السيد المسيح فى ميلاده بحسب الجسد ونشأته
“لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس.. لننال التبنى” (غلا4: 4، 5)
- نبوة زكريا الكاهن
- عجيباً فى ميلاده
- مسيح بيت لحم
- زيارة المجوس
- السيد المسيح كخادم للختان
- تقديم ذبيحة عنه فى الهيكل
- الهروب إلى مصر
- مصر وأشور
- العلاقة مع أشور
- نشأة السيد المسيح
1. نبوة زكريا الكاهن
افتقد وصنع فداءً لشعبه
حينما ولد يوحنا المعمدان امتلأ زكريا أبوه الكاهن من الروح القدس وتنبأ قائلاً: “مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه. وأقام لنا قرن خلاص فى بيت داود فتاه. كما تكلّم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر” (لو1: 68-70).
كان زكريا يتكلم عن تجسد الله الكلمة فى بطن العذراء القديسة مريم الذى بدأ قبل كلامه هذا بنحو ثلاثة أشهر، ولم يكن السيد المسيح قد وُلد بعد من العذراء. ولكن الروح القدس نطق على لسانه بكلمات هذه النبوة.
والعجيب أنه قال إن الرب الإله قد افتقد وصنع فداءً لشعبه كما لو كان الخلاص قد تم. ولكن كثير من النبوات ذُكرت بصيغة الماضى قبل حدوثها بآلاف أو مئات السنين.
فمثلاً قيل عن مجيء السيد المسيح إلى مصر “من مصر دعوت ابنى” (هو11: 1).
وقيل عن صلبه “ثقبوا يدىّ ورجلى.. يقسمون ثيابى بينهم وعلى لباسى يقترعون” (مز22: 16، 18).
وقيل عن ذبح أطفال بيت لحم “صوت سُمع فى الرامة نوح بكاء مر. راحيل تبكى على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين” (أر31: 15).
ولكن لأن مواعيد الله هى بلا ندامة ولأنه معلوم عند الله أعماله منذ الأزل وكما قيل عن صلب السيد المسيح “مُسلَّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق” (أع2: 23). لذلك فإن النبوة ترتفع فوق الزمان وتتكلم عن الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، أو عن الأشياء التى بدأت وكأنها قد تمت بالفعل.
كان الخلاص قد بدأ بتجسد الكلمة فى بطن العذراء وتكلم زكريا بالروح القدس وقال إن الرب الإله قد “افتقد وصنع فداءً لشعبه” (لو1: 68).
وحينما دخلت السيدة العذراء إلى الهيكل وهى تحمل الطفل يسوع بعد ولادته بأربعين يوماً حمله سمعان الشيخ على ذراعيه وبارك الله وقال “الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عينى قد أبصرتا خلاصك الذى أعددته قدام وجه جميع الشعوب نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل” (لو2: 29-32). كان سمعان الشيخ قد “أتى بالروح إلى الهيكل” (لو2: 27) ونطق بهذه الكلمات بوحى من الروح القدس الذى كشف له أن هذا الطفل هو المسيح مخلص العالم. وقال إن عينيه قد أبصرتا خلاص الرب لأنه أبصر الكلمة المتجسد. وإن كان قد أوضح أيضاً أنه هو الخلاص المعد أمام وجه جميع الشعوب، فالخلاص من الناحية الزمنية لم يكن قد أكتمل بعد، ولكنه من ناحية تحقيق الوعد قد بدأ بتجسد الكلمة. والنبوة كما قلنا ترتفع فوق الزمان لأنها بوحى من الروح القدس.
ونلاحظ أن زكريا الكاهن قد أشار بالروح القدس إلى أهمية تحقيق النبوات التى أوحى بها الروح القدس بقوله “كما تكلّم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر” (لو1: 70).
لم تكن النبوات قد قيلت فى زمن قريب بل منذ آلاف السنين، ودوِّنت فى الأسفار أى الكتب المقدسة، بداية من سفر التكوين إلى سائر أسفار العهد القديم واستغرق كتابتها قرابة ألف وستمائة عام قبل مجيء السيد المسيح بالجسد.
إن أحد أسباب قوة المسيحية هو استنادها إلى عديد من الرموز والنبوات الواضحة التى تحققت فى مجيء السيد المسيح، والتى مازالت محفوظة إلى يومنا هذا فى أيدى اليهود الذين رفضوا السيد المسيح وناصبوه العداء وحكموا عليه بالموت.
بأحشاء رحمة إلهنا
أكمل زكريا الكاهن أقواله النبوية الرائعة إلى قوله “بأحشاء رحمة إلهنا التى بها افتقدنا المشرق من العلاء ليضئ على الجالسين فى الظلمة وظلال الموت لكى يهدى أقدامنا فى طريق السلام” (لو1: 78، 79).
إن الله قد سبق أن قال لموسى النبى عندما ظهر له فى هيئة نار مشتعلة فى عليقة فى البرية “إنى قد رأيت مذلة شعبى الذى فى مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إنى علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم” (خر3: 7، 8).
ما أجمل عبارة “بأحشاء رحمة إلهنا التى بها افتقدنا”.. إن أحشاء رحمة الرب تعنى رحمته العميقة الناشئة عن محبته الجياشة والفياضة التى تتحرك نحونا باستمرار. وقد استخدم أيضاً القديس بولس الرسول هذا التعبير بقوله: “فإن الله شاهد لى كيف أشتاق إلى جميعكم فى أحشاء يسوع المسيح” (فى1: 8).
إن الرب يشعر بآلامنا ومذلتنا وأوجاعنا.. وقد رأى كيف تمزّقت البشرية فى مخالب الشيطان القاسى الذى لا يرحم.. وتحركت أحشاء رحمته ونزل ليخلصنا وينقذنا من فم الأسد، كما خلّص داود النبى أحد خرافه من فم الأسد والدب (انظر 1صم17: 34-37). ولازال الرب هو نفسه يرى آلام شعبه ويعمل من أجل راحتهم ونجاتهم.
والرب نفسه قال أيضاً: “من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقول الرب أصنع الخلاص علانية” (مز11: 5).
إن صراخ البشرية قد وصل إلى أذنى رب الجنود وقام الآب السماوى بتجهيز كل شئ من أجل خلاص البشرية، “لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس.. لننال التبنى” (غل4: 4، 5). وفى إعداده للخلاص أعطى وعوداً وعهوداً.. وكان الثالوث القدوس يعمل بكل قوة من أجل إتمام الخلاص. فكل ظهورات الله فى العهد القديم هى ظهورات للابن الوحيد قبل التجسد وكل النبوات نطق بها الروح القدس على فم الأنبياء القديسين الذين هم منذ الدهر. والآب السماوى أرسل ابنه الوحيد لإتمام الفداء، وأرسل موعده بالروح القدس ليقود الكنيسة لاقتناء الفداء، كما أنه قد دبّر مع الابن والروح القدس كل شئ من أجل خلاص البشرية ومنحها المواهب والعطايا النازلة من عند أبى الأنوار.
