عجز الإغراء وشجاعة دانيال
فإذا عجز الإغراء ، سواء فى الأطايب أو فى المركز ، عن إسقاط الرجل ، فإن الامتحان القاسى يكون فى الجب مع الأسود ، ويكون فى الشيخوخة أمام ضعف الجسد ووهنه ، ... وهنا تصل الشجاعة إلى ذروتها الحقيقية ، وتحكم العزلة النبيلة الرجل ، . كان ديموستينيس أخطب خطباء اليونان ، وقد عجز الأعداء عن أن يسكتوا فصاحته بأية صورة من الصور ، فما كان منهم إلا أن رشوه ، وإذا به يتلعثم ، وعندما سأل البعض عن سر لعثمته هذه ، ... قال آخرون : لقد بح صوته من الذهب ، ... أما صوت دانيال فقد ارتفع فوق صوت الذهب ، وزئير الأسود ، ... لقد وقف دانيال ضد الفساد والرشوة : « ثم أن الوزراء والمرازبة كانوا يطلبون علة يجدونها على دانيال من جهة المملكة ، فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنباً لأنه كان أميناً ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب ، فقال هؤلاء الرجال لا نجد على دانيال هذا علة ألا أن نجدها من جهة شريعة إلهه » " دا 6 : 4 و 5 " كان هؤلاء الرجال يرفعون ملوكهم إلى درجة العبادة ، كما فعلت روما فيما بعد ، إذ كان الاعتقاد أن الآلهة تسكن الملوك ، ومن ثم فهم جديرون بالعبادة ، ومن لا يعبدهم فإنما يحتقرهم ويحتقر الآلهة التى يمثلونها ، وكان هذا هو الشرك الذى نصب بذكاء ودهاء لداريوس الملك ، وسقط فيه ، وهو لا يعلم ، ... ولكن دانيال وإن كانت علاقته بالملك قوية وكريمة ، إلا أنها تقف عند حد لا يمكن أن تتجاوزه ، فهو يعطى لداريوس ما هو لداريوس ، ويعطى للّه ما هو للّه ، .. وهو يعلم طوال حياة السبى ما بين السابعة عشرة ، والتسعين من العمر ، أن اللّه جعله بين المسبين قوة ومثالاً ، ... وهو لا يمكن أن ينحرف قيد أنمله عن هذه الحقيقة .
كانت عادته الدائمة التى لا يمكن أن يقلع عنها هى الصلاة ثلاث مرات يومياً والكوى مفتوحة تجاه أورشليم حيث هناك قلبه وعقيدته ودينه وإيمانه ، وهو لا يستطيع أن يغلق النافذة ، وقد جعله اللّه شاهداً ، ولا مانع عنده من أن يكون شهيداً ، وخير له أن يموت دون أن يجدوا فيه علة إلا من جهة شريعة إلهه ، من أن يعيش وقد سقطت شجاعته ومثاليته أمام الكلدانيين والمسبيين على حد سواء !! ... لقد عاش الرجل فى جاهه منعزلا عن أسلوب الأخرين من القادة ، ... وكان أميناً ونبيلاً فى هذه العزلة أيضاً !! ... إن قصته على الدوام تذكرنا بقول الرسول : « لا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » " رو 12 : 2 " « لأنه أية خلطة للبر والإثم . وأية شركة للنور مع الظلمة وأى اتفاق للمسيح مع بليعال . وأى نصيب للمؤمن مع غير المؤمن . وأية موافقة لهيكل اللّه مع الأوثان . فإنكم أنتم هيكل اللّّه الحى كما قال اللّه إنى سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً . لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم ، وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لى بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شئ» " 2 كو 6 : 14 - 18 " .