افرحوا مع المرأة التي أحببتم
يبدأ سفر الجامعة بهذا الكلام: باطل الأباطيل، كلُّ شيء باطل” (1: 2). من هو هذا المعلِّم، أو بالأحرى هذه المعلِّمة التي تتكلَّم في الجماعة؟ ولماذا الحياة هي عبث لا معنى لها ولا جدوى منها؟ لا البعض باطل، بل “كلُّ شيء باطل”. وتطرح السؤال: “أيُّ فائدة للإنسان من كلِّ تعبه، هذا الذي يعانيه تحت الشمس؟” (آ3) والجواب في نظر الكثيرين: لا فائدة. يكون الإنسان كمن يُمسك الريح بيديه (آ14) فالعالم هو هو ولا يتبدَّل. “الأعوج لا يمكن تقويمه، والنقص لا يمكن سدُّه” (آ15). لماذا التعب؟ لماذا بناء القصور وجمع الأموال وتكديس الفضَّة والذهب؟ لمن يكون كلُّ هذا بعد أن أترك هذه الدنيا؟ إلّا إذا أتى السارقون وأخذوه.
راح الجاهل الذي يقول في قلبه: “الله غير موجود”، راح يقول: البشر يتصرَّفون هذا التصرُّف ليمتحنهم الله ويريهم أنَّهم في حقِّ أنفسهم كالبهائم. كيف لا، ومصير البشر والبهيمة واحد، وما للإنسان فضلٌ على البهيمة، لأنَّ كليهما باطل. كلاهما يصيران إلى مكان واحد، وكلاهما من التراب وإلى التراب يعودان.” (جا 3: 18-20). أُغلقت السماء. أو بالأحرى أغلقناها ونظرنا إلى الأرض ورأينا أنَّ الحياة “أكل وشرب”، كما يلومنا الرسول. فإذا كانت الحياة تنتهي في القبر، لا يتميَّز الإنسان عن الحيوان كما تفعل بعض البدع في أيَّامنا، الحيوان لحم ودم والإنسان كذلك. إذًا نرميهما معًا! يا للتعاسة! وأنا أيضًا في هذا المناخ، أقول: باطل الأباطيل. ولكنَّ سفر الجامعة يستدرك حالاً: “ومن يدري؟ هل تصعد روح البشر إلى العلاء، وتنزل روح البهيمة إلى الأرض؟”
أجل، هذا هو الجواب الذي يرفع الإنسان إلى فوق، إلى الله، فلا يعود يحسب نفسه كالبهيمة، ولا يعود يقول: كلُّ شيء باطل، بل يهتف: “ترجع الروح إلى خالقها” (11: 7). فيسمع النداء: “اتَّقِ الله واحفظ وصاياه… لأنَّ الله سيحاسب كلَّ إنسان عمَّا عمله، خفيًّا كان أم ظاهرًا، خيرًا كان أم شرًّا” (آ13-14).
وبانتظار ذلك الوقت، وقت الدينونة واللقاء بالربِّ، يبقى على الإنسان أن يعيش بفرح. كيف ذلك؟ حين يعيش في الحاضر. فكلُّ عمل أقوم به الآن يكون مملوءًا من حضور الله. أضعُ كلَّ قلبي، كلَّ انتباهي في ما أقوله الآن وأعمله الآن. أترك الماضي لأنَّه مضى، ولست بقادر أن أبدِّل فيه شيئًا. كلُّ ما أستطيع هو أن آخذ منه العبر، وأتذكَّر حنان الله عليَّ. وبالتالي، أشكر وأتأكَّد أنَّ الذي فعل في الماضي يفعل اليوم وغدًا. وهذا “الذي بدأ فينا الأعمال الصالحة يتمِّمها إلى يوم ربِّنا.” والمستقبل؟ لم أصلْ بعد إليه. فلماذا أريد العيش فيه قبل أن يأتي؟ ومن يقول لي إنِّي أصل إلى المستقبل القريب أو البعيد؟ إذًا، لا أحاول أن أعرف ماذا سيكون لي في المستقبل، لئلاَّ أعيش في القلق، مع أنَّ الربَّ قال لنا: “لا تهتمَّ بالغد، فالغد يهتمُّ بنفسه ويكفي كلَّ يوم شرُّه” (مت 6: 34).
