالم أعطيكم أنا” (يو14: 27). إنه سلام المصالحة مع الله بالفداء الذى صنعه السيد المسيح على الصليب، وعبر عنه بعد القيامة المجيدة.. السلام الناشئ عن غفران الخطايا التى تزعج القلب وتقلق الضمير. هو سلام الاطمئنان على مصير الإنسان بعد أن ملك الموت أجيالاً كثيرة، وجاء السيد المسيح لكى يحرر الإنسان من سلطانه ويعلن انتصاره عليه بالقيامة. هو سلام الله الذى يفوق كل عقل.. الذى يتخطى كل الحواجز والمخاوف والأوهام ومضايقات الشيطان وأعوانه.. يتخطى كل المؤامرات والأحقاد، وقوات الشر المنظورة وغير المنظورة، ويمنح القلب طمأنينة فى أحضان الله القادر على كل شئ. إن فقدان السلام يُفقد الإنسان قدراته الإبداعية.. الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله فى البر وقداسة الحق.. حينما يفقد سلامه: يفقد رونقه، يفقد قدرته، يختل أداؤه، ولا يستطيع أن يمجد الله كما كان مقدَّراً له أن يفعل. القديسون الذين تمتعوا بسلام الله فى قلوبهم، وصاروا نوراً للعالم، ومسكناً للروح القدس، وأداة لإظهار عمل الله وتمجيد اسمه.. اجتذبوا الآخرين إلى محبة الحق بسبب عطية السلام التى فيهم.. ومن دعاه الله لخدمة المصالحة، كان يسعى كسفير للمسيح يدعو الناس ليتصالحوا مع الله (انظر 2كو5: 20). خدمة الكهنوت هى خدمة المصالحة.. هى خدمة مغفرة الخطايا.. فلهذا قال السيد المسيح لتلاميذه: “سلام لكم. كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تُغفر له” (يو20: 21-23). لقد أعطاهم موهبة الكهنوت وغفران الخطايا قبل أن يرسلهم ليخدموا خدمة المصالحة. ولكنه فى البداية قال لهم: “سلام لكم”. وصار الرسل يرددون هذا القول الجميل فى كل صلاة سرائرية للمصالحة “سلام لكم” باللغة القبطية (Irhnh paci إيرينى باسى). صارت الكنيسة تردد هذه العبارة التى تعنى منح عطية السلام من الرب القائم من الأموات، الذى افتدانا واشترانا لله بدمه.. الذى دفع ثمن خطايانا على الصليب وعبر بنا من الدينونة إلى المصالحة، ومن الموت إلى الحياة بموته المحيى وقيامته المجيدة من الأموات. ربى وإلهى عبارة قالها توما الرسول حينما دعاه السيد المسيح القائم من الأموات ليضع التلميذ إصبعه فى محل المسامير ويضع يده فى موضع طعنة الحربة. إن تعبير “ربى” وحده له مدلولات عديدة، وتعبير “إلهى” وحده له أيضاً مدلولات عديدة. أما إذا اجتمع التعبيران معاً، فهذا لا يدل إلا على الرب الإله الخالق القادر على كل شئ. ونسوق بعض الأمثلة على ذلك: فى سفر التكوين عند خلق العالم “يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات” (تك2: 4). “وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ فى أنفه نسمة حياة” (تك2: 7). “وغرس الرب الإله جنة فى عدن شرقاً” ( تك 2: 8). “وأخذ الرب الإله آدم ووضعه فى جنة عدن” (تك 2: 15). “وأوصى الرب الإله آدم” (تك 2: 16). “وقال الرب الإله ليس حسناً أن يكون آدم وحده” (تك 2: 18). “وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية” (تك2: 19). “فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام” (تك2: 21). “وبنى الرب الإله الضلع التى أخذها من آدم امرأة” ( تك2: 22). “وسمعا (آدم وحواء) صوت الرب الإله ماشياً فى الجنة عند هبوب ريح النهار” (تك3: 8). “فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله فى وسط شجر الجنة” (تك 3: 8). “فنادى الرب الإله آدم وقال له أين أنت؟” (تك3: 9). “فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذى فعلتِ؟” (تك3: 13). “فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا، ملعونة أنت” (تك3: 14). “وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما” (تك3: 21). “وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا” (تك3: 22). “فأخرجه الرب الإله من جنة عدن” (تك3: 23). فى الإصحاحات الأولى من سفر التكوين تكررت عبارة “الرب الإله” 18 مرة (من تك2: 4 – تك 3: 23). بعد ذلك كثر استخدام كلمة “الرب” للدلالة على الله. ولكننا نجد عبارة “الرب الإله” تظهر مرة أخرى فى أسفار موسى الخمسة مثل ما يلى على سبيل المثال لا الحصر: “الرب إلهنا قطع معنا عهداً فى حوريب” (تث5: 2). “أنا هو الرب إلهك الذى أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامى” (تث5: 6، 7). “لأنى أنا الرب إلهك إله غيور” (تث5: 9). “لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً” (تث 5: 11). “احفظ يوم السبت لتقدّسه كما أوصاك الرب إلهك” (تث5: 12). “أما اليوم السابع فسبت للرب إلهك” (تث5: 14). “فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة” (تث5: 15). “أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك، لكى تطول أيامك ولكى يكون لك خير على الأرض التى يعطيك الرب إلهك” (تث5: 16). وهكذا أيضاً استمر تكرار عبارة “الرب إلهنا” فى هذا الإصحاح من سفر التثنية وفى الإصحاح التالى يقول “اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك” (تث6: 4، 5). وهذا النص بالذات له أهمية خاصة إذ يبرز حقيقة أن الرب الإله لا معبود سواه وهو الإله الحقيقى. وفى قول توما الرسول للسيد المسيح: “ربى وإلهى” دليل قاطع على ألوهية السيد المسيح الكاملة. الذى شاهدناه ولمسته أيدينا هذه الأنشودة الجميلة التى بدأ بها القديس يوحنا الرسول الإنجيلى رسالته الأولى “الذى كان من البدء. الذى سمعناه الذى رأيناه بعيوننا، الذى شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأُظهرت لنا” (1يو1: 1، 2). إن التجسد الإلهى قد أعطى للإنسان الفرصة أن يدرك الله بحواسه الجسدية وليس بروحه فقط. فالإنسان يختلف فى طبيعته عن الملائكة الذين هم أرواح فقط كقول الكتاب “الصانع ملائكته رياحاً (أرواحاً) وخدامه لهيب نار” (عب1: 7). الإنسان له جسد ونفس وروح عاقل. والجسد له خمس حواس يدرك بها الأشياء المحيطة به. والإنسان له ذهن جسدى وعقل روحى مثلما قال معلمنا بولس الرسول عن الصلاة بلغة أخرى غير اللغة التى يعرفها الإنسان من موطنه: “إن كنت أصلى بلسان فروحى تصلّى، وأما ذهنى فهو بلا ثمر. فما هو إذاً. أصلى بالروح، وأصلى بالذهن أيضاً. أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضاً” (1كو14: 14، 15). أى أن القديس بولس الرسول يريد أن يشترك الجسد مع الروح فى العبادة، يشترك الذهن الجسدى مع الروح العاقل فى الإنسان. الروح له إمكانيات تختلف عن إمكانيات الجسد لذلك قال القديس يوحنا الرسول فى بداية رؤياه: “كنت فى الروح فى يوم الرب” (رؤ1: 10). وقال أيضاً بعد ذلك: “بعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح فى السماء والصوت الأول الذى سمعته كبوق يتكلّم معى قائلاً: اصعد إلى هنا فأريك ما لابد أن يصير بعد هذا وللوقت صرت فى الروح؛ وإذا عرش موضوع فى السماء وعلى العرش جالس. وكان الجالس فى المنظر شبه حجر اليشب والعقيق وقوس قزح حول العرش فى المنظر شبه الزمرد..” (رؤ4: 1-3). الله لا يحتقر الجسد إن الله لم يحتقر الجسد وسعى لخلاص جسد الإنسان، كما سعى لخلاص روحه. فالإنسان يحتاج للخلاص جسداً وروحاً.. كل طبيعته البشرية تحتاج إلى الله وتحتاج إلى الخلاص وتحتاج إلى الحياة الأبدية. ولهذا فعندما ظهر السيد المسيح لتلاميذه بعد قيامته من الأموات؛ استمر يؤكد لهم قيامته بالجسد الذى صلب به. وقد سجّل ذلك معلمنا لوقا الإنجيلى فقال: “وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه فى وسطهم وقال لهم: سلام لكم. فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر أفكار فى قلوبكم. انظروا يدىّ ورجلىّ إنى أنا هو جسّونى وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم: أعندكم ههنا طعام. فناولوه جزءًا من سمك مشوى، وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم” (لو24: 36-43). وكتب القديس لوقا أيضاً فى سفر أعمال الرسل عن السيد المسيح وتأكيده على قيامته للرسل الذين اختارهم “الذين أراهم أيضاً نفسه حياً ببراهين كثيرة بعد ما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله” (أع1: 3). وقد اهتم تلاميذ السيد المسيح كثيراً بجسده بعد موته المحيى على الصليب سواء فى طلبه من بيلاطس، أو فى إنزاله عن الصليب، أو فى تكفينه ودفنه، أو فى الرغبة فى وضع الأطياب عليه فى فجر الأحد بواسطة النساء اللواتى أتين إلى القبر “فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر. فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما هن محتارات فى ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة. وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض قالا لهن: لماذا تطلبن الحى بين الأموات. ليس هو ههنا لكنه قام” (لو24: 2-6). كلّمنا فى ابنه لم يحتمل الشعب فى العهد القديم أن يظهر لهم الله على أعلى جبل سيناء ويكلّمهم “وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخّن. ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد. وقالوا لموسى تكلّم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت” (خر20: 18، 19). لذلك صار الله يكلّم الشعب بواسطة الأنبياء ولا يتكلم معهم مباشرة وعن ذلك قال معلمنا بولس الرسول: “الله بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا فى هذه الأيام الأخيرة فى ابنه الذى جعله وارثاً لكل شئ” (عب1: 1، 2). أى أمكن أن يتكلم الله مع البشر مباشرة بتجسد ابنه الوحيد. