رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
سيناريوهات الصدام بين الجيش المصرى و«مرسى» دراسة خطيرة للسفير الأمريكى الأسبق دانييل كيتزر: الدراسة بعد أكثر من عام من ممارستهم للسلطة السياسية اتضحت أنانية الجيش (صورة أرشيفية) «حتى الآن وبعد خروج المشير طنطاوى والفريق سامى عنان وإعادة تشكيل القيادة العليا للقوات المسلحة لم يتم التوصل لاتفاق بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية الجديدة فى مصر يحدد العلاقة بين الطرفين، والصدام ما زال واردا» هذه هى خلاصة الدراسة التى أعدها السفير الأمريكى الأسبق لدى القاهرة بين عامى 1998 و2001، دانييل كيتزر، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط فى كلية وودرو ويلسون للشئون العامة والدولية بجامعة برينستون بمعاونة الباحثة مارى سيفنستريب بالكلية نفسها، والدراسة التى ستنشر فى العدد القادم (سبتمبر - أكتوبر) من مجلة «ناشيونال إنترست» (المصالح القومية) الأمريكية، تلقى الضوء على دور المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الآن، وتؤكد أن مستقبل العلاقة بين قادة الجيش الجدد وقادة الإخوان مرهون بأربعة معايير؛ أولها طبيعة الإدارة السياسية الجديدة وموقفها من الوضع المستقل للجيش فى المجتمع والحفاظ على نظام علمانى، ومدى استقلاله عن ميزانية الدولة ودوره فى تحديد سياسة الأمن القومى، وثانيا موقف الحكومة الجديدة من إسرائيل، حيث ترفض المؤسسة العسكرية العودة إلى حالة الحرب، وثالثا طبيعة التشريعات التى يعتمدها البرلمان وتدعمها السلطة التنفيذية حيث يتوجس الجيش دائما من مواقف وأنشطة المجتمع المدنى، ولا يتوقع أن يتراجع عن مواجهة المتطرفين، ورابعا علاقة الجيش بالولايات المتحدة، ليس فقط بسبب المساعدات الأمريكية ولكن أيضا بسبب التعاون فى التدريب والعقيدة العسكرية ومبيعات الأسلحة.. وإلى عرض موسع للدراسة.
خلال السنوات الخمسين الماضية ترسخت قناعة لدى الأكاديميين والمحللين السياسيين من خلال متابعتهم الدقيقة لتفاعلات القادة العسكريين حول العالم بأن المؤسسات العسكرية لها دور فاعل فى التحديث السياسى والاقتصادى والاجتماعى لكثير من المجتمعات، واعتقد هؤلاء المحللون أن الجيش يمكنه دفع المجتمعات نحو التقدم اعتمادا على تماسكه المؤسسى واحتكاره للقوة القهرية لتوجيه الموارد، وقاموا بدراسة مصر باعتبارها نموذجا مثاليا لهذه الحالة، لكن الأمور لم تتطور على النحو الذى توقعه الأكاديميون، فبعد الإطاحة بالنظام الملكى والاستيلاء على السلطة عام 1952، ضيّق الضباط الأحرار ساحة العمل السياسى واحتكروا السلطة وهمشوا السياسيين الليبراليين ودفعوا الإسلاميين نحو العمل السرى، وأدت برامجهم التنموية إلى إفلاس البلاد، وفى نهاية المطاف أدى احتكار السلطة فى يد الثوار بقيادة جمال عبدالناصر إلى ترسيخ هيمنة الجيش على البلاد وتحصين وحماية مصالحه. وللحقيقة كان لدى عبدالناصر أحلام كبيرة فى إعادة تنظيم المجتمع المصرى، وباسم الإصلاح الزراعى قام بتقسيم الملكيات الزراعية الكبيرة ووزع الأراضى على الفلاحين، ورغم