أما فى قول زكريا الكاهن “المشرق من العلاء” فإن هذا يذكرنا بقول ملاخى النبى “ولكم أيها المتّقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها” (ملا4: 2). إن شمس البر هو السيد المسيح الذى فتح ذراعيه مثل جناحين على الصليب من أجل شفائنا من مرض الخطية. وهو الذى أظهر لنا نور الآب بل أنه هو نفسه بهاء مجد الآب “الذى وهو بهاء مجده..” (عب1: 3)، كما أن الروح القدس هو الذى ينير عقولنا وقلوبنا حتى نتغنى ونقول مع المرنم “بنورك نرى نوراً” (مز36: 9).
2. عجيباً فى ميلاده
السيد المسيح كان عجيباً فى ميلاده.. إذ وُلد بعيداً عن مظاهر الكرامة العالمية. وُلد السيد المسيح بين الأغنام والحيوانات التى كانت تُقدَّم كذبائح للرب فى الهيكل بأورشليم. مؤكّداً منذ اللحظة الأولى لميلاده متجسداً أنه هو حمل الله الذى يحمل خطية العالم كله. وهذا هو المشهد العجيب للميلاد:
الحمل فى وسط الحملان والذبائح
# وُلد فى الحظيرة لأنه ينبغى أن يكون الراعى وسط الخراف. إذ هو الراعى الصالح الذى “يبذل نفسه عن الخراف” (يو10: 11) وهل يمكن أن يوجد الراعى بعيداً عن خرافه؟!.
هو الحمل وهو الراعى فى آنٍ واحد وهو عجيب فى ميلاده! هو الهيكل الحقيقى وهو القربان! هو الكاهن وهو الذبيحة فى آنٍ واحد! لذلك دعى اسمه “عجيباً” (إش9: 6).
جاء السيد المسيح إلى العالم، وإذ لم يجد له مكاناً فى قلوب غالبية البشر ولد بين الخراف غير الناطقة، ليحوّل الخراف غير الناطقة ( أى البشر قبل الفداء ) إلى خراف تعقل الحق؛ تنطق باسمه وتهتف لمحبته فتشاركه مجده الحقيقى!.
# وحينما بشّرت الملائكة البشر فى ليلة ميلاده، بشّرت الرعاة الذين يسهرون على رعاية الذبائح التى تقدم فى هيكل الرب. لكى يأتى الرعاة لينظروا الراعى الحقيقى، راعى الرعاة، مخلص العالم، ابن داود الراعى الذى تعب وسهر فى رعاية خـرافـه وحارب الأسد والدب ليخلّصها.
# وُلد السيد المسيح فى بيت لحم مدينة داود. وهى أصغر مدن المملكة. وكان داود هو الأصغر بين إخوته لأن السيد المسيح قد اختار طريق الاتضاع ليملك على القلوب بتواضعه. “أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكونى بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لى، الذى يكون متسلطاً على إسرائيل. ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (مى5: 2). “لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبى إسرائيل” (مت2: 6).
وُضع الرب يسوع، كلمة الله المتجسد وهو طفل فى المذود.. فى الموضع الذى تأكل منه الحيوانات فى الحظيرة. ليؤكّد أنه جاء طعاماً لحياة العالم الذى كان غارقاً فى ظلمات الجهل والخطية. وكان البشر يسلكون فيه مثل البهائم التى تباد. وقال عن نفسه إنه هو الخبز “خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم.. فمن يأكلنى فهو يحيا بى” (يو6: 33، 57).
هذه الحظيرة التى كانت حقيرة فى مظهرها، تحوّلت بحلول الكلمة المتجسد فيها إلى كنيسة للمجد والبهاء، وهى كنيسة المهد فى بيت لحم، حيث اقترب ملايين البشر من الأسرار المقدسة فى التناول من جسد الرب ودمه على مر العصور.
عجيبة هى والدة الإله القديسة مريم العذراء التى شاهدت وسمعت وكانت تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بها فى قلبها (انظر لو2: 19). كانت الكنيسة -العروس المحبوبة- ممثلة فى شخص السيدة العذراء وهى تعاين خلاص الله بين ذراعيها نوراً متألقاً لحياة العالم.
هذا هو مجد الروح الذى لم يبالِ بالمجد الخارجى، بل عاش متمتعاً فى الاتضاع، والانسحاق، والبعد عن كل مظاهر العظمة والكرامة.
هناك فى الحظيرة.. هناك بين الحيوانات.. هناك حيث لم يدرك البشر وقتذاك.. هناك تلتقى النفس بالحقيقة الخالدة أن “الكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً” (يو1: 14).
3. مسيح بيت لحم
حملت مدينة بيت لحم اسماً نبوياً يشير إلى ميلاد السيد المسيح حيث “بيت لحم” باللغة العبرية معناها “بيت الخبز”. ونظراً لأن السيد المسيح قد قال عن نفسه “أنا هو خبز الحياة” (يو6: 35). وقال أيضاً “لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم” (يو6: 33). وأضاف “هذا هو الخبز النازل من السماء، لكى يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء إن أكل أحد هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم” (يو6: 50، 51).
أراد السيد المسيح أن يوضح لليهود الفرق بين الخبز الذى أكله أباؤهم فى برية سيناء وماتوا وبين الخبز الحى النازل من السماء الذى يهب الحياة الأبدية. لذلك قال لهم: “آباؤكم أكلوا المن فى البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكى يأكل منه الإنسان ولا يموت” (يو6: 49، 50).
وقارن بين ما أعطاه موسى لشعب إسرائيل فى برية سيناء وعطية الله فى العهد الجديد فى المسيح الذى ولد فى بيت لحم (بيت الخبز) “فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم: ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبى يعطيكم الخبز الحقيقى من السماء” (يو6: 32). من خلال حوار السيد المسيح مع اليهود نلمس شدة اهتمامه بإبراز العلاقة بينه وبين الخبز- ولكن ليس أى خبز بل الخبز السماوى.
مدينة بيت لحم
بيت لحم هى مدينة صغيرة مبنية على أكمة تبعد 6 أميال إلى الجنوب من أورشليم وهى محاطة بتلال تكسوها الأشجار والنباتات الجميلة. وفيها مياه عذبة تتفجر من أراضيها المخصبة.
وقد ولد داود النبى والملك فى بيت لحم ونشأ وتربى فيها وكان راعياً لغنم أبيه فى مراعيها الخضراء. وكان داود فى الجوانب المقدسة من حياته رمزاً للسيد المسيح.
