فلنبكي لا من أجل اضطهاد أو حزناً لأجل دمار مدينة أو تهكم الأشرار وافتراسهم من هم أضعف، ولا من أجل مباني وصورح شامخة، ولا من أجل خسارة مال ولا اضطراب معيشة ووطن، بل نبكي من أجل تدمير أنفسنا بخطايانا وميولنا نحو الخير الغير موجود، لأن أزمتنا في ميل قلبنا نحو الشرور والآثام، أو نحو كبرياء وإثبات ذات، أو نحو لذة وقتيه لا نستطيع الخلاص منها، نبكي وننوح من أجل هلاك الهيكل الحامل للرب…
هذا الهيكل الذي لا يتألق بذهب أو فضة أو حجارة أو أعمده رخامية لها تيجان مزركشة جميلة، بل يتألق بنعمة الروح القدس، فالله لا يسكن في هياكل مصنوعة بيد بشر، بل يسكن فيما صنعه بيده فقط، أي قلبي وقلبك وقلب كل إنسان ، فعوضاً عن تابوت العهد والكاروبيم كما في العهد القديم في هيكل أورشليم، يسكن الآن في القلب الرب يسوع المسيح والروح القدس والآب إذ أنهم واحد بلا انفصال، اي هيكل جسدنا الخاص هو محل سكنى الله الثالوث القدوس الحي…
أما الآن بعد السقوط في براثن الموت وحياة الفساد التي ملكت على قوى النفس فأضعفتها وشوهت ملامحها، فالكل قد تغير، الهيكل خرب وزال جماله الخاص وبهاءة المجيد ولم يعد بعد مزيناً بالزينات الإلهية: القداسة والطهارة والنقاوة وكل أمجاد النفس التي لها من الله، بل صار مفتقراً إلى كل حماية وحصانة، فلم يعد له باب ولا متراس، بل صار مفتوحاً لكل سلوك مدمر للنفس ولكل فكر معيب، غذ أن كل اسوار حمياته مهدومة من كل جانب.
فإن أراد فكر حب الظهور أو الزنا أو حب المال أو أكثر من هذه الأفكار دنساً أن تدخل فيه، فليس ما يمنعها أو يطردها. أما قبل السقوط فقد كانت نقاوة الروح في حصانة السماء لا يدخلها شيء من كل هذا الدمار المفسد لقوى النفس والمُعطل لكل اتجاهها نحو الله الحي.
يسوع قادر أن يقيم النفس
ربما يبدو لنا أنه من الصعوبة التامة أمر قيام النفس في نظر من يشاهد انحلالنا وتيه أنفسنا بعيداً عن حياة الله، وعن ينبوع الحكمة وكلمة المشورة !!!
فمن هذه الناحية نبكي منتحبين ولا نكف قط عن ذلك حتى نعود قائمين في مجد البهاء السابق الذي كان لنا بكل غيره حسنة، فإنه وان كان هذا يبدو مستحيلاً فعلاً بالنسبة لفكرنا ولفكر البشر، لكن كل شيء مستطاع لدى الله ، فهو (المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة ليجلسه مع أشراف شعبه) مز 7:113 ،8 . وهو (المسكن العاقر في بيت أم أولاد فرحة) مز 9:113 .
