لذلك كونوا مستعدين الثلاثاء العظيم
يتابع يوم الثلاثاء العظيم التأمل في موضوع عودة المسيح والدينونة التي سيمارسها على البشر. لكن يوجد بعض الفرق بين الطريقة التي بُحث بها هذا الموضوع يوم الاثنين والطريقة التي نجدها اليوم الثلاثاء. كان التشديد في الأمس على عنصري المفاجأة والرعب الموضوعيين اللذين يرافقان المجيء الثاني. أمّا اليوم فتشدد النصوص على ضرورة اليقظة، التي يفرضها علينا هذا المجيء والدينونة، وضرورة التهيئة الداخلية لهما.
تبدأ خدمة الثلاثاء العظيم مساء الاثنين المقدس. فتقام خدمة (الختن) بعد صلاة النوم الكبرى، وهي مثيلة لصلاة مساء أحد الشعانين، وهذه الخدمة هي بمثابة صلاة سحر يوم الثلاثاء. أمّا اليوم فنرتل: (لنوُدَّ الختن يا إخوة ونحبّه ونهيئ مصابيحنا… مثل عذارى الرب العاقلات). ونقرأ مقطعاً إنجيلياً طويلاً (متى 15:22- 39:23) حيث يوبخ يسوع الكهنة والفريسيين والكتبة الذين يطرحون عليه أسئلة مثيرة والذين لا يكتفون بعدم دخولهم إلى الملكوت، بل يمنعون غيرهم من ولوجه. (الويل لكم، أيها المراؤون… الويل لكم، أيها القادة العميان). ثم يتوجّه يسوع بحزن بالكلام إلى أورشليم قائلاً: (يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها… هوذا بيتكم يترك لكم خراباً).
ونتابع في قداس البروجيازماني القراءات النبوية التي بدأناها في الأمس. فتكتمل رؤية حزقيال (21:1- 1:2) وتنتهي بإعلان مجد الرب وسماع الصوت القائل: (قم يا ابن آدم قم على قدميك فأتكلم معك). يقول لنا الله هذه الكلمة في كل لحظة. أترانا نريد حقاً أن نسمع ما يبتغي نقله إلينا ؟ أنسمعه حقاً ؟ كم نمضي يومياً من الوقت في الحديث تلقائياً معه ؟ أسيكون الأسبوع العظيم هذا زمن سماع لصوته ؟
ونتابع أيضاً قراءة سفر الخروج (5:2- 10)، حيث نسمع كيف سُلّم موسى بعد مولده لمياه النهر وكيف نجا على يد ابنة الفرعون. وهكذا نجا الشعب اليهودي كله فيما بعد من مياه البحر الأحمر. وهكذا ننجو نحن أيضاً من المياه الواسعة للخطيئة والموت.
في التلاوة الثالثة من سفر أيوب (12:1- 22)، نرى الضيقات تنهمر عليه وكيف يصبر عليها: (الرب أعطى والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركاً).
يبدأ إنجيل القداس (متى 36:24- 2:26) بالتذكير أن ابن الإنسان سيأتي بطريقة مفاجئة غير منتظرة، ثم يوسَّع الموضوع نفسه بواسطة ثلاثة أمثال: مَثَل العبد الرديء الذي يفاجئه سيّده (في يوم لا يظنه وساعة لا يعلمها)، ثانياً مَثَل العذارى العاقلات والعذارى الجاهلات، وأخيراً مثل العبيد الذين يسألهم معلّمهم عن مصير الوزنات التي أعطاهم. وتنتهي التلاوة بكلام يسوع عن الدينونة حيث سيكافئ من خدمه في شخص المرضى والفقراء والسجناء والغرباء ويدين الذين لم يتعرّفوا عليه في هؤلاء. لقد سبق لنا أن تأملنا في أحد الدينونة في موضوع سكنى المسيح العجيبة في أعضاء جسده السرّي. فلن نعيد الكرة هنا بل نكتفي بالتأمل بمثل العذارى العشر ومَثَل الوزنات. فلنبدأ بالمثل الأخير. توجد فيه نقطتان أساسيتان: فالمصباح الذي يجب أن نصطحبه لملاقاة يسوع لا يضيء إلاّ إذا كان مملوءاً بالزيت. والزيت يرمز إلى المحبة وبدون شخصياً وأن (يُشترى)، أي يقتنى نتيجة جهد شخصي مضني. لشفاعة القديسين والكنيسة قدرة كبيرة، لكن لا تستطيع الكنيسة ولا القديسون أن يبدلوا (زيتهم) بالزيت الذي يجب أن نشتريه من الروح القدس، مصدر كل مسحة وكل محبة. (سندان على محبتنا) (القديس يوحنا دي لاكروا)، لكن المحبة لا (تُعار) ولا تستأجر، وعلى كل واحد أن يتحمل مسؤولياته بهذا الصدد، أحبّ أو لم يحب. وإذا اختار ألاّ يحب فلن يتمكن من ملاقاة الختن لأنه سيفتقر إلى الزيت ولن يجد الوقت الكافي للإتيان به. ما ينتهي إليه السيّد في نهاية مثل العذارى العشر يصلح أيضاً لتتويج صلاة يوم الثلاثاء العظيم كلها: (فاسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن البشر) (لو40:12).