وقد ورد فى سفر راعوث أن أليمالك رجل من بيت لحم ذهب ليتغرب فى بلاد موآب هو وامرأته وابناه. وبعد وفاته تزوج ابناه من عُرفة وراعوث، وبعد موت الابنين عادت نعمى وأصرّت راعوث أن تعود معها وقالت لحماتها “شعبك شعبى وإلهك إلهى” (را 1: 16). فذهبتا كلتاهما حتى دخلتا بيت لحم فى ابتداء حصيد الشعير. وجمعت راعوث وراء الحصادين من السنابل فى حقل لرجل من عشيرة أليمالك اسمه بوعز. وكان رجلاً فاضلاً وتزوج راعوث، وأنجب منها عوبيد الذى هو أبو يسى أبى داود (انظر را 4: 17).
إن أمام الرب مسيحه
قال الرب لصموئيل النبى “املأ قرنك دهناً وتعال أرسلك إلى يسى البيتلحمى، لأنى قد رأيت لى فى بنيه ملكاً” (1صمو16: 1).. “ففعل صموئيل كما تكلم الرب.. وقدّس يسى وبنيه ودعاهم إلى الذبيحة. وكان لما جاءوا أنه رأى اليآب، فقال: إن أمام الرب مسيحه. فقال الرب لصموئيل: لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأنى قد رفضته.. وعبرّ يسى بنيه السبعة أمام صموئيل، فقال صموئيل ليسى: الرب لم يختر هؤلاء. وقال صموئيل ليسى: هل كملوا الغلمان؟ فقال: بقى بعد الصغير وهوذا يرعى الغنم. فقال صموئيل ليسى: أرسل وأتِ به.. فقال الرب: قم امسحه لأن هذا هو. فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه فى وسط إخوته. وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعداً. ثم قام صموئيل وذهب إلى الرامة” (1صم 16: 4-13).
فى بيت لحم ولد الملك داود.. وفى بيت لحم مسح صموئيل النبى داود ملكاً، وبدأت مملكة داود التى كملت بمجيء السيد المسيح.
لذلك قال الملاك جبرائيل للعذراء مريم عن المسيح الرب الذى سوف يولد منها “ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية” (لو1: 32، 33).
وحينما دخل السيد المسيح أورشليم راكباً على أتان وعلى جحش ابن أتان استقبلته الجموع بهتاف قائلين “مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب” (مر11: 10). “أوصنا لابن داود، مبارك الآتى باسم الرب، أوصنا فى الأعالى” (مت21: 9).
وعندما بشّر الملاك الرعاة فى مراعى بيت لحم بميلاد السيد المسيح قال لهم: “ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه وُلد لكم اليوم فى مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب” (لو2: 11). وتنبأ ميخا النبى عن مولد السيد المسيح فى بيت لحم قائلاً “أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكونى بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لى الذى يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل” (ميخا 5: 2).
إن مدينة بيت لحم قد اكتسبت عظمتها ليس لأن داود الملك قد ولد فيها، بل لأن الله الظاهر فى الجسد قد وُلد فيها ليملك إلى الأبد على قلوب شعبه. حتى وإن كان داود قد صار رمزاً للسيد المسيح من حيث رعايته للأغنام وللشعب بعد ذلك كملك، وبالرغم من أن مزاميره قد حملت الكثير من النبوات عن السيد المسيح. ولكن لم تعد بيت لحم بعد أن تم تحقيق النبوات هى مدينة داود بل هى مدينة الخبز الحي النازل من السماء الذى هو مخلص كل العالم.
4. زيارة المجوس
المجوس كانوا حكماء مملكة بابل، وأيضاً حكماء مملكة مادى وفارس، وكُتِبَ عن دانيال النبى فى حديث الملكة إلى بلطشاصر ملك بابل ما نصه “يوجد فى مملكتك رجل فيه روح الآلهة القدوسين، وفى أيام أبيك وجدت فيه نيّرة وفطنة وحكمة كحكمة الآلهة. والملك نبوخذ نصَّر أبوك جعله كبير المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين. أبوك الملك من حيث أن روحاً فاضلة ومعرفة وفطنة وتعبير الأحلام وتبيين ألغاز وحل عُقد وجدت فى دانيال هذا الذى سماه الملك بلطشاصر” (دا5: 11، 12)
واستمر شأن دانيال مرتفعاً بعد ذلك فى مُلك داريوس المادى وفى مُلك كورش الفارسى كقول الكتاب “فنجح دانيال هذا فى مُلك داريوس وفى مُلك كورش الفارسى” (دا6: 28). واستمرت نبوات دانيال ومواهبه وإعلانات الله له “فى السنة الثالثة لكورش ملك فارس كشف أمر لدانيال الذى سُمى باسم بلطشاصر. والأمر حق والجهاد عظيم وفهم الأمر وله معرفة الرؤيا” (دا10: 1).
تعين دانيال كبيراً للمجوس ولكنه لم يلجأ إلى السحر مثل السحرة، بل كان يشع بنور الإعلان الإلهى فى وسط ظلمات الوثنية القاتمة.
وتنبأ دانيال عن مجيء السيد المسيح وعن مملكته وحدد زمن مجيئه، وترك كل نبواته الصادقة فى سفره المسمى باسمه. واحتفظ شعب إسرائيل بهذا السفر، كما احتفظ به المجوس الذى كان دانيال كبيراً لهم فى ممالك السبى.
وقد ورد فى نبوة دانيال ما يلى :
“سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك، وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدى. ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين. فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً.. يُثبِّت عهداً مع كثيرين فى أسبوع واحد وفى وسط الأسبوع يُبطّل الذبيحة والتقدمة” (دا9: 24، 25، 27).
والمقصود بالأسابيع هنا أسابيع سنين وليس أسابيع أيام (أى أن الأسبوع يساوى سبع سنين). وقد تمت هذه النبوة بالفعل كما ذكرها دانيال النبى.
وقد انتظر المجوس متوارثين عبر الأجيال مجيء السيد المسيح الرئيس ملك اليهود مشتهى الأجيال.
الذين آمنوا من المجوس بإله دانيال كانوا يحترمون ما كتبه دانيال من أقوال إلهية. ويتضح احترامهم لذلك الإله من قول الكتاب “ثم كتب الملك داريوس إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين فى الأرض كلها. ليكثر سلامكم. من قِبَلى صدر أمر بأنه فى كل سلطان مملكتى يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال لأنه هو الإله الحى القيوم إلى الأبد وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى. هو ينجى وينقذ، ويعمل الآيات والعجائب فى السماوات وفى الأرض” (دا6: 25-27).
