القدّيس ثيوفانيس المعترف (القرن٩م)
ولد القدّيس ثيوفانيس في القسطنطينيّة سنة ٧٥٩م زمن الإمبراطور قسطنطين الخامس المكّنى بـ "الزبليّ" (٧٤١ – ٧٧٥م)، في كنف عائلة من النبلاء نعِمَت بالثراء. الفضل في تنشئته يعود أوّلاً إلى أمّه. تمّت خطبته، وهو في سن الثانية عشرة إلى إحدى فتيات الأغنياء، المدعوّة ميغالو. طالت خطبته ثماني سنوات زُفّ في نهايتها. في ليلة زفافه كشف ثيوفانيس لعروسه رغبته، التي طالما احتضنها، في اقتبال الحياة الرهبانيّة. وقد تمكّن من إقناع زوجته بالعيش سويّة، ولكن في الإمساك، كأخ وأخت. استمر العروسان في هذا المسرى سنتين رغم الضغوط التي مارسها والد ميغالو عليها. ثم حصّل هذا الأخير لصهره من الإمبراطور لاون الرابع (٧٧٥ – ٧٨٠) لقب حاكم كزيكوس. كان يأمل أن تحوّله هموم المسؤوليّة الجديدة عن نزعاته النسكيّة. ولكن جاءت النتيجة معاكسة لِما توقّع لأنّ الحاكم الورع عرف أن يستفيد من كلّ أوقات الفراغ التي أُتيحت له ليزور النسّاك في تلك الناحية. أحد هؤلاء النسّاك، غريغوريوس، شدّده وشجّعه على متابعة المسعى الذي انتهجه. ولم يمضِ على ذلك وقت طويل حتى حظي ثيوفانيس برتبة مدنية جديدة إثر زيارة قام بها إلى القسطنطينيّة. لكن لا شيء أخرجه عن الخطّ الذي خطّه مشى فيه. نفسه كانت تتلظّى بمحبة الله وأمانته ثابتة. فلمّا توفي الإمبراطور وعمه، والد ميغالو، استأذن ثيوفانيس الملكة بالوصاية، إيريني، كما وأطلق خدّامه ووزّع ثروته وأودع زوجته ديراً في أرخبيل الأمراء. مذ ذاك عاد لا يراها. فقط كان يكاتبها ليشجّعها على الثبات في ما خرجت، من العالم، لأجله. أمّا هو فترهّب في دير بوليخرونيون في قمّة سيغرياني القريبة من كالونيموس. من هناك انتقل، لبعض الوقت، إلى أحد منازل العائلة في جزيرة كالونيموس. طلاب الرهبنة أخذوا يتدفّقون عليه لكنّه لم يشأ أن يلتزم العناية بهم. سلّم ذلك إلى راهب مختبر قدم من دير آخر، فيما خرج هو متنسّكاً في الجوار ستّ سنوات، عاملاً في نقل المخطوطات. فلما توفيّ رئيس الدير رغب إليه الإخوة في أن يحلّ محلّه. وإذ خشي أن يضيّع الهيزيخيا (الهدوء) عاد إلى قمّة سيغرياني فاقتنى ملكيّة تُعرف بـ "الحقل الكبير" أسّس عليها ديراً أضحى، فيما بعد، أحد أهمّ المراكز الروحيّة في ذلك العصر. سلك ثيوفانيس في الصوم والسهر والدموع وكان للجميع مثالاً يُحتذى. ومن جديد تحلّق التلاميذ من حوله فأخذ يهتمّ بهم. كان يعرف أن يتعاطى والجميع كإخوة له، البسطاء والمثقّفين في آن. كان يوجّههم بسلطان ولكن بلا عنف. علّمهم العقيدة وفنّ ضبط الأهواء معاً. ولكي يستزيد من المعرفة خرج جائلاً على بعض الأديرة في بيثينا والبنطس. بالإضافة إلى الأتعاب التي كابدها في السهر على نفسه وعلى قطيعه اهتمّ بكتابة الحوليّات التي تعتبر إحدى أهمّ الوثائق المعنيّة بتاريخ بيزنطية.
كان إناء لله مختاراً يشمل جميع المقبلين إليه برحمة ربّه. فلمّا حدثت مجاعة قاسية وزّع كل ما كان في مخزن الدير فإذا بنعمة ربّه تملأه له من جديد. هذا وقد دُعي قدّيسنا إلى مجمع نيقية الثاني، سنة ٧٨٧م، الذي التأم دفاعاً عن الإيقونات المقدّسة. كان لباسه بسيطاً فقيراً لكنّه أدهش الحاضرين بعمق معرفته بتراث الآباء القدّيسين. فلمّا عاد إلى ديره مرض وعانى آلاماً شديدة استمرّت سنوات. في العام ٨١٥م عندما باشر الإمبراطور لاون الخامس الأرمنيّ حملته، من جديد، على الإيقونات أخطره بعض أعوانه بشأن ثيوفانيس الراهب وما له من وزن لاهوتيّ يمكن أن يفسد عليه مسعاه. حاول كسب قدّيسنا إلى حزبه فعرض عليه إحساناته، من ناحية، إن أذعن وتعاون، وحذّره، من ناحية أخرى، إن عصى وتصلّب لأنّ ذلك سيعود عليه وعلى أصحابه بضرر جسيم.
فكان جواب فأجابه ثيوفانيس: "بعدما تقدّم بي السنّ وبتّ مثقلاً بالآلام والأدواء، لا ميل عندي ولا رغبة فيما عرضت. هذه نبذتُها لأجل المسيح من شبابي لمّا كنت بعد في وضع يسمح لي بالتّمتّع بالعالم. أمّا بالنسبة لديري وأصحابي فإنّي استودعهم الله. إذاأن كنت تظنّ أن تخيفني فأذعن لتهديداتك نظير طفل،بِعَصاً، فعبثاً تتعب. فرغم أنّي عاجز عن المشي وتكدّني أدواء الجسد فأنا أثق بالمسيح إنّهالقادر أن يؤهّلني لتحمّل أقسى العذابات التي يمكنك أن تنزلها بي، دفاعاً عن قضيّته".
عندها أرسل لاون جنده إليه وأحرق ديره ونقله عنوة إلى القسطنطينيّة غير عابئ بمرضه وأوجاعه. فلما بلغ المدينة المتملّكة رفض مقابلة الإمبراطور فاستشاط لاون غيظاً وحبسه في دير القدّيسَين سرجيوس وباخوس حيث حاول البطريرك الهرطوقيّ العتيد، المدعو لاون أيضاً، أن يربحه للإمبراطور ولكن عبثاً. كلّ حجج لاون هذا دحضها ثيوفانيس دحضاً مبرماً. بعد ذلك حبسوه سنتين في مكان مظلم من قصر الفتاريوس. حرموه من الطعام مرّات كثيرة وعاملوه بقسوة وعرّضوه للضرب بالسّياط مراراً. وإذ لم ينتفع الإمبراطور مما أوقعه به شيئاً نفاه إلى جزيرة ساموثراقي. لم يتمكّن قدّيسنا من الصمود هناك أكثر من عشرين يوماً،توفيّ بعدها يومفي الثاني عشر من شهر آذار من السنة ٨١٧م أو ٨١٨م. للحال أضحى ضريحه نبعاً للأشفية. وفي العام ٨٢٢م جاء تلاميذه ونقلوا رفاته إلى ديره في "الحقل الكبير". القدّيس ثيوذوروس الستوديتيّ، الذي كان ثيوفانيس عرّاباً لرهبنته، هو الذي قال العظة في تلك المناسبة.