الذهاب الى النور
3: 14- 21
يجب ان يُرفع ابن الانسان، فينال كل من يؤمن به الحياة الابدية.
صعد يسوع إلى السماء. ولكن قبل ذلك وجب عليه أن ينزل. هذا ما قاله يسوع في 3: 13. وبعد هذا بدأ الصعود البطيء. لسنا بعد في المجد: حيّة مرتفعة في البرية، صليب منصوب فوق العالم. نحن مجبرين في هذين المشهدين إلى أن نرفع عيوننا إلى فوق. سنرى فيها بوضوح كامل ما يقتلنا. حين تظهر وجهاً إلى وجه خطايانا وآلامنا، نحس وكأننا حصلنا على نصف شفاء. وهكذا نرى أمرين. الأول: لم يجعل يسوع نفسه في هذا الوضع "المزعج" لكي يديننا ويحكم علينا. لا شكّ أن الدينونة ممكنة من فوق، ولكن لا في مثل هذه الظروف. الثاني: البشر غريبون في تصرّفهم. إذا كان هناك شخص على الصليب، فهذا يعني أن أحداً وضعه عليه. الصليب يكشفنا لذواتنا. ينزع القناع عن أعمال الظلمة التي فينا. يدعونا لكي نعمل للحق.
إن الصليب يكشف إيماننا ولا إيماننا. كما فعلت الحيّة في الماضي. فهذه الحياة التي تنهش عبيداً هاربين في الصحراء تجعلهم أيضاً سريعي العطب. أما يجب أن نعود إلى الوراء، إلى مصر؟ ولكن مصر هي أيضاً محرقة مع "أفرانها" المعدّة لصبّ المعادن. فالحية المعدنية هي مرآة شكوكنا ومخاطَراتنا. وهذه العلامة تدفعنا إلى التفكير، إلى الإيمان. نقرأ فيها بصورة خاصة إيمان الله الذي أحبّ العالم فوقف بجانبه. لم يكن هذا العالم جميلاً ولا محبوباً. غير أنه صار كذلك بإرادة ذاك الذي آمن بامكانيّته أن يفبرك "عالم الابد".
من يؤمن يفلت من الدينونة. من لا يؤمن يدين نفسه بنفسه. تظهر أمامه فظاعته حين يسرّ بوجوده في الظلمة. هو يفضّل أن لا يرفع عينيه. هو يعمل في الظلمة فيظن أنه ينجو من عيون الناظرين، ولكن حين يوجَّه عليه شعاع من نور، يحب بالخزي، يُنزع عنه القناع، "يقع في الجرم المشهود".
الصليب هو هذا الينبوع المضيء الذي يتوجّه إلينا ويقدّم لنا خشبة خلاص. ولكننا نستطيع أن نبغض النور. غير أن هذا النور يذكّرنا بلا شكّ بما لا نريد أبداً أن نعرفه. حين نرفض اليقين الذي يُقدّم لنا، لن تستطيع حياتنا أن تمسك نور رغباتنا الخفيّة.
نحن نعمل للحقّ حين نحبّ. هذا ما نفهمه من كتابات القديم يوحنا. وحين نكون صادقين. نحن لا نعني بطريقة مباشرة نشاطاتنا. بل حبّ النور يعطينا رؤية أفضل، وبالتالي يعلّمنا كيف نتصرّف. فالأعمال "تتبع" الانسان (رؤ 14: 13). فالذي وجد في المسيح نور حياته يستطيع أيضاً أن يحيا، أن يحيا دائماً، أن يحيا في الله. يجب أن نعمل للحق (ننزع من قلوبنا كل كذب) فتنفتح عيوننا. نحن نحتاج إلى حقائق سامية لئلاّ نتلذّذ بحقائقنا الحقيرة. حينئذ نكتشف هذه الحقيقة المذهلة وهي أن ما نعمله هو عمل الله. أحبّنا واتخذ المبادرة فأعطانا كل شيء. هذا ما يجب أن يشفينا إلى الأبد من كل مقاوماتنا. هذا ما يجب أن يدعونا إلى الإيمان الذي هو تعلّق تام بالذي أحبّنا حتى أرسل ابنه الوحيد.
