رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بداية الأوجاع ومعناة الجوع
واضح هنا حالة طياشة الشباب والتسرع في الأمور، ففي بداية الكلام نجد أن الابن الأصغر يظهر كغلام عديم الفهم، وهو صاحب فكرة تقسيم المال، وهذا يوضح مقدار الجهل والطياشة التي تدل على عدم النضج وفقدان الحكمة، لأن الرجل البليد لا يعرف والجاهل لا يفهم [الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبلهم – أمثال 2: 15]، لذلك مكتوب: الابن الجاهل غم لأبيه ومرارة للتي ولدته؛ الابن الجاهل مصيبة على أبيه (أمثال 17: 25، 19: 13)؛ فالإنسان وحده – بسبب طياشة أفكاره واختياراته الغير متزنة – هوَّ من يطعن نفسه بأوجاع لا تنتهي، إذ يسير في طرق تظهر مستقيمة في عينيه [كل طرق الإنسان نقية في عيني نفسه والرب وازن الأرواح – أمثال 16: 2]، لأنه يراها طريقاً شرعياً من حقه أن يسير فيها بسبب حريته: توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت (أمثال 16: 25)، إذ مال قلبه – بتهور أفكاره – نحو رغبات أهواء نفسه، وشرد في مسالكها الرديئة، حتى طُرح فيها مطعوناً بجراحات عديدة غائرة مؤلمة للغاية، غير مدركاً أنه يسير في طريق الهاوية الهابطة إلى ظلمة الموت.
لا لكي يستثمره ويربح به، بل لكي ينفقه ويستمتع بشبابه ويفرح: النور حلو، وخير للعينين أن تنظرا الشمس. لأنه أن عاش الإنسان سنين كثيرة فليفرح فيها كلها، وليتذكر أيام الظلمة لأنها تكون كثيرة، كل ما يأتي باطل. أفرح أيها الشاب في حداثتك وليسرك قلبك في أيام شبابك، واسلك في طرق قلبك وبمرأى عينيك، واعلم أنه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة. فانزع الغم من قلبك وابعد الشر عن لحمك لأن الحداثة والشباب باطلان. (جامعه 11: 7 – 10)
وتنتهي بنتائج مفجعة تدمر حياته وتضعفه وتهبط به لمستوى التراب وتضيع كرامته وتفقده عزته وتسلب منه كل ما هو ثمين وغالي، ولا يبقى في النهاية سوى الخسارة والندم الذي لا يُفيد، لذلك مكتوب: بم يزكي الشاب طريقه، بحفظه إياه حسب كلامك؛ لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبراً. (مزمور 119: 9؛ أمثال 1: 4)
من الطبيعي حينما يأخذ الابن كل ماله من أبيه ولا يُبقي شيئاً، فأنه ينعزل عن أبيه وفي التو يصير منفرداً بذاته حُرّ نفسه، يسير وفق هواه الخاص متمماً رغبات قلبه دون أي تردد أو مشورة من أحد، إذ قد كان قراره منذ البداية (في قلبه وفكره) أن يترك بيته ومكانته الرفيعة، وهنا نجد الفضول الذي دفعه لاكتشاف عالم آخر بعيداً عن حضن أبيه، وهذا هو أساس جوهر المشكلة، بل هو مشكلة السقوط بوجه عام وأساس كل بُعد عن الله، لأنه وضع غريب وغير طبيعي بل وشاذ للغاية، لأنه من الواضح أنهُ خُدع بسبب المسرة الزائفة الوقتية الذي اعتقد أنه سيجدها ويتمتع بها وتدوم معهُ وتزيد مع الأيام، لأنه أراد لنفسه أن يمرح ويفرح ليُسعد قلبه، وهذا ما كان يدور في مخيلته كما نفعل أحياناً كثيرة جداً، لأن الظنون تعترينا وتصورات قلوبنا تخدعنا، لأن اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ مَنْ يَعْرِفُهُ! (إرميا 17: 9)، وهذا الفضول وجدناه عند آدم وحواء، حينما خدعتهم الحية وجعلتهما يتخطوا الوصية الإلهية، لكي يكتشفوا عالم آخر غريب عن عالمهم الخاص، ويدخلوا في معرفة لم يأمر بها الله، فقُطعت شركتهم الإلهية تلقائياً حتى أن آدم أسرع وهرب وتوارى حينما سمع أن الله اقترب منه مثلما اعتاد كل يوم، وهنا يكشف سفر التكوين عن مشكلة الخطية الحقيقية التي تعزل الإنسان عن الله أبيه، حتى يهرب من محضره ويحاول أن يختفي من أمام وجهه، لأن مقابلته صارت ثقيلة للغاية، لأن الظلمة حينما تملك وتسيطر لا تحتمل النور بل تهرب منه، لأن النور يُدين الظلمة ويبددها.