أنها كانت خطوة تقدمية اجتماعيا، فإنها أضرت باقتصاديات الزراعة على نطاق واسع، وساعدت على تحويل مصر إلى مستورد رئيسى للقمح والمواد الغذائية الأساسية الأخرى، وباسم مواجهة شرور الرأسمالية أصبحت الحكومة صاحبة المبادرة والمالك المباشر للمشاريع الصناعية الكبرى، والتى تحملت مسئولية توفير فرص العمل الجماعى، لكن ذلك استنزف الموازنة العامة وسبب لها خسائر ضخمة. وفى أواخر السبعينات وبعد عشر سنوات من وفاة عبدالناصر وأكثر من خمسة وعشرين عاما على ثورة يوليو، كان أفضل ما يمكن أن يقال إن مصر التى أصبحت بلدا يحكمها العسكر، قد استعادت كرامتها الوطنية وبات جميع المصريين سواسية فى المعاناة. وجاء مبارك -ليسير على نهج السادات- فى دعم معاهدة السلام مع إسرائيل، لكنه فعل ذلك على حساب إنهاء دور مصر القيادى فى المواجهة الطويلة بين إسرائيل والعرب، ودفع مصر إلى الارتماء فى أحضان الولايات المتحدة، واستخدم المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية (1.3 مليار دولار) لإعادة بناء القوات المسلحة، وأصبح جيش مصر معتمدا على الأسلحة الأمريكية كما ارتبط بالولايات المتحدة عقيدة وتدريبا. الإخوان دعموا العسكر بعد تنحى مبارك ثم تباعد المصالح.. الجيش يريد ضمان مشروعاته.. والإخوان يريدون السلطة (صورة أرشيفية) وقد فشل مبارك -على الرغم من التغييرات السياسية الكبيرة- فى تجنب ثلاثة من أخطاء العهد الناصرى، أولها استمرار ميراث الكراهية وعدم الثقة بين الإخوان المسلمين والجيش، حيث أبقى مبارك على قوانين الطوارئ التى حددت الشخصية الاستبدادية للنظام السياسى، ورغم سماحه بحرية تعبير شكلية تعرضت الحياة السياسية لما يشبه الاختناق، وكانت الأحزاب السياسية والبرلمان مجرد مزحة، وأصبح المجتمع المدنى أداة فى يد الدولة، وليس متنفسا للتعبير والعمل التطوعى، وثانيا فشل مبارك فى معالجة المشكلات الاجتماعية الناجمة عن غياب العدالة فى توزيع ثمار النمو الاقتصادى، فقد حولت الخصخصة رجال الأعمال القريبين من دوائر السلطة إلى أثرياء ومستهلكين بلا حدود، بينما ظل قطاع كبير من المصريين يعانى من الفقر والجوع والبطالة، وعلى النقيض من عهد عبدالناصر حيث كان الجميع سواسية فى المعاناة، أدت سياسات مبارك إلى تحويل الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة. وثالثا أن مبارك سمح للجيش -وربما شجعه- على أن يصبح «تكتلا تجاريا شبه حكومى» مما أدى إلى ثراء الضباط، لكنه من جانب آخر تسبب فى تراجع كبير فى الكفاءة العسكرية، بالإضافة إلى تشغيل عدد كبير من المصانع الحربية فى إنتاج السلع الاستهلاكية المدنية خاصة فى مجالات الزراعة والبنية التحتية، ومن الملاحظ أن حصة العسكر فى الاقتصاد غير معروفة، لأن الجيش ومشروعاته لا يخضع لرقابة أى جهة، وتتراوح التقديرات حول نسبة مشروعات الجيش من إجمالى الناتج المحلى ما بين 10 إلى 30٪. وقد واصل مبارك إضفاء الطابع الاحترافى على الجيش وتوسيع قوته الاقتصادية واستقلاله وكان الثمن فى المقابل هو تبعية الجيش بشكل كامل للرئيس، وقد سمحت هذه المقايضة للجيش بالحفاظ على ثلاث مصالح رئيسية مشتركة خلال تلك الفترة. أولا: ترسيخ رؤية الشعب له باعتباره المؤسسة الرئيسية فى الهوية الوطنية، والواقع أن الجيش يلعب دورا اجتماعيا مهما من خلال تجنيد نحو 12 فى المائة من الشباب سنويا، بالإضافة إلى أن الجيش هو مصدر رئيسى للتوظيف فى البلاد، وفقا لتقرير «النفقات العسكرية فى العالم» الذى تصدره وزارة الخارجية وظف الجيش فى عام 2005 نحو 440 ألفا من المصريين، أى أكثر من 2 فى المائة من قوة العمل من الذكور.
ثانيا: أن القادة العسكريين سيطروا -على الرغم أن مصر لا تواجه تهديدات خارجية كبيرة مثلما كان الحال فى السبعينات- على الشئون العسكرية تماما، بما فى ذلك تعريف التهديدات والقدرة على إعلان الحرب، وهذا يعنى بالأساس ضمان السيطرة على وزارة الدفاع، وترك وزارة الداخلية (والأمن الداخلى) تحت سيطرة الرئاسة، وفى عهد مبارك سار هذا التقسيم بشكل جيد، لكنه يثير تساؤلات خطيرة فى الهيكل السياسى ما بعد الثورة. ثالثا: حرص الجيش على حماية مصالحه الاقتصادية وقدرته على إدارة شركاته بعيدا عن المحاسبة السياسية أو رقابة الرأى العام، واختلفت التقديرات حول حجم الإمبراطورية العسكرية، فيرى وزير التجارة الأسبق، رشيد محمد رشيد، أنها تمثل أقل من 10 فى المائة من الاقتصاد، تشير مصادر أخرى إلى أنه يصل إلى 30 فى المائة، أى نحو 60 مليار دولار، ما يرجح أن تفعل المؤسسة العسكرية كل ما بوسعها للحفاظ على شركاتها والإبقاء على سرية أنشطتها خارج الميزانية حسب نص القانون 32، ويتوقع سبرنجبورج روبرت، الباحث فى شئون الجيش المصرى فى كلية الدراسات العليا البحرية، «أن يضع الجيش خطا أحمر على الرقابة والمحاسبة المدنية لأنشطته الاقتصادية». وقد اندلعت ثورة 25 يناير للتمرد على الإخفاقين الأول والثانى لمبارك وهما استمرار الحكم الاستبدادى وغياب العدالة الاجتماعية، وبلغ الاستبداد مدى لم يعد يحتمله المصريون المعروفون بالصبر، وأثبتت الجماهير استعدادها للبقاء فى الشوارع فى مواجهة حملات النظام، وكان مطلبهم التخلص من مبارك ووزير داخليته وكبار مساعديه، ولم تكن الاحتجاجات موجهة ضد الجيش، بل كانت حشود التحرير تتهم مبارك شخصيا ورجال الأعمال المحيطين به وعددا من الوزراء بالفساد، وليس الجيش. وفى الشهور الماضية تحول الثوار إلى انتقاد الجيش نفسه بسبب حالة الصمم التى انتابت بعض قيادات المجلس العسكرى والحجر على الآراء والحماقات والطغيان والنبرة المتعالية لبعض أعضاء المجلس الذين ادعوا البطولة وحماية الثورة برفضهم ضرب المتظاهرين وإجبار مبارك أولا على تعيين نائب، ثم التنحى عن منصبه، ولكن بعد أكثر من عام من ممارستهم للسلطة السياسية مباشرة، اتضحت أنانية الجيش ورغبته فى الحفاظ على مصالح شركاته ودوره فى حماية النظام السياسى واستمرار إمبراطوريته الاقتصادية دون محاسبة. فى عهد مبارك لم يسع الجيش للمشاركة المباشرة فى حكم البلاد، حيث سمحت له علاقته اللصيقة بمكتب الرئيس بالتدخل من وراء الكواليس: وظل الجيش على ولائه للسلطة التنفيذية، وحمى الرئيس الوضع المتميز للجيش، وهذه الآلية نأت بالجيش