رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القديسة مريم عند الصليب " وكانت واقفة عند صليب يسوع مريم أمه ". ( يوحنا 19: 25 ) مريم الأم شاهدت تهتك جسد إبنها الذى بلا خطيئة نتيجة جروحات السياط والجلد وهو مربوط وعندما عرّي من ثيابه وتهكموا عليه جلاّديه. مريم الأم عاينت وشاهدت السخرية والإستهزاء والبصق والمعايرة والتهم الباطلة وشهادات الزور والحكم الظالم بموت إبنها والذى تحمله بكل صبر وإستسلام. مريم الأم رأت تلك الدموع التى سالت من عينيي إبنها والدم الذى اريق،وهو صامت وحزن قلبه العميق. مريم الأم رأت هذا الدم الذى سال من رأس إبنها الأقدس الملكي عندما انغرس فيه اكليل الشوك. مريم الأم أحسّت بالعذاب الأليم الذى عاناه إبنها عندما دًُقت المسامير فى يديه وقدميه وعُلّق على خشبة الصليب. مريم الأم أحسّت بعطش إبنها الذى لا يُحتمل ومذاق شربة الخل الممزوج بمرارة. مريم الأم سمعت صرخة وليدها على الصليب "الهى الهى لِم تركتنى". مريم الأم عاينت رحمة أبنها التى امتدت الى اللص اليمين. مريم الأم عاينت تسليم إبنها للروح الى الأب الأزلي بعد ان قال"قد أُكمل". مريم الأم رأت الدم الممزوج بالماء الذى انسكب من جنب وليدها الأقدس مريم الأم طُعنت فى قلبها عندما طُعن بالحربـة وليدها فسال فيضان النعمة والرحمة نحونـا. مريم الأم تأملت حياة إبنها الطاهرة ورحمته الحانية وموته المشين على الصليب حتى ان الطبيعة نفسها حزنت فتشققت الصخور وانشق حجاب الهيكل وتزلزلت الأرض وصارت ظلمة للقمر والشمس. ان مريم هى حقاً أم الأحزان. أنه مشهد مهيب، يسوع معلق على خشبة العار، غارق في بحر النزاع الأليم، عيناه غائصتان، شفتاه مزرقتان، وجهه مكفهر، رأسه مهدول، شعره منكوث، ركبتاه متصلبتان، جسده كله صائر جرحاً واحداً من الرأس حتى الأقدام. وهناك على مقربة من صليبه أمه مريم، وعلامات الحزن والغم لائحة على محياها، ضروب الشجون والكروب قد انقضت على فؤادها، وقد كتب لها أن تحضر موت وحيدها، وتراه يفارق الروح على أيدي جلادين شرسين قساة. إن مريم على مثال يسوع قد ذاقت علقم الاستشهاد، فالابن يضحى جسده بالموت، والأم تضحى ذاتها لمساهمة آلامه. ولأجل هذا فمريم لم تشعر فقط جسدياً كل ما تكبده يسوع في جسده، بل أن رؤيتها عذاباته قد ألمت قلبها بنوع أبلغ مما لو كانت احتملتها هي عينها، وذلك لأنها كانت تحب يسوع أكثر من نفسها، وحياة يسوع كانت أعز لديها من حياتها ذاتها. وأن نوعين من المحبة قد تقارنا وتألفا في قلب مريم نظراً إلى يسوع، وهما محبة طبيعية ومحبة فائقة الطبيعة. فبالأولى أحبته كابنها، وبالثانية أحبته كإلهها. ومن تآلف وتمازج هاتين المحبتين نجم حب واحد هذا، عظم مقداره حتى أن مريم قد أحبت يسوع غاية ما في وسع خليقة من الخلائق أن تحب. وهذه الدرجة من المحبة الفائقة الوصف لم تحزها إلا بامتياز علوي، إذ أن الآب الأزلي لما أراد أن يشركها في الزمان في الأداة الأزلي للكلمة، قد ألقى في قلبها شرارة من حبه غير المتناهي لأبنه الوحيد. ويؤكد القديس أوغسطينوس أن عذاب البنين هو نفس عذاب الأمهات، لا سيما إذا كن