وضاع منه كل شيء جمعه من بيت أبيه، فصارت الخسارة فادحة، فقد سُلب منه كل ما يملكه لأنه عاش بإسراف (ويقولان لشيوخ مدينته ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير – تثنية 21: 20) ليتلذذ ويحيا كما شاء بحرية طلبها لنفسه، بعيداً منعزلاً عن أبيه الذي كان يراه – بحسب نظرته القاصرة كمراهق غير ناضج – مُقدياً لحريته، ثم بعد أن استنزف منه عالمه الجديد كل ما يملك، لم يجد – في النهاية – سوى مجاعة عظيمة، لم يرعاه أحد فيها ولا حتى وجد شخصاً واحداً يُشفق عليه أو يعتني به أو يُعينه في محنته التي ورط نفسه فيها، إذ قد فقد كل حكمة كانت لديه، أي أنه فقد عقله حتى أضاع كل معيشته، وهو مثل إنسان مجنون مسك سيفاً وطعن به نفسه وظل ينزف ولم يجد مُسعفاً حتى شارف على الموت.
والشعور القاتل بالعوز الشديد، حتى أنه صار ذليلاً خوفاً من الموت جوعاً، يحيا كأقل من عبد في حالة سوء مُزرية، لم يحسبها ولم يكن يتوقع حدوثها على الإطلاق، وهذا كما قلنا مثل آدم الذي تصور أنه سيحصل على المشابهة بالله بخدعة الحية، فوجد شيئاً آخر تماماً مخالفاً لكل ما كان يظنه، لأنهُ هبط من حالة المجد الأول لحالة الهوان بالانعزال عن الله وفقدان المجد البهي الذي كان يرتديه، فعاد جسده للتراب الذي أُخذ منه.
منعزلاً بنفسه ليحيا بعيداً عن ستر العلي مستهتراً بوضعه، فأنه يُمزق ولا تُشفق عليه عين، ويُترك في الهوان وعار المذلة والحزن المدمر حتى الموت؛ وأن لم يستيقظ وينتبه ويعود لله فوراً، فمن الممكن أن يدخل في حالة القساوة، ومن ثمَّ العناد والتحجر، حتى لا يوجد أمل فيه ولا نية رجوع.
_______________________ [1] بالطبع علينا أن نفرق ما بين إنسان ضعيف وغير ناضج ومتعسر كطفل، وبين آخر وصل لمرحلة الاستهتار والعناد وقساوة القلب. |
09 - 10 - 2018, 04:53 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
❈ Administrators ❈
|
رد: بداية الأوجاع ومعناة الجوع
موضوع رائع
ربنا يبارك خدمتك |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الجوع إلى المحبة اعظم من الجوع إلى الخبز |
الجوع إلي المحبه أعظم من الجوع إلي الخبز |
بداية الأوجاع الحقيقية وموت النفس |
يقولون الجوع كافر وانا اقول الجوع قاتل |
الكهنوت ومعناة |