نساء أورشليم يبكين عليه
"وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: "يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لَا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلَادِكُنَّ، لِأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلْآكَامِ: غَطِّينَا. لِأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟". وَجَاءُوا أَيْضاً بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلَا مَعَه" (لوقا 23:27-32).
تمسك بيلاطس إلى النهاية ببراءة المسيح. لكن لما أسلمه للصلب صار مُضطرّاً أن يبيّن أمام الجميع جريمةً تستوجب الصلْب، فلم يجد ذلك إلا بالتزوير. وفي هذا التزوير انتقم من اليهود بسبب ضغطهم عليه ليفعل ظلماً. وكتب "ملك اليهود". فصار العار على اليهود الذين صلب ملكهم، لذلك اعترض رؤساء الكهنة طالبين أن يغيّر الوالي هذا العنوان، حتى لا يكون المصلوب ملكهم، بل شخصاً قال إنه ملك اليهود. لكن بيلاطس أصرَّ على ما فعل. هذا الذي سأل استخفافاً: "ما هو الحق؟" خدم الحق وهو لا يدري.
يسبِّب موكبٌ كهذا تجمُّعاً عظيماً في أزقة المدينة وخارجها، فأخذ الحنان بعض النساء الكثيرات الواقفات لما رأين منظر المسيح المحزن، فأخذن ينُحْن بأصوات عالية ويلطِمْن على صدورهن، لا يخشين إظهار المواساة لهذا المغضوب عليه من رؤسائهن. ولما كان الرؤساء مطمئنِّين إلى انتصارهم، لم يبالوا بعمل النساء. واعترض المسيح على بكاء النساء - مع أن هذا البكاء كان الشيءَ الوحيد الذي يُعبّر عن مشاعر محبةٍ في ذلك اليوم. اعترض عليه مع أنه لم يعترض على شيء مما وقع عليه من معاملات عدائية، لأنه المحبُّ الصفوح. فلماذا يبكين عليه والبكاء على أنفسهن أوْلَى؟ إنه يرى ما لا يرَيْنه مما سيأتي عليهنّ وعلى أورشليم، مما يجعل الناسَ يطوِّبون الذين لا نْسلَ لهم، ويتمنُّون أن تسحقهم الجبال الشامخة تخلُّصاً من عذاباتٍ تجعل الموت رحمة لا نقمة، بسبب شدتها ومرارتها. فالتفت إليهم وقال: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسكنّ وعلى أولادكن". وسألهنَّ هذا السؤال: "لقد سمحت العناية الإلهية للحاكم الروماني بأن يفعل كل هذا بإنسان هو كالعود الرطب، لأن حياة الصلاح فيه، فماذا يُنتظَر أن يفعل هؤلاء الرومان العتاة بعد حينٍ بصالبيه الظالمين الذين لا حياة صالحة فيهم، بل الذين يشبهون العود اليابس؟". لقد رأى المسيح ذلك اليوم الذي فيه تحل اللعنة على أورشليم وسكانها، حين تُنصَب الصلبان الكثيرة العدد، التي سيراها بعض سامعيه وقت خراب أورشليم، والمعلَّقون عليها هم صالبوه وعيالهم. لم تكن هنا حاجة لبكاء على شخص حقق ما يريد. صحيح أن المشاهدين رأوا المسيح في موقف الانكسار، وهو وحده علم ما لا يعلمه العالم: إن ذلك موقف الانتصار. فلا عجب أنه اعترض على بكائهم عليه.