كان المجوس الذين عاشوا فى مملكة فارس يعلمون ما هو الوقت الذى صدر فيه الأمر لتجديد أورشليم وقاموا بحساب الزمان وعرفوا متى يأتى السيد المسيح على وجه التقريب فهو سيبدأ عمله عند مسحه فى سن الثلاثين، وهذا فى بداية الأسبوع الأخير من السنين المذكورة. أى بعد تسعة وستين أسبوعاً من السنين من خروج الأمر لتجديد أورشليم. أى 483 سنة. وبطرح 30 سنة التى هى عمر السيد المسيح فى بداية خدمته تكون المدة هى 453سنة من خروج الأمر لتجديد وبناء أورشليم إلى ميلاد الفادى يسوع المسيح.
كان لابد أن يُمسح السيد المسيح فى سن الثلاثين حسب شريعة موسى لأن بنى لاوى لم يمارسوا عملهم فى الخدمة إلا بعد سن الثلاثين كقول الكتاب “جميع المعدودين اللاويين الذين عدهم موسى وهرون ورؤساء إسرائيل حسب عشائرهم وبيوت آبائهم. من ابن ثلاثين سنة فصاعداً إلى ابن خمسين سنة. كل الداخلين ليعملوا عمل الخدمة وعمل الحمل فى خيمة الاجتماع” (عد4: 46، 47). وهكذا أيضاً بالنسبة لبنى هرون من الكهنة من سبط لاوى.
وأيضاً داود الذى اختاره الرب ومسحه ملكاً على شعبه والذى جاء السيد المسيح ملكاً من نسله حسب وعد الرب له كان قد ملك على يهوذا وهو فى سن الثلاثين كقول الكتاب “كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك. وملك أربعين سنة. فى حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر وفى أورشليم ملك ثلاثاً وثلاثين سنة. على جميع إسرائيل ويهوذا ” (2صم5: 4، 5).
ولهذا كُتب عن السيد المسيح “ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة” (لو3: 23).
حينما اقترب موعد ميلاد السيد المسيح حسب النبوات كان المجوس الذين آمنوا بنبوات دانيال وحفظوها ينتظرون شيئاً يخبرهم عن هذا المجيء.
وأراد الرب أن يكلمهم باللغة التى يفهمونها فأرسل إليهم كائناً مميزاً، له صفات عجيبة؛ ربما يكون ملاكاً لامعاً يبدو فى هيئة نجم.
كان النجم واضحاً مميزاً عن باقى النجوم وفهموا من منظره ومساره أنه نجم ملك عظيم هو ملك ملوك الأرض.
لهذا أعدوا العدة لرحلة طويلة من بلاد فارس فى المشرق إلى اليهودية لينالوا بركة هذا المولود الإلهى الذى كتب عنه دانيال النبى ما نصه:
“كنت أرى فى رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض” (دا7 : 13، 14).
كانت دعوة صريحة لهؤلاء المجوس الأمميين لكى يتعبدوا للمولود الموعود به من الله. وكان أمراً واضحاً أن يتعبدوا له ليصيروا أعضاءً فى ملكوته الأبدى.
إذن لم يكن السيد المسيح ملكاً لليهود فقط بل دعى “ملك اليهود” واتسع مفهوم هذا اللقب ليشمل جميع الذين آمنوا به “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أى المؤمنون باسمه” (يو1: 12). صار المعنى بالمفهوم الروحى هو لكل من يقبل حب الله المعلن بواسطة تجسد ابنه الوحيد مخلص العالم فيملك الله على قلبه وحياته ويصير مسكناً لروحه القدوس.
قال الملاك جبرائيل للعذراء مريم “ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية” (لو1: 32، 33).
وصار بيت يعقوب هو كل شعب الله وليس نسل يعقوب فقط لأن بولس الرسول يقول “ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون. ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد.. أى ليس أولاد الجسد هم أولاد الله. بل أولاد الموعد يحسبون نسلاً.. ولكى يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد. التى أيضاً دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضاً. كما يقول فى هوشع أيضاً سأدعو الذى ليس شعبى شعبى، والتى ليست محبوبة محبوبة. ويكون فى الموضع الذى قيل لهم فيه لستم شعبى أنه هناك يدعون أبناء الله الحى” (رو9: 6-8، 23-26).
هكذا تحققت النبوات الإلهية وجاء الرعاة من اليهود معترفين بملكهم ومخلصهم فى ليلة ميلاده. كما جاء المجوس من الأمم يقودهم النجم العجيب بعد مولده بفترة وقبل هروب العائلة المقدسة إلى مصر ليتعبدوا ويسجدوا للابن المولود “ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤ19: 16).
أتينا لنسجد له
لماذا جاء المجوس من المشرق إلى أورشليم قائلين “أين هو المولود ملك اليهود، فإننا رأينا نجمه فى المشرق وأتينا لنسجد له” (مت2: 2)؟
لقد سجد المجوس للسيد المسيح وهو طفل، وسجد له تلاميذه فى السفينة قائلين له “بالحقيقة أنت ابن الله” (مت14: 33)، وسجد له المولود أعمى بعد أن خلق له عينين ووجده السيد المسيح بعد أن طرده اليهود وقال له “أتؤمن بابن الله؟ أجاب ذاك وقال: من هو يا سيد لأؤمن به؟ فقال له يسوع قد رأيته والذى يتكلم معك هو هو. فقال أؤمن يا سيد وسجد له” (يو9: 35-38).
وقيل عن السيد المسيح “لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (فى2: 10-11).
وأيضاً قيل عنه “متى أَدخَل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله” (عب1: 6).
وفى رؤيا القديس يوحنا إذ ارتفع بالروح إلى المشهد السمائى قال “وكل خليقة مما فى السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر؛ كل ما فيها سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين. وكانت الحيوانات الأربعة تقول آمين. والشيوخ الأربعة والعشرون خرّوا وسجدوا للحي إلى أبد الآبدين” (رؤ5: 13-14).
السجود للمسيح
إن عبادة السيد المسيح هى شئ لازم وضرورى مهما تكلّف الإنسان فى سبيل ذلك من مشقات.
وها هم المجوس وقد جاءوا من بلاد فارس إلى جبال اليهودية لينالوا شرف وبركة السجود أمام القدوس الحق الذى جاء إلى العالم فادياً ومخلصاً. وليعلنوا أن الله قد أعطاهم العلامة المؤيدة بنبوات دانيال النبى “كبير المجوس” (دا4: 9) عن هذا العظيم الذى ملكوته ملكوت أبدى لا يزول. كما أخبر دانيال النبى وقال: “كنت أرى فى رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض” (دا 7: 13-14).
