ماهو الدم والماء
دم وماء
جاء في إنجيل يوحنا عن الرب يسوع المسيح أنه عندما طعن واحد من العسكر جنبه بحربة "للوقت خرج دم وماء" (يو19: 34). وقد سجل يوحنا تلك الحقيقة المذهلة كشاهد عيان لعملية الصلب، حيث يقرر قائلاً:" والذي عاين شهد وشهادته حق وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم" (يو19: 35).
ولا يمكننا أن نجزم بوجه العجب الذي رآه يوحنا في ذلك، حتى إنه يؤكده بكل هذه القوة، كما لا يلزمنا أن نناقش السبب أو الأسباب التي دفعت الرسول لذكر هذه الحقيقة، وهل كان ذلك لمجرد الدقة التاريخية، أو كبرهان محتمل على موت المسيح حقيقة، حيث كان مثار شك في الأزمنة المبكرة، أو لعل البشير يوحنا ذكر ذلك لرغبته في الإشارة إلى العلاقة السرية بين التطهير بالمعمودية (بالماء) والكفارة (بالدم). ويكفينا أن نقول إن ما جاء في رسالة يوحنا الأولى(1يو5: 6و8) لا علاقة له بهذا، فتلك الآيات التي استخدمها بعض آباء الكنيسة لإثبات الرأي سابق الذكر، لا تشير مطلقاً إلى تلك الواقعة العجيبة في قصة الصلب، فالموضوع المذكور في رسالة يوحنا الولى(5: 8) يختص بمسيانية يسوع التي يثبتها ثلاثة شهود:" الذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد"، لأن يسوع عندما اعتمد من يوحنا المعمدان (بالماء) شهد له اللـه بالصوت الذي جاء من السماء:"هذا هو ابني الحبيب"، وعند الصلب(الدم)، شهد له الآب بقبوله ذبيحته الكفارية بإقامته من الأموات، كما أن اتمام وعده بإرسال "المعزى" كما حدث في يوم الخمسين (الروح القدس) هو الدليل النهائي على كمال عمل المسيا.
كما أن الآية:"هذا هو الذي أتى به بماء ودم يسوع المسيح، لا بالماء فقط، بل بالماء والدم، والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق" (1يو5: 6) تشير ـ على الأرجح ـ إلى نفس الموضوع، متضمنة نفس المعنى، إن يسوع جاء ليس فقط بماء المعمودية بل أيضاً ـ وهو الأهم ـ بدم الكفارة المحيي.
أما الناحية الفسيولوجية لتفسير هذه الواقعة من وقائع الصلب، فقد ناقشها"جرونر" (Gruner) في كتابه:"تعليق على موت المسيح" (صدر 1805) مشيراً إلى أن الدم الذي خرج من جراء طعن حربة الجندي، لابد أنه كان متجمعاً خارج القلب قبل أن تفتح الحربة جنب المسيح، لأن هذا وحده هو الذي يجعل من الممكن خروج الدم والماء، كما جاء في وصف البشير يوحنا، بينما عارضه كثيرون من شارحي الكتاب المقدس باعتباره شرحاً خيالياً مفضلين أن يضفوا على النص الكتابي معنى رمزياً، بمفهوم تعاليم المعمودية والأفخارستيا. إلا أن بعض علماء الفسيولوجيا في العصر الحديث مقتنعون تماماً أن تلك الآيات تعبر عن ظاهرة عجيبة لم يستطع كتبة التاريخ المقدس أن يفسروها، لكنها تقدم لنا مفتاحاً أكيداً لمعرفة السبب الحقيقي لموت المخلص.
ويوضح د. ستراود(Stroud) في كتابه:"السبب الفسيولوجي لموت المسيح" (الصادر في لندن 1847م)، مؤسساً ملاحظاته على العديد من تشريح الجثث بعد الموت، أن موت المسيح لم يكن بسبب آثار الصلب بل نتيجة تمزق القلب أو انفجاره بسبب الأسى العميق والجهاد النفسي الرهيب. فمن المؤكد أن المعاناة على الصليب كانت تستمر عادة وقتاً طويلاً، فقد استمرت ــ في بعض الحالات ــ يومين أو ثلاثة أيام قبل أن تحدث الوفاة من الإنهاك الشديد. فليس هناك سبب جسماني يبرر موت المسيح السريع على الصليب. ومن الناحية الأخرى، فإن الموت الناتج عن انفجار وتمزق القلب نتيجة المعاناة النفسية الشديدة ، يحدث سريعاً. وهنا يتحقق القول "العار كسر قلبي" (مز69: 20)، "وأما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن" (إش53: 10). والدم الذي يسري من خلال التمزق والانفجار إلى غشاء التامور المحيط بالقلب، سرعان ما يتخثر مكوناً جلطة دموية، وينفصل المصل السائل (الماء). وقد أدت طعنة الحربة هنا إلى اطلاق التجمع الدموي من داخل غلاف القلب (فكانت الطعنة هنا تدبيراً إلهياً ــ بمثابة التشريح بعد الوفاة ــ والذي بدونه لا يمكن تحديد السبب الحقيقي للوفاة، فقد تدفق الدم والمصل السائل معاً من الجرح الذي أحدثته الطعنة).
وقد قبل العديد من الأطباء المبرزين رأي "د. ستراود" بل ودعمها البعض منهم بملاحظة الأعراض الاضافية، فهناك"د. جيمس بيجبي" (Dr. James Begbie) زميل ورئيس سابق للكلية الملكية للأطباء في أدنبرة، و"سير ج. سيمبسون" الاستاذ في جامعة أندبرة، وآخرون غيرهم.
فيشير "سير سيمبسون" إلى الصرخة العالية التي ذكرتها الأناجيل الثلاثة الأولى:"فصرخ بصوت عظيم وأسلم الروح"(مت27: 50،مر15: 37،لو23: 46) التي سبقت الموت الفعلي، كعلامة مميزة لحالات "تمزق القلب" أو "القلب المكسور".
كما يضيف "د. والش" أستاذ الطب في جامعة لندن وأحد الثقات في أمراض القلب ،أن الوفاة في مثل هذه الحالة، تسبقها مباشرة "صرخة مدوية قوية".
ومع أننا لن نعرف يقيناً حقيقة الأمر، فإننا لا نرى داعياً لرفض هذا الاحتمال بالنسبة للسبب المباشر لموت المسيح، فهو بالتأكيد يهيئ لنا فرصة لإدراك عمق معاناة المسيح النفسية و"تعب نفسه" لأجلنا، فقد بلغت آلامه النفسية حداً حتى انفطر قلبه، وهكذا تمم الفداء والكفارة للبشرية كلها.