حين يطل الخطر والشقاء، إلى ماذا أو إلى من نلتفت؟ هناك بعض الناس يتطلّعون إلى "تعويذة"، إلى "خرزة زرقاء" وضعوها في سيارتهم. والبعض الآخر الجالس في البيت، يتطلّع الى السقف (ربما أعلى). أما الولد الذي يقع ولا يستطيع أن يقوم، الذي يرى كلباً هاجماً عليه، الذي لا يستطيع أن يمسك بغرض لأنه ثقيل أو بعيد، فهو يصرخ إلى أبيه أو أمه: هما أكبر منه. إذن، يستطيعان أن يخلّصاه أو يساعداه.
هناك خرافات عتيقة تحرّكنا في تصرّفاتنا: نضع على الباب نضوة حصان أو غيرها من الأشياء لنحمي داخل البيت. نتخيّل سلطة محامية تشرف على الوضع المقلق وتخلّص من الشّر الآتي.
هذا ما فعله الشعب في البرية بقيادة موسى: رفع عينيه إلى صورة حيّة شافية (شعار الصيادلة) مصنوعة من النحاس، ليُشفى من عضّات الحيَّات القاتلة (عد 21: 4- 9). ولكن حين تطلّع الشعب إلى هذا "الجسم" الذي يحمل العناية، إرتدّ إلى الله، ترك تمرّده وعرف في الرب مخلّصه الوحيد.
ومن جيل إلى جيل نقل إلينا آباؤنا في الإيمان هذا العمل العفوي: نرسم الصليب على الجدران، في الكنائس، في البيوت، على مفارق الطرق. ونرفع عيوننا إلى ذلك الذي رُفع عليه. قد يكون مرسوماً في عري تام مع إكليل الشوك، أو في مجد القيامة. غير أن يسوع على الصلّيب يبقى العلامة الدائمة لخلاصنا والتحوّل التام في عالم الفشل والسقوط والموت.
كان الصليب عذاباً مهيناً، فصار عبوراً إلى المجد السماوي. كان الصليب طريق الموت، فصار عبوراً إلى الحياة الجديدة. كان الصليب حكماً قاسياً، فصار عبوراً إلى برّ الله. كان الصليب مغلّفاً بالظلمة (مر 15: 33)، فحمل إلينا نور الفصح والقيامة. دلّ الصليب على فشل هذا النبي وتشتّت جماعته، ولكنه ولد شعباً جديداً.
فهل يكون يسوع "الحل السحري لكل مشاكلنا"؟ نعم، ولكن بالايمان، لا بالجحود والكسل. فالإيمان يعني أن نتبع المسيح ونسير وراءه، ونشاركه في حياته، ونتقبّل كلمته، ونأكل من خبزه المكسور الذي هو علامة موته. وبمختصر الكلام: نحمل صليبه على طريق الفصح. "كل من يزمن به لا يهلك، بل ينال الحياة الأبدية".
إن رفْعَ عيوننا نحو الصليب في كنائسنا وبيوتنا هو عمل "فصحي" نقوم به بعفوية: نتقبّل فينا وحولنا القوّة والنور من القائم من الموت. وهذه الدينامية التي هي عمل الله، تطلب منا أن نعمل لنقلب الضيق البشري الى راحة، والضلال الى حقيقة، والفشل إلى نجاح.
صليبك يا يسوع هو علامة الفشل والألم، علامة الموت الذي لا مفرّ منه. ولكنه أيضاً علامة حبّ الله الجنوني من أجلنا. والبرهان على أن الخلاص أرسل إلى جميع البشر. فنحن الذين ننوء تحت أثقال الحياة، لنقترب من هذا الينبوع الذي يفيض بالحياة ولننظر إلى ذاك الذي طعنّاه. فهو أكبر من قلبنا!