حاضرات لتلك العذابات. إذ لاحظ الألم الذي أصاب شموني أم المكابيين السبعة عند حضورها استشهاد بنيها فقال:" إن هذه الأم المسكينة قد قاست بمجرد نظرها عذاب كل واحد منهم". فعلى هذا النحو قد تم في مريم، إذ أن كل العذابات التي ألمت جسد يسوع قد أثرت في جسد مريم، وولجت في الوقت عينه قلبها لإتمام استشهادها بنوع أن قلب مريم أضحى كمرآة لآلام الابن. فكان يشاهد فيه المجالد والمطارق وأشوك والحبال والمسامير والصليب وباقي آلات العذاب. " ألا يا أماه بحق حنوك الوالدي أخبرينا وقولي لنا أين كنت في ذاك الحين. أهل كنت قائمة عند الصليب؟ آه كلا ثم كلا بل لنقل بالأحرى أنك كنت مسمرة فوق الصليب مع ابنك الحبيب. وبناء عليه يجدر بنا القول أن كل من كان حاضراً في الجلجلة، لمشاهدة تلك الذبيحة العظمى المقرب فيها الحمل البريء من كل عيب، لكان يرى مذبحين عظيمين: أحدهما في جسد يسوع. وثانيهما في حب مريم. ألا يا ملكتي الحنونة لماذا أراكِ مقبلة إلى الجلجلة. ألم يكن يا ترى واجباً أن يصدك عن ذلك الخزي والعار العائدان عليك، لكونك أم هذا المحصى بين الأثمة. أو لم يكن أقله لائقاً أن تمنعك عن ذلك فظاعة هذا الأثم الجسيم، وهو موت إله على أيدي خلائقه. كلا يا أم الأحزان هذا كله كان عاجزاً عن منعك للذهاب إلى الجلجلة، ليس فقط لتندبي موته، بل لتؤازريه وتشاطريه في تقدمه ذبيحة للعدل الإلهي " . وبحضور مريم آلام يسوع ومكوثها عند صليبه، قد شاءت بذلك أن تعلن جهراً أنها ليس فقط قد شعرت بمفاعيل الحزن والألم، بل هي عينها قد صادقت على صيرورة يسوع ضحية لخطايانا. فأتت خاضعة لتقربه بيدها للآب الأزلي، ولم تعرف وتصادق على آلام ابنها في ذلك الحين فقط، بل إن ذلك كان نصب عينها منذ اليوم الذي أجابت الملاك قائلة: " أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك ". وبنوع أجلى منذ يوم سماعها من فم سمعان الشيخ تلك العبارة الخارقة الألباب: " ها إنه جعل لسقوط كثير من الناس، وقيام كثير منهم في إسرائيل، وآية معرضة للرفض. وأنتِ سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة ". ومن هذا القول نجد مريم قد أصبحت ملكة الأوجاع، وشبيهة بابنها في كل الظروف والأحوال. فرافقتها الشجون والكروب في كل خطوة من خطواتها. فقد علمت أن ابنها مزمع أن يموت فداء عن البشر. وقد علمت أنه سيضطهد في تعاليمه، إذ ينكر لاهوته ويُعتبر كمجدف. يُضطهد في شرفه وحكمته، إذ يحسب كأحقر الناس وأجهلهم كمجنون ومعترى من الشيطان. كسكير ومعاشر الخطأة والعشارين. يُضطهد في نفسه إذ أن أباه الأزلي لإنجاز قضاء عدله يرفض طلبته في بستان الزيتون، ويهمله للخوف والحزن. أخيراً يضطهد في جسده وحياته إذ يُعذب في كافة أعضائه المقدسة، في يديه ورجليه في وجهه ورأسه وبدنه كله، بنوع أنه يسلم الروح بين لصين على خشبة الصليب، صائراً جرحاً واحداً، ومشبعاً عاراً وهواناً. هذا ما كانت تشعر به مريم في كل ساعة ودقيقة، هذا ما كان يخرق قلبها ويمزق أحشاءها في عيشها بصحبة يسوع موضوع فرحها وحزنها، وموضوع سعادتها وعذابها. وكما أن ابن الله كان هادئاً ساكناً في حال