إننا لن نيأس قط – مهما ما كانت حالتنا ومهما ما كانت نفوسنا مشوهه مريضة بكل أمراض الخطية التي أفسدتها وشلت كل قواها، فلن نياس أبداً من تغيرنا الكامل حسب مقاصد الله وأن نصير هيكلاً له يحق فيه حضوره وحده فقط …
وان كان الشيطان لديه هذه القدرة، أن يطرحنا أرضا من العلو الشامخ وحلاوة حياة التقوى التي للقديسين، إلى أبعد حدود الشر والإثم والفساد المقلق للنفس وإلى قاع جحيم الخطية وفساد النفس التام إلى حرق كل قواها وتكبيلها بألف قيد وقيد في قاع الهاوية، فكم بالأكثر جداً يكون الله قادراً أن يرفعنا إلى المجد الأول وحلاوة حياة القداسة، ولا يجعلنا فقط كما كنا سابقاً، بل أفضل مما سبق بكثيراً جداً، لأنه مكتوب: إذن إن كان أحد في المسيح يسوع فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً. فالمسيح الرب وحده له القوة والقدرة أن يجدد النفس تماماً بحيث يجعلها مولودة من جديد في شخصه ماحياً كل الماضي مُزيلاً كل تأثير فيه، بانياً سور حماية خاص عليه دمه علامة محبة وخلاص لأن به غسل القلب وطهر الضمير ورفع كل ما يعطل النفس وشفاها كلياً طالما لجأت إليه وتمسكت به لأن فيه الحياة والحياة التي فيه هي نور النفس الخاص المبدد ظلمة الشر وفساد عمل الشيطان الذي ظف به في صليب خلاصنا…
لن نيأس مهما كان أو مهما حدث
فنحن الضعاف المساكين والذي نشعر أن برودة الشر فينا، لن نيأس من مراحم الله وحبه المتسع ولن نطرح الرجاء الحسن من قلبنا، ولن نسقط فيما يسقط فيه الملحدون وجاحدي المعروف الذين ليس لهم ثقة في مراحم الله ويأسوا من أن يمد يد المعونة لهم فلم يرجعوا إليه ليُشفيهم. لأنه ليست كثرة الخطايا هي التي تؤدى إلى اليأس المُدمر للنفس، بل عدم تقوى النفس والإيمان بالمسيح الرب الذي هو القيامة والحياة. فهناك فئة معينة هي التي تسلك طريق اليأس عندما يدخلون طريق الشر ويسقطون تحت أشر الخطايا وأعنفها، غير محتملين النظر إلى فوق من حيث تأتي المعونة من عند الرب صانع السماء والأرض المحب للبشر، أو الصعود إلى فوق نحو العلو الحلو الذي للقديسين، إذ أن الكبرياء يصيب قلوبهم فينظرون لأنفسهم ويتساءلون كيف وصلت لهذه الحالة المُزرية وكيف أواجه الناس، فيحزنون ويكتأبون ويبكون بحرقة، وأيضاً البعض يحيا في اليأس وينكر مراحم الله ولا يقبلها لأنه لا يراها، بل كان ينتظر أن يفعل ما يليق بإرادته وقدراته الخاصة ليستحقها، كم هي مسكينة النفس التي تنتظر عمل ما بقدراتها الخاصة لتُصحح مسيرتها ويجعلها تعود للحضن الحسن، وتنسى قوة الله ومحبته وعمله الحقيقي، لأنه ليس بالقوة ولا بالقدرة نحصل على الغفران بل بالنعمة فقط التي تنسكب علينا من الله …
أن هذا الفكر الدنس، فكر اليأس، يثقل على عنق النفس كالنير فيلزمها بالانحناء حتى الانكسار التام، مانعاً إياها من أن تنظر إلى الله، فعمل الإنسان الشجاع والممتاز هو أن يكسر هذا النير أمام صليب ربنا يسوع، ويزحزح كل ضيق مثبت فوقه، ناطقاً بكلمات النبي (مثل عيني الأمه إلى يدي سيدتها، كذلك أعيننا نحو الرب إلهنا، حتى يتراءف علينا. ارحمنا يا رب ارحمنا . فإننا كثيراً ما امتلأنا هواناً ) مز 2:123 ،3 .
يقول (امتلأنا هواناً) وإننا تحت ضيقات لا حصر لها بل وأزمة قداسة لا نستطيع ان نصل لها، بل وقد أحزنا الروح القدس فانطفأ فينا وأصبحت كل شهوة ردية وميول شرير يسكن قلبنا ونميل نحوه بإرادتنا حسب طبعنا الساقط المتعري من ثوب البرّ والخالي من كل نعمة. ومع هذا لن نكف عن التطلع إلى الله ولا نمتنع عن الصلاة إليه بإلحاح وإصرار وبعدم أي استحقاق منا، حتى يستجيب طلبتنا ويرحمنا نحن العراه من كل صلاح. لأن علامة النفس النبيلة هي ألا تنحني من كثرة الكوارث التي تضغط عليها أو تفزع منها، ولا تتراجع بعد عن الصلاة مهما كانت خطاياها وآثامها ثقلت عليها جداً.. بل تثابر حتى يرحمها الله كقول داود الطوباوي السابق .
