الجنب المفتوح
19: 30- 35
واحد من الجند فتح جنبه بحربة، فخرج للوقت دم وماء.
"فلما أخذ يسوع الخلّ، قال: لقد تمّ كل شيء. ثم أمال رأسه وأسلم الروح".
الأسفار المقدسة، مشيئة الآب، حبّ يسوع لأخصّائه. كل شيء قد تمّ. "الراعي الصالح يعطي حياته من أجل الخراف". إختلف يسوع عن سائر البشر، فلم يحنِ رأسه بعد الموت، بل قبل الموت ليدلّ على أنه يعطي حياته بحرّية كاملة.
"وكان يوم التهيئة".
كانت ليلة الفصح المكرّسة كلها لاستعدادات للعيد. فمنذ الظهر، وهي الساعة التي فيها لفظ الحكم على يسوع بالموت، إختفى كل خمير من البيوت وحلّ محلّه الفطير (خبز بلا خمير) الطقسي. وساعة أسلم يسوع الروح، ذُبحت في هيكل أورشليم حملان الوليمة الفصحية. وحين ستظهر النجمة الأولى، ستبدأ الليتورجيا السنوية الكبرى في شعب الله. ففي كل بيت ستُمارَس طقوس مرّت عليها أجيال، فيفسّرها ربّ البيت حسب ما يفرضه سفر الخروج (12: 26- 27): "وإذا سألكم بنوكم: ما معنى هذا الطقس؟ أجيبوهم: هي ذبيحة فصح نقدّمها للرب الذي عبر عن بيوت بني إسرائيل في مصر، فخلّصها لما فتك بالمصريين".
"فلئلا تبقى الأجساد على الصليب في السبت- لأن ذلك السبت كان يوماً عظيماً- سأل اليهود بيلاطس أن تكسر سوقهم وتنزل جثثهم".
ما أراد اليهود أن يعملوه ينبع من إهتمام بالطهارة حسب الشريعة. فكما أنهم لم يدخلوا إلى دار الولاية "لئلا يتنجّسوا ويُمنعوا من أكل حمل الفصح" (18: 28)، عليهم أن يسهروا من أجل طهارة هذا العيد الإحتفالي. يجب أن تنزل جثثُ المصلوبين. فنصّ الشريعة يقول: "وإذا وجدتم على أحد جريمة تستوجب الموت، فقُتل وعُلّق على خشبة، فلا تتركوا جثته على الخشبة إلى اليوم الثاني، بل في ذلك اليوم تدفنونه لأن المعلَّق ملعون من الله. فلا تنجِّسوا أرضكم التي أعطاكم الرب إلهكم ملكاً لكم" (تث 21: 22- 23).
وافق بيلاطس على طلب اليهود. وأُنزلت في الليلة عينها جثة يسوع التي اعتُبرت لعنة ونجاسة للأرض المقدسة. وهكذا ينتهي خبر الآلام لدى يوحنا بهذه السخرية المؤلمة. أما القديس بولس فكتب من جهته: "لقد افتدانا المسيح من لعنة الشريعة، فصار بنفسه لعنة من أجلنا، كما هو مكتوب: ملعون من عُلِّق على خشبة" (غل 3: 13).
"فجاء الجند وكسروا ساقي الأول ثم ساقَي الثاني الذين صُلبا معه". أما الهدف من كسر السوق فالتعجيل بالموت وبالتالي بالدفن.