نزاعه على الصليب، لاشتغاله في أعظم الأعمال أي فدائنا. فقد منح هذه الحالة لوالدته لكونها اشتركت معه في ذبيحته. ولذا نراها رافعة لواء النصرة على الأحزان والكروب، واقفة عند الصليب ثابتة الجنان حاصلة على ملء السكينة والهدوء، مبينة بذلك أنها بحرية وطيبة خاطر تقرب ابنها الوحيد للآب الأزلي، ليصبح ضحية انتقامه من الخطيئة وعدله. لقد اشتركت مريم مع ابنها في خلاصنا باحتمالها آلاماً روحية، وذلك بخضوعها وتسليمها إرادتها بين يدي المشيئة الإلهية، التي شاءت وحتمت أن يحل بها كل ما حل بيسوع. لقد صعدت إلى الجلجلة لتقف قرب الصليب، ليس للبكاء والحزن على موت وحيدها فقط، بل لتعلن للآب الأزلي وللبشر أنها تقدم ابنها الحبيب كفارة عن مآثم البشر، ووفاء للعدل الإلهي المهان.وما تحملته من عذابات حسية وروحية قد عقد على هامتها إكليل مشاركة يسوع في عمل الفداء البشري. لذا حق للبتول أن تتوجه نحونا مشتكية قائلة: " ألا يا أولاد آدم الأشقياء يا قساة الرقاب. ما بالكم ترتكبون الأثم كشربكم الماء. ما بالكم تصلبون ابني وتضفرون هامه الإلهي بالأشواك وتجدون بذلك ما قاسيت من الأوجاع المرة. ما بالكم تدوسون بأرجلكم تحت أنظاري دم العهد الجديد. ألا يا أولادي الذين يخطئون ناشدتكم بحق محبتي وتنهداتي أنا أمكم، بحق أوجاعي وأحزاني ألا كفوا كفوا عن تعذيبي، كفوا ولا تعودوا تلتطخوا بحمأة الأثم والخطأ. آه يا معشر المفتدين بدم الحمل المجزوز لنسمع صوت مريم العذراء الحزينة الواقفة عند الصليب، ولنصغِ إلى تنهداتها، وليحن قلبنا إلى صرخاتها الأليمة، ولنقصد من صميم القلب أن نقلع عن الخطيئة، وأن نقلع عنها باستنجاد حماها القدير . والآن علينا أن ننظرإلى التضحيتين على الجلجلة، الأولى جسد يسوع، والثانية قلب مريم، حزين مشهد هذه الأم الحبيبة وهي ترى ابنها الحبيب مصلوبا بقسوة على خشبة الصليب. وقفت عند أقدام الصليب وسمعت ابنها يعد اللص بالسماء ويغفر لأعدائه.آخر كلماته كانت مركّزة على أمه وموجّهة إلينا، هذه أمّك (أمكّم). فلنقرر دائما أن ننظر إلى مريم كونها أمّنا ونتذكر أنّها لا تخذل أبناءها أبدا.وتأمّلوا الحزن المرير الذي ملأ قلب مريم عندما أُنزل جسد حبيبها يسوع عن الصليب ووُضع بين ذراعيها. أيّتها الأم الحزينة، إنّ قلوبنا لتلين عند رؤية هذا الأسى.أكثر الأيام مأساويّة في التاريخ ينتهي ، ولم يبقَ للأم سوى مرافقة جسد ابنها إلى القبر. أيّ حزن كان حزنها وهي ترى وللمرة الأخيرة جسد ابنها الميت فيما يُدحرج الحجر الكبير ليُغلق مدخل القبر. ومريـم الأم ترى كل هذا، ترى وليدهـا "رجل أوجاع متمرساً بالعاهات محتقر ومرذول..."(اشعيا53)، وتراه يسقط تحت الصليب، وترى نسوة أورشليم يبكين،وترى سمعان القيراونـي، وترى الـمسامير تُدق ويُعلّق حبيبهـا على الصليب،وتسمع كلماتـه السبع الأخيرة،وما يطلبـه منهـا أن تكون أمـاً للحبيب وللجنس البشري كلـه "هوذا إبنكِ"(يوحنا26:19) وبقيت معـه حتى "نكّس رأسـه وأسلم الروح"(يوحنا30:19)، ثم رافقت يوسف الرامي عندما وُضع يسوع فـى القبـر. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|