فلنتمسك بالرجاء لأن الله أمين
يجرنا الشيطان إلى أفكار اليأس المُدمر وتجرنا أنفسنا بحكم تفكيرها المنقوص إلى دهاليز الظلمة الحالكة، حتى ينقطع رجاءنا في الله بالتمام، ونياس من اي رحمة !!
فالرجاء هو مرساة الأمان الحقيقي، قائدنا في الطريق المؤدى إلى السماء، لأنه سرّ خلاص للنفوس الهالكة .. فقد قيل (لأننا بالرجاء خلصنا) رو 24:8 .
الرجاء في الله الحي، بالتأكيد يشبه حبلاً قوياً مدلى من فوق من عند أبي الأنوار، يُعين أرواحنا وسند لنفوسنا الضعيفة، رافعاً من يمسك به بثبات، فوق هذا العالم وتجارب هذه الحياة الشريرة، فإن كان الإنسان – مهما كانت لدية من قوة – وترك هذا الهلب المقدس، للحال يسقط ويختنق في هوة الشر وتنكسر كل قواه وتضعف همته، وينطرح بعيداً عن مراحم الله الكثيرة .
والشيطان يعلم ذلك ، فعندما يدرك إننا متضايقون بسبب شعورنا بأعمالنا الشريرة وخطايانا التي قادنا إليها ونحن لبينا الدعوة بسبب ميل قلبنا الغير منضبط، يضع في نفسه أن يلقى علينا حملاً إضافيا أثقل من الحديد، وهو القلق الناشئ عن اليأس، فإن قبلناه وارتضينا به بضعف يتبع ذلك حتماً انجذابنا إلى تحت بسبب الثقل الموضوع علينا من الشيطان، تاركين حبل الرجاء الذي لا ينقطع، ساقطين في عمق البؤس الذي نحن فيه الآن، ناسين وصايا الله الوديع المتواضع القلب، متوقعين إنذارات الطاغية القاسي وعدو خلاصنا الذي لا يغفو ولا ينام، كاسرين النير الهين وملقين عنا الحمل الخفيف، لنضع بدلاً منهما طوقاً حديدياً ثقيلاً جداً، معلقين على رقابنا حجارة طاحونة ثقيلة، فنفكر في تدمير نفوسنا وأننا وصلنا لحالة من الموت يفيح منا كرائحة القبر، فنختنق به…
فلنا الآن أن نطرح كل أحمالنا هذه ونترك كل يأس أُصبنا به، ونتوب الآن ونعود ونمسك في حبل الرجاء ونثق في الله الحي الذي أحبنا فأدام لنا الرحمة، لأن لو رفضنا لكان أماتنا وأنهى حياتنا لأنه يرى أن كأس غضبنا امتلأ ولا نستحق فرصة لأننا لن نعود إليه، ولكنه أعطانا الفرصة أن نحيا إلى الآن لأنه بطول أناته لا يشاء موت خاطي واحد مثلما يرجع ويحيا ليكون مقر سكناه الخاص، وعلى قدر ضعفنا نفرح لأن لنا المسيح عوناً وقوة لنا، لأن كل ما أصابنا سيشفينا منه، لأن حتى التي أُمسكت في زنا قد شفاها وخلصها ولم يدينها، لأنه دان الخطية في الصليب لكي كل من يأتي إليه بالإيمان متمسكاً بالصليب تُرفع في الحال خطيئته لأنه مغفورة في دم الحمل رافع خطية العالم كله بلا استثناء، فلنا الآن أن نتوب لأنها ساعة خلاص واليوم يوم قبول: [هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم فأن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور. لنسلك بلياقة كما في النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعُهر لا بالخصام والحسد. بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات ] (رومية 13: 11 – 14)