"ولما وصلوا إلى يسوع رأوه قد مات. فلم يكسروا له ساقيه. بيد أن واحداً من الجند فتح جنبه بحربة". لماذا هذه الضربة القاضية على جثة؟ إنتهت مهمة الجنود واستعدوا للإنسحاب تاركين لأيدٍ صديقة مهمة إنزال جسد يسوع المعلّق على الصليب جثة بدون حراك. وذلك في صمت الموت العظيم. ولكننا لا نعرف السبب الذي لأجله "طعنه أحد الجنود في جنبه". هل أراد أن يتأكّد من موته؟
نحن أمام عمل فردي، نزوة جندي وغريزة استسلم لها هذا الرجل. عمل سرّي وغير منتظر. وهو لا يحمل في ذاته سبب وجوده. وجاءت الضربة عنيفة "فخرج للوقت دمٌ وماء". نستطيع أن نفسرّ هذا الحدث تفسيراً "طبّياً". فلا نبحث عن آية عجائبية تدل على عدم فساد جسد المسيح. ومع ذلك، علّق يوحنا على ما حصل أهمية كبرى. هو لا يشهد في أن مكان من إنجيله عن حدث كما يفعل هنا بتشديد ومهابة.
"والذي عاين شهد- وشهادته حق- وذاك يعلم أنه يقول الحق".
"ذاك" يدل على المسيح نفسه (رج 1 يو: 2: 6؛ 3: 3، 5، 7، 16؛ 4: 17). لقد جعله التلميذ شاهداً لصدق شهادته. وهذه الشهادة صارت في الواقع أتدس قَسَم.
"لكي تؤمنوا أنتم أيضاً". لقد رأى يوحنا في طعن جنب المسيح في الظروف التي تمّ فيها وفي سَيَلان الدم والماء، رأى نوراً لإيمان. نحن في الواقع أمام أمر مادي محض. ولكن التلميذ الحبيب نال وحياً، فأراد بدوره أن يعلّم التلاميذ.
"ولقد جرى ذلك ليتمّ الكتاب: إنه لا يُكسر له عظم".
إن نص العهد القديم الذي استشهد به يوحنا هنا، يعود إلى كتاب طقس الفصح. فبحسب سفر الفصح كان اليهود يسهرون لئلا يُكسر عظم واحد من حمل الفصح (خر 12: 46). فان كان الجنود لم يكسروا ساقَي يسوع، فهذا يعني أن يسوع كان في موته حمل الفصح الجديد الذي كان القديم ظلاً نبوياً عنه. فساعة كان كهنة العهد القديم يذبحون في هيكل أورشليم الحملان من أجل الإحتفال بالعيد، قدّم يسوع حياته فداء حقيقياً يزيل خطيئة العالم (1: 29) وينقذ البشرية من عبوديتها (8: 31- 36). وكان القديم بولس قد كتب للكورنثيين: "إن المسيح فصحنا قد ذُبح" (1 كور 5: 7).
كان يوحنا قد أورد في بداية إنجيله كيف أن المعمدان، معلّمه الأول، سمّى يسوع حمل الله وأدّى له هذه الشهادة. "أجَل، أنا رأيت وأشهد أن هذا إبن (مختار) الله" (1: 34). وعند الصليب، حين مات يسوع، بدا وكأن كل شيء يدمّر شهادة المعمدان تدميراً نهائياً. إلا أن الله ثبّت قيمتها بآية الحمل عينها: علامة العظام التي لم تنكسر. حينئذ إستعاد التلميذ شهادة المعمدان الإحتفالية وجعلها شهادته الخاصة: "والذي عاين شهد، وشهادته حق. وذك يعلم أنه يقول الحق".
هاتان الشهادتان اللتان أدّاهما يوحنا المعمدان ويوحنا الحبيب للحمل، واحد بعد عماد يسوع في مياه الأردن، وآخر بعد الموت الدموي، هاتان الشهادتان تتجاوبان بين أول الإنجيل وآخره فتتساندان وتستنير الواحدة بالأخرى، وتتأسّس الواحدة على الأخرى، وتمتزجان مثل الماء والدم اللذين تحملهما شهادة الروح. إلى هذا الواقع قد تعود رسالة يوحنا الأولى (5: 6): "هذا هو الذي أتى بالماء والدم، يسوع المسيح، لا بالماء فقط، بل بالماء والدم، والروح هو الشاهد، لأن الروح هو الحق".
"وقال الكتاب في مكان آخر: سينظرون إلى الذي طعنوه".
