رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
في ذلكَ الوقتِ تكلَّمَ يسوعُ فقال: أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار. تشير عبارة "في ذلكَ الوقتِ" الى ما بعد رفض مدن بحيرة طبرية قبول بشارة يسوع المسيح (متى 11: 20 -24)، أمَّا بحسب انجيل لوقا فتشير الى ما بعد رجوع التلاميذ السبعين وإبلاغهم يسوع بخضوع الشياطين لهم باسمه (لوقا 10: 21). أمَّا عبارة "تكلَّمَ يسوعُ" في الأصل اليوناني"ἀποκριθεὶς ὁ Ἰησοῦς εἶπεν" (معناها قال يسوع مُجيبا) فتشير الى جواب يسوع على الكتبة والفريسيين (لوقا 5: 17) الذين قاوموه أشد المقاومة مُعتبرين أنفسهم حكماء وأذكياء فرفضوه ورفضوا الإيمان به. أمَّا عبارة " أَحمَدُكَ " في الأصل اليوناني (Ἐξομολογοῦμαί) (معناها اعترف، والاعتراف لا يخصّ الخطأة فحسب بل يخصّ أحيانًا الذين يسبّحون الله أيضًا) فتشير الى الحمد الذي ينوّه بشخصية الله أكثر منه بعطاياه وتؤدَّى له مجد فيما يُعترف بعظمته كما جاء في نشيد أشعيا النبي " لِيُؤَدُّوا المَجدَ لِله ويُخبروا بحَمدِه "(أشعيا 42: 12)؛ وهذا الاعتراف يشير هنا الى مباركة يسوع للآب وشكره وحمده وتسبيحه ليس من اجل الاحسان بل من اجل رحمته ورعايته الخاصة على عظمة النعمة الممنوحة للمتقبلين هذا الوحي. والمتقبلون هذا الوحي بقلب متواضع هم الصغار لا الحكماءوالأَذكِياء (كتاب التعليم المسيحي 544). ويتكلم المسيح هنا ويشكر كرأس للكنيسة جسده السرّي على ما حصلت عليه. أمَّا عبارة " يا أَبَتِ" فتشير الى علاقة الآب بالابن، والنعمة الفريدة التي حصل عليها أولئك الذين نعموا بهذا الوحي. أمَّا عبارة "رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض" فتشير الى المقطع الوحيد في الإنجيل الذي يستعمل فيه يسوع هذا اللقب الرسمي. الآب السماوي هو الخالق القادر على كل شيء وسيدِّ العالم، وهو الذي يُدير العالم الفسيح بكائناته الخاضعة له. أمَّا عبارة " على أَنَّكَ أَخفَيتَ" فتشير الى إخفاء الحق عن بعض الناس وإظهاره للصغار. ويخفي الله ذلك غالبا بعد منحه إياهم النعمة التي تقودهم على قبول الحق تاركاً إياهم في العمى الذي هو ثمرة خطيئتهم وقساوة قلوبهم. إذ سمح الله ان يُخفي عنهم كبرياءهم وعُماهم الاختياري الحق الإنجيلي؛ أمَّا عبارة "هذه الأَشياءَ" فتشير الى "السر" (دانيال 2: 29)، اي اسرار الانجيل الخاصة بملكوت السماوات (متى 13: 11)، ومعرفة الحق (2 قورنتس 4: 3). وهذا ما اوضحه يسوع الى نيقوديمس: "أَأَنتَ مُعلِّمٌ في إِسرائيل وتَجهَلُ هذِه الأَشْياء؟ الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: إنَّنا نتكلَّمُ بِما نَعلَم، ونَشهَدُ بِمَا رَأَينا ولكِنَّكُم لا تَقبَلونَ شَهادَتَنا (يوحنا 3: 10 -11). إن "اسرار الملكوت" هي عبارة مألوفة في الأدب الرؤيوي المعاصر ليسوع، وهي تدل على حكمة الله ومشورته وأسراره وتدبيره فيما يخص الخلاص سواء على المستوى العام للناس كلها أو تدبير الله للشخص نفسه كما يقول بولس الرسول "أَمَّا نَحنُ فلَنا فِكْرُ المسيح" (1كو2: 16)، وتدل أيضا على ما في الله من تدابير خفيّة تتعلّق بآخر الأزمنة. أمَّا عبارة "أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار " فتشير الى لغة رؤيويه لها اصداؤها في سفر دانيال. إذ عجز "الحكماء" عن تفسير حلم نبوخذنصر (دانيال 2: 3-13)، في حين ان سرّه كُشف لدانيال الذي ابتهل الى إله السماء (دانيال 2: 18-19) والذي سبّح الله لأنه وهبه الحكمة " إِيَّاكَ احمَدُ يا إِلهَ آبائي وإِيَّاكَ أُسَبِّح لِأَنَّكَ وَهَبتَ لِيَ الحِكمَةَ والقُدرَة " (دانيال 2: 23). هذه الأشياء (اسرار الملكوت) بقيت عند الفريسيين والكتبة عقيدة محجوبة عنهم، يتجادلون بها بدون جدوى. وكان ينبغي عليهم ان يروا فيها كلمة لله بهذا