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلى: “والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً” (يو1: 14). من المفهوم طبعاً أن السيد المسيح قد اتخذ طبيعة بشرية كاملة جسداً وروحاً عاقلاً وجعلها فى وحدانية كاملة مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. ولكن مسألة التجسد قد أدت دوراً كبيراً فى تلامس الإنسان مع الله وتآلفه معه وإدراكه لكثير من الأمور التى جعلته يتمتع بمفاعيل الخلاص وينطلق نحو الحياة الروحية التى تؤهله لميراث ملكوت السماوات. لذلك قال معلمنا يوحنا الإنجيلى: “رأينا مجده” (يو1: 14). وقال معلمنا بطرس الرسول: “لأننا لم نتبع خرافات مصنعّة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه؛ بل قد كنا معاينين عظمته. لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى هذا هو ابنى الحبيب الذى أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه فى الجبل المقدس” (2بط1: 16-18). لقد تلامس التلاميذ، الذين هم شهود الإنجيل، مع السيد المسيح بالسمع والنظر واللمس قبل القيامة من الأموات وبعدها، ووصلت ذروة تلامسهم من بعد القيامة إذ أدركوا حقيقة القيامة والحياة الأبدية. لذلك قال القديس يوحنا عن تلامسهم هذا: “فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبّركم بالحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأُظهرت لنا” (1يو1: 2). القيامة هى موضوع شهادة قبل التجلى بستة أيام أنبأ السيد المسيح تلاميذه عن آلامه وموته وقيامته، وقد سجل القديس متى الإنجيلى ذلك بقوله: “من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغى أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفى اليوم الثالث يقوم” (مت16: 21). أراد السيد المسيح بذلك أن يجعلهم يفهمون أنه سوف يبذل للموت نفسه بإرادته، وأنه سوف يقوم بسلطانه الإلهى. كان ينبغى لكى يخبرهم بقيامته أن يخبرهم بموته، لأنه لا توجد قيامة إلا من الموت. ولولا الموت لما كانت القيامة. كانت القيامة هى أقوى برهان على لاهوته، وعلى خلوه من الخطية الأصلية التى لآدم. وكذلك برهان على بره الكامل، ونقاوته المطلقة فى حياته الإنسانية، وعلى قبول ذبيحته أمام الله الآب لغفران خطايا العالم. إن قيامة السيد المسيح من الأموات، هى عماد الديانة المسيحية، وموضوع شهادة الآباء الرسل للعالم، بحسب وصية الرب لهم “تكونون لى شهوداً” (أع1: 8). وحينما أرادوا أن يختاروا من يحل محل يهوذا الإسخريوطى ويأخذ وظيفته الرسولية قالوا: “فينبغى أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذى فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذى ارتفع فيه عنّا يصير واحد منهم شاهداً معنا بقيامته” (أع1: 21، 22). وقد أزعجت شهادة الرسل لقيامة السيد المسيح رؤساء كهنة اليهود والفريسيين والصدوقيين، وحاولوا أن يمنعوها بكل الوسائل. سواء بالتهديد والوعيد أو بالتنكيل والتعذيب. ولكن كانت إجابة الآباء الرسل الثابتة هى “نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أع4: 20). وحينما شفى بطرس ويوحنا الرسولان الرجل الأعرج عند باب الهيكل الذى يقال له الجميل “بينما هما يخاطبان الشعب أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون، متضجرين من تعليمهما الشعب وندائهما فى يسوع بالقيامة من الأموات. فألقوا عليهما الأيادى ووضعوهما فى حبس إلى الغد.. وحدث فى الغد أن رؤساءهم وشيوخهم وكتبتهم اجتمعوا إلى أورشليم مع حنان رئيس الكهنة وقيافا ويوحنا والإسكندر وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة” (أع4: 1-3، 5، 6). فقال لهم الآباء الرسل: “فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع الناصرى الذى صلبتموه أنتم الذى أقامه الله من الأموات. بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً” (أع4: 10). فى كل عظة للرسل كانوا ينادون بقيامة الرب يسوع المسيح من الأموات:
فى هذا الخطاب ربط القديس بولس بين بنوة المسيح لله فى قول المزمور: “أنت ابنى” (مز2: 7) وبين القيامة. لأن القيامة كانت نتيجة حتمية لاتحاد اللاهوت بالناسوت.. إذ أن الذى مات بحسب الجسد هو هو نفسه القدوس الحى الذى لا يموت بحسب لاهوته. وقام بسلطانه الإلهى منتصراً على الموت، لأنه قَبِل الموت بإرادته وليس انهزاماً أمامه. وقد ربط القديس بولس مرة أخرى الأمرين معاً فى رسالته إلى أهل رومية بقوله عن إنجيل الله: “الذى سبق فوعد به بأنبيائه فى الكتب المقدسة، عن ابنه. الذى صار من نسل داود من جهة الجسد. وتعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات. يسوع المسيح ربنا” (رو1: 2-4). أى أن القيامة كانت برهاناً قوياً على بنوة السيد المسيح للآب.
وهكذا نرى كيف اهتم الآباء الرسل القديسون بالشهادة لقيامة السيد المسيح فى كرازتهم بالإنجيل، وتعليمهم للشعب، ومجاهرتهم بالإيمان. قال معلمنا بولس الرسول إن السيد المسيح قد “أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا” (رو4: 25). لقد صولحنا مع الله الآب بموت ابنه الوحيد الجنس على الصليب، إذ أنه قد أوفى الدين الذى علينا مقدماً جسده فداءً وعوضاً عن الجميع. ولكن هذه المصالحة التى تمت بذبيحة الصليب لم تكن واضحة ومعلنة بالنسبة للكنيسة. بل على العكس كان تلاميذ المسيح فى حزن وبكاء وحسرة على موت المخلّص وشعروا بالضياع، وربما شعروا أيضاً بتخلى الله عنهم، وغضبه لسبب جريمة صلب ابنه الحبيب، والتى ارتكبتها البشرية فى جسارة وقسوة عجيبة !! لذلك كان من الضرورى أن يتم إعلان المصالحة بطريقة منظورة ومحسوسة لتلاميذ السيد المسيح ولأحبائه، وذلك بقيامته من الأموات. إن قيامة السيد المسيح قد أعلنت أن الآب قد تجاوز عن خطايانا لأن العدل الإلهى قد استوفى حقه على الصليب، بمعنى أن قداسة الله قد أعلنت كرافض للشر وللخطية وأدينت الخطية بالصليب. أما القيامة فهى تعنى عودة الحياة مرة أخرى لبنى البشر. إن أجرة الخطية هى موت، ولكن أجرة البر هى حياة أبدية. فالموت الذى ماته السيد المسيح هو لأجل خطايانا، وأما الحياة التى يحياها فيحياها لله، ولسبب بره الشخصى، ولسبب اتحاد لاهوته بناسوته. وكما يقول قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الله حياته- إن السيد المسيح بموته قد حل مشكلة الخطية وبقيامته قد حل مشكلة الموت. ولأن الموت هو نتيجة الخطية فبزواله نفهم أن الخطية قد أزيلت، وقد محيت بالقيامة. فالسيد المسيح بقيامته قد “أبطل الموت وأنار الحياة والخلود” (2تى1: 10). إن أقصى ما يتمناه القاتل إذا ندم على خطيته هو أن يقوم القتيل فيفرح المذنب بقيامة القتيل. ولا يشعر فقط أن جريمته قد عوُلجت، ولكنه يشعر أيضاً أنه قد نال البراءة من تهمة القتل. ولعل هذا ما قصده القديس بولس الرسول بقوله عن السيد المسيح إنه “أقيم لأجل تبريرنا” (رو4: 25). أى أنه قد أقيم من الأموات لكى يزيل عنا جريمة موته التى تسببنا نحن فيها وما تستوجبه من دينونة. ما أجمل ذلك الموقف الذى يدخل فيه القتيل إلى المحكمة لكى يثبت للقضاة أنه حى ولكى يرفع حُكم الإعدام عن القاتل الذى كان نادماً على خطيته متمنياً عودة القتيل لإعلان المصالحة. لقد أكّد السيد المسيح أن اكتشاف لاهوته بالنسبة للبشر مرتبط إلى أقصى حد بانتصاره على الموت بالقيامة. لذلك قال لليهود: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو” (يو8: 28). وقد قصد بعبارة “متى رفعتم ابن الإنسان” أى متى صلبتم ابن الإنسان وعلقتموه على خشبة الصليب. فلولا موت الصليب ما كانت القيامة من الأموات والانتصار على الموت. لذلك قصد السيد المسيح أن تخرج بُشرى القيامة من داخل القبر أولاً. أى أعلنت الملائكة عن قيامته من داخل القبر الفارغ قبل أن يظهر هو بنفسه للمريمات وللتلاميذ بعد قيامته. لقد قصد أن نفهم أن القيامة قد نبعت من خلال موت الصليب. وأن الحياة قد تدفقت من خلال الموت. ولفت أنظار تلاميذه إلى هذه الحقيقة حينما قال: “إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت فهى تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير” (يو12: 24). ما أعجب حكمة السيد المسيح؛ من الموت تولد الحياة، من الألم يولد المجد، من الاتضاع تأتى الكرامة، من البذل والتضحية بالنفس يأتى امتلاك قلوب الآخرين. وعن هذا قال: “أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يموت” (يو12: 32، 33) أى متى ارتفعت على خشبة الصليب فسوف يتعلق الجميع بمحبتى. إن القيامة قد أعلنت لاهوت السيد المسيح ومجده الإلهى. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو1: 4). وقال الرب لتلاميذه بعد القيامة: “كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده” (لو24: 26). لا شك أن القيامة هى مجد. فبعد أمجاد البذل والتضحية والطاعة الكاملة للآب السماوى، جاءت أمجاد القيامة والانتصار على الموت بصورة ساحقة حيث لن يؤثر فيه الموت بعد قيامته. وهذه هى الحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأُظهرت لنا (انظر 1يو1: 2). يتساءل البعض لماذا قام السيد المسيح من الأموات فى اليوم الثالث؟ ونقول إن لذلك أسباب كثيرة منها ما يلى: أولاً: تحقيق النبوات فقد ورد فى سفر هوشع النبى “هَلُم نرجع إلى الرب لأنه هو افتَرَس فيشفينا، ضَرَََب فيجْبرنا. يحيينا بعد يومين فى اليوم الثالث يُقيمنا فنحيا أمامه” (هو 6: 1، 2). أى أن الله الآب، فى المسيح، كان مصالحاً العالم لنفسه. والسيد المسيح إذ أخلى نفسه وكنائب عن البشرية، قد احتمل الآلام والموت وقبل هذه الكأس من يد الآب. وكنائب عن البشرية أيضاً قد دخل إلى مجده بالقيامة من الأموات. وهذه الكرامة قد نالها من يد الآب أيضاً. كما هو مكتوب عن الله ” يجرح ويعصب يسحق ويداه تشفيان” (أى 5: 18). وبكل ما صنعه السيد المسيح قد صولحنا مع الله بموت ابنه وخلُصنا بحياته من الغضب والعداوة القديمة ورجعنا إلى الله وصرنا أولادًا له. والعجيب فى هذه النبوة أنها قد أشارت إلى أن القيامة ستحدث فى أول اليوم الثالث، لأنها تقول: “بعد يومين فى اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه”، بمعنى أن اليوم الثالث لم يكتمل، بل القيامة بعد يومين: أى بعد اكتمال يومين وفى بداية اليوم الثالث تحدث القيامة. وهذا ما ذكره القديس مرقس الإنجيلى عن قيامة السيد المسيح “وبعدما قام باكراً فى أول الأسبوع” (مر16: 9). وبهذا تطابقت نبوة هوشع النبى مع بشارة الإنجيل. لذلك نقول فى قانون الإيمان الأرثوذكسى {وقام من الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب}. ثانياً: بداية عهد جديد لشعب الله فى العهد القديم خُلق الإنسان فى اليوم السادس واستراح الله فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمل الله خالقاً” (تك2: 3). ولكن الإنسان أخطأ فى اليوم السابع أثناء الراحة الإلهية. وعاد الله يعمل من جديد كقول السيد المسيح: “أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو5: 17). ولذلك كان السيد المسيح يعمل أغلب معجزاته فى اليوم السابع من الأسبوع. وثار عليه اليهود لهذا السبب فكان يؤكد لهم أنه لا يعمل هذا بمفرده بل مع الله الآب لذلك قال لهم: “الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك” (يو5: 19). فالابن لا يعمل وحده كما لو كان منفصلاً عن الآب بل يعملان معاً وأيضاً مع الروح القدس فى كل شئ حتى وأن تمايز دور كل أقنوم من الأقانيم الثلاث، ولكن العمل واحد باستمرار، ولا انفصال بين الأقانيم لسبب وحدة الجوهر الإلهى. إذن يلزم أن يبدأ أسبوع جديد، لأن الأسبوع الأول كان سيستمر فى يومه السابع إلى الأبد لو لم يخطئ الإنسان ويحتاج أن يخلقه الله من جديد “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17). “وقال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شئ جديداً” (رؤ21: 5). ومما يؤكد ذلك قول يوحنا الرسول فى سفر الرؤيا: “ثم رأيت سماءً جديدةً وأرضاً جديدةً لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحر لا يوجد فيما بعد. وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها” (رؤ21: 1، 2). “الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً” (2كو5: 17). بداية الأسبوع الجديد هو يوم الأحد الذى صار هو يوم الرب، وبداية العهد الجديد هو يوم الراحة الحقيقية الذى فيه استراح من جميع عمله الذى عمل الله خالقاً. لذلك قال قداسة البابا شنوده الثالث أطال الرب حياة قداسته: [ متى استراح الله حقاً من أعماله، أليس بعدما صنع الفداء وقام السيد المسيح من الأموات فى يوم الأحد؟]. ثالثاً: ليؤكد السيد المسيح أنه مات حقاً فلو قام السيد المسيح سريعاً بعد موته على الصليب لظن البعض أنه لم يمت بل أفاق من غيبوبة. ولكن نزيف الدم الحاد من طعنة الحربة واستمراره فى القبر إلى اليوم الثالث أكّدا موته بصورة قطعية. هذا بالإضافة إلى المعجزات الأخرى التى صاحبت موته وقيامته. رابعاً: ليبيّن أن الفداء هو من عمل الثالوث القدوس فالثلاثة أيام ترمز إلى الثالوث القدوس وعمله فى الفداء بصفة عامة مع أن الابن فقط هو الذى تجسد متأنساً، وصلب، وقبر، وقام من الأموات. لذلك فنحن نقبل المعمودية الواحدة بثلاث غطسات، إشارة إلى إيماننا بالثالوث القدوس الواحد، وأيضاً إشارة إلى أننا قد دفنا مع السيد المسيح للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة (انظر رو 6). فهناك ارتباط وثيق بين المعمودية التى نقبلها كمؤمنين بالمسيح، وبين موت المسيح وقيامته فى اليوم الثالث. أشار السيد المسيح كثيراً إلى موته، حتى بعد قيامته من الأموات، وأيضاً بعد صعوده إلى السماوات.. وهذا هو منتهى الاتضاع إذ لم يستحِ من موت الصليب. فبعد القيامة قالت عنه الملائكة للمريمات: “أنتن تطلبن يسوع الناصرى المصلوب. قد قام ليس هو ههنا” (مر16: 6)، “أنكما تطلبان يسوع المصلوب” (مت28: 5). وفى لقب “المصلوب” إشارة واضحة إلى موته. هكذا أيضاً قال السيد المسيح للتلاميذ من بعد قيامته: “هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغى أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات فى اليوم الثالث” (لو24: 46). وفى السماء من بعد الصعود، رآه القديس يوحنا الإنجيلى، وقال عنه: “من يسوع المسيح الشاهد الأمين البكر من الأموات” (رؤ1: 5)، “أنا هو.. الحى وكنت ميتاً” (رؤ1: 17، 18)، “هذا يقوله الأول والآخر الذى كان ميتاً فعاش” (رؤ2: 8). إلى جوار ذلك احتفظ فى جسد القيامة الممجد بآثار جراح المسامير والحربة فى جنبه. وأيضاً رآه القديس يوحنا فى السماء فى وسط العرش فى شكل “خروف قائم كأنه مذبوح” (رؤ5: 6)، وسمع طغمات الملائكة يصرخون مسبحين: “مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة” (رؤ5: 12). وبهذا نرى أنه حتى فى السماء، بعد الصعود لا تزال ذكرى موت السيد المسيح هى موضوع شكر الملائكة عنا وتسبيحهم “وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة” (رؤ5: 9). لم يرغب السيد المسيح -بسبب تواضعه- أن يمحو ذكريات الموت البشع على الصليب، بعد أن قام أو بعد أن صعد. بل صار يحلو له -بسبب محبته لنا- أن يتردد الحديث عنها مُظهراً جراحات محبته على الدوام لخيرنا وخلاصنا. بل أكثر من ذلك، ترك لنا ذكرى موته المحيى فى سر الإفخارستيا، وأوصى تلاميذه قائلاً: “اصنعوا هذا لذكرى” (لو22: 19)، لنتذكر محبته على الدوام. مات كثيرون قبل السيد المسيح. ولكن السيد المسيح كان فريداً فى موته إذ صرخ بصوت عظيم وقال: “يا أبتاه فى يديك أستودع روحى” (لو23: 46، انظر مز31: 5). وكانت هذه صرخة انتصار. ولأول مرة ينطق بها مَن هو مِن بين البشر فى لحظة موته.. إذ سلّم روحه الطاهرة المباركة فى يدى الآب.. وليس تحت سلطان “ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس” (عب2: 14). أما ما قاله داود النبى فى المزمور: “فى يدك أستودع روحى” (مز31: 5) فهو نبوة تخص السيد المسيح لم يقلها داود عن نفسه. وبهذا يكون السيد المسيح هو الوحيد المقصود بهذه العبارة حتى إتمام الفداء. كان السيد المسيح بكراً فى موته بالنسبة إلى هذه الصورة المشرّفة القوية.. ولذلك فقد دُفن فى قبر بكر أى “قبر جديد، لم يوضع فيه أحد قط” (يو19: 41). فهو البكر فى موته من حيث إنه أول من سلّم روحه فى يدى الآب، والبكر فى قبره.. ومن هذا القبر البكر خرجت بشرى القيامة والحياة عن البكر من الأموات. كان بكراً فى قيامته المجيدة لأنه هو الوحيد الذى قام من الأموات بجسد القيامة المُمجَّد، غير القابل للموت فيما بعد، أى الذى لا يموت على الإطلاق من بعد القيامة.. فجميع البشر وجميع القديسين الذين قاموا من الأموات، قد عادوا ورقدوا مرة أخرى انتظارًا لليوم الأخير. ولم يأخذوا أجسادًا ممجدة فى قيامتهم، إلى أن يأتى السيد المسيح فى مجيئه الثانى، ويمنحهم -بقدرته الإلهية- هذه الأجساد الممجدة التى سوف يدخلون بها إلى ملكوت السماوات، إن كانوا قد صنعوا مرضاته وحفظوا وصاياه. لم يقم أحد بالجسد المتحرر نهائياً من الموت، إلا البكر من الأموات.. أى يسوع المسيح. لهذا كُتب عنه أنه “هو البداءة، بكر من الأموات. لكى يكون هو متقدماً فى كل شئ” (كو1: 18). # هو البكر فى خلّوه وتحرره من الخطية، بصورة كاملة. فهو “القدوس الحق” (رؤ3: 7). # وهو البكر بين البشر فى إرضائه لقلب الآب السماوى، بطاعته الكاملة ومحبته العجيبة غير الموصوفة للآب.. والتى تتضح من قوله فى مناجاته مع الآب “أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتنى. وعرّفتهم اسمك وسأعرّفهم، ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به، وأكون أنا فيهم” (يو17: 25، 26). # وهو البكر والوحيد فى ميلاده من العذراء البكر البتول، وفى ميلاده العذراوى. أى أنه هو ابنها البكر والوحيد. وفى نفس الوقت هو البكر والوحيد الذى ولد بدون زرع بشر من أى امرأة كانت! # وهو البكر فى موته وفى دفنه كما شرحنا سالفاً.. # وهو البكر فى قيامته من الأموات.. # وهو البكر فى صعوده إلى سماء السماوات، الموضع الذى لم يدخل فيه ذو طبيعة بشرية، ودخل هو إليه كسابق لنا؛ إيليا وأخنوخ قد صعدا إلى السماء ولكن ليس إلى سماء السماوات..