أُخذ هذا النص الجديد من نبوءة زكريا (12: 10). رأى فيه النبي مسيرة جنازة وطنية حصلت في أورشليم: قُتلت ضحية بريئة! بكوا كما يُبكى على ولد بكر. ولكن هذا الموت تحوّل إلى نعمة خلاصية: فُتح ينبوع ليغسل الخطيئة والنجاسة، وأفيض روح جديد: "في ذلك اليوم أفيض على بيت داود وعلى سكّان أورشليم روح الحنان والتوسّل، فينظرون إلى الذي طعنوه".
كل هذه الرؤيا النبوية قد طبّقها يوحنا على مشهد الجلجلة. وطعنة الحربة تحقّق سماتها: خطيئة المدينة المقدسة، طعن ضحية بريئة، نعمة الغفران، الينبوع المفتوح. وينكشف من جديد كل معنى موت يسوع. فمن جسد المسيح المصلوب يخرج ينبوع روحي (مُزج بدم الذبيحة) يتفجّر حياة أبدية، يخرج نهر ماء حيّ وُعد به العطاش، يخرج الماء الذي يلد البشرية. قال هيبوليتس: "بالدم نلنا مياه الروح". وقال إيريناوس: "بالدم أعطي لنا الروح".
إن عدداً من آباء الكنيسة رأى في الدم والماء رمز سَري التنشئة المسيحية: المعمودية والأفخارستيا. رمز مياه المعمودية التي فيها يتمّ فيض الروح المنقّي والمقدّس. ورمز الأفخارستيا التي هي أسمى تعبير لذبيحة الحمل ولجسده من أجل حياة العالم (6: 51). إتحد الروح بهذين السرّين، فما زال يشهد في الكنيسة لحصب هذه الذبيحة. ولقد قالت 1 يو 5: 7: "فالشهود ثلاثة، الروح والماء والدم، وهؤلاء الثلاثة على اتفاق".
لا يبيّن مشهد آخر بمثل هذه القوّة، الواقعية الأسرارية في التجسّد عند يوحنا. إن جسد المسيح هو شاهد مميّز للكلمة المتجدد من أجل البشرية، وهو بشكل حقيقي وملموس ينبوع كل العطايا الخلاصية التي بها يخلقنا الله من جديد ويلدنا للحياة الفائقة الطبيعة. جسده هو "الصخرة الروحية" التي يجب أن نأتي إليها لنستقي. وجثته نفسها المسمّرة على الصليب هي "الحياة المعلّقة أمام عيوننا" كما قال القديس إيريناوس. ففي نظر التلميذ الحبيب، وخزياً لكل ظاهرية وكل روحانية تتفلّت من الجسد، شعّ مجد الفداء من قلب إنسان فُتح بقساوة، من جنب مصلوب معذّب.
ولكن عطايا هذا الفداء لا تُعطى لنا إلا بالإيمان. ويدلّ على هذا الإيمان نظرٌ نرفعه إلى جرح "المطعون". في الماضي، في أيام البرية، كان العبرانيون ينجون من الموت حين يوجّهون أنظارهم إلى الحية النحاسية التي نصبها موسى "كعلامة خلاص" (حك 16: 16). وأما الآن، فالناس يجدون الحياة في المسيح، في جنبه المفتوح. وهذا ما يشير إليه أيضاً في مشهد الدفن، حضور نيقوديمس بقرب يوسف الرامي. نيقوديمس هذا "الذي كان من قبل قد جاء إلى يسوع ليلاً" (19: 39). ففي هذا اللقاء خلال الليل، تلفّظ يسوع بكلمة هامة: "كما رفع موسى الحيّة في البرية، هكذا يجب أن يُرفَع إبن الإنسان لكي ينال الحياة الأبدية كل من يؤمن به" (3: 14).
عند الصليب وأمام الينبوع المفتوح في جنب المسيح، بدأ نيقوديمس (وربما بدأنا نحن أيضاً) يستشفّ عظمة عطية الله