بعد كلِّ هذا، يأتي النداء. افرَحْ مع امرأة شبابك… هي باقية بقربك. ما أحلاكما تعيشان معًا وتشيخان معًا: أمّا الباطل، فحين تبحث عن لذَّة مع امرأة “اشتهيتَها” (خر 20: 17). أو تتزوَّج امرأة ثانية – ثالثة. وفي النهاية تبدو وكأنَّك تعيش وحدك، فيقول لك سفر الجامعة “تعيس من هو وحده.”
ماذا تقول له هذه “المعلِّمة”؟ “فاذهب، كُلْ خبزك بفرح، واشربْ خمرك بقلب مسرور. فما تعمله رضيَ الله سلفًا عنه. ولتكن ثيابك بيضاء (لا وسخة، بسبب الإهمال) في كلِّ حين، ولا يعوز رأسك الطيب (والعطور). تمتَّعْ بالعيش مع المرأة التي تحبُّها، كلَّ أيَّام حياتك…” (9: 7-9). لماذا نبكي حين يدعونا الله إلى الفرح، إلى العيش مع من نُحبّ. هناك من يقول: “أيَّامي باطلة” (آ9). كلُّها “تعب ومعاناة”. هو تعيس ويحبُّ التعاسة. فرح السماء يبدأ على الأرض. ومن لا يعرف الفرح على الأرض لن يعرف أنَّه في السماء حين يصلُ إليها في الآخرة. حبيبتك قربك. أولادك. عملك… فيقول سفر الجامعة: “كلُّ شيء حسن في وقته” (3: 11). إذًا، “ما من شيء خير للإنسان من أن يفرح ويتلذَّذ في حياته، وأنَّ هبة الله هي أن يأكل ويشرب ويجني ثمرة تعبه” (آ12-13). ما هذه الروح التي تقول لنا: “إذا حرمتَ نفسك من كلِّ شيء وإذا بحثت عن الألم لنفسك تكون بارًّا؟! لا وألف لا. فالرسول قال لنا: “كلُّ شيء لكم وأنتم للمسيح.” حين نكون للمسيح، لماذا لا نفرح بكلِّ ساعة من ساعات حياتنا؟ وتقول المعلِّمة: “ومهما يكن عدد السنين التي يعيشها الإنسان، فليفرح فيها كلِّها” (11: 8). وينطلق النداء إلى كلِّ واحد منَّا: “فافرح أيُّها الشابّ في صباك، وليبتهج قلبك في أيَّام شبابك. اسلك طريق ما يهواه قلبك وما تراه وتشتهيه عينك” (آ9). ولكن انتبه! “الله سيحاسبك على هذا كلِّه. يعني: تفرح. تتمتَّع تحت نظر الله يبقى عليك أن تنزع الغمَّ عن قلبك (آ10).
يفرح الإنسان حين يأكل خبزه مع امرأته التي يُحبّ وأولاده، ولو كان ذلك بعرق الجبين، ويفرح “بأعماله” (3: 22)، لأنَّ العمل ينمِّي الإنسان، يكبِّره، يجعل له مكانًا في المجتمع. بالعمل يواصل الإنسان عمل الله. فلماذا لا نفرح إذًا؟ بنينا البيوت وغرسنا الجنائن وساعدنا الذين حولنا بعمل أيدينا. إذًا، ما علينا إلاَّ الفرح. وكم يفرح الله حين يرى أولاده “في بهجةٍ يومًا بعد يوم، ضاحكين أمامه كلَّ حين”، كما يقول سفر الأمثال (8: 30).