عن المساءلة السياسية، وسمحت له بمواصلة أنشطته مع الحفاظ على صورته الإيجابية أيضا فى أذهان المصريين.. ولكن عندما حكم الجيش مصر مباشرة بعد انتفاضة يناير 2011، اختلفت الأمور. منذ بداية الثورة أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه حاكما مؤقتا على البلاد تفاديا للفراغ السياسى، واعتمادا على الصورة الإيجابية للجيش فى نظر الثوار نصب المجلس نفسه على أنه الفصيل الوطنى الوحيد الذى يتمتع بالشرعية والقدرة على حماية البلاد، ورغم علاقته الوثيقة بمبارك تحرك المجلس العسكرى تحركا حاسما لإجباره على التخلى عن الحكم، مما أسهم فى بناء مصداقية الجيش كمؤسسة تعمل من أجل المصلحة الوطنية. لكن المجلس العسكرى وجد قراراته عرضة للتدقيق والانتقاد فى ظل تعثر جدول الانتقال نحو حكم مدنى ديمقراطى، وإلى حد كبير فشل المجلس فى ذلك الاختبار، لأنه أعطى الأولوية للحفاظ على مصالحه الخاصة أكثر من دعم الانتقال الديمقراطى السريع، ورغم صعود شعبيته فى البداية أضعفت أخطاؤه المتتالية واهتمامه بمصالحه الذاتية لدوافع سياسية واقتصادية، من تلك الشعبية وشككت فى صدق دوره كمدافع عن الدولة المصرية. ومن البداية اعتبر المجلس العسكرى جميع الحركات السياسية - باستثناء جماعة الإخوان المسلمين- أنانية وقصيرة النظر، واعترف الإخوان بشعبية الجيش وشرعيته فى أعين الناس، وفى فبراير 2011 أضاف المجلس العسكرى تعديلات على الدستور شملت تقصير مدة الرئاسة، وقصرها على فترتين كحد أقصى وتوسيع فرص الترشح للرئاسة والحد من تطبيق قانون الطوارئ، ودعم الإخوان قرارات المجلس، وأيدوا تعديلاته الدستورية على الرغم من احتجاجات شباب الثورة. ولكن بمرور الوقت تباعدت المصالح الأساسية للجيش والإخوان: المجلس العسكرى يريد ضمان مصالحه الاقتصادية ووضعه فوق القانون والسياسة، فى حين أن الإخوان يريدون السلطة لكى يحكموا مصر وبالتالى إضفاء الشرعية على أجندتهم الإسلامية، وبدا هذا الصراع جليا فى رفض الإخوان للإعلان الدستورى رقم 63 الذى أصدره المجلس العسكرى والذى يعطى للمجلس حق النقض على الدستور الجديد ومنع الرئيس والبرلمان من الاطلاع على تفاصيل الميزانية العسكرية، ورفضهم من قبل «المبادئ فوق الدستورية» فيما عرف بوثيقة السلمى. وكانت أخطر أزمات المرحلة الانتقالية فى يونيو 2012، عندما قررت المحكمة الدستورية العليا، التى عينها مبارك ويعتقد أنها تعمل بالتنسيق مع الجيش، حل البرلمان، حيث ظهرت الطموحات السياسية الحقيقية للمجلس العسكرى، وما اعتبره كثيرون محاولة جديدة من الجيش لإعادة الحكم الاستبدادى، وإعداد المسرح لصالح مرشح الرئاسة الفريق أحمد شفيق، قائد القوات الجوية السابق، والذى طرح شعارات إعادة القانون والنظام. وزاد المجلس العسكرى من الشكوك حول نواياه فى تسليم السلطة عندما أعاد مبادئ وثيقة السلمى قبل الانتخابات الرئاسية بالإعلان الدستورى المكمل الذى أعاد فرض الأحكام العرفية، وحصن القرارات العسكرية من المساءلة، وأعطى هيمنة للعسكر على النظام السياسى، وقلص صلاحيات الرئيس وأقصاه من رئاسة المجلس العسكرى، كما أعلن