وقد تحققت هذه النبوة بصورة مبدئية بسجود المجوس للسيد المسيح؛ وكانوا فى ذلك رمزاً لكل الشعوب والأمم والألسنة إلى جوار شعب إسرائيل.
أما سمعان الشيخ “كان قد أعلم بوحى من بالروح القدس أنه لن يرى الموت قبل أن يعاين المسيح الرب، فأقبل بالروح إلى الهيكل. ولما دخل بالطفل يسوع أبواه ليصنعا له كما يجب فى الناموس، حمله سمعان على ذراعيه وبارك الله قائلاً: الآن يا سيدى تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذى أعددته قدام جميع الشعوب. نوراً تجلى للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل” (انظر لو2: 26-32).
لم يغفل سمعان الشيخ فى كلامه إذ كان منقادًا بالروح القدس؛ أن السيد المسيح هو نور إعلان للأمم إلى جوار مجيئه لخلاص بنى اسرائيل ولتحقيق وعود الله للآباء؛ لإبراهيم ونسله من بعده.
والكنيسة لا تغفل فى صلواتها أهمية السجود للسيد المسيح وتقديم العبادة له مع الآب والروح القدس.
ففى القداس الإلهى يصلّى كل الشعب فى نهاية لحن “بشفاعة والدة الإله القديسة مريم” ويقول: {نسجد لك أيها المسيح مع أبيك الصالح، والروح القدس؛ لأنك أتيت وخلّصتنا}.
وهكذا أيضاً فى قانون الإيمان نقول {نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحي المنبثق من الآب، نسجد له ونمجده مع الآب والابن}.
فالسجود يقدَّم للآب والابن والروح القدس الإله الواحد. وأيضاً التمجيد يعطى للثالوث القدوس. ففى كل قطع صلوات الساعات نقول بعد القطعة الأولى من كل صلاة [المجد للآب والابن والروح القدس].
نقدم عبادة واحدة للثالوث، ونقدم ذوكصا (تمجيد) واحد للثالوث.. وهكذا.
إن الخضوع للمسيح فيه خضوع للآب والروح القدس أيضاً (لسبب وحدانية الجوهر الإلهى).
وتكريم السيد المسيح فيه تكريم للآب والروح القدس أيضاً (لسبب وحدانية الجوهر الإلهى).
والسجود للمسيح فيه سجود للآب والروح القدس أيضاً (لسبب وحدانية الجوهر الإلهى).
وعبادة المسيح فيها عبادة للآب والروح القدس أيضاً (لسبب وحدانية الجوهر الإلهى).
المسيح هو الذى أظهر السجدة للثالوث بظهوره فى العالم، وهو الذى أظهر الثالوث فى معموديته فى نهر الأردن (عيد الظهور الإلهى = الإبيفانيا).
اعتقادنا بوحدانية الجوهر للأقانيم الثلاثة لا يمنعنا إطلاقاً من فهم حقيقة التمايز الأقنومى بينهم. فلكل أقنوم دوره المتمايز فى العمل الواحد. ولكل أقنوم خاصيته الخاصة التى تميّزه عن الأقنومين الآخرين. والحب المتبادل بين الأقانيم الثلاثة هو من أبرز الدلائل على تمايزهم الأقنومى بالرغم من جوهرهم الواحد واسمهم الفريد الواحد، وهو “الكائن” أى “يهوه” الذى كينونته غير منقسمة.
5. السيد المسيح كخادم للختان
كان الختان هو علامة العهد بين الله وإبراهيم (انظر تك17: 10-14). وقد صار السيد المسيح خادماً للختان، ليؤكد أن العهد هو بسفك دمه المقدس الذى سوف يتم سفكه بالكامل على الصليب.
ولكن ما رآه الناس فى ذلك الوقت -حسب الظاهر- هو أنه اختتن حسب الوصية السابقة ليحسب ضمن شعب الله.
فلنتأمل أيها الأحباء “قدوس القدوسين” (دا9: 24) وهو يطلب الانتماء بعلامة العهد إلى شعب الله.. أى اتضاع يكون مثل ذلك بعيداً عن العظمة الظاهرية!!.
6. تقديم ذبيحة عنه فى الهيكل
كانت حياة الابن البكر الذكر ملكاً للرب “كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب” (لو2: 23)، وذلك بحكم أن الرب كان قد افتدى الأبكار فى ليلة خروج الشعب من أرض مصر (ليلة الفصح والعبور).
وقد استعاض الرب عن أولئك الأبكار بتقديم ذبيحة عنهم فى الهيكل، وهذه الذبيحة ترمز بالطبع إلى ذبيحة الفداء، حيث إن الرب قد اشترانا من الموت حينما وفىّ دين الخطية الذى علينا فى الصليب.
فما أعجب أن نرى السيد المسيح الذى هو الذبيحة الحقيقية والمخلص الفادى، يُقدِّم عن نفسه وعن نجاته مع الأبكار ذبيحة فى الهيكل، مع أنه هو موضوع النجاة وبدونه لم يخلص بشر على الإطلاق، وكل الذبائح كانت رمزاً لذبيحته المانحة للحياة، ولم يكن هو محتاجاً إلى النجاة ولا إلى الخلاص، لأنه بلا خطية وحده وقدّم نفسه عن آخرين.
ألا يقف العقل حائراً أمام اتضاع السيد المسيح الذى تمم عنا كل بر..؟!
البعض يقدمون الذبائح فى الهيكل ويتباهون بها وبعظمتها وكبر حجمها..كلٌ بحسب غناه واقتداره.
أما السيد المسيح فقد قدّم ذبيحة بسيطة جداً، تماثل بساطة موضع مولده العجيب فى الحظيرة مع الخراف.
كانت أقل ذبيحة تقدم فى الهيكل من حيث مظهرها هى “يمامتين أو فرخى حمام” (لا12: 8، انظر لو2: 24)، وهذا بالفعل قدّمه من جاء فقيراً ليغنينا بمجده الذى فاق كل أمجاد العالم الظاهرة. لأن المجد الحقيقى هو مجد الروح المتضع والقلب النقى الخاضع لمشيئة الآب السماوى.
7. الهروب إلى مصر
كما رأى المجوس الذين جاءوا من المشرق السيد المسيح وقدموا له العبادة والقرابين والسجود، هكذا ذهب السيد المسيح بنفسه إلى أرض مصر حيث عاش سنوات ارتجفت فيها أوثان مصر، ومن المصريين من قدَّم له الضيافة والعبادة والسجود. وتم تهيئة المجال لينتشر الإيمان بالمسيح فيما بعد بكرازة مار مرقس. ولكن السيد المسيح قد وضع بنفسه أساسات الكنيسة العتيدة فى مصر.
كانت السحابة السريعة هى مريم العذراء القديسة والدة الإله التى سبق أن قيل عنها بعد البشارة بميلاد المخلص “فقامت مريم فى تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات” (لو1: 39، 40).
