يظن البعض أن العفة قاصرة فقط على عفة الجسد... بينما هي تشمل أيضًا عفة الحواس من نظر وسمع ولمس. وكذلك عفة القلب, وعفة اليد, وعفة اللسان, وعفة الفكر والقلم.
عفة اللسان:
* وواضح أن عفة اللسان تعنى أنه يبعد عن كل كلمة رديئة. وكما قال السيد المسيح "كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس, سوف يعطون عنها حسابًا في يوم الدين". ولا يقصد بالكلمة البطالة مجرد الكلمة الخاطئة, وإنما أيضًا كل كلمة بلا نفع, أو كل كلمة ليست للبنيان.
* والإنسان العفيف لا يلفظ كلمة شتيمة أو إهانة أو تهكّم, ذلك لأنه يحترم غيره, ولا يسئ إلى أحد بكلمة جارحة, ولا بكلام استهزاء أو احتقار أو ازدراء, في أي حديث أو في أي عتاب.
وأذكر في يوم أربعين إنسان روحي, توفي سنة 1951م قلت عنه:
لكَ أسلوب نزيه طاهرُ ولسانُ أبيض الألفاظ عفُّ
لم تنل بالذمّ مخلوقًا ولم تذكر السوءَ إذا ما حلّ وصفُ
إنما باللطف والتشجيع قد تصلح الأعوجَ, والأكدرُ يصفو
لهذا فإن الذي يستخدم ألفاظًا جارحة, أو ألفاظًا قاسية, وكأنها كرجم الطوب, ليس هو إنسانًا عفيف اللسان...
اللسان العفيف لا يشهّر بغيره, ولا يكشف عورة إنسان في حديثه. لأن عفته تمنعه من ذلك.
اللسان العفيف هو لسان مؤدب مهذب. يزن كل كلمة يلفظ بها, ولا يحتاج إلى مجهود لكي يتكلم كلامًا عفيفًا, لأن هذا هو طبعه وقد تعوّده.
واللسان العفيف لا يستخدم ألفاظًا معيبة من الناحية الخلقية. فهو لا يتلفظ بألفاظ جنسية بذيئة. ولا يذكر قصصًا أو فكاهات جنسية, ولا يقبل سماعها إن قيلت من غيره. ولا يردد أغاني من نفس النوع, بل يخجل من النطق بها, ولا فيما بينه وبين نفسه في مسكنه الخاص. إنه لا يتدنى إلى هذا الوضع. ويمنعه أدبه من استخدام لغة لا تتفق والأدب الذي تعوّده.
* واللسان العفيف قد تعوّد أيضًا عفة التخاطب. كما أنه قد تعوّد على أدب الحوار. فهو لا يقاطع غيره أثناء الحديث معه, ولا يوقفه عن الكلام لكي يتكلم هو. ولا يعلو صوته في الحوار. ولا يحاول أن يقلل من شأن غيره في حواره, لكي يثبت رأيه هو. ولا يهين غيره أثناء المناقشة. فكل هذه الأمور وأمثالها مما لا يسمح به أدبه.
* واللسان العفيف يكون موضوعيًا في حواره, ولا يتعرض إلى الجوانب الشخصية في من يتحاور معه. وإنما يكون منطقيًا في ما يقوله. لا يمكن أن يصف محدثه بالجهل أو عدم الفهم. ولا يكشفه في هذه النواحي. بل يركزّ على موضوع النقاش.
عفة القلم:
وعفة اللسان ترتبط بعفة القلم.
وأعنى القلم الذي يراعى كل ما قلناه فيما يكتب. فلا يشهّر بأحد, ولا يجرح أحدًا. ولا يعمد إلى الإهانة. ولا يشيع عن إنسان ما ليس فيه. بل يحرص على أعراض الناس, ويرى أن سمعتهم أمانة لا يمكن لقلمه أن يتجاوزها. بل القلم النزيه لا يكتب إلا بموضوعية تتفق وعفته...