المجلس أيضا عن إنشاء مجلس الدفاع الوطنى، وعين غالبية أعضائه من العسكريين. وبعد فترة من المناورات والمفاوضات المكثفة بين المجلس العسكرى وجماعة الإخوان من وراء الكواليس، أعلن فى أواخر يونيو عن فوز محمد مرسى، مرشح الإخوان، فى الانتخابات الرئاسية، ووعد مرسى بأن يكون رئيسا لكل المصريين وبتعيين حكومة وحدة وطنية، ووعد الجيش بالعودة إلى ثكناته، ومع هذا ما زالت العلاقات الطموحة بين العسكر والإخوان غير مؤكدة. تعتمد احتمالات التغيير الجدى فى مصر -أى بناء ثقافة ومؤسسات ديمقراطية- بدرجة كبيرة على مواقف وإجراءات الجيش الذى ظل متمتعا بوضع مريح مع الإدارة السياسية وطبيعة النظام السياسى على مدى السنوات الستين الماضية منذ قيام ثورة يوليو 1952، وشهدت تلك الفترة لحظات من التوتر بين النخب السياسية والعسكرية، لكن أيا من تلك الأزمات الصغيرة لم يمثل تهديدا لإعادة تحديد طبيعة النظام السياسى، فقد اختلف عبدالناصر وعبدالحكيم عامر حول من يكون صاحب الكلمة العليا فى صنع القرار، ودخل السادات وقادة «مراكز القوى» فى صراع على السلطة السياسية فى 1971، وأقال مبارك وزير الدفاع عبدالحليم أبوغزالة عام 1989، ليس فقط بتهمة الفساد ولكن أيضا لأن أبوغزالة بدا منافسا على السلطة، أما المشير طنطاوى وقادة الجيش فنحوا مبارك جانبا فى 2011 من أجل الحفاظ على النظام وليس إسقاطه، وبالتالى لم تكن العلاقة بين الجيش والقيادة السياسية سلسة دائما، لكنهما تعايشا كشركاء، ويتمثل التحدى المقبل فيما إذا كان الجيش يستطيع الالتزام بأنواع التغييرات المنهجية التى ستطبقها الحكومة والبرلمان تحت قيادة الإخوان المسلمين فى مرحلة التغيير الثورية للنظام والتى بدأت بانتفاضة ميدان التحرير. وهناك على الأقل أربعة محددات مفيدة فى تقييم قبول الجيش للتغيير السياسى، أهمها طبيعة الإدارة السياسية والنظام المسيطر الذى سيظهر فى الشهور المقبلة وتحديدا فيما يتعلق بالوضع المستقل للجيش فى المجتمع والحفاظ على نظام علمانى، وفى الوقت الحالى هناك شكوك كبيرة فيما إذا كانت الانتخابات البرلمانية الجديدة ضرورية، وفى الظروف التى يتم خلالها صياغة دستور جديد، وما إذا كان العنف فى الشوارع والضغوط الشعبية ستؤثر على الانتقال إلى حكم مدنى، وكل من هذه القضايا سيشكل الخيارات التكتيكية للجيش، وسيؤثر على الاتجاه المستقبلى للسياسة وطبيعة الدولة المصرية، وعلى الصعيد الاستراتيجى سيقيم الجيش مسار إجراءاته على هذه القضايا وما يتصل بها وفقا لمقياس بسيط: هل المسار المقترح سيؤدى إلى تغيير جذرى فى النظام بطريقة تضعف مكانة الجيش ودوره فى المجتمع؟ لا ينبغى الخلط بين مصلحة الجيش فى طبيعة النظام أو أنه يصر على أن يحكم فعليا، وستيفن كوك، الباحث فى مجلس العلاقات الخارجية، كان محقا عندما قال منذ سنوات إن الجيش يريد أن يسيطر ولا يريد أن يحكم، وما زالت تلك الحالة كما هى اليوم، على الرغم من أن حركة الالتفاف المؤقت التى قام بها المجلس العسكرى ليحكم الدولة فعليا، (والواقع أن هذه التجربة عززت نفور الجيش من السياسة)، ورغم أن المجلس العسكرى لم يرغب فى الحكم، إلا أنه أراد الاحتفاظ بالسلطة خاصة فيما يتعلق بصياغة الدستور لكى ينشئ إطارا مؤسسيا يحافظ على الطبيعة العلمانية للدولة، بغض النظر عمن ينتخب فى البرلمان والرئاسة.
