كونوا رحماء
6: 27- 38
أقول لكم أيها السامعون: "أحبوا، أحسنوا، باركوا، صلّوا".
لا يتوجّه يسوع في هذا المقطع إلى جمهور الشعب، بل إلى الذين يسمعونه. والتلميذ هو الذي يسمع. والنداء الى "محبة الأعداء" هو أعظم جديد في تعليم يسوع.
في التوراة ظلّ حب القريب مركّزاً على الأخ وابن العم وابن القبيلة. ومحبة العدوّ ظلّت مدلولاً جهله العالم اليهودي. في الإنجيل، يتّخذ لوقا منحى خاصاً حين يعطي مفهوم المحبة مدى جديداً. لم يعد السؤال: "من يجب عليّ أن أحب"؟ بل: "كيف أحب ذاك الذي ألتقي به"؟ هذا ما فعله السامري مع الرجل الذي وقع بأيدي اللصوص.
غير أن المحبة هي أكثر من عاطفة. إنها تصرّف ملموس. حين نحبّ نعطي الآخر ما يحق له أن يناله مني. لهذا ترافقَ حبُّ الأعداء مع إرشادات عملية: "أحسنوا (اصنعوا الخير) إلى من يبغضكم".
نلاحظ في كلمات يسوع هذه تدرّجاً في المتطلبات، يصل بنا إلى أن نحوّل الوجه الآخر للذي يلطمنا على خدّنا. ونتساءل بحق: أما نحن أمام تضخيم عرفته الآداب القديمة؟ هل نحن مجبرون على فهم هذا الكلام بحرفيّته؟ فيسوع نفسه، حين لطمه أحد حرّاس رئيس الكهنة، لم يقدّم الوجه الآخر، بل طلب تفسيراً: "إن كنت أخطأت في الكلام، فقل لي: أين الخطأ؟ وإن كنت أصبت (تكلّمت حسناً)، فلماذا تضربني" (يو 18: 23)؟
يريد يسوع أن يشدّد على انقلاب جذري، على تحوّل تام في علاقاتنا. ويبقى أن بعض الأشخاص في ظروف غير عادية، يستطيعون أن يطبقّوا حرفياً هذه الكلمات.
كان هلاّل معلّماً كبيراً في العالم اليهودي. جاءه وثني يريد أن يسمع التوراة كلها وهو واقف على رجل واحدة (أي: في مدة قصيرة). أجابه: "لا تصنع بالغير ما لا تريد أن يصنعه الغير بك". هذا هو مبدأ حكمي، فيه يصبح حبّ الذات قاعدة لحبّ الآخرين. ولكن يسوع تجاوز منطق العقل السليم، فربط حبّ الأعداء بتصرّف الله نفسه.
بدأ فوعد الذي يحبّ بهذا الشكل، بالمجازاة العظمى لدى الله. ثم ربط هذه المجازاة برباط خاصّ بين الإنسان الذي يحبّ العدو، والله الذي هو صالح للأشرار وناكري الجميل. كونوا رحماء "كما" (أن الله رحيم). هنا تتجذّر الممارسة المسيحية: في رحمة الله، في حبّ الآب كما أوحي لنا في يسوع المسيح.
كلمات يسوع قاسية فلا نريد أن نسمعها. صعبة فلا نريد أن نمارسها. وقد نفهمها آتية من عالم الخيال. أو برنامجاً مستحيلاً يساعدنا على إدراك المسافة التي تفصلنا عن الله. في الواقع، بدأت هذه الكلمات تتحقّق في يسوع الذي أحبّ جميع البشر، الذي غفر على الصليب للذين قتلوه: "إغفر لهم يا أبتِ، لأنهم لا يدرون ماذا يعملون" (لو 23: 34).
ونحن، ما يكون موقفنا؟ بيّن يسوع أن حبّ الأعداء، وإن صعباً، هو متطلّبة ضرورية لمن يريد أن ينال غفران الله. ففي حب الأعداء، لا يلعب التبادل دوره كما في العلائق البشرية. فلا ننتظر رداً أو جواباً من البشر. نحن نستردّ "ديوننا" من الله لا من البشر.