* وهنا نرى عفة النقد ونزاهته... أي النقد العادل البريء الموضوعي, الذي يهدف إلى الحق بغير تجريح. ويزن الأمور بميزان سليم. ويذكر النقاط البيضاء أولًا قبل غيرها من النقاط التي لا يوافق عليها. وهكذا يعطى كل ذي حق حقه.
وفى نقده لا يدخل في نوايا الناس وما في قلوبهم, فتلك أمور لا يعرفها سوى الله وحده.
* على أنى أضيف إلى كل ما ذكرناه, أن خطية القلم ومثلها خطية اللسان هي خطية ثانية في الترتيب الزمني أو الفعلي. أما الخطيئة الأولى فتكمن في القلب الذي يعبر عنه اللسان كما يعبر عنه القلم في كتابته. ومن القلب يخرج الفكر, ويعبّر اللسان حينًا والقلم حينًا آخر.
عفة القلب وعفة الفكر:
هذه الصفة الداخلية, يُبنى عليها كل تعفف من الخارج.
وعفة القلب هي عفة المشاعر والعواطف والأحاسيس, وعفة المقاصد والنيات والرغبات. وعن عفة القلب تصدر بلا شك عفة الفكر, وعفة اللسان, كما تصدر عن القلب أيضًا عفة الحواس, فكل هذه خارجة من مصدر واحد.
* لذلك أن وجد أحد أن فكره قد بدأ يسير في مجرى غير عفيف, فليسرع ويقاوم هذا الفكر ويوقفه قبل أن يتطور إلى أجهزته الأخرى, وقبل أن يعبّر الفكر عن وجوده بطريق اللسان أو القلم أو الحواس أو العمل. وليهتم إذن بحالة قلبه وعواطفه التي هي مصدر لفكره أيضًا.
* وعفة القلب والفكر, لها علاقة بالعقل الباطن.
فالعقل الباطن يعمل عن طريق المخزون فيه من أفكار ومن رغبات وصور ومشاعر. فإن كان المخزون في العقل الباطن غير عفيف, حينئذ يظهر ذلك في أحلام غير عفيفة, وفى ظنون وأفكار من نفس النوع.
* وهنا يقف أمامنا سؤال كثير ما يسأل البعض وهو: هل مثل تلك الأحلام غير العفيفة تعتبر خطيئة, بينما هي غير إرادية؟ والإجابة إنها ليست غير إرادية تمامًا, بل يمكن أن نقول عنها إنها شبه إرادية أو نصف إرادية, لأنها ناتجة عن مخزون إرادي سابق في العقل الباطن. ). لأنها لو كانت بالتمام غير إرادية, لاستيقظ منها الشخص دون أن تكمل, لأنه لا خبرة له بها ولا طاقة له باحتمالها.
عفة اليد:
اليد العفيفة لا تمتد إلى ما لغيرها, سواء بسرقة أو بأي لون من اغتصاب حقوق الغير. كذلك لا تعتبر يدًا عفيفة, تلك التي تفرح بربح غير جائز.
ويدخل في هذا الأمر: الربا الذي يفرضه الرابي على الفقراء المحتاجين, وأيضًا احتكار بعض التجار سلعًا معينة في السوق, أو فرض أسعار عالية مجحفة بمن يشترى. فتمتلئ أيدي هؤلاء من مال أخذوه من تعب الناس واحتياجهم, ظلمًا وقهرًا. وكما قلت عن مثل ذلك في إحدى القصائد:
خطفوهُ من يد الجوعان بل من رضيع لم يوفّوه فطاما
ومن عفة اليد أيضًا العفة في الطلب.
حيث يستحى الإنسان العفيف اليد أن يمد يده. بل أذا أعطى البعض له, يستحى أن يأخذ. بينما الإنسان غير العفيف قد يطلب ما لا يستحقه. وكأنه حق قد سلبه منه الذي يتوقع منه العطاء. وحينما يأخذ شيئًا, لا يستحى أن يطلب أزيد وأزيد!
قداسة البابا شنودة الثالث