والنظام المريح للجيش سيبدو مشابها للنظام القائم طوال العقود الماضية حيث سادت درجة من الفوضى الديمقراطية: برلمان عالى الصوت ورئيس جديد يحاول الحكم ولكن تحت عيون الجيش اليقظة والمتشككة، والقضاء يستعرض عضلاته قدر ما يستطيع لضمان استقلاله، والمجتمع المدنى سيظل مضطربا، وكل هذا من شأنه أن يخلق حالة ارتياح للجيش، خاصة إذا تمحور النشاط السياسى على القضايا المحلية والاقتصادية والاجتماعية وما شابه ذلك. وهناك مسألة أخرى ذات صلة بالجيش هى الدرجة التى ستتأثر بها شركاته ووضعه الذى حدده لنفسه كما جسدته ثورة 1952، فبالنسبة لجيش لم يقاتل منذ عام 1973- باستثناء دور مصر فى حرب الخليج عام 1991 الذى كان شبيها بحملة عسكرية- يحافظ ضباط الجيش المصرى على روح العمل الجماعى إلى حد كبير على أساس دوره التأسيسى فى التاريخ الحديث للبلاد، وعندما أدرك شباب المتظاهرين فى ميدان التحرير هذا فى بداية انتفاضة يناير 2011، كانت إيماءة تكتيكية رائعة لأهم اللاعبين على المسرح السياسى وقتها، وبعد ثمانية عشر شهرا أدرك الشباب والجيش أن هذا الاعتراف لم يعد من السهل تأكيده، لكنه يظل مهما بالنسبة للجيش. ومن الناحية العملية سيحدد الجيش هذه المسألة على أساس مدى الاستقلال الذى يحتفظ به فى ميزانية الدولة وفى تحديد سياسة الأمن القومى، ولن يسمح الجيش بسيطرة مدنية على ميزانيته، ويرفض أى محاولة من المدنيين لممارسة الرقابة عليها، وبما أن هذا هو المعيار الأساسى للتطور الديمقراطى فمن المؤكد أن يحدث صدام كبير حول تلك القضية فى الفترة المقبلة. وبالنسبة لسياسة الأمن القومى سيكون معظم أعضاء مجلس الدفاع الوطنى الذى تم إحياؤه مؤخرا من العسكريين، ومن المتوقع أن يتمتع الرئيس الجديد بمساحة حركة فى بعض جوانب السياسة الخارجية، مثلما كان يسمح مبارك لوزارة الخارجية بالقيام بدور مستقل تقريبا فى بعض الأحيان، لكن الجيش سيرسم الخط الفاصل حول القضايا التى تؤثر مباشرة على الأمن القومى، وهذا يعنى -عمليا- دورا ضخما للجيش فى القضايا المتعلقة بإسرائيل وليبيا والسودان وإيران والتعاون المخابراتى والعلاقات الأمريكية، والحد النهائى بالنسبة للجيش سيكون إصراره على امتلاك حق الاعتراض على أى قرار بنشر قوات أو إعلان الحرب. وبالإضافة إلى الاستقلالية النسبية للجيش فيما يتعلق بإمبراطوريته الاقتصادية والأمن القومى، هناك محدد ثانٍ لتوجهات الجيش هو السياسات الفعلية التى تتبعها الحكومة الجديدة، حيث أوضحت المؤسسة العسكرية أنها لن تؤيد العودة إلى حالة الحرب مع إسرائيل، وقد كانت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والعلاقة بينهما -على الرغم من جميع مشاكلها وانعدام شعبيتها فى الشارع- حجر الزاوية فى الرؤية الاستراتيجية لمصر على مدى العقود الثلاثة الماضية، وليس من الوارد تغيير هذا التوجه فى المستقبل المنظور، والجيش لن يمانع فى فتور