كانت العذراء مريم دائماً سريعة فى استجابتها لقيادة الروح القدس. وكانت هى المركبة المطوبة جداً أكثر من الشاروبيم والسرافيم.
لقد اختار السيد المسيح مصر ليحضر إليها بنفسه وليراه المصريون بأعينهم.. هناك حيث كان معقل العبادة الوثنية العريقة العاتية. وكان ذلك كله ليهز مملكة الشيطان ويمهد الطريق لانتشار المسيحية حتى تغنى إشعياء النبى وقال “مبارك شعبى مصر وعمل يدى أشور وميراثى إسرائيل” (إش19: 25).
الرب فى مصر
جاء السيد المسيح إلى أرض مصر تحقيقاً للنبوات. فقد تم بذلك قول الكتاب “من مصر دعوت ابنى” (هو11: 1، مت2: 15). وكذلك نبوءة إشعياء النبى “هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه” (إش19: 1).
وقد أكّد القديس متى الإنجيلى أن النبوة التى وردت فى سفر هوشع (11: 1) قد تحققت بمجيء السيد المسيح إلى مصر إذ قال إن “ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلاً: قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه. فقام وأخذ الصبى وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر. وكان هناك إلى وفاة هيرودس. لكى يتم ما قيل من الرب بالنبى القائل: من مصر دعوت ابنى” (مت2: 13-15).
إن مجيء الرب يسوع المسيح إلى مصر قد هز العبادة الوثنية الجبارة التى عاشت فى مصر آلافاً من السنين، ولم يكن من السهل إطلاقاً اقتلاعها من حياة المصريين. كانت الحضارة المصرية عميقة جداً فى جذورها وتعانقت هذه الحضارة مع عبادة ذات فلسفة قوية تداخلت معها الفلسفة الهللينية، بداية من عصر الإسكندر الأكبر وفى عصور البطالمة، وكذلك الفلسفة الرومانية فى العصر الرومانى. وتكوّنت بذلك مجموعات عجيبة من الآلهة المصرية واليونانية والرومانية جعلت من أرض مصر مرتعاً للعبادة الوثنية فى أقوى معانيها. وهكذا ارتجفت أوثان مصر من وجه الرب لأن “كل آلهة الأمم شياطين” (مز95: 5).
مذبح للرب فى مصر
من بعد إقامة الهيكل فى أورشليم لم يكن مُصَرّحاً حسب شريعة العهد القديم بتقديم ذبائح خارج الهيكل. فالعبادة التى أمر بها الرب موسى فى خيمة الاجتماع الراحلة فى البرية قد استقرت فى وضعها الثابت حينما بُنى الهيكل ووُضع فيه تابوت العهد وباقى محتويات خيمة الاجتماع. والعجيب أن إشعياء النبى قد تنبأ عن مذبح للرب فى وسط أرض مصر فى وقت لم يكن مسموحاً لبنى إسرائيل أن يقيموا مذبحاً مثل ذلك خارج أورشليم. ومازال اليهود يقرأون سفر إشعياء النبى إلى يومنا هذا ويعترفون به كأحد أسفار الكتاب المقدس الموحى بها من الله، ولكن للأسف لا يفهمون معنى هذه النبوة التى صارت حقيقة فى العهد الجديد بعد إتمام الفداء فى أورشليم وانتشار المسيحية فى أرجاء المسكونة ووصول المسيحية إلى مصر.
وقد أكتُشِفَت نسختان كاملتان من سفر إشعياء فى حفريات البحر الميت بوادى قمران داخل أوانى من الفخار، ويرجع تاريخها إلى القرن الثانى قبل الميلاد. وهذه المخطوطات موجودة حالياً فى الجامعة العبرية عند اليهود ووجدت مطابقة للنص العبرى المتداول لسفر إشعياء.
والآن لنتابع ما ورد فى هذه النبوة العجيبة الواردة فى سفر إشعياء:
“وحي من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها.. فى ذلك اليوم يكون فى أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود، يُقال لإحداها مدينة الشمس (هليوبوليس). فى ذلك اليوم يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تخمها. فيكون علامة وشهادة لرب الجنود فى أرض مصر.. فيُعرف الرب فى مصر، ويعرف المصريون الرب فى ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذراً ويوفون به” (إش19: 1، 18-21).
والعجيب فى نبوة إشعياء أنه لم يقل إن المصريين يقدمون ذبائح للرب عندما يعرفونه بل “يقدمون ذبيحة وتقدمة” وذلك لأن المسيحيين فى العهد الجديد لا يقدمون ذبائح عديدة ومتكررة مثلما كان يحدث مع شعب إسرائيل فى العهد القديم، بل يقدمون ذبيحة وصعيدة أى تقدمة واحدة هى ذبيحة الشكر فى القداس الإلهى التى هى نفسها ذبيحة صليب ربنا يسوع المسيح بجسده ودمه الأقدسين. وذبيحة الشكر (الإفخارستيا) هذه هى ليست تكرارًا لذبيحة الصليب، بل امتدادًا أو استعلانًا لها فى سر الشكر تحت أعراض الخبز والخمر. لذلك دُعى السيد المسيح رئيس كهنة على طقس (نظام) ملكى صادق الذى قدّم قرباناً من الخبز والخمر عندما بارك إبراهيم (انظر تك14: 18-20).
بالنسبة لليهود يجب أن يسألوا أنفسهم السؤال التالى: كيف يمكن أن يوجد مذبح للرب فى وسط أرض مصر؟ وكيف تقدم عليه ذبيحة وتقدمة؟
إن اليهود قد مضى عليهم قرابة ألفى عام منذ هدم الهيكل فى أورشليم وهم لا يقدمون ذبائح على الإطلاق. بينما تقدم ذبيحة الخلاص الحقيقية فى مصر وفى كل مكان انتشرت فيه المسيحية والإيمان المسيحى المستقيم.
ألا يدعو هذا الأمر اليهود إلى مراجعة النفس وكيف هُدم الهيكل حسب قول السيد المسيح لهم “هوذا بيتكم يترك لكم خراباً” (لو13: 35)؟ وكيف صارت الذبيحة تقدم فى مصر حسب نبوة الكتاب. بل كيف وصل الأمر أن يقول الرب فى نفس الموضع من السفر “بها يبارك رب الجنود قائلاً: مبارك شعبى مصر” (إش19: 25). فلماذا يحاول اليهود بناء الهيكل القديم؟
إن اليهود يعتقدون أنهم هم شعب الله. أفلا يسألون أنفسهم عن معنى هذه العبارة “شعبى مصر”؟ كيف صار فى مصر شعب لله يفرح به قلبه ويبارك به؟ مصر التى كانت ترزح تحت نير الوثنية الرهيبة كيف صارت محبوبة ويُعرف الرب فيها “ويعرف المصريون الرب فى ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذراً ويوفون به” (إش19: 21).