بداءة أم رأس أو رئيس أو أصل (Origin) كلمة “بداءة” وكلمة “رأس” هى كلمة واحدة فى اللغة اليونانية “avrch`” (أرشى). فحينما يقول الكتاب “رأس الحكمة مخافة الرب” (مز111: 10، انظر أم1: 7). فإنها من الممكن أيضاً أن تُترجم “بداية الحكمة مخافة الله”. فالرأس دائماً هو المتقدم. ونفس الكلمة تستخدم فى عبارة رئيس كهنة ” avrch` i`ereu,j أرشى إريفس”. فالآية التى يستخدمها أصحاب بدعة شهود يهوه للتشكيك فى ألوهية السيد المسيح والواردة فى الأصحاح الثالث من سفر الرؤيا والتى تقول: “هذا يقوله الآمين الشاهد الأمين الصادق. بداءة خليقة الله” (رؤ3: 14).. لا تعنى أكثر من أن السيد المسيح هو “رئيس خليقة الله” أو “أصل خليقة الله”، بمعنى أنه هو الخالق وسبب وجود الخليقة. وبمنتهى البساطة يقول الكتاب “متى أَدْخَلَ البكر إلى العالم، يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله” (عب1: 6). وهذا يعنى أنه هو البكر من حيث إنسانيته والمسجود له أيضاً من جميع الملائكة لسبب ألوهيته. فالسيد المسيح بتجسده صار هو البكر، فى تجديد حياة البشر، فى إرضاء قلب الآب السماوى، فى قيامته من الأموات.. صار هو البكر فى كل شئ كما هو مكتوب “هو البداءة، بكر من الأموات. لكى يكون هو متقدماً فى كل شئ” (كو1: 18). وهو فى دخوله إلى العالم بالتجسد صائراً فى شبه الناس لم يفقد ألوهيته وأزليته.. لهذا يقول: “ولتسجد له كل ملائكة الله” ( عب1: 6). ولكن لا أحد ينكر أنه قد صار “بكراً بين إخوة كثيرين” (رو8: 29). إليه أشار الآب فى المزمور بقوله: “هو يدعونى أبى أنت.. أنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض” (مز89: 26، 27). وقد ورد فى طقس تكريس المذبح العبارة التالية التى يصليها الأب الأسقف: “أيها البكر من الآب غير المرئى بلاهوته قبل كل الدهور، والبكر من القديسة العذراء فى آخر الزمان بغير زواج، والبكر فى القيامة من الأموات، حتى خلّص بيعته وأقامنا معه..”. وهذا يدلنا على أن لقب “البكر” يخص كلمة الله فى ميلاده الأزلى بحسب لاهوته من الآب؛ فهو الابن البكر والوحيد للآب. وفى ميلاده الزمنى بحسب ناسوته من العذراء؛ هو الابن البكر والوحيد للعذراء. لهذا قال الكتاب “متى أدْخل البكر إلى العالم، يقول ولتسجد له كل ملائكة الله” (عب1: 6). هو بكر قبل دخوله إلى العالم، ثم دخل إلى العالم وظل بكراً فى كل شئ فى تجسّده. ربط القديس بولس الرسول قيامة السيد المسيح بقيامة الأموات ربطاً حتمياً حتى إنه قد قال: “إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام” (1كو15: 13). إن السيد المسيح قد ذاق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد، وهكذا أيضاً قام لأجل كل واحد. بموته أوفى الدين الذى علينا، وفى قيامته وهبنا نعمة القيامة والحياة الجديدة الأبدية. فى موته عن الخطايا حل مشكلة الخطية، وفى قيامته حل مشكلة الموت. وقد قصد القديس بولس الرسول أنه: ما فائدة قيامة السيد المسيح، إن لم تكن هناك قيامة للأموات..؟ إن الإيمان بقيامة السيد المسيح، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بقيامة الأموات. واعتبر القديس بولس أن الإيمان بالقيامة هو عماد الكرازة الرسولية، ولهذا قال: “إن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم. ونوجد نحن أيضاً شهود زور لله، لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه إن كان الموتى لا يقومون. لأنه إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون المسيح قد قام. وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد فى خطاياكم. إذاً الذين رقدوا فى المسيح أيضاً هلكوا. إن كان لنا فى هذه الحياة فقط رجاء فى المسيح فإننا أشقى جميع الناس. ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين” (1كو15: 14-20). إن قيامة السيد المسيح هى برهان أنه هو هو نفسه ابن الله الأزلى المولود من الآب قبل كل الدهور، الذى انتصر على الموت بقيامته. وبرهان أن ذبيحة الصليب قد أوفت كل ديون الخطية، لأنها ذبيحة الابن الوحيد القادرة أن تغفر خطايا العالم كله. هى ذبيحة غير محدودة فى قيمتها لأنها ذبيحة الله الظاهر فى الجسد. ودمه الذى سفك هو دم إلهى؛ متحد باللاهوت، قادر أن يغسل ويطهّر الخطايا. لهذا قال القديس بولس: “إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد فى خطاياكم”. فلا غفران للخطايا، إلا بذبيحة الابن الوحيد، هى الذبيحة الحقيقية القادرة أن تخلَّص جميع البشر. وفى تعبيره عن الإيمان بالحياة الأبدية الموهوبة لنا من الله فى المسيح أكّد القديس بولس أن الإيمان بالمسيح -بما يقترن به من تضحيات فى هذه الحياة الحاضرة- يصير شقاءً لا مبرر له بدون القيامة وميراث الحياة الأبدية. فالقيامة هى التى أثبتت أن الروح الإنسانية تبقى بعد موت الإنسان بالجسد، وتعود الروح لتتحد بجسدها الخاص عند قيامة هذا الجسد. إذ أن الروح هى التى تحيى هذا الجسد.. ولكى يحيا، يلزمه أن تعود الروح إليه مرة أخرى. الإيمان بالقيامة يعنى الإيمان بالحياة الآخرة، والإيمان بالفردوس كموضع انتظار لأرواح القديسين الذين رقدوا. وقد وعد السيد المسيح اللص اليمين على الصليب قائلاً: “الحق أقول لك إنك اليوم تكون معى فى الفردوس” (لو23: 43). وقال معلمنا بولس الرسول: “لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جداً” (فى1: 23). وقال: “لى الحياة هى المسيح، والموت هو ربح” (فى1: 21). ولهذا ففى استنكاره لعدم الإيمان بالقيامة، وبالحياة الآخرة سواء فى الفردوس حالياً، أو فى الملكوت بعد مجيء السيد المسيح الثانى، قال القديس بولس الرسول كلماته التى أوردناها سابقاً: “إن لم يكن المسيح قد قام.. إذاً الذين رقدوا فى المسيح أيضاً هلكوا” (1كو15: 17، 18). أى أن الإيمان بالقيامة معناه الإيمان باستمرار بقاء الإنسان بنفس شخصه، بالرغم من رقاد الجسد المؤقت .. لأن روحه باقية، وسوف تنضم إلى جسدها المقام من الأموات عند مجيء المسيح. وفى هذه الملحمة الرائعة: جاءت قيامة السيد المسيح كإعلان مبكر عن الحياة الأبدية. وهذا هو معنى قول القديس بولس الرسول: “الآن قد قام المسيح من الأموات، وصار باكورة الراقدين” (1كو15: 20) فى المسيح سيُحيا الجميع أكّد القديس بولس الرسول على إنسانية السيد المسيح، لأن ذبيحة الابن الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، هى ذبيحة إنسانية -فداءً عن الجنس البشرى- قدّمها الابن الوحيد بتجسده الإلهى وصيرورته ابناً للإنسان؛ بإنسانية كاملة متحدة باللاهوت اتحادًا تاماً منذ اللحظة الأولى للتجسد. لذلك قال القديس بولس: “فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما فى آدم يموت الجميع هكذا فى المسيح سيُحيا الجميع” (1كو15: 21، 22). كما عصى آدم الله حتى الموت، هكذا أطاع السيد المسيح -من جهة إنسانيته- الله حتى الموت. كما هو مكتوب عنه “إذ وُجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (فى2: 8). هذا الإنسان: يسوع المسيح.. لم يكن شخصاً آخر غير ابن الله الوحيد بل هو هو نفسه، بنفس شخصه قد صار إنساناً دون أن يفقد ألوهيته. ولهذا نادى القديس بولس قائلاً: “يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8). فهو الرب الأزلى وهو المخلّص الذى تجسد وصلب وقام من الأموات ليقيمنا أيضاً معه. لقد قام السيد المسيح من الأموات قيامة لا يعقبها موت. أما نحن فنموت بالجسد ونرقد إلى مجيء الرب، وحينئذ نقوم بأجسادنا نفسها، ولكن فى وضع مختلف، حيث يخرج الأبرار إلى قيامة الحياة الأبدية، والأشرار إلى قيامة الدينونة. إذاً فعبارة معلمنا بولس الرسول: “أقامنا معه، وأجلسنا معه فى السماويات فى المسيح” (أف 2: 6) لا تؤخذ بصورة حرفية كما لو كانت شيئاً قد حدث وانتهى حالياً، كما قال قداسة البابا شنوده الثالث – أطال الرب حياة قداسته- لأن الأبرار سوف يقومون فى اليوم الأخير، أما السيد المسيح فمكتوب عنه أنه “باكورة الراقدين” (1كو 15: 20). “والباكورة” لا تعنى إطلاقاً “الكل”. فلو كان الكل قد قام بالفعل وانتهى الأمر، فكيف يعتبر السيد المسيح باكورة الراقدين؟! إن عبارة “أقامنا معه” ينبغى أن تُفهم بطريقة روحية كما يلى: أولاً: إنها وعد بالقيامة لكل من يؤمن ويثبت فى المسيح فيغلب “هذه مشيئة الآب الذى أرسلنى أن كل ما أعطانى لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه فى اليوم الأخير” (يو6: 39). و”من يأكل جسدى ويشرب دمى فله حياة أبدية وأنا أقيمه فى اليوم الأخير” ( يو6: 54). ثانياً: إننا فى المعمودية قد صرنا متحدين مع الرب بشبه موته وبشبه قيامته (انظر رومية 6): فنحن فى المعمودية ننال قوة الموت مع المسيح وقوة القيامة معه “مدفونين معه فى المعمودية، التى فيها أقمتم أيضاً معه” (كو2: 12). فالقيامة المقصودة هنا هى قيامة الحياة فى البر والنصرة على الخطية. كما قال معلمنا بولس الرسول عن الله: “يقودنا فى موكب نصرته فى المسيح كل حين، ويظهر بنا رائحة معرفته فى كل مكان” (2كو 2: 14). وهذه هى القيامة الأولى. أما القيامة الثانية فهى قيامة الراقدين فى المسيح فى اليوم الأخير “حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون” (يو5: 25). ثالثاً: لا ينبغى الخلط بين القيامة الأولى والقيامة الثانية، كما لا ينبغى الخلط أيضاً بين الموت الأول والموت الثانى الذى تكلم عنه سفر الرؤيا والمقصود به الهلاك الأبدى. لذلك فمن يحيا فى القداسة “فلا يؤذيه الموت الثانى” (رؤ 2: 11). رابعاً: نفس الأمر ينطبق على الصعود: فإن عبارة “أجلسنا معه فى السماويات فى المسيح” (أف2: 6) لا تعنى أننا صعدنا إلى السماء، بل كما يقول القداس الغريغورى {أصعدت باكورتى إلى السماء أظهرت لى إعلان مجيئك، هذا الذى تأتى فيه لتدين الأحياء والأموات وتعطى كل واحد كأعماله}. المسألة كلها ينبغى أن تفهم بطريقة روحية ولا داعى للمزايدة لأن القديس بولس الرسول يقول: “إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس” (كو3: 1) أى أن الإنسان الذى يتمتع ببركات القيامة يشتاق إلى الأمور السمائية. من الظلمة إلى النور تكلّمنا فى باب “أحداث الصلب” عن الظلمة التى كانت على كل الأرض وقت صلب السيد المسيح من الساعة السادسة (الثانية عشر ظهراً) إلى الساعة التاسعة (الثالثة بعد الظهر) وقد أراد الله أن يبرز حقيقة الظلمة الروحية التى سيطرت على العالم، ولهذا فقد سمح بأن تظلم الأرض بهذه الصورة العجيبة فى اليوم السابق لليلة الرابع عشر من شهر نيسان حينما يكون القمر بدراً أى تكون الشمس والقمر متعامدين بالنسبة للأرض ويستحيل أن يحدث خسوف طبيعى للشمس. من هذه الظلمة نقلنا السيد المسيح إلى النور مثلما قال لبولس الرسول عند دعوته ليكرز بالإنجيل لشعوب الأرض: “لتفتح عيونهم كى يرجعوا من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله” (أع26: 18). عند صلب السيد المسيح فى يوم الجمعة كانت ظلمة على كل الأرض. وفى فجر الأحد أشرقت أنوار القيامة لتعلن فجر نهار جديد أشرق على البشرية. عن قيامة السيد المسيح كتب معلمنا متى البشير فى إنجيله: “وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع، جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. وإذا زلزلة عظيمة حدثت، لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب، وجلس عليه. وكان منظره كالبرق، ولباسه أبيض كالثلج. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات” (مت28: 1-4). وكتب القديس مرقس الإنجيل: “وبعد ما مضى السبت، اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه. وباكراً جداً فى أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس وكن يقلن فيما بينهن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟.. وبعد ما قام باكراً فى أول الأسبوع ظهر أولاً لمريم المجدلية” (مر16: 1-3، 9). لقد قام السيد المسيح مع خيوط الضوء الأولى باكراً فى فجر الأحد وكان ملاك القيامة فى منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. ومعروف أن البرق هو ضوء شديد اللمعان وكان ضوء الملاك أقوى من نور الشمس التى كان نورها قد بدأ فى البزوغ ولم يكن قرصها قد خرج من المشرق بعد. لهذا ارتعد الحراس من منظر ملاك القيامة. الله هو نور وساكن فى النور وملائكة نورانيون تخدمه. وقيل عن السيد المسيح “كان النور الحقيقى الذى ينير كل إنسان آتياً إلى العالم.. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور يضئ فى الظلمة والظلمة لم تدركه” (يو1: 9، 4، 5). إن أنوار القيامة تشير إلى أنوار الحياة الأبدية حيث شركة ميراث القديسين كقول معلمنا بولس الرسول: “شاكرين الآب الذى أهلنا لشركة ميراث القديسين فى النور، الذى أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته” (كو1: 12، 13). إن النور هو فى ملكوت الله، والظلمة هى فى شركة المصير مع إبليس. ويوضح القديس بولس الرسول أيضاً أن الحياة المسيحية الفاضلة هى حياة منيرة بالقيامة من الأموات وبالسلوك فى النور فقال: “مختبرين ما هو مرضىٌّ عند الرب. ولا تشتركوا فى أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحرى وبّخوها. لأن الأمور الحادثة منهم سراً ذكرها أيضاً قبيح. ولكن الكل إذا توبّخ يظهر بالنور. لأن كل ما أُظهر فهو نورٌ. لذلك يقول: استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح” (أف5: 10-14). وقد شرح القديس يوحنا الرسول كيف ينير مجد الله مدينته المقدسة النازلة من السماء فقال: “أرانى المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله، لها مجد الله، ولمعانها شبه أكرم حجر كحجر يشب بلُّورى.. والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها. وتمشى شعوب المخلّصين بنورها، وملوك الأرض يجيئون بمجدهم وكرامتهم إليها، وأبوابها لن تُغلق نهارًا، لأن ليلاً لا يكون هناك” (رؤ21: 10، 11، 23-25). إن الحياة مع الله هى حياة فى النور. وهذا النور يبدأ من هنا على الأرض ويستمر ويتألّق جداً فى الأبدية. وكما خلق الله النور فى بداية الخليقة حينما “كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه وقال الله ليكن نور، فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن وفصل الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلاً. وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً” (تك1: 2-5). هكذا أيضاً كانت ظلمة على كل الأرض وقت صلب السيد المسيح، ثم جاءت أنوار الخلاص وأعقبتها أنوار القيامة والبشارة بالإنجيل كقول معلمنا بولس الرسول :”لأن الله الذى قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذى أشرق فى قلوبنا، لإنارة معرفة مجد الله فى وجه يسوع المسيح” (2كو4: 6). إن الرب يسوع المسيح بخلاصه العجيب قد أعاد خلق الإنسان من جديد. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17). هذه الخليقة الجديدة تتم فى المعمودية، فى الاتحاد مع المسيح بشبه موته وقيامته، حيث يصلب الإنسان العتيق، ويقوم الإنسان الجديد حسب صورة خالقه. وشرح القديس بولس فى رسالته إلى أهل رومية هذه الحقيقة فقال: “أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته. فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته، عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليبطل جسد الخطية” (رو6: 3-6). وقال أيضاً: “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال فى بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس، الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا” (تى3: 4-6). فتكلّم فى المعمودية عن “جدة الحياة” وعن “الميلاد الثانى” وعن “تجديد الروح القدس” وعن الاتحاد بالمسيح “بشبه.. قيامته”. لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله ولكن لما سقط الإنسان فى الخطية قد فقد هذه الصورة الرائعة واحتاج إلى أن يعيد الرب خلقته من جديد على هذه الصورة الإلهية. فى ذلك قال القديس أثناسيوس الرسولى: [لقد جاء كلمة الله فى شخصه الخاص، لأنه هو وحده صورة الآب، الذى يقدر أن يعيد خلقة الإنسان المخلوق على الصورة] (كتاب تجسد الكلمة-الفصل الثالث-فقرة 13). إن السيد المسيح الذى هو “صورة الله غير المنظور” (كو1: 15) هو وحده القادر أن يعيد خلقة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. إن السيد المسيح بقيامته المجيدة من الأموات قد أعلن “الحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأظهرت لنا” (1يو1: 2). لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “بمقتضى القصد والنعمة التى أعطيت لنا فى المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذى أبطل الموت وأنار الحياة والخلود” (2تى1: 9، 10). لقد أبطل السيد المسيح الموت بقيامته من الأموات باعتباره هو “باكورة الراقدين” (1كو15: 20). وقد أنار السيد المسيح الحياة والخلود بنور قيامته “قام باكراً فى أول الأسبوع” (مر16: 9). وبقيامته فى باكر يوم الأحد أشرق فجر جديد على حياة البشرية. لهذا ارتبطت القيامة بالحياة الجديدة فى أول الأسبوع الجديد “وقال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شئ جديداً” (رؤ21: 5). ويشير معلمنا بولس الرسول إلى ارتباط عهد الختان بالمعمودية، وارتباط المعمودية بعمل الله فى قيامة السيد المسيح من الأموات فقال: “وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح مدفونين معه فى المعمودية التى فيها أقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله الذى أقامه من الأموات” (كو2: 11، 12). لقد أعاد الله تجديد الحياة على الأرض بواسطة الطوفان وفلك نوح. وذلك حينما محا الشر الظاهر الموجود فى العالم وخلّص نوحاً وبنيه بواسطة الفلك الذى بناه نوح بالإيمان لخلاص بيته “الذى مثاله يخلصنا نحن الآن أى المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح” (1بط3: 21). وبعد الطوفان عادت الحمامة إلى الفلك حاملة ورق الزيتون فى منقارها لكى تعلن لنوح أن المياه قد انحسرت عن الأرض وعادت مقومات الحياة مرة أخرى. وكانت الحمامة وورق الزيتون رمزاً لعمل الروح القدس فى المعمودية؛ وفى سر الميرون المقدس يُدْهَن زيت الزيتون الطيب المخلوط بأطياب دفن السيد المسيح التى وجدها الآباء الرسل بعد قيامته من الأموات. إن المعمودية هى بلا شك وسيلة الخليقة الجديدة التى بها نؤهّل لميراث الحياة الأبدية ولهذا قال السيد المسيح: “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5). وفى المعمودية نلبس المسيح كقول معلمنا بولس الرسول: “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل3: 27). أى أننا قد لبسنا بر المسيح ولبسنا الصورة الإلهية لنعود كمخلوقين على صورة الله ومثاله. الأسبوع الجديد مرتبط بالخليقة الجديدة وبالسماء الجديدة والأرض الجديدة. فى الأسبوع الأول خلق الله العالم فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل خالقاً. وجاء السيد المسيح فى امتداد اليوم السابع وقال: “أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو 5: 17). وقال معلمنا بولس الرسول: “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو 5: 17). إذن عاد الله يخلق من جديد فى اليوم السابع وشفى المفلوج عند بركة بيت حسدا فى يوم السبت، وكذلك خلق عينين للمولود أعمى فى يوم السبت أى فى اليوم السابع. وعندما قام السيد المسيح قام “باكراً جداً فى أول الأسبوع” (مر16: 2). أى فى اليوم الأول من الأسبوع الجديد. أى أنه أعلن الحياة الجديدة وصار باكورة الراقدين فى أول الأسبوع الجديد. وصار يوم الأحد هو يوم الرب الذى استراح فيه من عمل الخلاص. فيوم الأحد فى الوقت الحاضر هو باكورة الحياة الجديدة. ولكن الأسبوع الجديد بمعناه الشامل سوف يبدأ فى القيامة العامة فى مجيء المسيح الثانى. لذلك نقرأ فى سفر الرؤيا: “وقال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شئ جديداً” (رؤ21: 