هذا النصّ هو جدار يصطدم به اندفاعنا نحو القداسة أو أقلّه نحو حياة مسيحية. أن نحب عدونا؟! أن نقدّم الوجه الآخر؟! أن نقدم قميصنا لمن أخذ الرداء؟! أن نقرض الآخر بدون كفالة؟! أن لا ندين؟!
ونقول: هذه الأمور ليست لنا. أو نحاول أن نفهم ما يريد يسوع أن يجعل منا: جبناء، مباهيل!
وتشعّ كلمة الإنجيل: تكونون أبناء الله. كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي رحيم. إن يسوع يطلب منا أن نقتدي بالآب السماوي.
وليس هذا بحبّ ضعيف. ويسوع لا يدعونا إلى أن نقتل فينا كل ردّة فعل تجاه الشتم والضرب والسرقة. إن حبّ الله يجعلنا نفتح عيوننا على الشّر، ويعلّمنا أن نحاربه. ولكن بطريقة تختلف عمّا في العالم. لا نقع في التجربة بأن نقلّل من حبّنا أو نمتنع عن الحب. بل أن نحب ونزيد حبنا حباً. هذا جنون؟ بل هذا شيء عظيم جداً. وهكذا تتحطّم كل الحواجز وتُلغى الحدود. فلا حدود لحبّ الله. أما نحن فنضع الحواجز والحدود. هذه الحرب التي دعينا إلينا، ليست بحرب بسيطة.
إن الذين يتعدّون علينا أو يريدون أن يستغلّونا، يجدون صعوبة في الحياة. ولن يخرجوا من هذه الصعوبة إلا اذا اكتشفوا حباً اقرى من ضيقهم وما فيه من شّر. الله لا يرذلهم. الله لا يرذل أحداً. هذه هي الحقيقة التي يجب أن ندخلها في قلبنا وفي عقلنا. فإن رذلتُ أحداً لا أكون مع الله، لا أكون في حبّ الله.
يجب أن لا أتخفّى عن حب الآخرين واحترامهم حتى وإن دفعتني الأمور لكي أعامل الآخر بالمثل، أعامله بشريعة "سن بسن وعين بعين". ولكن حين أخسر الحبّ، أخسر كل شيء بالنسبة إليّ، وكل شيء بالنسبة إله، لأنني لن استطيع بعد ذلك أن أجتذبه بالحب. وحده الحب يجتذب الإنسان إلى الحب.
وحين أتجذّر في الحب، سأجد السلام الذي هو ثمرة من ثماره. وأجد أيضاً القوة التي هي ثمرة الحب الأخرى. وسأحتاج إلى هذه القوة لئلا أردّ على الشتيمة بالشتيمة. هنا نعود إلى الينبوع الداخلي الذي فيه أجد الله. وأصرخ إليه في الأوقات الصعبة وأجد إليه يدي طالباً: "ساعدني فأنا أريد أن أكون ابنك".
ويقولون: سيبقى العدو عدواً والبغيض بغيضاً! ربما. وقد تكون هناك انقلابات في حياة هذا أو ذاك. ومهما يكن من أمر، فحيث كاد الحب أن يُقهر، فقد ظهر في كل عظمته، وزاد الحب في قلبنا وفي العالم.
أنت تعلم يا رب ما صنعه معي أخي. ولا أستطيع أن أرسل رسالة أغفر له فيها. هذه الرسالة موجودة في فكري كلها. لو كتبتها لعشتُ أنا وعاش هو من جديد. ولكن حين أفكّر بما صنعه معي، تعود أمواج البغض إلى قلبي. أعود وأرى كل شيء. لمَ الصلاة اذا كنت لا أستطيع أن أترك أفكاري وأتعلّق بأفكارك؟ إجتذبني إلى طريقتك في النظر إلى الأمور، وإلا لن أغفر أبداً. يا رب، أريد أن أغفر. وإن توصّلت إلى ذلك منحَت السعادة ثلاثة أشخاص: لي ولك وله. وهكذا أجدك من جديد في الصلاة. صلاتي مريضة في هذا الوقت يا رب. كيف أقول "أبانا الذي في السماوات"؟ خلّصني من نفسي، نجّني من ذاتي، وأعِد إليّ حياة الصفاء والسعادة في غفران أعيشه اليوم