أما عن عبارة “وسط أرض مصر” الواردة فى النبوة فهى تشير إلى انتشار المسيحية فى مصر كلها، كما أنها تشير إلى مذبح كنيسة العذراء الأثرية بالدير المحرق حيث جلس السيد المسيح ووعد أمه العذراء مريم بأن يصير هذا الحجر الكبير مذبحاً له على اسمها، وكنيسة مباركة.
كذلك فقد أوردت النبوة عبارة “عمود للرب عند تخمها”. وهذا العمود هو عمود مار مرقس الرسول عند تخوم مصر الشمالية فى الإسكندرية. العمود الحقيقى الذى بدأ مع مار مرقس واستمر إلى يومنا هذا عبوراً بالقديس أثناسيوس الرسول والقديس كيرلس عامود الدين.
8. مصر وأشور
كما اهتم الرب بتهيئة الأوضاع لنشر الكرازة بالإنجيل فى الإمبراطورية الرومانية وباللغة اليونانية التى انتشرت منذ فتوحات الاسكندر الأكبر. كما شرح لنا قداسة البابا شنودة الثالث( ).
هكذا اهتم أيضاً بحضارتين رئيسيتين من العالم القديم هما الحضارة الأشورية والحضارة المصرية.
وكانت الحضارة والديانات الأشورية فى مملكة بابل ومن بعدها مملكة مادى وفارس لا تقل فى ثقلها عن حضارة وقوة الديانات فى مصر القديمة الفرعونية.
كان السيد المسيح قد جاء إلى العالم، ليخلص العالم كله من ظلمات العبادة الوثنية التى استطاع الشيطان أن ينشرها فى أجزاء كبيرة من العالم. ولهذا اهتم بالشعوب الأممية كما اهتم بشعب إسرائيل.
على الصليب كان مكتوباً عنوان علّته فوق رأسه بأحرف عبرية ويونانية ولاتينية. وهى أهم اللغات التى سادت فى منطقة الشرق الأوسط والإمبراطورية الرومانية. لتأكيد أن السيد المسيح قد صلب فداءً عن الجميع.
ومنذ البداية ارتبط ميلاد السيد المسيح بسجلات الدولة الرومانية إذ صدر أمر من أوغسطس قيصر فى روما بأن يكتتب كل المسكونة. وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والى سورية. فذهب يوسف خطيب العذراء مريم إلى بيت لحم وهى مدينة داود ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهى حُبلى لكونهما من بيت داود وعشيرته وفيما هما هناك تمت أيامها لتلد (انظر لو2: 1-6). وتم تسجيل المولود الجديد فى سجلات الدولة الرومانية بناءً على الأمر الذى أصدره أوغسطس قيصر. وثبت رسمياً أن يسوع الناصرى قد ولد فى بيت لحم اليهودية.
أما كتابة غالبية أسفار العهد الجديد فقد كانت باللغة اليونانية الغنية بتعبيراتها اللاهوتية العميقة. والتى كتب بها أيضاً أعظم لاهوتى الكنيسة فى القرون الأولى للمسيحية أمثال القديسين أثناسيوس وكيرلس وساويرس.
وكما شرح لنا قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الله حياته- فقد دبر الرب ترجمة أسفار العهد القديم من اللغة العبرية التى لم تكن منتشرة فى العالم إلى اللغة اليونانية وذلك بأمر بطليموس فيلادلفوس، البطليموس الثانى من خلفاء الاسكندر الأكبر فى مدينة الاسكندرية بالترجمة التى عرفت باسم الترجمة السبعينية. وساعدت فى إعداد الفكر اليونانى لقبول ما فى العهد القديم من تمهيد لميلاد السيد المسيح.
وكما اهتم الرب بالعالم الحديث فى وقت ميلاده -أى الرومان واليونانيين- كذلك اهتم بالعالم القديم أى الأشوريين والمصريين.
وقد وردت نبوة عن ذلك فى سفر إشعياء فى الأصحاح 19 هذا نصها:
“فى ذلك اليوم تكون سكّة من مصر إلى أشور.. ويعبد المصريون مع الأشوريين. فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثاً لمصر ولأشور بركةً فى الأرض. بها يبارك رب الجنود قائلاً: مبارك شعبى مصر وعمل يدىَّ أشور وميراثى إسرائيل” (أش19: 23-25).
وقد تحقق قول إشعياء النبى “تكون سكة من مصر إلى أشور.. ويعبد المصريون مع الأشوريين” أولاً حينما انتشرت المسيحية فى بلاد مصر وأشور، وبعد ذلك توثقت العلاقة بين كنيسة الإسكندرية وكنيسة أنطاكيا السريانية الأرثوذكسية.
9. العلاقة مع أشور
دبر الرب فى مرحلة السبى أن يتعرف ملوك بابل ومادى وفارس على أنبياء الرب أمثال دانيال النبى الذى حكى وفسّر لنبوخذ نصر الملك حلمه المختص بالممالك التى سوف تتعاقب إلى مجيء السيد المسيح. وكان حلم الملك أن تمثالاً عظيماً بهياً جداً وهائلاً، رأسه من ذهب جيد. صدره وذراعاه من فضة. بطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد. وقدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف. وبينما كان ينظر الملك قُطع حجر بغير يدين وضَرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً وصارت كعصافة البيدر فى الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذى ضرب التمثال فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها (انظر دا 2: 31-36).
وقد أطلق نبوخذ نصر على دانيال النبى اسم “بلطشاصر” (دا4: 8) وعيّنه كبيراً للمجوس (انظر دا 4: 9) فى المملكة وظل يشغل هذا المنصب أيضاً فى مملكة مادى وفارس التى جاءت بعد مملكة بابل.
كان الحجر الذى صار جبلاً كبيراً هو رمز للسيد المسيح الذى ولد بغير زرع بشر وهو ملك الملوك ورب الأرباب. وكان التمثال يرمز إلى الممالك المتعاقبة من مملكة بابل إلى مملكة مادى وفارس ثم ملك الاسكندر الأكبر وما أعقبه من ممالك أربعة والإمبراطورية الرومانية التى جاء بعدها المُلك الروحى الإلهى للسيد المسيح الذى فاق كل عظمة ممالك الأرض.
وبناءً على حلم الملك نبوخذ نصر وتفسيرات ونبوات دانيال، جاء المجوس من المشرق ليسجدوا للملك المسيح ويقدموا عبادتهم وقرابينهم. وبهذا وضع السيد المسيح فى بلاد المشرق أساس الإيمان بملكوته السمائى. وحينما بدأت الكرازة بالإنحيل فى تلك البلاد كان الأساس موجوداً فى واحدة من أقدم الحضارات الوثنية وأعتاها.