أمّا مثل الوزنات فيمكننا أن نستنتج منه أن الوزنات التي يسلّمها السيّد لعبيده تعني المواهب الطبيعية التي يمنحها الله لمخلوقاته: الصحة، الذكاء، الغنى الخ… كلها وُجدت من الله ولأجله، ولسنا سوى قيّمين عليها، مكلفين بإدارة ملك الله. ولكن الوزنات تعني أيضاً وبصورة خاصة المواهب الروحية وهبة الحياة الإلهية للبشر والنعم التي يمنحنا إياها الله في كل حين. لا يسعنا إلاّ أن نعترف أن هذا المثل مخيف، لأنه من منّا يستطيع أن يقول بأنه حافظ كلياً على رأسمال المواهب الطبيعية والروحية الذي أعطاه إياه الله ؟ ألم نبذر بهذه النعم ؟ ألم ندنّسها ؟ ومن منّا يتجاسر على القول أنه أثمر الوزنة التي أُعطيت له وأنها أعطت ضعفين أو ثلاثة أضعاف ؟ وهنا يحمل المثل إلينا رسالة صلابة إلهية مصحوبة بلطف ورأفة إلهيتين، وليس لنا الحق في أن نفاضل بينهما. تؤكد هذه الازدواجية ثلاث جمل من النص، كما أنها تثبّت فينا المخافة والدالة الوالديتين. فلنسمع أولاً كلام العبد الرديء: (يا رب علمت أنك رجل عنيف تحصد من حيث لا تزرع… فخفت). ويؤنبه السيّد على كلامه هذا قائلاً: (أيها العبد الشرير الكسول قد علمت أني أحصد من حيث لا أزرع…). يكمن خطأ هذا العبد في كونه يحمل صورة مغلوطة، قاسية عن السيّد أكثر من كونه لم ينمِّ الوزنة. وتوحي هذه الجملة أنه، لو تكلم العبد بطريقة أخرى، لو قال: (يا رب إنك سيّد رحوم، وحدك تعرف أن تحصد حيث لم أستطع أن أزرع… لذلك، رغم خطيئتي الكبيرة، آتي إليك بثقة ودالة)، لو تلكم هكذا لكان قد عفى عنه سيّده. أمّا الجملة الثانية المهمة فهي: (كل من له يُعطى فيزاد، ومن ليس له يؤخذ منه ما يتوهم أنه له). يجد كثيرون أن هذه الجملة قاسية للغاية وصعبة الفهم، لكن معناها سهل: إن كل خطيئة تستدعي خطيئة أخرى، وكل عمل صالح يستدعي عملاً صالحاً. إذا أسلمت ذاتك للشر مرة، ستضعف، وبالتالي تقع المرة تلو الأخرى… وتجد نفسك على منحدر يصعب عليك التوقف عن الانحدار عليه، وهكذا تفقد القليل الذي كان بحوزتك. لكن كل جهد من أجل الله، مهما صغر، سيسهّل الجهادات اللاحقة وكلما ازداد الجهاد تزداد النعمة ويُعطى المزيد. فلننتبه أخيراً إلى الجملة الثالثة: (أيها العبد الصالح الأمين قد وُجدت أميناً في القليل فسأقيمك على الكثير). إن الأمانة في الأمور الصغيرة هي الخطوة الأولى في الطريق والشرط الضروري للأمانة في الأمور الكبيرة. إذا كنت لا أستطيع أن أنجز الأمور الكبيرة، سأسعى أن أتمم الصغيرة. إذا خسرت الوزنات التي أُعطيت لي فسأسعى بتواضع وصبر أن أكون أميناً في أصغر الأمور، أن أكون طاهراً، كريماً، خدوماً، أميناً خلال الحياة اليومية، إذ يبني الله على أساس الأمور الصغيرة هذه بناء شامخاً، وربما يُعطى لي في يوم من الأيام أن أسمع دعوته: (أدخل إلى فرح ربك).
ينتهي إنجيل القداس بهذا الكلام الذي يوجهه يسوع لتلاميذه: (تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن البشر يُسلم للصلب).
الاب ليف جيللة