5). ووصف القديس يوحنا الرسول ما رآه: “رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا” (رؤ21: 1). نحن فى يوم الأحد نعيش عربون الأبدية فى يوم الرب حيث يقام الاحتفال الرئيسى بالإفخارستيا فى أهم أيام الأسبوع. ويهتف الشعب للسيد المسيح {بموتك يا رب نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السماوات نعترف}. إننا نصنع التذكار [الأنامنسيس] حسب أمر الرب “اصنعوا هذا لذكرى” (لو 22: 19). فالكنيسة فى يوم الأحد وبالتحديد فى سر الإفخارستيا؛ تحتفل بذكرى قيامة الرب وأيضاً بذكرى مجيئه الثانى حيث إن السر يأخذنا فوق الزمن لنحتفل بذكرى ما حدث فى الماضى، وما سوف يحدث فى المستقبل. ويصلى الكاهن فى القداس الإلهى: {فيما نحن أيضاً نصنع ذكرى آلامه المقدسة، وقيامته من الأموات، وصعوده إلى السماوات.. وظهوره الثانى الآتى من السماوات المخوف المملوء مجداً}. ولا عجب فى ذلك فإن عربون الأبدية فى سر القربان المقدس يرفعنا فوق الزمان لنعايش صلب السيد المسيح وقيامته المجيدة وصعوده ومجيئه الثانى عند استعلان ملكوت السماوات والعرس الأبدى. إن سر الإفخارستيا هو عشاء العريس قُدِّم للعروس. وهو العهد الجديد الذى يعلن أن الرباط الزيجى بين المسيح وعروسه الكنيسة هو عهد خلاص بالدم المسفوك على الصليب “هذه الكأس هى العهد الجديد بدمى” (لو22: 20، 1كو 11: 25). السبت فى اللغة العبرية ” سابات ” معناه “راحة”. وقد أوضح معلمنا بولس الرسول أن السبت بمعناه الحقيقى لن يتحقق فى اليوم السابع. وبدأ بولس الرسول يربط بين اليوم والراحة بقوله فى رسالته إلى العبرانيين: “يعيّن أيضاً يوماً قائلاً فى داود: “اليوم” بعد زمان هذا مقداره، كما قيل: اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم. لأنه لو كان يشوع قد أراحهم، لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر. إذاً بقيت راحة لشعب الله. لأن الذى دخل راحته استراح هو أيضاً من أعماله؛ كما الله من أعماله. فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة” (عب4: 7-11). وقوله: “لو كان يشوع قد أراحهم” مقصود به أن أرض الموعد ليست هى أرض الميراث الأبدى. كما أنه بقوله: “يوم آخر” يقصد أن هناك يوماً آخر غير السابع وهو اليوم الأول من الأسبوع الجديد أو اليوم الثامن إذا أضفنا اليوم الأول إلى أيام الأسبوع القديم. وقد أشار القديس بطرس الرسول إلى الحياة الجديدة وارتباطها برقم ثمانية فى مسألة تجديد الحياة على الأرض بواسطة نوح الذى أنقذه الله من الطوفان، إذ كتب يقول إن الله “لم يشفق على العالم القديم، بل إنما حفظ نوحاً ثامناً كارزاً للبر، إذ جلب طوفاناً على عالم الفجار” (2بط2: 5). وبالرغم من أن ترتيب نوح بين الآباء الأول ليس هو الثامن من آدم، ولكن الكتاب أشار إلى ارتباط نوح الذى به تم تجديد الحياة على الأرض مرة أخرى برقم الثامن (أى الثامن من آنوش) فقال عنه: “ثامناً كارزاً” كما أنه أكّد ارتباط الرقم “ثمانية” بتجديد الحياة مرة أخرى بقوله: “حين كانت أناة الله تنتظر مرة فى أيام نوح إذ كان الفلك يُبنى، الذى فيه خَلَصَ قليلون، أى ثمانى أنفس بالماء” (1بط3: 20). فهو لم يكتفِ بأن يقول إن الذين خلصوا من الطوفان هم عدد قليل، بل حدد العدد برقم “ثمانية”. فالارتباط بين الحياة الجديدة ورقم “ثمانية” يؤكّد أن اليوم “الثامن” هو يوم الحياة الجديدة فى المسيح الذى هو نوح الحقيقى. وقد وُلدت الكنيسة فى حياتها الجديدة فى بداية الأسبوع الثامن بعد القيامة. هذا هو اليوم الذى صنعه الرب يقول المزمور 117 “هذا هو اليوم الذى صنعه الرب، فلنبتهج ونفرح فيه. يا رب خلصنا، يا رب سهل طريقنا. مبارك الآتى باسم الرب. باركناكم من بيت الرب. الله الرب أضاء علينا” (مز117: 24-27). ويُقال هذا المزمور قبل إنجيل قداس عيد القيامة المجيد. ونلاحظ اختيار الكنيسة المقدسة لهذا المزمور ليناسب الاحتفال بأفراح القيامة المجيدة. وتشير الكلمات الخاصة باليوم الذى صنعه الرب والذى ينبغى أن نبتهج ونفرح فيه إلى ثلاث مراحل متتالية: “يا رب خلصنا”. “يا رب سهل طريقنا”. “الله الرب أضاء علينا”. إن افراح القيامة قد تحققت من خلال ثلاث مراحل: الفداء على الصليب. الدفن فى القبر، وفتح الفردوس، ونقل أرواح القديسين الراقدين على الرجاء من الجحيم إلى الفردوس. القيامة التى أنارت الحياة والخلود فى فجر الأحد. لهذا فقول المزمور “يا رب خلصنا” يشير إلى الخلاص الذى تم بذبيحة الصليب. وقوله “يا رب سهل طريقنا” يشير إلى نقل أرواح القديسين الراقدين؛ من الجحيم إلى الفردوس وهى تسبح مبارك الآتى باسم الرب. وقوله “الله الرب أضاء علينا” يشير إلى نور القيامة الذى أشرق على البشرية مع إشراقة فجر جديد باكراً جداً فى أول الأسبوع الجديد. وعندما نقول: “هذا هو اليوم الذى صنعه الرب” عن يوم الأحد الذى قام فيه السيد المسيح وصار باكورة للراقدين فإننا نؤكد أن يوم الرب فى العهد الجديد هو يوم الأحد وليس يوم السبت كما فى العهد القديم. “وبعدما قام باكراً فى أول الأسبوع ظهر أولاً لمريم المجدلية التى كان قد أخرج منها سبعة شياطين” (مر16: 9). لقد ظهر الرب بعد قيامته من الأموات لمريم المجدلية أولاً، وأمرها أن تمضى وتخبر تلاميذه عن قيامته من الأموات. واختار الرب مريم المجدلية بالذات لتكون أول شاهد على القيامة فى يوم الأحد، لأن الرب كان قد أخرج منها سبعة شياطين قبل صلبه وموته وقيامته من الأموات. هذه الشياطين السبعة تشير إلى روح التعصب اليهودى الذى كان يعتبر أن ما يعمله السيد المسيح من المعجزات فى يوم السبت (اليوم السابع) هو كسر للشريعة الإلهية والناموس الموسوى. فمثلاً حينما شفى السيد المسيح مريض بِركة بيت حسدا فى يوم السبت “كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا فى سبت. فأجابهم يسوع: أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل. فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه. لأنه لم ينقض السبت فقط. بل قال أيضاً أن الله أبوه معادلاً نفسه بالله” (يو5: 16-18). وحينما أخرج السيد المسيح من مريم المجدلية سبعة شياطين وظهر لها بعد قيامته فى اليوم الأول من الأسبوع الجديد؛ فإن هذا يشير إلى تحرير كنيسة العهد الجديد من عبودية الحرف الناموسية إلى حرية الروح، أى من عبودية الناموس إلى حرية مجد أولاد الله. لقد كان اليوم السابع كيوم للراحة هو رمز فقط ليوم الرب أى يوم الأحد فى العهد الجديد. لهذا قال معلمنا بولس الرسول: “فلا يحكم عليكم أحد فى أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التى هى ظل الأمور العتيدة” (كو2: 16، 17). إن الإيمان بألوهية السيد المسيح وبأنه هو “رب السبت” (مت12: 8) هو الذى يقود الإنسان إلى قبول يوم الأحد باعتباره يوم الرب فى العهد الجديد. ولهذا فإن شهود يهوه الذين ينكرون ألوهية السيد المسيح؛ يتمسكون بيوم السبت مثل اليهود ويرفضون أن يكون يوم الرب هو يوم الأحد. وكذلك الأدفنتست السبتيون الذين انحرفوا فى الإيمان بالسيد المسيح وطبيعته الخالية من دنس الخطية؛ يتمسكون بيوم السبت مثل اليهود وينادون بتعاليم عديدة مخالفة للإيمان المسيحى. لقد كانت مريم المجدلية رمزاً للكنيسة فى مسألة اليوم السابع واليوم الثامن، وكانت أيضاً رمزاً للكنيسة حينما التقت مع الرب فى البستان بعد قيامته وظنت أنه البستانى لأنه هو آدم الثانى. وفى البستان لم توجد الحية القديمة، بل المعلم الصالح، ونادته مريم المجدلية قائلة: “ربونى، الذى تفسيره يا معلم” (يو20: 16). فالحية لم تعد هى المعلّم مثلما حدث فى البستان الأول (الجنة) لأنها كانت قد سُمّرت على الصليب فوق الجلجثة حينما حمل السيد المسيح خطايانا مسمّراً إياها على الخشبة مثلما شرح لنيقوديموس “كما رفع موسى الحية فى البرية، هكذا ينبغى أن يُرفع ابن الإنسان لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 14، 15). ولأن يوم الأحد صار هو يوم الرب، أى تذكار قيامته من الأموات وانتصاره على الموت لصالح البشرية. ولأن التلاميذ كانوا مجتمعين معاً وقد ظهر الرب لهم لأول مرة وهم مجتمعون فى نهاية يوم الأحد الذى بدأ بقيامته وانتهى باجتماعه فى العلية مع تلاميذه، حيث عرّفهم بنفسه، وأراهم آثار الجراحات فى جسده المصلوب القائم.. لهذا فإن الكنيسة تتذكر دائماً موت الرب وقيامته فى احتفالها بالإفخارستيا أى سر الشكر فى يوم الأحد من كل أسبوع. فى يوم الرب ننال عطية السلام حينما نسمع الكاهن فى القداس الإلهى يقول: {سلام لجميعكم} إنها نفس كلمات الرب حينما منح السلام لتلاميذه فى يوم قيامته من الأموات. فى يوم الرب نحتفل بالقيامة المجيدة، ويهتف الجميع فى القداس الإلهى {بموتك يا رب نبشر، وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السماوات نعترف. نسبحك نباركك نشكرك يا رب، ونتضرع إليك يا إلهنا}. وحتى فى القداسات التى تُقام فى وسط الأسبوع، نتذكر قيامة الرب ونحتفل بها وننال عطية السلام. إن الأب الكاهن فى القداس يبارك الشعب ممسكاً الصليب بيده وهو يقول: “سلام لكم”.. أما بعد حلول الروح القدس، وتحوّل القرابين المقدسة إلى جسد الرب ودمه، فإنه يتنحى عن وسط المذبح قليلاً وينحنى وهو يقول: “سلام لكم” بمعنى أن الرب الحاضر على المذبح بجسده ودمه هو الذى يمنح السلام نحو الشعب، والكاهن لا يبارك أو يرشم بيده بالصليب، لأن الرب نفسه يكون حاضراً فى الوسط فوق المذبح المقدس، مباركاً ومانحاً السلام للجميع. هناك فرق بين أن يقول السيد المسيح أنا أمنح القيامة والحياة، وأن يقول “أنا هو القيامة والحياة” (يو11: 25). لأن قوله “أنا هو القيامة” يعنى أنه هو نفسه سيقوم بحسب الجسد إلى جوار أنه هو ينبوع القيامة بالنسبة للبشر كما أنه هو الحياة كقول القديس يوحنا الإنجيلى “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور يضئ فى الظلمة” (يو1: 4، 5). هناك فرق بين قيامة لعازر من الأموات وقيامة السيد المسيح، لعازر أقامه السيد المسيح، أما المسيح رب المجد فقد أقام نفسه بسلطانه