القديس هيلاريون الفلسطيني
مع كوكب البرية الأنبا أنطونيوس
ولد القديس هيلاريون Hilarion في قرية تدعى طباثا Tabatha جنوب غزة Gaza وكان أبواه من الوثنيين، أرسلاه إلى الإسكندرية للدراسة حيث تعلَّم هناك الإيمان المسيحي وتعمَّد في سن الخامسة عشر.
في سنة 306 م كان قد ملأ عبير الأنبا أنطونيوس كل مصر وتجاوزها إلى الخارج. وبين الجموع المتسارعة إلى هذا العملاق الروحي كان هيلاريون الذي لم يكن عمره آنذاك يزيد عن خمسة عشر سنة، ومع صغر سنه فقد وضع أمام عينيه النموذج المثالي الذي هو أب الرهبان.
قضى هيلاريون سنة مع كوكب البرية ثم استأذن في العودة إلى أهله.
إلى صحراء سيناء:
لما وصل بيته وجد أن أبويه قد انتقلا من هذا العالم، وبما أنه أصبح كبير العائلة فقد قسَّم الميراث إلى نصفين: وزَّع النصف الأول منهما على اخوته بالتساوي ووزع النصف الثاني على المعوزين ولم يأخذ لنفسه شيئًا. وبهذا الفقر الاختياري قصد إلى صحراء سيناء، وقد عاش أربع سنوات في كوخ صغير بناه لنفسه من جذوع الشجر، ووصل به الأمر لكثرة ما قرأ من الأسفار الإلهية أن أصبح يعرفها غيبًا، وهذه كانت عادة شائعة بين المصريين.
كان طعامه اليومي عبارة عن خمسة عشر تينة يأكلها بعد غروب الشمس، وحين كانت تثور عليه شهوات الجسد كان يخاطب جسمه قائلاً: "سوف أرى أيها الجحش أنك لن ترفس"، وبهذا الكلام كان يقتطع جزءًا من وجبته الضعيفة.
التبرك بزيارة الأراضي المقدسة:
أخذ ينتقل في رحاب الصحراء السينائية، ثم قصد إلى التبرك بزيارة الأراضي المقدسة. ولما انتهى من تجوله في الأراضي التي تقدست بحياة رب المجد فيها، رأى أن يزور الأديرة الموجودة بها، ففرح بالالتقاء بالقديسين والقديسات وتنسم فيهم عبير السيد المسيح. وقد نجم عن تجواله هذا أن أنشأ بعض الأديرة لأن عددًا عديدًا من الشباب رأى فيه نموذجًا جذابًا للقداسة والمحبة والتواضع التي غرسها فيه الأنبا أنطونيوس، فسارعوا إليه طالبين التلمذة له. وحين رأى الراغبين في الالتفاف حوله انهمرت دموعه حنينًا إلى الوحدة في كوخه الحقير حيث لم يكن له أنيس غير فاديه الحبيب، ودفعه هذا الحنين إلى الرغبة في العودة إلى أب الرهبان، ولكن ملاك الرب أعلمه بأن هذا الكوكب العظيم صار يسطع في الأبدية، ومع ذلك فقد قرر مغادرة المكان الذي هو فيه إلى مكان يكون فيه مجهولاً.
إلى برية القديس العظيم انطونيوس:
على أن أربعين من الشباب صحبوه، فاتجه أولاً إلى برية القديس العظيم أنطونيوس وقضى بها هو وأخوته بضعة أسابيع استعاد فيها ذكريات حياته مع الناسك الكبير وحدثهم عنها.
إلى الواحة الداخلة:
تركهم ولم يستصحب غير تلميذه الملتصق به، واتجه شمالاً إلى الواحة الداخلة مع قافلة أوصلته إلى الواحة الكبرى. وترك القافلة كما ترك تلميذه أيضًا وسار أيامًا طويلة مشيًا على قدميه حتى وصلها. ووجد بها عددًا غير قليل من المصريين وعلى رأسهم أساقفة المدن الخمس منفيين من أجل العقيدة الأرثوذكسية، وبينما هو هناك وصل إليه واحد من أبنائه الروحيين الذين تركهم في الأراضي المقدسة، وظن هيلاريون أنه يستطيع الهروب منه، ولكن الشاب الذي قطع المسافات الطويلة للوصول إليه قرر مرافقته، واتفق كلاهما على الالتجاء إلى إحدى الجزر. . وقضيا شهرًا وهما يمشيان وأخيرًا وقعت عيونهما على زرقة البحر المتوسط ووجدا مركبًا ولكن ربانها قال بأنه لا يستطيع أن يأخذ غير شخصٍ واحدٍ فترك هيلاريون ابنه الروحي وركب دون أن يدري إلى أية جهة سيسافر.
عند طرف جزيرة بطرس:
بعد أيام رست المركب عند طرف جزيرة قبرص واستقر القديس في مكان على بعد ميلين من بافوس Paphos، وأحس بفرح لا يوصف حين وطأت قدماه أرضًا لا يعرفه فيها أحدًا.
لجأ إلى غابة خارج المدينة، وكان يجمع الأغصان الجافة ويبيعها ليأكل من ثمنها، وظل بضعة شهور آمنًا مطمئنًا.
لكن عدو الخير ظن أن يقطع عليه خلوته فكان في الواقع أداة في يد اللَّه. ذلك أن قائدًا من كبار القواد الرومانيين كانت تنتابه أزمات شيطانية عنيفة، فدخل الكنيسة ذات يوم طالبًا النجدة، وفي داخل المكان المقدس صاح الشيطان على لسانه: "إن هيلاريون خادم اللَّه على مقربة من هنا ولا يعلم أحد بذلك. ولكني سأجده وأذيع عنه في كل الأرجاء". وللفور جمع القائد الروماني عددًا من رجاله وذهبوا إلى الغابة ووجدوا كوخه بكل سهولة، وما أن دخل المصاب إلى حضرة القديس حتى خرَّ ساجدًا ثم قام معافى لساعته. ومن تلك اللحظة فقد القديس خلوته إذ أتى إليه كل مريض وكل سقيم. وحين كانوا يقدمون له الهبات كان يرفضها بإصرار قائلاً: "لقد وهبني اللَّه مجانًا، وما عليَّ إلا أن أعمل مثله".
بعد شهور تسلل في جناح الظلام وسار وسط الجبال بين الطرق المتعرجة الصاعدة إلى أن عثر على مغارة طبيعية داخل صخرة فانزوى فيها. ومن ركنه الصخري المنعزل كان يرى البحر أمامه ممتدًا إلى الأفق وعن يمينه الكروم الزاهرة الجميلة وعن يساره الجبال بقممها الشاهقة. ومن نعمة اللَّه أن وجد وسط الصخور نبع ماء ينساب فوقها، وفي هذه البقعة المحاطة بالجمال من كل جانب قضى القديس هيلاريون ما تبقى له من السنين، فانتقل وسط هدوء العشرة مع اللَّه هنا إلى التمتع بفردوسه هناك. وكان ذلك سنة 371 م وله من العمر ثمانون عامًا.
ومن الذين زاروه في مرضه الأخير القديس إبيفانيوس أسقف سلاميس الذي كتب فيما بعد عن حياته وسيرته للقديس جيروم. وقد دُفِن القديس بالقرب من بافوس ولكن القديس هيسيخوس Hesychius تلميذه حمل رفاته ودفنها في ماجوما Majuma بالقرب من موطنه حيث عاش القديس فترة في بداية حياته.
العيد يوم 10 أبيب. وفي الكنيسة الغربية العيد يوم 21 أكتوبر.