10. نشأة السيد المسيح
كما كان السيد المسيح عجيباً فى ميلاده، هكذا أيضا كان عجيباً فى نشأته وباقى أمور حياته وخدمته.
فقد هرب من وجه هيرودس الملك الذى أراد أن يقتله. وذهب السيد المسيح متغرباً فى أرض مصر وتباركت مصر بحضوره إليها. وارتجت أوثان مصر وذاب قلب مصر داخلها (انظر إش19).
كان من الممكن أن يصطدم السيد المسيح بهيرودس الملك، لأن المسيح أقوى منه بكثير، ولكن فى إخلائه لذاته، فضل أن يهرب – مع ما فى الهروب من مظاهر الضعف وعدم المواجهة – لأن السيد المسيح لم يكن منشغلاً بمظاهر القوة والعظمة الخارجية، بل بتحقيق الانتصار غير المنظور ضد مملكة الظلمة الروحية، فأظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة.
# وبعد مذبحة أطفال بيت لحم بدا للناس وكأن السيد المسيح الذى رأى المجوس نجمه، قد ذُبح وانتهى أمره. وبهذا قَبِلَ السيد المسيح أن يصير مذبوحاً فى نظر الناس، وكأنه غير موجود، وهو الحامل لكل الوجود، والذى به “نحيا ونتحرك ونوجد” (أع17: 28). قَبِل المسيح هزيمة مؤقتة أمام هيرودس، فى نظر الناس.
فمن الواضح أن مذبحة الأطفال وهروب السيد المسيح إلى أرض مصر قد صنعا معاً فاصلاً بين ميلاده ونشأته فى الناصرة، حتى ظن اليهود فيما بعد أن السيد المسيح من الجليل. وقالوا مستنكرين “ألعل المسيح من الجليل يأتى. ألم يقل الكتاب إنه من نسل داود ومن بيت لحم القرية التى كان داود فيها يأتى المسيح؟” (يو7: 41، 42). وحتى نثنائيل الذى دعاه السيد المسيح، قال فى البداية “أمن الناصرة يمكن أن يكون شئ صالح ؟!” (يو1: 46).
ولكن حينما كُتب الإنجيل فيما بعد اتضح أن السيد المسيح لم يكن من الجليل ولا من الناصرة فى ميلاده، بل من بيت لحم اليهودية مدينة داود الملك حسب الكتب المقدسة.
وأعطى القديس لوقا الدليل القاطع الذى يستطيع أن يرجع إليه كل إنسان فى ذلك الزمان الذى كتب فيه إنجيله، بأن ذكر أن السيد المسيح قد تسجّل ضمن الاكتتاب الأول الذى أمر به أوغسطس قيصر.. إذ أمر بأن تكتتب كل المسكونة “وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والى سورية” (لو2: 2)، مشيراً فى أى سجلات المواليد ينبغى أن يبحث الإنسان عن زمان ومكان ونسب السيد المسيح.
قيل عن السيد المسيح أنه “كان يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس” (لو2: 52). وأيضا “كان الصبى ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه” (لو2: 40).
أخلى السيد المسيح ذاته آخذاً صورة عبد “وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه” (فى2: 8). ولذلك قَبِل أن يوجد فى صورة طفل رضيع تحمله السيدة العذراء بين ذراعيها وتمنحه الغذاء حينما أرضعته من لبنها. وقَبِل أن ينمو قليلاً قليلاً بشبه البشر وأن يتعلم المشى والكلام وهو المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة والعلم، وهو اللوغوس (الكلمة).
خضع السيد المسيح لنواميس الطبيعة بلا خطية وخضع لقواعد الحياة ونواميسها. فكان خاضعاً لأبويه (أى العذراء وخطيبها يوسف)، مطيعاً لهما (انظر لو2: 51). وبهذا أكمل الوصايا الإلهية بما فى ذلك وصية “أكرم أباك وأمك لكى تطول أيامك على الأرض” (خر20: 12) “التى هى أول وصية بوعد” (أف6: 2).
لم يقدّم السيد المسيح فى تجسده خضوعاً للآب السماوى فقط، بل وضع نفسه وأطاع من أوصى الرب بطاعتهم من البشر. مقدماً المثل الأعلى فى التواضع وإنكار الذات.
وبالرغم من أن السيد المسيح هو قدوس القديسين، وهو رئيس كهنة الخيرات العتيدة، وهو رئيس الخلاص، وهو رئيس السلام، وهو راعى الخراف العظيم، وهو ملك الملوك ورب الأرباب، وهو مشتهى الأجيال، وهو خلاص الله الذى أعده قدام كل شعوب الأرض. إلا أنه لم يبدأ خدمته الخلاصية المبشرة بالإنجيل وباقتراب ملكوت الله إلا بعد بلوغه سن الثلاثين.
فى تلك السن مسح الآب السيد المسيح بالروح القدس فى نهر الأردن ليُستعلَن السيد المسيح كخادم للخلاص وككاهن مدعواً من الله رئيس كهنة على رتبة ملكى صادق.
كان أبناء هرون لا يبدأون فى ممارسة خدمتهم الكهنوتية فى خيمة الاجتماع حسب الشريعة إلا بعد بلوغهم سن الثلاثين. وهكذا فعل أيضاً السيد المسيح.
إن العقل يقف حائراً أمام هذه الأعوام الثلاثين التى قضاها السيد المسيح بدون خدمة رسمية، بل اقتصرت خدمته على حياته وقدوته الحسنة ومعاملاته الطيبة. وتمتعت السيدة العذراء بعشرة طويلة مع ابنها الوحيد يسوع المسيح القدوس الذى “فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً” (كو2: 9).
من يستطيع أن يحكى عن حلاوة تلك الأيام والشهور والسنين الطويلة؟! وأى قلب بين البشر أحب السيد المسيح مثل قلب العذراء القديسة التى حملته فى بطنها، كما حملته فى قلبها وعقلها ووجدانها؟! ويكفى أنها كانت تراه فى كل يوم وكل ساعة ملء العين والقلب والفكر على مدى ثلاثين عاماً.
كان يعمل نجاراً، يستجيب لمطالب الناس ويعمل فى الخير ما يرضيهم.
كم من البيوت امتلأت من فنه وعمل يديه؟! وهو الذى “قاس السماوات بالشبر” (إش40: 12) والمسكونة هى عمل يديه..
ما أعجب اتضاعك أيها السيد النجار؟!.. فى صمتك، فى هدوئك، فى وداعتك وأنت تعمل من أجل بناء الإنسان وأنت المهندس الأعظم..