كانت شجاعة دانيال خارقة للعادة ، تلك الشجاعة التى لازمته طوال حياته ، والنابعة من مبادئه وتقاليده ، وأن أعظم شجاعة فى الحياة ، أن يكون الإنسان نفسه كما يعتقد ويريد ، لا أن يكون ممسوخاً فى وسط الآخرين ، يحاكيهم ويشاكلهم ، ويسير على دربهم فى الصواب والخطأ على حد سواء ، فإذا خلا إلى نفسه أنكر ما فعل أو برر قصته بأن ضغط الظروف أكرهه على ذلك ، ... كان دانيال شجاعاً فى السابعة عشرة من عمره وكان شجاعاً فى التسعين من العمر ، كان شجاعاً أمام الإغراء ، وكان شجاعاً أمام التهديد والوعيد ، ... كان شجاعاً وهو يرفض مائدة الملك ، وكان شجاعاً وهو يواجه عطايا الملك ، أو جب الأسود ، ... لم يتذبذب قط فى شجاعته أو يتراجع عنها ، أو يغطيها بما يقال إنه الحكمة أو ما أشبه من تعليلات الناس !! ... كان شجاعاً عندما وضعت أمامه أطايب الملك ، وهو صغير فى وسط مئات الشباب ، ممن يحلمون بمجد العالم ، وممن يسرعون إلى محاكاة بعضهم البعض ، أو ممن يستطيعون أن يعتذروا أمام أنفسهم ، بأنهم مكرهون ، ولا حرية لهم فى القول أو الاختيار كما يفعل آلاف الشباب على وجه الأوض ! وكان شجاعاً فى مواجهة بيلشاصر الملك ، وهو ممتلئ من الغضب والسخط المقدس ، عندما ادخل إليه فى حفله الذى صنعه لقواده وعظمائه ، وكان الحفل ماجناً معربداً ، وقد صنعه - على الأرجح - لسببين ، يقصد من ورائهما تقوية روح قواده وجنوده المعنوية . إذ أن عاصمته كانت فى ذلك الليلة محاصرة بقوات مادى وفارس ، وكان لابد لذلك أن يفعل شيئاً فى مواجهة الحصار فجمع العظماء والقادة إلى حفل كان فى واقع الأمر حفلاً دينياً يطلب فيه معونة الآلهة لشد أزره إزاء الجيوش المهاجمة ، وقد أراد أن يسترض آلهته هذه بأن يجعلها فوق جميع الآلهة والأديان . وفى الوقت نفسه أراد أن يثبت شجاعته ، ففعل الشئ الذى لم يجرؤ نبوخذ ناصر على فعله ، إذ تحدى إله إسرائيل بأن أمر بإحضار الآنية المقدسة التى أحضرها نبوخذ ناصر من الهيكل واستعملها فى الشرب واللهو والمجون . ... وعندما ظهرت له اليد التى تكتب على مكلس الحائط إزاء النبراس ، وفسر دانيال له الكتابة ، ... وأراد الملك مكافأته ، كان جواب دانيال : « لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيرى » " دا 5 : 17 " وهو جواب خشن خال من الزلفى والتملق ، وأكثر من ذلك وبخ الملك توبيخاً صارخاً إذ ذكره بما حدث مع نبوخذ ناصر ، وكيف أنه لما تكبر ولم يتعظ ، وارتفع قلبه وتعالى أمام اللّه ، أسقطه القدير على الصورة المفزعة ، إذ جعله حيواناً مثل أدنى الحيوانات !! .. ولم تتذبذب شجاعة دانيال قط ، وهو فى التسعين من عمره أو ما يقرب من ذلك وهو يواجه جب الأسود ، ويأبى أن يقفل كواه لمدة شهر ، ليصلى فى سره ، وقد كانت صلاته علنية أمام الجميه ، ... كان الرجل من أشجع الناس الذين ظهروا على وجه الأرض ، فى عصره وعلى مر التاريخ أيضاً !! .
لم تكن هذه الشجاعة نوعاً من الإندفاع ، أو الحماقة ، أو التهور ، أو التعصب ، أو ما أشبه - بل كانت تستند إلى المبدأ الصحيح المرتبط باللّه ، ... كان دانيال يؤمن بأن المؤمن إنسان يعيش فى العالم ، ولكنه ليس من العالم .... وهو إنسان يحيا مع الناس ، ولكنه لا يعيش كما يعيش الناس ، .. بل أنه لابد أن يحيا نوعاً من العزلة النبيلة التى لا تجرى مع تيار الأيام ، واندفاع العالم ، ... فإذا كانت أطايب الملك امتيازاً فى نظر غيره من الشباب ، فهى نجاسة عنده ، لقد كانت هذه الأطايب فى العادة نوعاً من اللحوم المحرمة على اليهودى ، أو التى كانت تقدم للآلهة الوثنية ، ويؤخذ منها الطعام فى القصر الملكى ، فليأكل غيره من الشباب منها ما طاب لهم ، ولو أكل جميع الشباب ، فإن هذا لا يغير من نجاستها وإثمها ، والتى تجعله ينفصل عن الجميع بالعزلة النبيلة ، وقد كان هذا الشاب عظيماً ، لأنه لم يحاول أن يسكت ضميره ، أليس له حرية الاختيار، وإذا كان رئيس الخصيان يخشى على رأسه فيما لو غير نظام أكلهم ، فكم بالحرى يكون الأمر بالنسبة للشاب نفسه أو زملائه الفتية الثلاثة ؟!! ... لقد أدرك دانيال أن النجاسة لا يمكن أن تعطيها اسماً آخر ، فهى نجاسة مهما يصورها الآخرون أو يعطونها من أسماء أو صور ، .... وهو أهون عليه أن يموت نبيلاً مقدساً ، من أن يعيش حيواناً منجساً ، ... وهو واثق تماماً من أن طعامه العادى أفضل وأجمل ، وأنه يعطيه من القوة أو الصحة ، مالا يمكن أن يجرها عند الآخرين !! .. وقد نجح دانيال منذ القديم فى هذا الامتحان !! .. والشجاعة عند دانيال لا يمكن أن يسكتها الجاه أيضاً ، فالجاه الحقيقى من اللّه ، وليس من ملك أو إنسان ، فإذا كافأه الملك بيلشاصر بأن « « يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب فى عنقه وينادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً فى المملكة » ... فإن جاه هذا الملك لن يأتى الليل قبل أن ينتهى ويذهب ، بمصرعه هو فى الأرض ، وهكذا الذين يبحثون عن جاه الملوك أو نفوذهم ، وهم لا يعلمون أن هذا الجاه - طال أو قصر - لابد سيذهب مع الريح ، إذ هو فى الحقيقة قبض الريح ، فى قول سليمان المشهور : « باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح » . والشجاعة الصحيحة ألا يرضى الإنسان بالجاه المزيف حتى ولو تدثر بالأرجوان أو جمل وساماً أو قلادة ذهبية مهما يكن منظرها ومظهرها أمام الناس !! ..