العلاقات أو اتخاذ موقف دبلوماسى متشدد تجاه إسرائيل، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والقضية النووية، لكنه سيرسم خطا عميقا فى الرمال عندما يتعلق الأمر باتخاذ خطوات أحادية الجانب لتغيير أو إلغاء المعاهدة. المحدد الثالث لموقف الجيش هو طبيعة التشريعات التى يعتمدها البرلمان وتدعمها السلطة التنفيذية، فقد كان الجيش يتوجس دائما من مواقف وأنشطة المجتمع المدنى، واتخذ خطوات على مدى سنوات لاستئصال خلايا الإسلاميين واليساريين فى وسائل الإعلام والاتحادات والنقابات المهنية فيما يشبه الحنين لسياسات عبدالناصر، وسيكون ذلك أصعب فى الفترة المقبلة، لكن التزام الجيش بمواجهة المتطرفين لن يلين على الأرجح، وفى هذا الصدد سيراقب الجيش عن قرب ميول التشريعات سواء نحو مزيد من التشدد الإسلامى أو سياسة اقتصادية واجتماعية متعارضة. والمحدد النهائى هو مواقف شركاء وأعداء مصر، فعلاقة الجيش بالولايات المتحدة لها أهمية خاصة، ليس فقط بسبب المساعدات الأمريكية ولكن أيضا بسبب تعاونها فى التدريب والعقيدة ومبيعات الأسلحة، منذ سبعينات القرن الماضى يعيش الجيش المصرى عملية انتقال طويلة من العقيدة والسلاح والتدريب السوفيتى، وهذه العملية لم تكتمل بعد، والجيش بعد أن ارتبط بالأسلحة الأمريكية يمكن أن يعود مرة أخرى، ويمكن أن تكون هناك أسلحة جاءت من موردين آخرين، واستمر استيعابها فى المخزون، ولكن ببساطة هناك كثير من المعدات الأمريكية التى يمكن تقديمها لضباط الجيش لكى يدرسوا بعناية فكرة تغيير الراعى الأول. هل هذا يعنى أن الولايات المتحدة يمكنها الاحتفاظ بالقدرة على التأثير فى مصر من خلال رغبة الجيش فى الحفاظ على العلاقات العسكرية؟ الإجابة ليست أكيدة، ومن جانب آخر سيكون وقف المساعدات الأمريكية كارثيا للجانبين، يبقى الحوار الثنائى صحيا، ولكن -مثلما أظهرت أزمة المنظمات غير الحكومية أوائل عام 2012- يمكن أن تتكرر المناورة الحكومية فى تلك الفترة الانتقالية فى كل جوانب العلاقة مع الولايات المتحدة، وبالتالى ينبغى أن تكتسب الولايات المتحدة بعض النفوذ نتيجة لاستمرارها فى تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية، لكن هذا النفوذ ستكون قيمته أقل مما يتصوره كثيرون فى الولايات المتحدة. العامل الأكثر أهمية فى تحديد الهوية السياسية لمصر بعد الثورة سينتج عن العلاقة بين القادة العسكريين والقادة المدنيين المنتخبين حديثا، خاصة الرئيس مرسى، وأموال المساعدات والدعم الأجنبى ستكون مفيدة لمعالجة قضايا حقوق الإنسان والخلل الاقتصادى لكنها لن تفعل شيئا يذكر لتحقيق الاستقرار أو إدارة المناخ السياسى، وبالتالى ستتيح الخطوات التالية فى عملية الانتقال، خاصة صياغة الدستور الجديد، عدة فرص لمرسى -مثلما كان الحال مع عبدالناصر والسادات ومبارك من قبله- لكى يحاول تحقيق مكاسب على حساب الجيش ويعيد هيمنة مكتب الرئيس، وهذا الصراع الداخلى على السلطة سيكون العامل الأكثر أهمية فى نهاية المطاف فى تشكيل مسار الديمقراطية فى مصر. الوطن |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|