الإلهى. كما أن قيامة لعازر كانت قيامة مؤقتة أعقبها الموت مرة أخرى. أما السيد المسيح فقد قام لكى لا يسود عليه الموت فيما بعد لأنه لم يكن ممكناً أن يُمسك منه. هناك فرق بين سيارة نضع فيها بضع لترات من البنزين لتعطيها دفعة من الطاقة تسير بها بضعة كيلومترات ثم تتوقف. وبين الينبوع الذى ينبع منه البنزين إذا وجد فى سيارة فإنها سوف تسير إلى ما لا نهاية ولا تتوقف على الإطلاق كما أنها يمكنها أن تعطى وقوداً لباقى السيارات. إن اتحاد اللاهوت بالناسوت فى السيد المسيح قد أعطى للناسوت إمكانية التحرر من الموت بصفة نهائية بحسب التدبير. ولكن السيد المسيح قد “ذاق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد” (انظر عب2: 9). أى أنه أخذ جسداً قابلاً للموت ولم يتدخل اللاهوت لكى يمنع الموت عن الناسوت فى وقت الصلب والفداء. ولكنه فى مسألة القيامة قد برهن على أن الذى مات هو هو نفسه الله الكلمة الذى هو بلا شك أقوى من الموت بحسب لاهوته “وتعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو1: 4). إن القيامة بالفعل كانت هى أقوى دليل على ألوهية السيد المسيح. لهذا قال هو نفسه لليهود: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو” (يو8: 28). أى أن البرهان الأقوى على لاهوته سيتحقق عند قيامته من الأموات بعد أن يصلبه اليهود ويقتلونه معلقين إياه على خشبة. أى حينما يرتفع على عود الصليب. إن الانتصار على الموت فى جسم بشريتنا لم يكن ممكناً أن يتحقق إلا بتجسد وحيد الآب، الذى هو كلمة الله، الذى اتخذ طبيعتنا البشرية -بلا خطية- لكى يعبر لنا بها من الموت إلى الحياة، لأن الحياة التى فيه كانت أقوى من الموت الذى لنا. لذلك فهناك علاقة وثيقة بين قول السيد المسيح: “أنا هو القيامة” (يو11: 25) وبين معنى التجسد الإلهى، لأنه بتجسده قد أعطى لطبيعتنا البشرية إمكانية القيامة فى شخصه المبارك. وعن ذلك كتب معلمنا بولس الرسول: “أقامنا معه وأجلسنا معه فى السماويات فى المسيح يسوع” (أف2: 6). وقال أيضاً: “إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس” (كو3: 1). لقد صار المسيح هو حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا.. صار هو “باكورة الراقدين” (1كو15: 20) وصرنا نحن متحدين معه بشبه موته وقيامته فى المعمودية “مدفونين معه فى المعمودية التى فيها أقمتم أيضاً معه” (كو2: 12). إننا نستمد الحياة من المسيح الذى أعطانا جسده ودمه لنحيا بهما وقال: “من يأكلنى فهو يحيا بى” (يو6: 57). المسيح هو {شجرة الحياة التى لا يموت آكلوها}، وحينما يقول: “أنا هو.. الحياة” (يو11: 25) فذلك لأننا نحيا به، كما قال معلمنا بولس الرسول: “لى الحياة هى المسيح” (فى1: 21). وقال أيضاً: “متى أُظهِر المسيح حياتُنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه فى المجد” (كو3: 4). وكما قال السيد المسيح: “أنا هو.. الحياة” قال أيضاً: “أنا هو القيامة” لأننا نجدد قوة الاتحاد بالمسيح فى موته وقيامته التى نلناها فى المعمودية، وذلك كلما تناولنا من جسده المحيى المصلوب الحى القائم من الأموات. القيامة بمعنى حياة النصرة على الخطية والنصرة على الموت الروحى تتحقق بالتوبة والاعتراف والتناول من جسد الرب ودمه. فحينما نتناول من جسد السيد المسيح فإننا نتمتع بالقيامة ونحيا القيامة ونعترف بها بصورة عملية {بموتك يا رب نبشر، وبقيامتك المقدسة.. نعترف} (القداس الإلهى). إن السيد المسيح القائم من الأموات يكون حاضراً فى سر التناول المقدس ويمنحنا أن نحيا القيامة ونعايشها، لأن سر القربان هو امتداد لذبيحة الصليب أى لجسد الرب المصلوب المقام من الأموات. البعض يشتاق أن يعيش أحداث القيامة مع مريم المجدلية وبطرس ويوحنا الرسولين وتلميذى عمواس وسائر الرسل والتلاميذ. ونحن نعيشها بالفعل فى القداس الإلهى، بل ونتناول هذه القيامة لأن الرب قال عن نفسه: “أنا هو القيامة”. لهذا يصرخ الأب الكاهن عند نهاية القداس فى الاعتراف الأخير وهو يحمل الصينية وفيها الجسد المقدس: {يعطى عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه}. إننا نتناول القيامة ونتناول الحياة لأننا نتناول المسيح، لهذا ينبغى علينا أن نستعد بالتوبة الحقيقية لأن القدسات تُمنَح للقديسين المستعدين لدخول ملكوت السماوات. أليس التناول من جسد الرب هو عربون الأبدية.. وهو وسيلة للتمرن على الدخول إلى الحياة الأبدية وملكوت السماوات؟ فكم مرة يدعونا الرب لنختبر قوة قيامته فى حياتنا؟ إن الاشتراك مع الله فى الحياة الأبدية هو العطية الثمينة والعظمى التى طلب السيد المسيح من أجلها قبل صلبه حينما خاطب الله الآب قائلاً بشأن تلاميذه: “أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتنى يكونون معى حيث أكون أنا لينظروا مجدى الذى أعطيتنى لأنك أحببتنى قبل إنشاء العالم” (يو17: 24). إن اشتراكنا مع الله فى الخلود وفى الحياة الأبدية هو العطية التى ننالها فى المسيح وبالمسيح، بقوة دم صليبه المحيى الذى نقلنا من الموت إلى الحياة “لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16). وقد شرح معلمنا بطرس الرسول إن اشتراكنا فى الحياة الأبدية يستلزم أن نهرب من الفساد الذى فى العالم بالشهوة مقدرين قيمة الخلاص الثمين، ومتمسكين بالمواعيد الإلهية فقال: “سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله، إلى الذين نالوا معنا إيماناً ثميناً مساوياً لنا، ببر إلهنا والمخلّص يسوع المسيح؛ لتكثر لكم النعمة والسلام بمعرفة الله ويسوع ربنا. كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى، بمعرفة الذى دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العُظمى والثمينة، لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة” (2بط1: 1-4). إن معلمنا بطرس الرسول يقصد أن حياة القداسة ضرورية لننال الوعد بميراث ملكوت الله. وهذا يقتضى الهروب من الفساد الذى فى العالم بالشهوة، والسلوك فى حياة المجد والفضائل الروحية. وقد أكّد الرسول بطرس نفسه هذا المعنى فى رسالته الأولى بقوله: “فألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التى يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح. كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة فى جهالتكم، بل نظير القدوس الذى دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين فى كل سيرة، لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأنى أنا قدوس” (1بط1: 13-16). للأسف فإن البعض يحرّفون هذه الآية عند تعرّضهم لها، ويقولون “شركاء فى الطبيعة الإلهية”.. هذا لم يقله الرسول بطرس لأنه لا يمكن إطلاقاً أن يشترك أى مخلوق فى طبيعة الله، أو فى كينونته، أو فى جوهره. ومن يدّعى ذلك يكون قد دخل فى خطأ لاهوتى خطير ضد الإيمان بالله وبسمو جوهره وطبيعته فوق كل الخليقة. كما أن هذا الإدعاء هو لون من الكبرياء سقط فيه الشيطان من قبل حينما قال: “أصير مثل العلى”.. الرب يحمينا من هذا الكبرياء المهلك. أما قول معلمنا بطرس الرسول: “لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية” فهو بمنتهى البساطة يقصد أن نشترك مع الله فى ملكوته الأبدى من خلال اشتراكنا فى قداسته حسب الوصية “كونوا قديسين لأنى أنا قدوس” (1بط1: 16). وحتى الاشتراك فى قداسة الله هو مسألة نسبية، ليست مطلقة. فكمال الخليقة هو كمال نسبى، أما كمال الله فهو كمال مطلق. وقداسة الله قداسة طبيعية غير مكتسبة، أما قداسة القديسين فهى قداسة مكتسبة. إن الرسول بطرس يتكلم عن الاشتراك فى الحياة الإلهية مثل ميراث القديسين فى الحياة الأبدية. فقال: “بمعرفة الذى دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة” (2بط1: 3، 4). إننا نشترك مع الله فى العمل مثلما قال معلمنا بولس الرسول عن نفسه وعن أبلوس: “نحن عاملان مع الله” (1كو3: 9) نشترك مع الله فى الحياة الروحية مثل البركة الرسولية التى يُقال فيها {شركة وموهبة وعطية الروح القدس تكون مع جميعكم}. “شركاء الطبيعة الإلهية” فى الخلود، فى القداسة، فى الملكوت، فى السعادة الأبدية، فى الحب الذى قال عنه السيد المسيح للآب: “أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك. وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتنى. وعرّفتهم اسمك وسأعرّفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به وأكون أنا فيهم” (يو17: 26). إن السيد المسيح يقول للآب إن الحب الذى بينهما؛ من الممكن أن يكون فى التلاميذ. والمقصود نوع الحب وليس مقداره. لأن الآب غير محدود والابن غير محدود، فالحب الذى بينهما غير محدود. أما نحن فمحدودون، وننال من الحب الإلهى على قدر استطاعتنا. وبهذا توجد شركة المحبة بيننا وبين الله. ونصير شركاء الطبيعة الإلهية.. ولكن ليس شركاء فى الطبيعة الإلهية كما يتجاسر البعض ويقولون. فليرحمنا الرب لكى نشعر بضعفاتنا وخطايانا فلا نسقط فى الكبرياء. لقد ترك السيد المسيح صورته مطبوعة على المنديل “Mandilum” وعلى الكفن المقدس. وقد انطبعت بصورة معجزية تذكارًا للأجيال. وعنها أخذ الفنانون على مدى العصور مثال صورة وجه السيد المسيح. ويحرص الأرثوذكس البيزنطيون فى الفن الخاص بأيقوناتهم أن يكون وجه السيد المسيح أقرب ما يكون للوجه المطبوع على المنديل وعلى الكفن المقدس. لقد ترك السيد المسيح للأجيال المتعاقبة كلامه مدوناً فى الأناجيل المقدسة وصورته على المنديل والكفن المقدس لأنه سبق أن قال لتلاميذه: “إن أنبياءَ وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا. ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع” (مت13: 17، 16). إذن فقد طوّب السيد المسيح فى العهد الجديد كلاً من الرؤية والسمع لِما يخص أعماله، وأقواله، وظهوره، وتعاليمه. وعن هذه الطوبى كتب القديس يوحنا الرسول فى رسالته الأولى “الذى سمعناه، الذى رأيناه بعيوننا، الذى شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة” (1يو1: 1). وقد حفظت الكنائس الأرثوذكسية هذا التقليد الرسولى الذى استلمته الكنيسة من السيد المسيح. وصارت الكنيسة تحتفل وترفع البخور وتوقد الشموع أثناء قراءة الإنجيل المقدس لأنه كلام السيد المسيح. ويقول الشماس: {قفوا بخوف أمام الله، وانصتوا لسماع الإنجيل المقدس}. ويقول الأب الكاهن: {مبارك الآتى باسم الرب؛ ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح..}. كما أنها صارت تحتفل وترفع البخور وتوقد الشموع أو القناديل أمام أيقونة السيد المسيح؛ وبخاصة أيقونة الصلبوت التى تحمل ذِكرى آلامه. والتى يصل الاحتفال بها فى يوم الجمعة العظيمة إلى الذروة. ويتلو ذلك تكريم أيقونة الدفن فى نهاية الصلوات إلى فجر الأحد حينما يبدأ تكريم أيقونة القيامة لمدة أربعين يوماً وتضاف إليها أيقونة الصعود فى عيد الصعود إلى صلوات رفع بخور أحد العنصرة فى يوم الخمسين. وبهذا يسير الأمران معاً: الرؤية (للأيقونة)، والسمع (عند قراءة الإنجيل) تماماً كما قصد السيد المسيح “طوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع” (مت13: 16). أليست الكنيسة ككل هى أيقونة السماء على الأرض. فكيف لا تحوى أيقونة للسيد المسيح؟!. وكما إننا لا نقدم العبادة لكتاب الإنجيل كما لو كان هو الله الكلمة وليس كلمة الله المدوّنة فى الكتب المقدسة، هكذا فنحن لا نعبد أيقونة السيد المسيح وكأنها هى السيد المسيح نفسه. إن تكريم الأيقونات Veneration of Icons لا يتعارض إطلاقاً مع الوصية. ففى الوصايا العشر قال الرب لشعبه فى القديم “لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما فى السماء من فوق وما فى الأرض من تحت وما فى الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن” (خر20: 4، 5). أى أن ما نهى عنه الرب فى الوصية هو عبادة الصور والتماثيل التى يعبدها الوثنيون وكأنها الآلهة التى يُقدّم لها السجود. ولكن من الجانب الآخر؛ أمر الرب موسى النبى بأن يصنع من خراطة الذهب كروبين (أى ملاكين) فوق غطاء تابوت العهد يتجهان الواحد نحو الآخر؛ وينظران نحو غطاء التابوت ويبسطان أجنحتهما (انظر خر37: 6-9) حتى تلامس أجنحة الواحد منهما الآخر فوق غطاء التابوت. وكان تابوت العهد فى قدس الأقداس. وكان مجد الرب يتراءى لموسى فوق غطاء التابوت تحت جناحى الكروبين؛ وكان موسى يسمع صوت الرب وهو يكلّمه “من على الغطاء الذى على تابوت الشهادة من بين الكروبين” (عد 7: 89). وفى عهد سليمان الملك عند تدشين الهيكل فى أورشليم حينما “أدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه فى محراب البيت فى قدس الأقداس إلى تحت جناحى الكروبين. لأن الكروبين بسطا أجنحتهما على موضع التابوت وظلل الكروبان التابوت وعصيه من فوق” (1مل8: 6، 7)، قيل “أن السحاب ملأ بيت الرب. ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب لأن مجد الرب ملأ بيت الرب” (1مل8: 10، 11). وكان العابدون من الشعب يدخلون إلى الهيكل وهم يرددون: “أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك” (مز5: 7). لم تكن العبادة تقدَّم للكروبيم؛ بل للرب الساكن فى بيته المقدس والساكن فى السماوات، والذى سماء السماوات لا تسعه. وكان فى القدس مذبح البخور والكهنة يبخرون فى وجود تابوت العهد والكروبيم (انظر 1مل 6: 23-28) ونقش الكروبيم على ستور خيمة الاجتماع وعلى جدران الهيكل “وجميع حيطان البيت فى مستديرها رسمها نقشاً بنقر كروبيم ونخيل وبراعم زهور من داخل ومن خارج” (1مل6: 29). “والمصراعان من خشب الزيتون ورسم عليهما نقش كروبيم ونخيل وبراعم زهور” (1مل 6: 32) ولم يعتبر هذا كله مخالفاً للوصية.. إن الأيقونة المدشّنة بالميرون هى {ميناء خلاص لكل من يلجأ إليها بإيمان} (من طقس تدشين الأيقونة) هى مثل جهاز التليفون إذا تم توصيل الحرارة إليه وتحمل رقم القديس صاحب الأيقونة. الصلاة تصل إلى السماوات. والبخور هو العلامة المنظورة للصلاة فى الكنيسة وشركة الصلاة مع القديسين. وقد أبصر يوحنا فى سفر الرؤيا فى السماء حول العرش الإلهى الأربعة وعشرين قسيساً وفى أيديهم مجامر من ذهب يرفعون بخوراً الذى هو صلوات القديسين (انظر رؤ5: 8). وإيقاد الشمع أمام الأيقونة هو لتأكيد أن السيد المسيح هو نور العالم. وبالنسبة للقديسين أن حياتهم كانت منيرة بالمسيح الذى قال أيضاً لتلاميذه: “أنتم نور العالم” (مت5: 14). وتظهر أهمية الشموع بصفة خاصة حينما توجد كنيسة بلا تيار كهربائى فى الصلوات المسائية والليلية، أو التى فى الصباح الباكر جداً. وهذا كان الوضع إلى عهد قريب قبل اختراع التيار الكهربائى. إن الأيقونة فى الكنيسة فى حال مثل هذا بدون الشمع أمامها؛ لا يراها أحد من الناس وتكون الشمعة هى تقدمة حب نحو من أناروا العالم بقداستهم. وعند قراءة الإنجيل أيضاً تضاء الشموع لنفس الأسباب ولأن الإنجيل قد أنار العالم، والسيد المسيح قد “أنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل” (2تى1: 10). أى بواسطة بشرى الخلاص بموت السيد المسيح وقيامته. ولا يفوتنا هنا أن نشير أنه فى كلٍ من التقليد الأرثوذكسى الشرقى والبيزنطى قد تلازم تكريم الأيقونة مع تكريم الإنجيل المقدس. لأن السيد المسيح ترك لنا صورته على المنديل والكفن وكلامه فى الإنجيل، ولم يترك تمثالاً مجسّماً لصورته. ومن هنا لم تُدخِل الكنائس الأرثوذكسية التمثال فى تقليدها وطقوسها التى تجرى داخل الكنيسة فى أثناء الصلوات المقدسة. إن للتمثال أبعاد ثلاث (طول-عرض-ارتفاع). أما الأيقونة فلها بعدين، وبعدها الثالث هو عمق أو علو روحانية صاحب أو صاحبة الأيقونة. كتب معلمنا لوقا الإنجيلى فى سفر أعمال الرسل عن ظهورات السيد المسيح لتلاميذه بعد القيامة: “الذين أراهم أيضاً نفسه حياً ببراهين كثيرة بعدما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله” (أع1: 3). لم يصعد السيد المسيح بعد قيامته مباشرة إلى السماء، بل مكث على الأرض أربعين يوماً وهو يظهر لتلاميذه، لكى تفرح الكنيسة بعريسها السماوى فى قيامته المجيدة وتصبح القيامة يقيناً حقيقياً فى ضمير الكنيسة وذاكرتها.. لأن القيامة هى مصدر القوة والرجاء وموضوع الشهادة فى حياة الكنيسة، إلى أن يأتى الرب فى مجيئه الثانى للدينونة واستعلان ملكوت الله. عاشت الكنيسة أحلى أيامها والعريس الممجد بالقيامة معها، يفرحها ويعزّيها ويمسح أحزانها.. يقويها ويشجعها.. يعلمها ويشوقها لأمجاد السماء.. ويتكلم معها عن الأمور المختصة بملكوت الله.. ملكوت الله الذى يبدأ فى قلب الإنسان بقبول سكنى الروح القدس فيه.. وينتهى بدخول الإنسان إلى الملكوت السماوى ليبتهج مع المسيح فى مجده.. أى فى شركة ميراث القديسين فى النور.. فى فرح لا ينطق به ومجيد. فى نهاية الأربعين يوماً أبصرت الكنيسة عريسها منطلقاً نحو السماء، ليدخل إلى المجد كرئيس كهنة أعظم، شفيعاً فى المقادس السمائية. مع الوعد بإرسال الروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير. وهذا ما حدث فى اليوم الخمسين. هذا العدد الأربعين له دلالة عميقة، إلى جوار لزوم بقاء المسيح القائم أياماً عديدة ليبرهن على قيامته للتلاميذ. لقد صام السيد المسيح أربعين يوما، كما صام موسى النبى أربعين يوماً، وكما صام إيليا النبى أربعين يوماً. ولقد مكث الشعب الإسرائيلى أربعين سنة فى برية سيناء، منذ خروجهم من أرض مصر إلى أن دخلوا أرض كنعان. “وكان الزمان الذى ملك فيه داود على إسرائيل أربعين سنة. فى حبرون ملك سبع سنين، وفى أورشليم ملك ثلاثاً وثلاثين سنة” (1مل2: 11). وكان عمر موسى أربعين سنة حين هرب إلى البرية (انظر أع7: 23)، ومكث فيها أربعين سنة يرعى الغنم (انظر أع7: 30)، ثم دعاه الرب وصار قائداً ونبياً لشعب إسرائيل أربعين سنة ثالثة فكانت كل أيام حياته مائة وعشرين سنة (انظر تث34: 7). وفى مناداة يونان على مدينة نينوى للتوبة قال لهم منذراً: “بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى” (يون3: 4). وكان يونان رمزاً للسيد المسيح فى مناداته للعالم بالإيمان والتوبة وقبول خلاص الله بالفداء. وفى أيام نوح جلب الرب طوفاناً على الأرض لسبب كثرة شرور الناس ومعاصيهم، وجدد الحياة على الأرض مرة أخرى بواسطة نوح وبنيه “وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة” (تك7: 12)، “وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض وتكاثرت المياه ورفعت الفلك. فارتفع عن الأرض” (تك7: 17). هكذا غمرت أمجاد القيامة الأرض أربعين يوماً حتى ارتفع الفلك الحقيقى-جسد ربنا يسوع المسيح- الذى به صار خلاص العالم كله وتجديد الحياة على الأرض مرة أخرى. إن رقم أربعين من الناحية العددية هو رقم عشرة مكرراً أربع مرات أو هو رقم أربعة مكرراً عشر مرات أى مضروباً فى عشرة
وكذلك يشير إلى الأناجيل (أى البشائر الأربعة التى دبر الرب كتابتها من أجل الكرازة بالإنجيل فى كل أرجاء المسكونة. وإذا عدنا إلى عرش الله والأربعة الأحياء غير المتجسدين: فالذى له وجه إنسان يشير إلى إنجيل متى والذى له وجه العجل يشير إلى إنجيل لوقا والذى له وجه الأسد يشير إلى إنجيل مرقس والذى له وجه النسر يشير إلى إنجيل يوحنا.
فرقم أربعين يشير إلى عمل المسيح من أجل الكثيرين فى أرجاء المسكونة كلها من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن الشمال إلى الجنوب. وفى صومه الأربعينى صام من أجل المسكونة كلها. وعلى الصليب سُمّر الكاهن والذبيح من أجل حياة العالم كله. وفى بقائه أربعين يوماً على الأرض بعد القيامة بقى من أجل المسكونة كلها. وكل ما عمله السيد المسيح بتجسده وموته الكفارى وقيامته وصعوده، فهو من أجل حياة العالم وخلاص العالم كله.. ليس لليهود فقط بل للأمم أيضاً.. لكل من يقبل محبته ويؤمن به ويطيع وصاياه وتكون له الحياة الأبدية. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
قيامة السيد المسيح |
ايقونة قيامة السيد المسيح |
قيامة السيد المسيح |
قيامة السيد المسيح |
المسيح قام بالحقيقة قام - تصميم قيامة السيد المسيح |