المعنى حسب قول بولس الرسول" فلَمَّا كانَ العالَمُ بِحِكمَتِه لم يَعرِفِ اللّه في حِكمَةِ اللّه، حَسُنَ لَدى اللّه أَن يُخَلِّصَ ألمُؤمِنينَ بِحَماقةِ التَّبشير" (1قورنتس 1: 21). وفي الواقع اختار يسوع تلاميذه الاوائل من الصغار أي من بين الناس العاديين ومتوسطي الحال. أمَّا عبارة "الحكماء والأَذكِياء" فتشير الى الكتبة والفريسيين المتكبِّرين، حكماء هذا الدهر الذين يقتنعون بحكمتهم البشرية وفي ظاهر الشريعة " فلَمَّا كانَ العالَمُ بِحِكمَتِه لم يَعرِفِ اللّه في حِكمَةِ اللّه" (1 قورنتس 1: 21). هم حكماء في عيون أنفسهم ويدّعون معرفة الله بالاعتماد على قواهم الذاتيّة ويعتقدون أنهم ليسوا بحاجة إلى أي شيء وفيهم قال بولس الرسول: "لاَ يَخْدَعَنَّ أَحَدٌ نَفْسَهُ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ حَكِيمٌ بَيْنَكُمْ فِي هذَا الدَّهْرِ، فَلْيَصِرْ جَاهِلاً لِكَيْ يَصِيرَ حَكِيمًا!" (1قورنتس 3: 18). وهم يسلكون بدون تواضع ويعتقدون أنَّهم يعرفون اسرار الملكوت كما جاء في رسالة بولس الرسول " زَعَموا أَنَّهُم حُكَماء، فإِذا هم حَمْقى" (رومة 1: 22)، لذلك هم لا يقدرون أن يدخلوا طريق المعرفة الإلهية الحقة. فهم لا يعرفون، لانَّ هذه المعرفة الحقيقية هي معرفة الانسان نفسه وهي عطية إلهية، وقد ظنّ الحكماء والاذكياء في أنفسهم أنهم نور لكنهم في الواقع هم ظلمة. ولم يستطيعوا أن يستضيئوا، ويُعلق القديس اوغسطينوس " لتعترف أنك لست نورًا لنفسك بل بالحقيقة أنك عين لا نور، وما فائدة العين حتى المفتوحة والسليمة دون وجود نور؟ ولتصرخ كما هو مكتوب: " لأَنَّكَ أَنت تُوقِدُ سِراجي إِلهي أَنِرْ ظُلْمَتي" (مزمور 18: 29). لأني كنت بكلّيتي ظلمة ولكنك أنت هو النور الذي يُبدّد ظلمتي ويُنير لي. أنا لست نورًا لنفسي، ليس لي نصيب في النور إلاّ بك!". أمَّا عبارة "كشفتها" فتشير الى وحي الله وقد أوضح يسوع الى بطرس هذا الامر " طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 16 :17). وأمَّا عبارة "الصِّغار" في اليونانية " νήπιος (معناه الأطفال) فتشير الى الأطفال بالروح الذين يضعون أنفسهم في وضع القبول التامّ، والإصغاء، والثقة، وهم منفتحون لقبول كلمة الله ووحيه وحكمته بتواضعهم وبساطتهم ووداعتهم فيدخلون باب المعرفة الحقيقيّة خلال اتّحادهم بالسيّد المسيح نفسه. من يعترف أنه جاهل يعطيه الله حكمة وفهم قلب، لذلك اختار المسيح تلاميذه من البسطاء المتواضعين كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلا يَخدَعَنَّ أَحَدٌ نَفْسَه، فإِن عَدَّ أَحَدٌ مِنكُم نَفْسَه حَكيمًا مِن حُكَماءِ هذه الدُّنيا، فَلْيَصِرْ أَحمَقَ لِيَصيرَ حَكيمًا " (1 قورنتس 3: 18) فالصغار ههم في الدرجة الأولى هم تلاميذ المسيح الذين سلموا إليه ذواتهم (متى 10: 42) وهم كالأطفال في صفاتهم الأدبية في التواضع والوداعة ووفي المعرفة ( ( 1 قورنتس 2: 6) وكُشف لهم سر الملكوت (متى 13: 11)، أمَّا في انجيل يوحنا فالصغار هم الودعاء الذين يؤمنون ويؤلفون الجمع (يوحنا 7: 47) وهذا ما يؤكده بولس الرسول "فاَعتَبِروا، أَيُّها الإِخوَة، دَعوَتَكم، فلَيسَ فيكم في نَظَرِ البَشَرِ كَثيرٌ مِنَ الحُكَماء، ولا كَثيرٌ مِنَ المُقتَدِرين، ولا كَثيرٌ مِن ذَوي الحَسَبِ والنَّسَب" (1قورنتس1: 26)، وأمَّا الحكماء والاذكياء فيشار إليهم برؤساء الشعب اليهودي والفريسيّين (يوحنا 7: 47). لقد رضى الرب عن صغار هذا العالم لا عن كباره. الله يختبئ امام المتكبرين الذين يظنون انهم أكثر فهما وعلما من غيرهم، في حين يظهر الله امام المتواضعين ويكشف ذاته للفقراء. كما جاء في نشيد مريم العذراء "حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 52). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|